حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

كما لو دفع الآخر أوّلا إلى المسجد ، فدخل هو بنفسه بعده ، أو دخل في المسجد أوّلا فجرّ الآخر إليه وأدخله ، فيعلم إجمالا بكون أحد الفعلين مخالفا لخطاب معلوم بالإجمال ، لو لم نقل برجوعهما إلى عنوان محرّم واحد ، وهو مطلق إدخال الجنب الصادق على إدخال نفسه أو غيره ، وإلّا فيندرج في المخالفة الإجماليّة لخطاب تفصيليّ.

قوله قدس‌سره : مع قطع النظر عن حرمة الدخول ، أو الإدخال عليه ، أو فرض عدمها (١).

أقول : أي على الحامل ، يعني أنّ الكلام إنّما هو في تكليف المحمول من حيث علمه الإجمالي بأنّه أو أجيره جنب ، مع قطع النظر عن أنّ فعل الحامل محرّم ، فيكون استيجاره إعانة على الإثم.

قوله قدس‌سره : أمّا الكلام في الخنثى ، فيقع تارة في معاملتها مع غيرها ... الخ (٢).

أقول امّا معاملتها مع غيرها من معلوم الذكوريّة والانوثيّة ، فسيأتي التصريح بها فيما بعد.

وامّا معاملتها مع مجهولهما ، أي خنثى اخرى مثلها ، فلم يتعرّض لبيانه صريحا.

فنقول : امّا معاملة الخنثى مع خنثى اخرى ، كمعاملة غير الخنثى مع الخنثى ، فيجوز له النظر إلى الخنثى إن قلنا بأنّه يجوز لكلّ من الرجل والانثى النظر إليه ، لأنّ علمه إجمالا بأنّه بنفسه إمّا رجل أو انثى ، لا يقتضي حرمة النظر إلى هذا الشخص المجهول الحال ، بعد أن جاز لكلّ من الرّجال والنساء النظر إليه بمقتضى ظاهر

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٣ سطر ٨ ، ١ / ٩٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٣ سطر ١٩ ، ١ / ٩٨.

٨١

تكليفهم ، فانّ غاية ما يقتضيه هذا العلم ، ليس إلّا وجوب الاحتياط ، بالجمع بين تكاليف الرجال والنساء ، والمفروض أنّه لا يحرم على كلّ من الطائفتين النظر إليه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فمقتضى القاعدة احترازها ... الخ (١).

أقول : يعني مقتضى القاعدة المقرّرة في محلّها ، من وجوب الموافقة القطعية للحكم المعلوم بالإجمال.

ولا يخفى عليك أنّ الكلام في هذا المقام أصالة إنّما هو في حرمة المخالفة القطعية ، فتعرّض المصنّف قدس‌سره لتفصيل الأحكام المتعلّقة بالخنثى من حيث معاملتها مع الغير ، أو معاملة الغير معها ، مع ابتنائها على وجوب الموافقة القطعية ، إنّما هو للاستطراد ، وتحقيق المطلب ، بعد البناء على وجوب الموافقة القطعيّة ، كما هو التحقيق على ما يتّضح في مسألة البراءة والاحتياط.

قوله قدس‌سره : وقد يتوهّم ... الخ (٢).

أقول : هذا التوهّم إنّما يجدي لو قلنا بالتفصيل بين ما لو كانت المخالفة العملية لخطاب تفصيليّ أو إجمالي ، ولكنّك عرفت أنّ الأقوى عدم جواز مخالفة الحكم المعلوم بالإجمال مطلقا.

قوله قدس‌سره : كما تقدّم في الدخول والإدخال (٣).

أقول : قد عرفت فيما تقدّم أنّ عدم العبرة بإجمال الخطاب ، إنّما هو فيما إذا تحقّق

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٣ سطر ٢١ ، ١ / ٩٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٣ سطر ٢٢ ، ١ / ٩٩.

(٣) فرائد الأصول : ص ٢٣ سطر ٢٥ ، ١ / ٩٩.

