حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

١
٢

٣
٤

المقدّمة

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسّلام على خير الخلق أجمعين ، محمّدا صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطّاهرين.

لا يخفى على من تتبّع سير الدراسة في الحوزات العلميّة الشيعيّة أو درس فيها ، أهمّية مؤلّفات الشيخ مرتضى بن محمّد أمين الدزفولي الشهير ب «الانصاري» ، المتوفّى سنة ١٢٨١ ه‍ في الفقه والأصول وفقه المعاملات ، ويجد أنّ جميعها تمتاز بالعمق العلمي ، والدقّة المتناهيّة ، واستيعاب المادّة من جميع جوانبها ، مع بيان سهل بعيد عن أسلوب القدماء في الغموض والإغلاق ، هذا كلّه إلى جانب منهجيّة الشيخ المبتكرة ، وأسلوبه في عرض المادّة ، فهو رحمه‌الله مبتكر هذه الطريقة ، حيث لم يشاهد في مؤلّفات معاصريه في الحوزات الشيعيّة أو من سبقه ، من جاراه أو تقدّم عليه ، ونحن لسنا بصدد استعراض الشيخ في كتبه ، لكن نحاول الإشارة إلى جانب مهم في أسلوبه إلا وهو الجمع والعرض ، خاصّة في كتابيه (فرائد الأصول) و (المكاسب) ، فقد استطاع الشيخ بتضلّعه في الفقه والأصول ، وإحاطته بأقوال المتقدّمين والمتأخّرين ، أن يجمع في شرح موضوع معيّن شتات الآراء المبثوثة في ثنايا الكتب ، وأن يركّز على كلمات معدودة بدل الكمّ الهائل ، فتراه يختار من بين

٥

صفحات عديدة جملة مختصرة ، لكنّها تحتوي على أصل الفكرة ، ثمّ بعد جمعه لذلك تبدأ المرحلة الأهمّ إلا وهي نقد الأقوال المطروحة وتزييف الأدلّة المعتمدة ، وهي مهمّة صعبة ـ إن لم نقل مستحيلة ـ خاصّة إذا لاحظنا أنّ من يواجههم الشيخ هم عيون البشر وجهابذة العلم ، كالطوسي والمحقّق والحلّي والشهيدين من المتقدّمين وغيرهم من المتأخّرين ، لكنّه رحمه‌الله لا تهابه العناوين والأشخاص في مجابهة النقد العلمي ، رغم تقديره البالغ لهم ، فتراه خلال أسطر قليلة ينسف آراء مدرسة علم من الأعلام كانت لها السيادة طوال قرون عديدة ، فيبني على انقاض المدرسة المنهارة ، باجتهاده العميق ، واسلوبه البديع ، كيانا جديدا مطابقا لروح الشريعة ، ومقتضيات الزمان ، مع فهم جديد لها ، ترتاح له النفس ، ويسكن إليه القلب. وهذه الخصائص والمميّزات هي التي أدّت إلى سيادة مصنفات الشيخ وآرائه على الحوزات الشيعية مدّة تزيد على قرن ولا زالت ، وأصبح مصنّفان من مصنّفات الشيخ وهما كتاب (فرائد الأصول) المشتهر ب (الرسائل) في أصول الفقه ، و (كتاب المكاسب) في فقه المعاملات مدار الدراسة في مرحلتي السطح والخارج.

