حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

قوله قدس‌سره : امّا عدم وجوب الزائد فللزوم الحرج ... الخ (١).

أقول : لا يخفى عليك أنّ دليل نفي الحرج إنّما يجدي لو لم يكن العلم الإجمالي مانعا عن اجراء الاصول في مجاريها قبل الفحص ، وإلّا فما لم يخرج المورد عن أطراف الشبهة لا يجدي دليل نفي الحرج لإثبات عدم الوجوب ، إذ ليس مقتضى دليل نفي الحرج ونحوه حجّية الاصول في مجاريها عند اقترانها بالعلم الإجمالي ، كما صرّح به المصنّف رحمه‌الله وحقّقه عند التكلّم في نتيجة دليل الانسداد.

قوله قدس‌سره : إلّا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل ... الخ (٢).

أقول : لو قلنا إنّ المستطيع هو من كان واجدا لمقدار من المال واف بالحجّ ، ولم يكن عليه دين في مرحلة الظاهر في مقام تكليفه الفعلي ، فلا شبهة في أنّه يتحقّق موضوعه واقعا بوجدان المال وعدم ثبوت دين عليه بمقتضى ظاهر تكليفه ، فلو حجّ احتسب حجّة الإسلام ، سواء انكشف بعد ذلك ثبوت دين عليه أم لا.

ولو قلنا : بأنّ عدم الدين الواقعي شرط في الاستطاعة ، لم يكن إحرازه بأصل البراءة الذي هو قسيم الاستصحاب ، إلّا أنّه ثبت ذلك بأصالة البراءة ـ أي استصحاب فراغ ذمّته عن الاشتغال بحق الغير ـ فيثبت به موضوع الوجوب في مرحلة الظاهر ، ولكنّه لو انكشف ثبوت دين عليه في الواقع ، كشف ذلك من عدم كون الحجّ واجبا في الواقع ، وعدم كون ما صدر عنه مجزيا عن حجّة الإسلام ، كما هو الشأن في جميع الموضوعات الثابتة بالاستصحاب ، فليتأمّل.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١١ سطر ٦ ، ٢ / ٤٤٧.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٢ سطر ٩ ، ٢ / ٤٥١.

٣٠١

قوله قدس‌سره : لأنّ الملاقاة مقتضية للنجاسة ، والكريّة مانعة عنها ... الخ (١).

أقول : هذا الوجه منظور فيه ، لأنّ إحراز المقتضي لا يكفي في الحكم بثبوت ما يقتضيه ما لم يحرز عدم المانع ولو بالأصل ، كما صرّح به المصنّف قدس‌سره في غير موضع من كلامه ، وكون الشكّ في المانع في حكم العلم بعدمه ممنوع كما تقرّر في محلّه.

هذا ، مع أنّ كون المقام من قبيل الشكّ في المانع غير مسلم ، وقد أشبعنا الكلام فيما يتعلّق بالمقام في الفقه من أراده فليراجع.

قوله قدس‌سره : وقد يفصّل فيها ... الخ (٢).

أقول : سيأتي تحقيق المقام في مبحث الاستصحاب إن شاء الله.

قوله قدس‌سره : وفيه أنّ تقارن ورود النجاسة والكرية ... الخ (٣).

أقول : في العبارة إشعار بتسليمه ثبوت التقارن باعمال الأصلين ، فكأنّه مماشاة مع الخصم ، وإلّا فهو خلاف التحقيق ، وليس بمرضيّ عند المصنّف رحمه‌الله كما ستعرفه في تعارض الاستصحابين إن شاء الله.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٤).

أقول : لعلّه إشارة إلى ما يظهر من كلامه في الفقه من أنّ الشكّ في المانع في مثل المقام مرجعه إلى الشكّ في التخصيص ، فيرجع إلى اصالة العموم.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٢ سطر ٢١ ، ٢ / ٤٥٢.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٣ سطر ١ ، ٢ / ٤٥٣.

(٣) فرائد الاصول : ص ٣١٣ سطر ٤ ، ٢ / ٤٥٣.

(٤) فرائد الاصول : ص ٣١٣ سطر ١٢ ، ٢ / ٤٥٥.

٣٠٢

وفيه نظر كما تقرّر في محلّه ، بل الظاهر على ما هو ببالي أنّ المصنّف رحمه‌الله بنفسه تنظّر في مثل المثال ممّا يكون الشكّ فيه ناشئا من اشتباه الامور الخارجيّة ، أعني الشبهات المصداقيّة ، ووجهه ظاهر ، إذ بعد تسليم كون الشكّ في الكرية من قبيل الشكّ في التخصيص ، ومعه يرجع إلى عمومات أدلّة الانفعال ، فهو إنّما يتّجه في الشّبهات الحكمية ـ كما في مسألة تتميم الماء النجس كرّا ـ لا في مثل المثال الذي نشأ الشكّ فيه من الجهل بتاريخ الحادثين ، إذ لا يصحّ التمسّك بالعمومات في الشّبهات المصداقية كما هو مختار المصنّف رحمه‌الله.