٨٢

العنوانان بفعل واحد ، وإلّا فيكون مخالفة لخطاب إجمالي ، لو لم نقل برجوع النهي عن العنوانين إلى النهي عن القدر المشترك بينهما ، ففيما نحن فيه أيضا كذلك ، فانّ تحقّق نظره إلى الطائفتين بفعل واحد اندرج في المخالفة القطعيّة التفصيليّة ، فلا عبرة حينئذ بإجمال الخطاب ، وإلّا فمن المخالفة الإجماليّة للخطاب المردّد ، إلّا أن يقال بإرجاع الخطابين إلى خطاب واحد تفصيلي ، فليتدبّر.

قوله قدس‌سره : أو يقال إنّ رجوع الخطابين ... الخ (١).

أقول : قد عرفت أنّ هذا القول إنّما يجدي ، بناء على أن لا يكون الخطاب المردّد مؤثّرا في تنجّز التكليف ، وهو خلاف التحقيق ، ومحصّل هذا القول دعوى أنّ مرجع الخطابين إلى إيجاب غضّ البصر على كلّ مكلّف عن مجموع من عداه ، أعني كلتا الطائفتين ، لا عن كلّ من عداه إلّا ما استثنى ، فالنظر إلى إحدى الطائفتين ليس مخالفة معلومة لهذا الخطاب ، ولا للخطاب المتوجّه إلى خصوص الرجال أو النساء ، فالمخالفة العمليّة الحاصلة من النظر إلى إحدى الطائفتين ، لو فرض عدم مماثلتها لها ، لا تكون إلّا للخطاب المردّد بين الخطابين ، لا لهذا الخطاب التفصيلي المتولّد من الخطابين. نعم لو نظر إلى كلتا الطائفتين يحصل مخالفته هذا الخطاب.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٢).

أقول : وجه التأمّل أنّ الشّك في مصداق المخصّص ، فلا يجوز التمسّك بالعموم كما

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤ في هامش سطر ٢٣ ، ١ / ٩٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٤ سطر ١٣ ، ١ / ١٠١.

٨٣

تقرّر في محلّه ، لكن في بعض الحواشي المنسوبة إليه ، بعد أن ذكر وجه التأمّل كما ذكرنا ، قال :

«ويمكن أن يقال إنّ ما نحن فيه من قبيل ما تعلّق غرض الشارع بعدم وقوع الفعل في الخارج ، ولو بين شخصين ، فترخيص كلّ منهما للمخالطة مع الخنثى مخالف لغرضه المقصود من عدم مخالطة الأجنبي مع الأجنبية ، فلا يردّ النص بترخيص ذلك في الشّبهة الابتدائية ، فما نحن فيه من قبيل ترخيص الشارع لرجلين في تزويج كلّ منهما لإحدى المرأتين اللّتين يعلم إجمالا أنّهما ابنتان لأحد الرجلين ، فافهم» انتهى.

أقول : إنّما يصغى إلى مثل هذا القول في مقابل إطلاق أدلّة الاصول ، فيما إذا كان ذلك الشيء المنهيّ عنه ، من الأشياء التي وجب على كلّ مكلّف الاجتناب عنها ، ومنع الغير أيضا عن فعلها مهما أمكن ، وإن لم يكن ذلك الغير مكلّفا أو معذورا في فعله ، لغفلة أو جهل أو نسيان ، كما في قتل النفوس ، وارتكاب الفواحش التي علم من طريقة الشارع أنّه لم يرض بوجودها في الخارج ، وأنّه يجب فيها تنبيه الغافل ، وإرشاد الجاهل ، ففي مثل هذه الموارد بعد أن علم المكلّف إجمالا بأنّ ذلك المنكر امّا يحصل بفعله أو بفعل غيره ، وجب عليه السعي في منعه ، بترك فعله الذي يحتمل مصادفته له ، ومنع ذلك الغير أيضا عن ذلك مع الإمكان ، فلا يجوز له الرجوع حينئذ إلى الأصل بعد أن كان لعلمه الإجمالي ـ على كلّ تقدير ـ أثر فعليّ في حقّه ، والمثال الذي فرضه المصنّف قدس‌سره ، أي تزويج البنت بحسب الظاهر من هذا القبيل.