أمّا كتاب المكاسب فقد فاق قرينه في الشهرة والعناية ، وذلك لأسباب عديدة ، أهمّها كونه آخر مؤلّفات الشيخ ، حيث كتبه وهو في قمّة نضجه العلمي ، وكمال منهجيّته الفقهيّة والأصوليّة ، واستقامة مبانيه في مباحث المعاملات ، وذلك بعد أن درّس المادّة ، وناقش اسسها ومبانيها مع أفاضل تلامذة درسه ، فخرج الكتاب جامعا مانعا ، بعيدا عن الهفوات والزلّات ، وتضارب البناء مع المبنى ، كما هو المتعارف في مثل هذه الموسوعات الفقهيّة ، حيث أنّ تنوّع المادّة وتفرعاتها وتشعّباتها ، أحيانا يفقد المؤلّف القدرة على حفظ استقامة البحث ومنهجيّته ، فيقع في هفوات وزلّات وتناقضات تؤدّي إلى هبوط القيمة العلمية للتأليف ، هذا فضلا عن أنّ الكتاب متفرد في مادّته وأسلوبه ، فقد فاق فيه من تقدّم عليه ولم يلحق به من

٦

تأخّر عنه ، وهذه الصّفات هي التي حدت بشيخ القانونيين العرب ، وصاحب التأليفات المشهورة في القانون المدني ، الدكتور عبد الرزّاق السنهوري ، أن يطلق كلمته المشهورة من على منبر كلّية الحقوق بجامعة بغداد في الستّينيّات من الألفيّة الثانية ، فإنّه بعد أن أوصى الحقوقيّين العراقيّين بالاستعانة بفقه الإماميّة وأصولها ، وجعلها من مصادر التشريع الرئيسيّة في سنّ القوانين المدنيّة والجزائيّة في الدول الإسلاميّة وخاصة العراق ، قال ما مضمونه :

«إنّني لم أكن أعرف قبل سفري إلى العراق آراء الشيخ الأنصاري ونظريّاته في فقه المعاملات والتجارة ، ولو وقفت عليه قبل تصنيفي لكتاب (نظرية العقد) ، لكنت قد غيّرت أو بدّلت أو عدّلت أو صحّحت كثيرا من نظرياتي في هذا الكتاب».

* * *

وأمّا كتاب «فرائد الأصول» المشتهر عند أهل العلم ب «الرسائل» فهو عبارة عن مجموعة من الرسائل في مادّة أصول الفقه ، وهي رسالة القطع ، والظنّ والبراءة والاستصحاب ، والتعادل والتراجيح ، أي أبحاث الأصول العمليّة ، حسب تقسيم الأصوليّين لأبحاث أصول الفقه ، وتعتبر الأبحاث المطروحة في هذه الرسائل الخمس قمة الفكر الأصولي المعاصر عند الإماميّة ، وبرغم أنّها دوّنت أواسط القرن الثالث عشر للهجرة ، لكنّها لا زالت حيّة ، طريّة ، ناضجة ، ولم يسدل عليها غبار النسيان ، ولم يدفع بها إلى زوايا المكتبات لتعدّ من التراث الأصولي ، بل لا زال الكتاب مدار البحث في الحوزات العلميّة الشيعية في مرحلتين :

مرحلة السطوح : حيث يدرس الطالب الذي توسط في دراساته الأصوليّة الكتاب كمادة دراسية ، ويسعى لاستيعاب القواعد الأصوليّة ، وتطبيقات الشيخ واستدلالاته وردوده ونقوضه ، ويحاول الاستاذ أن يشرح له آراء الشيخ وأقواله ، وأن يفتح له مغاليق كلماته وعباراته.

٧

والمرحلة الثانية : مرحلة البحث الاجتهادي (بحث الخارج) حيث تطرح آراء الشيخ وأقواله على مشرحة البحث والتدقيق ، ويناقش فيهما المجتهد ، فيرفض الدليل المرجوح حسب اجتهاده ورأيه الأصولي ، ويتبنّى الدليل الراجح ويعتمده في استنباطه للأحكام الشرعيّة.