* * *

٣٠٣

[قاعدة لا ضرر ولا ضرار]

قوله قدس‌سره : كان له عذق (١).

أقول : العذق (بالعين المهملة والذال المعجمة) كفلس على ما في «المجمع» ، لنخلة.

قوله قدس‌سره : بناء على أنّ معنى الضرار المجازاة على الضرر (٢).

أقول : الظاهر أنّ هذا المعنى مأخوذ من المضارة ، كما يشير إليه المصنّف رحمه‌الله في ذيل كلامه ، وهي على ما يتبادر منها عرفا أن يضرّ كلّ منهما صاحبه ، مثل ما لو كسر زيد إنائك ، أو خرق ثوبك ، فتجازيه بمثل ما فعل من كسر وخرق.

وأمّا أخذ القيمة منه فلا يعدّ ضررا في العرف ، بل هو من أحكام الضّرر الابتدائي لديهم ، فلا يعدّ مجازاة أيضا ، بل عندهم تدارك لما فعله ، فليس الحكم الشرعي أيضا إلّا امضاء لهذا الحكم العقلائي ، فالمضارّة المنفية في الشريعة إنّما هي

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٤ سطر ٢ ، ٢ / ٤٥٨.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٤ سطر ٢٤ ، ٢ / ٤٦١.

٣٠٤

بالمعنى الأوّل.

نعم قد ثبتت المضارّة بهذا المعنى في الشريعة أحيانا كما في القصاص ، لأخصّية دليله من دليل نفي الضرر.

قوله قدس‌سره : ويحتمل أن يراد من النفي النهي ... الخ (١).

أقول : يعني يحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام : «لا ضرر» مثل ما لو قال «لا بيع وقت النداء» إلّا أنّ ما نحن فيه يغاير المثال في أنّ الحرمة فيه تكليفي محض ، بخلاف ما نحن فيه فانّه مستتبع للوضع ، نظير ما لو قال «لا تصرف فيما يشترى بالخمر» مريدا به النهي. وحيث أنّ الحرمة فيه مسبّبة عن بقاء المبيع في ملك مالكه ، فهذا النهي قريب من النفي في المعنى ، بل راجع إليه ، كما أنّ النفي أيضا يستتبع النهي إذا كانت الحرمة من آثاره ، فتدبّر.

قوله قدس‌سره : ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات ... الخ (٢).

أقول : لا ينبغي التأمّل في تقديم القاعدة على العمومات المثبتة للتكاليف ، وتخصيصها بغير موارد الضّرر ، لسوقها في مقام الامتثال وضرب القاعدة الموجب لقوّة ظهورها في العموم ، واعتضادها بما هو المغروس في العقل من أنّ الله تعالى لا يريد حكما ضرريا ، ولذا يتردّد المكلّف ـ ولو لم يلتفت ، أو يعلم بحديث نفي الضرر ـ في ثبوت التكاليف عند مصادفتها للضّرر ، فهذا الأمر الذهني يؤيّد ظهور «لا ضرر» ويوهن عموم سائر الأدلّة ، كما هو ظاهر ، ويكفي في تقديمها على سائر الأدلّة سياق الأخبار الواردة ، المستدلّ فيها بلا ضرر لرفع اليد عمّا يقتضيه

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٥ سطر ١ ، ٢ / ٤٦١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٥ سطر ٥ ، ٢ / ٤٦٢.

٣٠٥

عمومات بعض الأدلّة ، كسلطنة الناس على أموالهم وغيره ، ولكن كون «لا ضرر» حاكما على سائر الأدلّة بالمعنى الاصطلاحي ، أيّ كونه بمدلوله اللفظي متعرّضا لحالها لا يخلو عن تأمّل بل منع ، لأنّ مفاد «لا ضرر» ـ على ما يظهر منه ـ أنّ الشارع لم يجعل حكما ضرريا ، لا أنّ أحكامه المجعولة مقصورة على غير موارد الضرر ، والفرق بين المعنيين ظاهر ، والمعنى الأوّل يعارضه إطلاق الأمر بالوضوء الشامل لمورد الضرر ، فلا بدّ في تخصيصه من قرينة خارجية ، وهذا بخلاف المعنى الثاني ، فانّه بمدلوله اللفظي قرينة على صرف الإطلاق ، فتدبّر.

قوله قدس‌سره : فإنّه حاكم على ما دلّ أنّه «لا صلاة إلّا بطهور» ... الخ (١).

أقول : في جعل الاستصحاب حاكما على الأدلّة الواقعية مسامحة ، إذ لو كان مفاد «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّ المراد من «لا صلاة إلّا بطهور» أعمّ من الطهارة الواقعيّة والطهارة المستصبحة ، للزم كون الطهارة المستصحبة شرطا واقعيّا للصلاة ، وهو فاسد جزما ، فالاستصحاب لا يكون حاكما إلّا على الأحكام الظاهرية ، الثابتة بالقواعد العقليّة والنقليّة للشاكّ من حيث هو شاك ، من البراءة والاحتياط والتخيير ، فمعنى «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّ الشّاك لا يلتفت إلى شكّه ، بأن يرتّب عليه آثاره ، بل يمضي على يقينه السابق فيجعل نفسه كغير الشاكّ.

وهذه العبارة ليس مفادها تعليم موضوع الأحكام الواقعية ، وإنّما مفادها إلغاء حكم الشكّ بعد اليقين ، فاستصحاب الطّهارة حاكم على قاعدة الاستقلال ، الحاكمة بوجوب تحصيل الجزم بحصول الشرط الواقعي ، لا على ما دلّ على أنّها شرط في الصلاة ، فلاحظ وتدبّر.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٥ سطر ١١ ، ٢ / ٤٦٣.

٣٠٦

قوله قدس‌سره : ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا من حكومة الرواية ... الخ (١).

أقول : المتبادر من الضّرر المنفي في الشريعة ، هو الضرر الدنيوي الحاصل بنقص في ماله أو عرضه أو بدنه ، فوجوب الصوم في الصيف ، أو الاغتسال بالماء البارد في الشتاء ، إذا كان موجبا لحدوث مرض أو زيادته أو بطئه من أظهر مصاديق قاعدة نفي الضرر ، فهو منفي.

اللهمّ إلّا أن يدلّ عليه دليل خاص ، كما قد يدّعى ذلك متعمّد الجنابة ، فيكون ذلك الدليل مخصّصا للقاعدة لا موجبا لانقلاب موضوعها ، وإلّا لم يعقل ورود تخصيص عليها ، بل كان جميع الأدلّة بإطلاقها وعمومها واردة عليها.

والحاصل : إنّ الفوائد الأخروية المترتّبة على امتثال التكاليف ليست مانعة عن صدق اسم الضّرر ، وكذا صدق الضّرر ليس منافيا لكون مصداقه موجبا لفائدة أخروية ، ولذا التزمنا في مبحث التيمّم بصحّة الوضوء في موارد الضّرر والحرج الذي يسوغ تحمله شرعا ، وأنّ التيمّم في تلك الموارد رخصة لا عزيمة ، نظرا إلى أنّ قاعدة نفي الضّرر والحرج لا تقتضي إلّا رفع وجوبه لا شرعيّته.

وامّا في الموارد التي لا يجوز شرعا تحمله ، كالمرض الشديد ونحوه ، فالبطلان من قاعدة جواز اجتماع الأمر والنهي لا قاعدة نفي الضرر ، ولذا يختصّ بصورة العلم كما هو الأصل في تلك القاعدة.

وإن أردت مزيد توضيح لذلك ، فعليك بمراجعة ما حقّقناه في مبحث التيمّم تجده وافيا بدفع بعض الإشكالات المتوهّمة في المقام.

وقد ظهر بما ذكرنا أنّه إن أراد المصنّف بقوله : «إنّ مصلحة الحكم الضّرري المجعول بالأدلّة العامّة ، لا تصلح أن تكون تداركا للضرر» ، أنّ موارد الضّرر حيث

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٥ سطر ١٨ ، ٢ / ٤٦٣.

٣٠٧

لا يعمّها عمومات التكاليف ، فلا مصلحة فيها كى يصحّ أن يتدارك بها الضرر.

ففيه : ما عرفت من أنّ دليل نفي الضرر لا يدلّ إلّا على رفع الحكم الضررى ، أى الإلزام بتحمّل الضرر ، وهذا لا ينافى ثبوت ما يقتضيه ، أى المصلحة المقتضية للتكليف.

وإن أراد به أنّ المصلحة المقتضية للحكم الثابت بالعمومات ليست صالحة لأن يتدارك بها الضرر ، بحيث يمنعه عن صدق اسمه واندراجه في موضوع دليل نفي الضرر الحاكم على العمومات ، فهو حق صريح لا معدل عنه.

قوله قدس‌سره : إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها ... الخ (١).

أقول : لا بدّ أوّلا من تشخيص مصاديق الضّرر عرفا حتّى يتشخّص موارد التخصيص عن غيرها فيستكشف به حقيقة الأمر.

فأقول : لا شبهة في أنّ شراء شيء بثمن مثله ودفع الثمن إلى البائع ، وكذا إعطاء كلّ حقّ إلى مستحقّه لا يعدّ في العرف ضررا ، فكلّ حكم شرعي ينطبق على شيء من هذه الامور لا يعدّ حكما ضرريا ، فحكم الشارع بوجوب الخروج عن عهدة حقوق الناس ليس حكما ضرريا ، سواء كان الحقّ ماليّا كالدين ، أو لا كوجوب الإنفاق على زوجته وأولاده وخدمه ومواشيه ، فإنّ الاستحقاق في مثل هذه الموارد ثابت عرفا ولو لم يكن حكم شرعي ، ألا ترى أنّ أهل العرف يرون ترك الإنفاق على الزوجة والأولاد وغيرهم بمن يتعلّق به ظلما في حقّهم ، فحكم الشارع ليس إلّا إمضاء لحكمهم ، كما أنّ حكمه بغرامة المتلفات أيضا ليس إلّا كذلك ، حيث أنّ إتلاف مال الغير في العرف أيضا كالشرع من أسباب اشتغال الذمّة بما هو الأقرب إلى

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٦ سطر ٣ ، ٢ / ٤٦٤.