ولعلّ من دواعي سرور المجتهد الشيعي وفخره أن يكون له القدرة على نسف رأي من آراء الشيخ ، أو نقضه أو تعديله وطرح رأي جديد أو معدّل ، أو بناء فكرة متحوّلة وحديثة ، يستفيد منها في إراءة الحلول المناسبة أمام مشاكل المكلّفين في المجتمعات الإسلامية ، وهذا ما لا يناله إلّا الأوحدي من الأصوليين ، حيث نرى أنّ الكتاب منذ بزوغ نوره ، قبل ما يربوا على قرن ونصف قرن ، مطروح على طاولة البحث ، تتلقّفه وتقلّبه أفكار الأصوليين وألسنتهم ، وسيوف أفكارهم الحادّة مسلّطة على الآراء والأفكار والكلمات ، بل وحتّى الحروف المطروحة في الكتاب ، فينبشون في كلّ زاوية منه لعلّهم يجدون منفذا ومدخلا لنقضه وردّه ، لكن برغم ذلك بقى الكتاب شامخا يروى ويشبع ظمأ الساعين نحو امتلاك ناصية المسائل الأصوليّة وقواعدها ، وبقى المؤلّف رحمه‌الله طودا شامخا وعلما نيّرا ومؤسّسا للمدرسة الأصوليّة المعاصرة عند الإماميّة ، حيث لا يتردّد فقيه وأصوليّ من الإماميّة أن يعتبره رحمه‌الله معمار هذه المدرسة ومهندسها ، فقد بنى هذه المدرسة ورصّن قواعدها وأسسها على أنقاض المدارس الأصوليّة السابقة ، التي انهارت أركانها تدريجا بظهور مدرسة الشيخ وانتشار أفكاره. يقول الشيخ آقا بزرگ الطهراني رحمه‌الله في وصفه لهذا الكتاب :

«فرائد الأصول : المشهور بالرسائل للشيخ مرتضى الأنصاري المتوفّى ١٢٨١ ه‍ ، وهو مشهور متداول لم يكتب مثله في الأواخر والأوائل ، محتو على خمسة رسائل في القطع والظنّ والبراءة والاستصحاب والتعادل ، أسّس في هذه

٨

المباحث تأسيسا نسخ به الأصول الكربلائيّة (١) ، فصارت كسراب بقيعة ونسج على منواله المتأخرون حتّى صار الفخر في فهم مراده ، وكتب كلّ شرحا أو حاشية عليه بقد ما غمز فيه فكره ودرى ...» (٢).

ويبدو أنّ المصنّف رحمه‌الله لم يدوّن رسائله لتكون منهجا دراسيّة في الحوزات العلميّة ، إلّا أنّها صارت من المواد الأساسيّة وركائز الدراسات الأصوليّة في الحوزات الشيعيّة بحيث لا يستغني عنها الطالب المتوسّط والأصوليّ المتمرّس ، بل عدّ استيعاب مادّة الكتاب وفهم محتواه ومضمونه ، وتحصيل ملكة القدرة على تطبيق قواعده على الموضوعات الخارجيّة ، دليلا على بلوغ الطالب مرحلة الاجتهاد. ونظرا لصعوبة مادّة الكتاب ودقّتها ، فقد أقدم كثير من تلامذة الشيخ على شرح الكتاب وتحشيته أو التعليق عليه ، وأحصى الشيخ آقا بزرگ الطهراني [الذريعة : ٦ / ١٥٢ ـ ١٦٢] ثمانين حاشية على هذا الكتاب بين مطبوع ومخطوط ، وذلك خلال فترة ثمانين سنة ، أي من سنة ١٢٨١ ه‍ ولغاية سنة ١٣٦٥ ه‍ ، وقد تضاعف العدد منذ ذلك الحين. وممّن شرح الكتاب الشيخ آقا رضا بن محمّد رضا الهمداني رحمه‌الله ، وهو تلميذ المصنّف في أخريات أيّامه ، كما هو تلميذ أبرز خرّيجي مدرسة الشيخ الأنصاري ، أي الإمام المجدّد والمجتهد الأكبر السيد الميرزا محمّد حسن الشيرازي ـ قدّس الله روحه ـ فالهمداني يعدّ أولى من غيره في شرح مادّة الكتاب ، لقربه إلى مصنفه ولعلمه بآرائه وأفكاره ، ولممارسته تدريس الكتاب مدّة طويلة ، والوقوف على مواضع القوّة والضعف فيه ، ولذا عدّ تعليقته على المواضع المختارة