٣٠٨

التالف فالأقرب من المثل أو القيمة.

نعم ، مثل وجوب الخمس والزكاة يعدّ حكما ضرريا لدى العرف في بادئ الرأي ، إلّا أنّ أدلّتها واردة على دليل نفي الضّرر ، فانّها تدلّ على ثبوت الاستحقاق لأربابها ، فبعد بيان الشارع استحقاقهم يكون أربابها كسائر الدّيانين بحكم العرف ، فيخرج عن كونه حكما ضرريا.

وبما ذكرنا ظهر لك أنّه لو أمر الشارع بوجوب تنظيف الثوب والبدن من الأوساخ ، على وجه يتعارف حصوله عند أهل العرف ، ولا يعدّون بذل المال في تحصيله ـ لو توقّف عليه ـ سرفا وتضرّرا ولا يعدّ مثل هذا الحكم من الشارع حكما ضرريا ، لأنّها امور متعارفة عند العقلاء ، ولا يعدّون من يرتكبها في أعداد المتضرّرين.

نعم ، أمر الشارع بإزالة ما لا يرونه قذرا حكم ضرري ، لو توقّف على صرف المال ، إلّا أنّه بعد أن بيّن الشارع قذارة شيء لم يكن يدرك قذارته عقولهم ، يخرج هذا الفرض أيضا ـ مثل مسألة الخمس ـ عن كونه ضرريا ، بمعنى أنّ هذا الدليل وارد على دليل نفي الضرر ، فلا يبقى له مورد بعد أن علم قذارته ببيان الشارع ، فيكون حينئذ كسائر القذارات التي يقدم العقلاء على إزالته ، ولا يعدّون صرف المال في تحصيله خسارة وتضررا ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون القذارة المختفية أمرا حسيّا ـ كما في القذارة الخبثية ـ أم غير حسّي ـ كما في الحدثية ـ فمثل ، اجرة الحمامي للغسل وشراء الماء بثمن مثله للوضوء لا يعدّ عرفا ضررا ، بعد أن علموا تأثير أسباب الحدث في النفس بما لا يرتفع أثره إلّا باستعمال الطهور.

نعم ، لو توقّف تحصيل الماء في مورد خاص على خسارة خارجة عمّا يتوقّف تحصيله عليه عرفا وعادة ، كما لو توقّف على ضياع شيء منه ، أو سرقة مال ولو يسير ، يعدّ مثله ضررا في العرف ، وإقدام العقلاء على مثله أحيانا لتحصيل

٣٠٩

مقاصدهم ، مع علمهم بترتّبه على فعلهم ، لا يخرجه عن كونه ضررا ، إذ ربّما يقدم العاقل على ضرر لأجل مقصد أهمّ بنظره من التحرّز عن هذا الضرر.

ونظير الأمر بإزالة الحدث والخبث ، كل تكليف ثبت في الشريعة لأجل غاية ملحوظة عند العقلاء في امور معاشهم ، بحيث يبذل في تحصيلها المال كما هو ظاهر.

وإذا أحطّت خبرا بما فصّلناه ، وتأمّلت في الموارد التي يتوهّم منافاتها لعموم «لا ضرر» يظهر لك أنّ أكثرها من قبيل الورود أو الحكومة ، وأنّه قلّما يبقى مورد يكون من باب التخصيص المنافي للعموم.

نعم ، الأحكام الضّررية كثيرا ما ممضاة شرعا ، ولكن منشأها عموم «لا ضرر» كما في مورد تعارض الضّررين في بعض الصور ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : فحكموا بشرعيّة الخيار للمغبون ... الخ (١).

أقول : بيع المغبون فيه لا ينفكّ عن الضّرر الشخصي ، لأنّ بذل المال بأقلّ من ثمن مثله هو في حدّ ذاته ضرر دائما ، إلّا أنّ العاقل ربّما يقدم عليه ـ كما في الأمثلة المفروضة ـ للتحرّز عن ضرر أعظم ، فيكون ارتكابه من باب أقلّ الضررين ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : كما إذا لم يترتّب على ترك الشّفعة ضرر على الشفيع ... الخ (٢).

أقول : ولكن في كون مستند خيار الشفعة في مثل الفرض ـ بل مطلقا ـ دليل نفي الضّرر تأمّل بل منع ، والله العالم.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٦ سطر ١٥ ، ٢ / ٤٦٦.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٦ سطر ١٧ ، ٢ / ٤٦٦.