__________________

(١) يقصد المدرسة الأصوليّة في مدينة كربلاء في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين ، حيث كانت لها السيادة والريادة على الفكر الشيعي ، خاصّة وأنّها تمكّنت من دحر المدرسة الإخباريّة وإخماد نورها وإعلاء شأن التفكّر الأصولي العقلاني ، ولكنّها تراجعت أخيرا أمام مدرسة الشيخ الأنصاري الأصوليّة وآرائه المستحدثة.

(٢) الذريعة : ١٦ / ١٣٢.

٩

والمنتقية من الرسائل ، من خيرة الكتب المصنّفة في هذا المجال ، وقد فرغ منها في الحادي والعشرون من شهر جمادى الأولى سنة ١٣٠٨ ه‍ ، وطبعت لأوّل مرة عام ١٣١٨ ه‍ بطهران طبعة حجريّة باسم (الفوائد الرضويّة على الفرائد المرتضويّة) ، ولكنّها اشتهرت ب (حاشية الرسائل) في ٢٤١ صفحة ، وجاء في مقدّمة هذه الطبعة :

«هذه تعليقة شريفة ، وحاشية منيفة ، للعالم العامل ، قدوة العلماء الراسخين ، وسند الفقهاء المتبحّرين ، وراسم دقائق الرسوم والمراسم ، بحر العلوم المتلاطم ، مدار التحقيق ، محرّر الأصول ، مهذّب الفروع ، المغترف من بحر فضله الأساطين والفحول ، مولانا الأفضل ، وشيخنا الأعلم الأكمل ، العالم الربّاني ، الحاج آقا رضا الهمداني أصلا ، والغروي مسكنا ومنشأ ، دام ظلّه العالي على رءوس المسلمين ، على كتاب الرسائل المسمّى بفرائد الأصول ، للشيخ الإمام ، معلّم علماء الإسلام ، المفضّل مداده على دماء الشهداء ، المتبرّك بوطء أقدامه أجنحة ملائكة السماء ، رئيس الشيعة في عصره ، والمنتهى إليه رئاسة الإماميّة في دهره ، مالك أزمّة التحرير والتأسيس ، ومربّي أكابر أهل التصنيف والتدريس ، أكمل الفقهاء والمتبحرين ، أتقن المتقدّمين والمتأخرين ، محي مدارس التحقيق بعد اندراسه ، ومعيد مشاهد العلم بعد انطماسه ، برهان الإسلام والمسلمين ، علّامة العلماء الشامخين ، استاذنا الأعظم ، علم الهدى ، الحاج شيخ مرتضى الأنصاري ـ طاب رمسه الشريف ـ ، وقد تصدّى لطبعه نشرا لآثاره ، وتعدّدا لنسخته التي هي كالدرّ اليتيم ، والعقد النظيم ، افتخار الحاج ، وعمدة التجّار ، زبدة أهل اصلاح والتقوى ، ونخبة أولوا العقل والنّهى ، الحاج محمّد اسماعيل الجهرمي أصلا ، والطهراني مسكنا ، والقمّي شهرة ، طلبا لمرضات الله ، ورجاء لجزيل ثوابه ، مع كمال الدقّة في تصحيحه وجودة طبعه في مطبعة الاستاذ الكامل آقا ميرزا حسن ، وقد تمّ بعون الله في شهر شوال المكرّم من شهور سنة ١٣١٩ من الهجرة النبويّة».