٣١٠

قوله قدس‌سره : إلّا أن يستظهر منها انتفاء الحكم رأسا ... الخ (١).

أقول : ولكنّه في غير محلّه ، كما أنّ ادّعائه في دليل نفي الحرج أيضا كذلك ، فانّ ظاهر دليلهما ليس إلّا الضرر والحرج الشخصيين كما لا يخفى ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٢).

أقول : لعلّه إشارة إلى ما قد يقال ربّما يستظهر من كلمات الأصحاب من أنّ حدوث الخيار إنّما هو بعد ظهور سببه ـ أي العلم به ـ لا من حين العقد ، وفيه تأمّل.

قوله قدس‌سره : وامّا لتعارضهما والرجوع إلى الأصل (٣).

أقول : يعني تعارض الضررين والرجوع إلى القاعدة.

ويحتمل أن يكون المراد تعارض القاعدتين ، والمراد بالأصل إباحة تصرّفه الناشئة من عموم سلطنته التي تفيد فائدة نفي الحرج ، فجعله على هذا التقدير من قسم الرجوع إلى القاعدة لا يخلو عن مسامحة.

وشرح المقام : إنّا امّا أن نقول بحكومة «لا حرج» على نفي الضرر ، فيكون هو المرجع من أوّل الأمر ، بعد تسليم أنّ منع المالك عن التصرّف في ملكه مطلقا حرج ، من غير التفات إلى أنّ هذا أيضا ضرر أم لا.

وإمّا أن نقول بحكومة «لا ضرر» على «لا حرج» ، فحينئذ يرجع إلى قاعدة نفي الحرج بعد تعارض الضررين ، فانّ مقتضى القاعدة هو الرجوع إلى الاصول والقواعد المحكومة ، بعد ابتلاء الحاكم بالمعارض.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٦ سطر ١٨ ، ٢ / ٤٦٦.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٦ سطر ٢١ ، ٢ / ٤٦٦.

(٣) فرائد الاصول : ص ٣١٧ سطر ٢ ، ٢ / ٤٦٧.

٣١١

وامّا أن نقول بأنّ القاعدتين لا حكومة لإحداهما على الاخرى ، بل هما متعارضتان ، فالمرجع حينئذ ما عداهما من الأصول والعمومات الجارية في ذلك المورد ، مما لو كان شيء من القاعدتين سليما عن المعارض لكان مانعا عن جريانه ، كقاعدة السلطنة ، أو أصل البراءة والإباحة وغير ذلك ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : وبعبارة اخرى تلف إحدى العينين وتبدّلها بالقيمة أهون (١).

أقول : لا ينبغي الاستشكال في لزوم التجرّي في مثل هذه الموارد إلى ما هو الأقلّ ضررا ، لوضوح المناط ، وأن قصر عن شموله اللفظ ، ولكن الإشكال في مثل هذه الموارد إنّما هو في إلزام صاحب الدابّة بدفع تمام ما ورد من النقص على صاحب القدر أو صاحب الدار إذا كانت المصلحة مشتركة ، فضلا عمّا لو كانت لخصوص صاحب الدار ، بل وكذا لو كانت لصاحب الدابّة ولكنّه لا يريدها ، بل يلزمه صاحب الدار بإخراجها ، وتحقيق هذه الفروض ونظائرها يحتاج إلى بسط لا يناسبه المقام ، والله هو العالم بحقائق الأحكام.

* * *

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٨ سطر ٥ ، ٢ / ٤٧٢.

٣١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

في الاستصحاب

قوله قدس‌سره : والمراد بالإبقاء ، الحكم بالبقاء (١).

أقول : يعني الالتزام به في مرحلة الظاهر ، بمعنى ترتيب آثار البقاء في مقام العمل.

نعم ، لو كان التعريف مخصوصا بالاستصحاب ـ على قول من يقول باعتباره من باب الظنّ ـ لكان تفسير الحكم بالإدراك الظنّي أنسب ، كما هو ظاهر.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ كون علّة الحكم بالبقاء كونه السابق ، لا ينافي القول باعتباره من باب التعبّد ، أو القول بكون حجّيته من باب حكم العقل بالبقاء ، إذ ليس العلّتان في مرتبة واحدة حتّى يمتنع تواردهما على معلول واحد كما هو واضح.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٨ سطر ١٢ ، ٣ / ٩.

٣١٣

قوله قدس‌سره : فقال ، الاستصحاب هو التمسّك بثبوت ما ثبت ... الخ (١).

أقول : ما نقله قدس‌سره عن «الوافية» بظاهره ينطبق على تعريف المشهور ، لأنّ مقصوده بحسب الظاهر أنّ التمسّك في زمان الشكّ لبقاء شيء بوجوده في السابق هو الاستصحاب ، وهو عبارة اخرى عن ابقاء ما كان مستندا إلى وجوده السابق.

وامّا ما ذكره في ذيل كلامه بقوله : «فيقال ... الخ» فهو بحسب الظاهر بيان لكيفيّة التمسّك بالاستصحاب ، لا من تتمّة التعريف.

نعم ، بين هذا التعريف وبين التعريف المنسوب إلى المشهور ، وهو إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، فرق في بادئ الرأي ، وهو أنّ مقتضى الجمود على ظاهر تعريف المشهور أن يكون قولنا «هذا الثوب نجس» إذا كان مستنده كونه كذلك في السابق هو الاستصحاب ، وليس كذلك ، ضرورة أنّ مثل هذا الحكم في كلماتهم يعلّل بالاستصحاب ، فلا يريدون بالاستصحاب نفس هذا الحكم ، بل مرادهم بالاستصحاب التعويل على كونه السابق ، فقولهم «هذا نجس للاستصحاب» عبارة اخرى عن أن يقال «هذا نجس تعويلا على ما كان» ، فما ذكره في «الوافية» في شرح الاستصحاب أوفق بمرادهم ممّا يتراءى من تعريف المشهور ، ولعلّ تعريفه بإبقاء ما كان أوفق بمرادهم وأسلم من الخدشة ، كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : بقي الكلام في امور (٢).

أقول : يعني ممّا يناسب ذكره في المقام قبل الخوض في أصل المسألة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٩ سطر ٢ ، ٣ / ١١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٩ سطر ٤ ، ٣ / ١٣.

٣١٤

قوله قدس‌سره : امّا بناء على كونه من أحكام العقل ... الخ (١).

أقول : سيتّضح لك إن شاء الله أنّه على هذا التقدير أيضا قاعدة عقلائية ، لا من حيث إفادته الظن.

قوله قدس‌سره : ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف ... الخ (٢).

أقول : لو صحّ سند هذه الرواية ، لكانت أتمّ إفادة من الأخبار العامة الآتية لإثبات اعتبار الاستصحاب من باب بناء العقلاء ، إذ لا يكاد يشكّ في أنّ صدر الرواية مسوق لبيان إبداء الاحتمال ، وقوله عليه‌السلام : «فلا ينصرفن ... إلخ» ينادي بأعلى صوته إنّه تفريع على ما تقدّم ، وإنّه ليس قاعدة تعبّدية ، بل هو أمر مغروس في أذهان العقلاء من أنّه لا يرفع اليد عن الموجود السابق إلّا بعد تحقّق رافعه.

وامّا الأخبار الآتية فسيأتي إمكان المناقشة فيها ، وإن كانت في غير محلّها.

قوله قدس‌سره : فلو غفل عن ذلك وصلّى بطلت صلاته ... الخ (٣).

أقول : ما فرّعه قدس‌سره على ما أصّله من اعتبار الشكّ الفعلي في قوام الاستصحاب في غاية الإشكال ، لأنّا لو بنينا على انّ الاستصحاب حكم ظاهري عملي للشاكّ بوصف كونه شاكّا بالفعل ، فلا شكّ في ارتفاع موضوعه بعروض الغفلة ، فلا أثر للأمر السابق بالنسبة إليه بعد ارتفاع موضوعه.

وإن بنينا على أنّ الشكّ الفعلي شرط لتنجّز الأمر بالاستصحاب لا لتوجّه خطابه ، بدعوى أنّ المستفاد من الأخبار أنّه يجب على من تيقّن بشيء إبقاء أثره

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣١٩ سطر ٥ ، ٣ / ١٣.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣١٩ سطر ٩ ، ٣ / ١٤.

(٣) فرائد الاصول : ص ٣٢١ سطر ٢٣ ، ٣ / ٢٥.

٣١٥

شرعا إلى أن يحصل له اليقين بخلافه ، فهو كغيره من الأحكام الشرعية ، مثل حرمة الخمر ، والغفلة عنه مانعة عن تنجّزه لا عن أصل توجّهه ، فعلى هذا يصحّ صلاة من تيقّن بالطهارة ، وذهل عن طهارته السابقة ، ودخل في صلاته ولم يلتفت إليها وإلى استصحابها حال الصلاة ، فيجوز الاقتداء به ، وإن علم المأموم بغفلته عن طهارته ، وهذا بخلاف ما لو قلنا باعتبار الشكّ الفعلي في جريانه ، فيشكل الاقتداء به في الفرض ، واستصحاب نفس المأموم لا يجدي في إثبات صحّة صلاة الإمام ، بعد علمه بأنّه ليس له طريق شرعي لإحراز طهارته.

نعم ، للإمام أصل الصحّة بعد فراغه من صلاته ، ولكنّه لا يجدي في جواز الاقتداء به كما هو ظاهر.

فتحصّل ممّا ذكرنا : إنّه لا فرق في جريان الاستصحاب وعدمه ، بين ما لو التفت قبل الصلاة إلى حدثه السابق وشكّ ثمّ غفل ودخل في الصلاة ، أو لم يلتفت أصلا وصلّى غافلا ، لأنّا إن اعتبرنا الشكّ الفعلي لم يجر الاستصحاب في شيء من الموردين ، وإن بنينا على كفاية الشكّ التقديري يجري في كليهما.