١٠

هذا وطبعت الحاشية مرّة أخرى طبعة حجريّة في ١٣١ صفحة ملحقة بأصل الكتاب في مجلّدين سنة ١٣٧٧ ه‍ بطهران ، وجاء في ديباجة هذه الطبعة :

«لقد زيّن هذا الكتاب المستطاب بهذه التعليقات الشريفة التي علّقها عليه المرحوم المبرور ، العلّامة آية الله الحاج آقا رضا الهمداني ، الفقيه الزاهد البارع ، الذي برز من حوزة درس علامة زمانه الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه‌الله ، وصنّف في الفقه مصباح الفقيه في شرح شرائع الإسلام ، الذي لم يصنّف مثله في الدقّة ... وهذه التعليقة من أحسن التعليقات التي علّقها تلاميذ الشيخ قدس‌سرهم وغيرهم من الأساتيد على الكتاب فهي مع اختصارها مشحونة بالفوائد والتحقيقات الثمينة ، والأفكار البديعة التي لا توجد في غيرها ، فلله درّ مصنفه المرحوم ، وكان رحمه‌الله عالما عابدا زاهدا ، متجنّبا عن الدنيا وزخارفها ، مشغولا بالتدريس والتصنيف ، والخواصّ إلى مجلسه بحثه مشتاقون كشوق الحجيج إلى الصفا ، والمريض إلى الشفاء ، والظمآن إلى الرواء ...».

وقد استفاد من هذه الحاشية خلال قرن من طبعها ، كلّ من أقدم على شرح الرسائل أو التعليقة عليها أو تدريسها أو مطالعتها والاستفادة من قواعدها ، وقد رغب الأعلام في الاستفادة منها ـ فضلا عمّا عددنا من صفات المصنّف ـ لسلاسة بيان المصنّف ، وعذوبة جملاته واسترسالها ، هذا فضلا عن مناقشاته المشحونة بالتحقيقات والتدقيقات الأصوليّة ، والتطبيقات الفقهيّة وغيرهما ممّا قلّ نظيره في أمثاله من كتب الحواشي والتعليقات ، وقد استفدت في إخراج هذه الطبعة المحقّقة من الطبعتين السابقتين ، وخاصّة الطبعة الحجريّة الأولى ، لأنّها طبعت في حياة المصنّف وتحت إشرافه ، ونشرت في أيامه في الحوزات العلميّة فكان المعوّل عليها ، والإرجاع إليها. والله من وراء القصد.

١١
١٢

ترجمة المؤلّف رحمه‌الله :

هو الشيخ رضا بن محمّد هادي الهمداني النجفي رحمه‌الله ، الفقيه ، الدّين ، الزاهد ، الورع ، الثقة ، فريد عصره في طريقته وعلمه وزهده وورعه لم يعهد مثله ، كان من أجلّة الفقهاء الورعين ، ومن الأصوليّين المحقّقين ، والجامع لعلوم مدرستي النجف الأشرف وسامرّاء ، ولد بمدينة همدان في حدود سنة ألف ومائتين وخمسين هجريّة أو بعدها ، درس المبادئ في مسقط رأسه ثمّ هاجر إلى النجف الأشرف فحضر على شيخ العلماء المتأخّرين الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري ، ثمّ على الإمام المجدّد السيّد ميرزا محمّد حسن الشيرازي ، فلازمه في درسه وحلّه وترحاله ، فهاجر معه إلى سامرّاء بصحبته واستفاد من نمير علمه ، ثمّ عاد بعد سنوات عديدة إلى النجف الأشرف ، بعد أن ذاع صيت علمه وفضله ، وأصبح من أعلامها ، وحلّق حوله جماعة كبيرة ، ولحسن حظّ المترجم له أنّ عددا من خيرة تلامذته كتبوا عن سيرته وحياته وأخلاقه ، منهم العلّامة السيّد محسن الأمين العاملي في (أعيان الشيعة) والشيخ آقا بزرگ الطهراني في (طبقات أعلام الشيعة).

قال الشيخ الطهراني : «الشيخ آغا رضا ابن الشيخ محمّد هادي الهمداني

١٣

النجفي ، من أكابر العلماء المحقّقين ، ومشاهير مراجع عصره ، كان والده من العلماء الصّلحاء ، وكان هو من أجلّة الفقهاء وأفضل الأعلام ، هاجر إلى سامرّاء فلازم درس السيّد المجدّد الشيرازي سنين طوالا ، وكان يكتب تقريراته ، وداوم على ذلك مدّة مديدة إلى أن اشتهر أمره بين العلماء والأفاضل ، وبرز بين زملائه الكاملين بروزا ظاهرا ، وعدّ من أعاظم تلاميذ السيد المجدّد وأبرعهم في الفقه ، وأطلعهم في الأصول ، عاد إلى النجف في حياة استاذه ، فالتفّ حوله جمع من أهل الفضل ، واشتغل بالتدريس والتأليف والإمامة وغيرها من الوظائف ، وكان ذا اطلاع واسع في الفقه واصوله ، وخبرة وتضلّع فيهما ، شهد له بذلك جمع من معاصريه وكثير من المتأخرين عنه ، وهو من أزهد أهل عصره وأورعهم وأتقاهم ، كان يقضي أكثر أوقاته بين مطالعة وتدريس وكتابة وبحث ، وكان في غاية الإعراض عن الدنيا والزهد فيها ، كما كان على جانب عظيم من طهارة القلب وسلامة الذات ، والبعد عن زخارف الدنيا ، رجع إليه النّاس في التقليد بعد وفاة أستاذه الشيرازي سنة ١٣١٢ ه‍ ، وعلّق على كتاب (نجاة العباد) لعمل المقلّدين ، لكن ثقل عليه ذلك ، كراهة الرئاسة والزعامة ، وفرارا من المسئوليات التي تلقى على عاتق المرجع ، وكان صادقا في ذلك حيث رأيناه بعد أن رأس وقلّد كما كان سابقا لم يتغيّر سيرته ولا مأكله ولا ملبسه ، واتّفق أن لم يطل ذلك ، فقد ابتلى بالنسيان بعد فاصلة غير طويلة ، وامتنع عن الفتيا وبقي مواظبا على التدريس. وقد تخرج عليه جماعة من الأجلاء منهم :

الشيخ ابو القاسم بن محمّد تقي القمّي ، والشيخ محمّد تقي الطهراني المقدّس ، والشيخ جعفر آل الشيخ راضي ، والشيخ علي القمّي ، والشيخ عبد الحسين ابن الشيخ محمّد تقي آل الشيخ اسد الله التستري الكاظمي ، والسيد محسن الأمين العاملي ، وابن اخته وصهره الشيخ علي الهمداني ، والشيخ علي ابن الشيخ باقر

١٤

الجواهري ، والشيخ علي الحلّي ، والاخوان الشيخ أحمد والشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء ، والشيخ جواد البلاغي ، والسيد شكور الطالقاني ، وعدّة من آل صاحب الجواهر وآل كاشف الغطاء وغيرهم ، وهؤلاء من فضلاء الطبقة الأخيرة من تلاميذه الذين أدركت بحثه معهم.

ومن قدماء تلاميذه : الحاج محمّد حسن كبّه (كما حدّثني به رحمه‌الله) ، والسيد حسن الصدر (كما ذكره في بغية الوعاة) ، وغيرهما أيضا ممن لا أذكر أسمائهم.