نعم ، بينهما فرق من حيث جريان أصل الصحّة وعدمه ـ كما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله ـ لا لسبق الآمر بالطهارة في الصورة الاولى ـ كما قد يتوهّم ـ بل لانصراف أدلّتها عمّا لو شكّ قبل الصلاة وصلّى ذاهلا ، واختصاصها بما إذا حدث الشكّ بعد الصلاة ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : نعم ، هذا الشكّ اللّاحق يوجب الإعادة ... الخ (١).

أقول : لو قلنا باعتبار الشكّ الفعلي في جريان الاستصحاب ـ كما هو

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٢٢ سطر ١ ، ٣ / ٢٥.

٣١٦

المفروض ـ لا يترتّب على استصحاب الحدث إلّا بطلان صلاته التي يصلّيها بعد الشكّ.

وامّا وجوب إعادة ما مضى ، فليس من أحكامه الشرعيّة ، بل من لوازمه العقلية ، حيث أنّ من لوازم بقاء الحدث بطلان المأتيّ به ، وبقاء الأمر بالصلاة ، فلا يمكن إثباته إلّا بالأصل المثبت.

نعم ، يجب في الفرض ـ لو لا حكومة قاعدة الشكّ بعد الفراغ ـ إعادة الصلاة بقاعدة الشّغل أو استصحابه.

قوله قدس‌سره : وامّا استدلالهم على إثبات الاستصحاب باستغناء الباقي عن المؤثّر ... الخ (١).

أقول : لو كان مستند من يدّعي اختصاص النزاع بالوجودي ، نفس استدلالهم على الاستصحاب باستغناء الباقي في بقائه عن المؤثر ، لتوجّه عليه ما أورده المصنّف رحمه‌الله من المعارضة والتوجيه ، إلّا أنّ ظاهر عبارته المحكية عنه في صدر العنوان أنّ مستنده ليس نفس الاستدلال ، بل بنائهم مسألة الاستصحاب على كفاية العلّة المحدثة للإبقاء ، حيث أنّ معنى بنائها على تلك المسألة أنّ حجّية الاستصحاب من فروع تلك المسألة.

فلو قيل : إنّ الباقي لا يحتاج في بقائه إلى المؤثّر ، بعد أن حدث يبقى نفسه ما لم يرفعه رافع ، فالاستصحاب حجّة.

ولو قيل : بأنّه في بقائه أيضا كحدوثه يحتاج إلى علّة تفيض عليه الوجود وأنّ وجّه احتياجه إلى العلّة إمكانه الذي لا يتخلّف عنه ، فالاستصحاب ليس بحجّة.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٢٢ سطر ١٧ ، ٣ / ٢٩.

٣١٧

فهذا البناء يدلّ على خروج العدمي من محلّ النزاع بوجهين :

الأوّل : عدم الخلاف في عدم احتياج العدم في بقائه إلى المؤثّر ، وأنّه لو خلّي ونفسه يبقى ، لأنّ علّته عدم علّة الوجود التي هي من قبيل الرّافع ، واستناد العلّية إليه من حيث أنّ عدم الرافع من أسباب البقاء ، وإلّا فليس في العدميات تأثير وتأثّر ، والمستصحب الوجودي ـ على تقدير عدم احتياجه في البقاء إلى المؤثّر ـ يصير حاله حال العدمي كما لا يخفى.

وثانيهما : تسالمهم على الحجّية على تقدير الاستغناء ، مع أنّ القائل بكفاية العلّة المحدثة لا يقول بكونها علّة تامّة للبقاء ، وإلّا لم يعقل الشكّ فيه ، بل يقول بأنّ الشيء بعد أن حدث لو خلّي ونفسه يبقى ما لم يرفعه رافع ، فالتزامهم بالحجّية ـ على هذا التقدير ـ كاشف عن عدم اعتنائهم باحتمال وجود المانع ، فيظهر منه أنّ اصالة عدم المانع عندهم من المسلّمات ، بحيث لا يلتفتون إلى احتمال خلافها ، وقد أشرنا إلى أنّ الشكّ في بقاء المستصحب لا تزال من هذا القبيل.

فتلخّص ممّا ذكر : أنّ هذا الاستدلال غير قابل للمناقشة ، فلا بدّ امّا من منع الابتناء ، أو الالتزام بخروج العدميات من محلّ النزاع ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعيّ (١).

أقول : المراد بالحكم العقلي ـ كما يظهر من عبارة المصنّف رحمه‌الله في طيّ كلماته الآتية ـ إدراك العقل حسن الفعل وقبحه ، وبهذا التفسير يتّضح لك معنى قولهم «إنّ الواجبات الشرعية ألطاف في العقليات» بعد تفسيرهم اللّطف بما يقرّب إلى الطّاعة ويبعّد عن المعصية ، لأنّ الواجبات العقليّة قلّما تتمثّل لو لم يكن على طبقها أمر شرعي مولوي يوجب إطاعته ومخالفته استحقاق الثواب والعقاب ، فالالتزام

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٢٥ سطر ٢ ، ٣ / ٣٧.