وكانت له مع تلاميذه وغيرهم من مختلف الطبقات سيرة حسنة ، يتواضع لهم ، ويدربهم ويفيدهم بأعماله كما ينفعهم ويهذّبهم بأقواله ، وقد تأثّر بسيرته جمع من تلامذته ، فكانوا نظرائه في حسن السّمعة عند الناس ، وكان مترسلا في العيش إلى أبعد حدّ ، يمشي في الليل والنهار وحده دون أن يكون بخدمته أحد من تلامذته أو غيرهم ، فقد كان لا يسمح لهم بذلك ، وكانت العادة في ذلك العصر أن يحمل امام العلماء والأعيان سراج في الليل ، أمّا المترجم له فكان غير حاضر لذلك أيضا ، وكان يجلس مع تلامذته وأصحابه وكأنّه أحدهم ، يترسّل في حديثه وجلسته ، لم يسمع عنه أنّه استغاب أحدا طيلة عمره ، وكان لا يسمح لأحد أن يغتاب آخر في مجلسه ، فإذا أحسّ بمثل ذلك أورد مسألة علميّة في الحال وصرفهم عما كانوا فيه ، وكان يقيم الصلاة بمسجد قرب داره لم يزل يعرف باسمه حتى اليوم ، وكان يأتمّ به الأخيار والأتقياء ، مرض في الأواخر بالسلّ ، فسافر إلى سامرّاء لتغيير الهواء ، فتوفّى بها صبح الأحد ٢٨ صفر عام ١٣٢٢ ه‍ عن نيّف وسبعين سنة ، ودفن في الرواق الشريف من جانب أرجل الإمامين عليهما‌السلام في الصّفة الأخيرة التي يطلع شباكها إلى زاوية الصحن المنوّر» (١).

__________________

(١) نقباء البشر في القرن الرابع عشر : ج ٢ / ٧٧٨ ـ ٧٧٦

١٥

هذا وقد أسهب تلميذه الآخر العلّامة السيد محسن الأمين العاملي في ترجمته خلال عدّة فصول فتحدّث عن وصف حاله العلمية ، وزهده وورعه وتقواه ، ووثوق الخاصّة والعامّة به بما لا يثقونه بغيره ، وتواضعه الشديد وحمله نفسه عليه في كلّ شيء ، وكراهة الشهرة وانعزاله عن النّاس ، ومبدأ أمره ومنتهاه ، وبعض آرائه العلميّة ، وبعض أحاديثه ، وولده ومشايخه وتلاميذه ومؤلّفاته ، كلّ ذلك في الجزء التاسع ص ٢٣ ـ ١٩ من كتاب (أعيان الشيعة) فراجع.

مؤلّفاته :

ترك شيخنا الهمداني آثار جليلة أهمّها وأشهرها :

١ ـ مصباح الفقيه : وهو الكتاب الذي نال به مؤلّفه شهرته الخالدة في الفقه ، بل انتسب المؤلّف إلى المؤلّف ، واشتهر بأنّه صاحب (مصباح الفقيه) ، وقيل في حقّه أنّه لا يستغني عنه الطالب المتوسط والفقيه المجتهد المتمرس ، وهو شرح مزجىّ لكتاب (شرائع الإسلام) للمحقّق الحلّي ، وكانت طريقته في تأليفه أنّه في كلّ يوم كان يكتب منه مقدار صفحة ثمّ يمليها في صبيحة يوم التالي على تلامذته في مجلس البحث ، فربّما كانوا ينتقدونه في بعض العبارات ويدوّن ما اجتمع رأيهم عليه أخيرا ، وقد خرج منه كتاب الطهارة والصلاة والزكاة والخمس والصوم والرهن ، وقد حالت المنيّة بين المؤلّف وإكماله للكتاب ، وقال آية الله العظمى السيّد محمّد الروحاني قدس‌سره لو كانت دورة «مصباح الفقيه» كاملة لأستغنى الفقهاء عن كتاب (جواهر الكلام). وقد خرج هذا السفر أخيرا في طبعة محقّقة وباخراج جميل في ١٤ مجلّد على نفقة المحسن الكريم الحاج محمد تقي علاقه بنديان ، دام فضله.

٢ ـ ذخيرة الأحكام في مسائل الحلال والحرام : وهي رسالته العملية لمقلّديه في العبادات ، وقد ترجمت إلى الفارسية باسم (الهداية) سنة ١٣١٩ ه‍.

١٦

٣ ـ الوجيزة في الفقه : وهي في مهمّات مسائل الحلال والحرام ممّا يتعلّق بالطهارة والصلاة والصوم.