٣١٨

الشرعي هو الباعث على الفوز بتلك المصالح والمفاسد.

إذا عرفت معنى اللّطف ، ظهر لك معنى قولهم «إنّ اللّطف على الله تعالى واجب» إذ المراد منه أنّه يجب عليه تعالى أن يرشد العباد إلى مصالحهم ومفاسدهم ، بأمر مولوي يوجب الفرار عن مخالفته الفوز بالمقامات العالية.

وما توهّمه بعض في معنى الواجب العقلي ، وأورد على العلماء بالتناقض في مقالتهم ، حيث يحكمون بحجّية العقل ويقولون «إنّ العقاب بلا لطف قبيح» نشأ من الغفلة عن فهم المراد ، فتدبّر.

وامّا كونه ممّا يتوصّل به إلى الحكم الشرعي ، فوجهه واضح بعد العلم بأنّ الله تعالى لا يأمر بالقبيح ولا ينهى عن الحسن ، بل يأمر بالحسن وينهى عن القبيح ، على ما هو مذهب العدلية ، ويقتضيه اللّطف ، كما تحقّق في محلّه.

قوله قدس‌سره : نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة ... إلخ (١).

أقول : أورد عليه :

«بأنّ الإنصاف إنّه قد يستقلّ العقل بقبح عنوان أو حسنه إجمالا ، مع عجزه عن التمييز بين ما له المدخلية ممّا هو عليه من الخصوصيات في الحكم بهما ، وما ليس له ذلك ، وهذا يظهر من مراجعة الوجدان ، فعلى هذا لو شكّ في الزمان الثاني بعد تبدّل بعض الخصوصيّات ، يجوز استصحاب الحكم الشرعي الذي استتبعه الحكم العقلي ، بعد البناء على المسامحة العرفية في إحراز الموضوع ، فتبدّل بعض الخصوصيات مانع عن إجراء الاستصحاب ، بناء على اعتبار الرجوع في تشخيص الموضوع إلى العقل لا إلى العرف ، كما أنّه مانع عن بقاء الحكم العقلي في زمان الشكّ» انتهى ملخّصا.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٢٥ سطر ٢ ، ٣ / ٣٧.

٣١٩

وفيه : إنّ مراجعة الوجدان شاهدة بخلافه ، فضلا عن قيام البرهان على ذلك. وكيف لا ، مع أنّ العقليات لا بدّ إمّا أن تكون بنفسها ضرورية ، أو منتهية إليها ، كما صرّح به المصنّف فيما بعد ، ومعنى العجز عن التميّز ليس إلّا الجهل بالمناط الذي يقع وسطا في إثبات الأكبر للأصغر ، فكيف يعقل إدراك العقل للنتيجة وجهله بالمقدّمات!.

ودعوى كون الحكم في مثله بديهيّا لا يحتاج إلى وسط ، بديهيّ الفساد بعد الاعتراف بأنّ الجهات المكتنفة بها هي المحسّنة لها أو المقبّحة إيّاها ، فلا بدّ من أن يعلّل بها في إثبات الحكم.

إن قلت : إنّ ضرورة العقل قاضية بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، ومع أنّ ماهية الإطاعة ـ وكذا المعصية ـ مشتبهة ، لوقوع الكلام في أنّ الإطاعة هل هي تحصيل غرض المولى مثلا أو امتثال أمره ، وكذا الإشكال في وجه وجوبها وإلزام العقل بها ، هل هو لأجل كونها شكرا للمنعم ، أو لأجل التفصّي عن العقاب إلى غير ذلك ممّا لا يحصى؟.

قلت : تسمية هذه الامور أحكاما عقلية بعناوينها الإجمالية ، اشتباه نشأ عن عد العلماء والعقلاء لها في المستقلّات العقلية ، ومن المعلوم أنّها لا تكون أحكاما عقلية إلّا لمن أدرك حسنها وقبحها ، وأنت إذا ألقيت عنان التقليد ، وفرضت نفسك ممّن لم يبلغه كون وجوب الإطاعة من المستقلّات العقلية ، وأردت معرفتها بنفسك ، فلا بدّ لك من أن تتعقّل الماهية التي تريد إثبات الحكم لها أوّلا ، ثمّ تمحض الجهات المكتنفة بها ، المؤثّرة في حسنها أو قبحها ، فإن أدرك العقل في شيء منها حسنا ملزما ، أو قبحا ملزما يلزمك على فعله أو التجنّب عنه ، وإن لم يدرك في شيء منها شيئا منهما لا يحكم بشيء ، بل يتوقّف عن الحكم ، ففي الإطاعة مثلا يلتفت أوّلا إلى أنّ تحصيل غرض المولى ـ بعد الاطّلاع عليه ـ هل هو لازم أم لا ، ثمّ يلتفت إلى

٣٢٠