٤ ـ حاشية الرسائل : وقد سمّاها ب (الفوائد الرضويّة على الفرائد المرتضويّة) فرغ منها في ٢١ جمادى الأولى سنة ١٣٠٨ ه‍ ، وطبع سنة ١٣١٨ ه‍ بطهران طبعة حجرية ، وهو هذا الكتاب.

٥ ـ تقريرات : من أوّل كتاب البيع إلى آخر الخيارات لبحث استاده الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه‌الله.

٦ ـ تقريرات : في أصول الفقه لبحث استاده الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمه‌الله.

٧ ـ الحاشية على (رياض المسائل).

٨ ـ الحاشية على كتاب (نجاة العباد).

٩ ـ حاشية المكاسب : وهي تحتوي على تعليقات الهمداني على كتاب (المكاسب) للشيخ الأنصاري ، وهي تبدأ من كتاب البيع وتنتهي في آخر مباحث كتاب الخيارات ، والحاشية من بدايتها إلى منتصفها أشبه بالتقريرات حيث لم يعلّق على أقوال الشيخ في (المكاسب) إلّا نادرا ، بل يذكر عناوين الأبواب والفروع والمسائل المطروحة في كتاب (المكاسب) ومن ثمّ يشرع في بيان المسائل المطروحة بالتفصيل. وقد صدرت بتحقيقنا عام ١٤٢٠ هجرية.

عملنا في تحقيق الكتاب :

١ ـ تقويم النصّ وتقطيعه بحسب ما هو متعارف عند أهل الفنّ.

٢ ـ تخريج النصوص المنقولة من كتاب (فرائد الأصول) ، وقد أرجعنا التخريجات إلى طبعتين من الرسائل وهما :

١٧

أ : الطبعة الحجريّة : المطبوعة أولا سنة ١٣٢٦ ه‍ بخطّ الكاتب وهو «العبد الخاطئ ، والرقّ الآثم الفاني ، المهتدي بهداية ربّه الهادي ، مصطفى النجم آبادي ، غفر الله ذنوبه» وقد تكرّر طبع هذه الطبعة خلال السنوات اللاحقة التي تلت الطبعة الحجريّة الأولى ، وتداولت نسخها عند أهل العلم والطلاب بحث لا تخلو مكتبة طالب علم من نسخة منها ، خاصّة وأنّ هذه الطبعة مذيلة ومحشية بتعليقات أحد شرّاح الرسائل وهو العلّامة الشيخ رحمت الله الكرماني.

ب : الطبعة المحقّقة : وهي الطبعة المحقّقة التي أصدرتها «الأمانة العامّة للمؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري قدس‌سره» عام ١٤١٩ ه‍ في أربع مجلدات.

٣ ـ إضافة العناوين الأصليّة للفروع التي تعرض لها المحشّي من كتاب (فرائد الأصول) وعلّق عليها ، وقد جعلتها في مستطيل الظلّ.

٤ ـ تخريج بعض الروايات والأحاديث التي استشهد بها المصنّف ، ولم يكن قد ذكرها المصنّف في رسائله.

٥ ـ تقديم الكتاب بمقدّمة ضافية عن المعلّق ، وموجزة عن المعلّق على كتابه ، أي الشيخ الهمداني والشيخ مرتضى الأنصاري رحمهما‌الله تعالى.

وفي الختام ابتهل إلى الله العلي القدير لتوفيقه إيّاي في إخراج هذا الكتاب إلى الملأ العلمي والحوزات العلميّة ، وأقدّم شكري لكلّ من ساعدني في إخراج الكتاب معنويّا وماديّا ، وأخصّ بالذكر الباذل الكريم الحاج محمد تقي علاقه بنديان دام فضله حيث طبع هذا الكتاب وغيره على نفقته الخاصة ، فشكر الله مساعيه ، وأجزل له الأجر والثواب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

محمّد رضا الانصاري القمّي

صفر عام ١٤٢١ هجريّة

١٨

١٩

٢٠