وامّا النظر إلى الأجنبيّة ، فلم يثبت كونه كذلك ، فالأصل في حقّ كلّ من الطائفتين سليم عن المعارض ، وتنظيره على المثال محلّ نظر ، فليتأمّل.

٨٤

قوله : لأصالة عدم ذكوريته ... الخ (١).

أقول : هذا الأصل ممّا لا أصل له ، لكونه من قبيل تعيين الحادث بالأصل ، فالمرجع إنّما هو اصالة عدم تأثير العقد ، وعدم انعقاد علاقة الزوجية ، فليتأمّل.

* * *

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤ سطر ١٤ ، ١ / ١٠١.

٨٥

[في إمكان التّعبد بالظّن]

قوله قدس‌سره : الأوّل أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد ... الخ (١).

أقول : توضيح الاستدلال أنّ جواز التعبّد بخبر الواحد في الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يلزمه جواز التعبّد في الأخبار عن الله تعالى ، لأنّ كلا الواقع منهما إخبار عن حكم الله الواقعي ، مورّث للظنّ به ، فلو جاز التعبّد بأحدهما ، لجاز التعبّد بالآخر لعدم الفارق فيما هو مناط الإمكان ، وكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله واسطة في الأوّل لا يصلح فارقا بين المقامين.

ويتوجّه على هذا الاستدلال ـ مضافا إلى ما سيذكره المصنّف قدس‌سره ـ أنّ الأخبار عن الله تعالى يتضمّن إدّعاء مرتبة الرسالة ، وصفاء النفس وكمالها ، فدواعي الكذب فيها شديدة ، بحيث لو بني على تصديق كلّ من يدّعيه للزم الهرج والمرج ، وهذا بخلاف الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، هذا مع أنّ الثاني مستند إلى ما يدرك بالحواس الظّاهرة ، فيبعد وقوع الخطأ فيها بخلاف الأوّل ، فمن الجائز أن يكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤ سطر ١٩ ، ١ / ١٠٦.

٨٦

الإغماض عن مخالفة الواقع أحيانا ـ الذي هو من لوازم حجّية الخبر ـ قبيحا في الأخير دون الأوّل.

ثمّ ، لو فرض مساواة الخبرين من جميع الجهات ، ولو بالنسبة إلى شخص خاص ، ـ بأن لم يكن احتمال مخالفته للواقع إلّا كاخباره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لم يكن تصديقه مستلزما لأمر قبيح زائدا على ما يستلزمه الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما إذا فرض التعبّد بتصديقه في بعض فروع الدين من حيث هو ، من دون أن يجب الإذعان بنبوّته أو غيرها ممّا هو من لوازم صدقه في الواقع ، ممّا يترتّب عليه مفاسد لا يترتّب على الأخبار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتمنع استحالته عقلا ، إلّا أنّه غير واقع ، حيث أنّ وقوعه يتوقّف على دليل قطعي كاخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب تصديقه تعبّدا فيما يخبر عن الله تعالى بدعوى الإلهام أو الوحي ، من غير أن يخبر بصدقه في الواقع ، فيجب حينئذ تصديقه ولو لم يحصل للمكلّف الجزم بصدقه ، ولا يكفي في إثبات ذلك أدلّة حجّية خبر الثقة ، لا لمجرّد الإجماع على اختصاصها بما عدى هذا الخبر ، أو ظهورها في الخبر الحسّي بل للقطع بعدم إرادته منها ، فضلا عن انصرافها عنه.

قوله قدس‌سره : واستدلّ المشهور ... الخ (١).

أقول : لا يخفى أنّ دعوى القطع بالمدّعي خارجة عن طريقة الاستدلال ، لما عرفت فيما سبق من أنّ الدليل ما يقع وسطا لإثبات أحكام المتعلّق ، ولا يقع القطع وسطا ، فلا يكون دليلا مع أنّ هذه الدعوى غير مجدية إلّا لمدّعيها.

فتقريب الاستدلال المشهور : إنّ ما لا يكون بذاته محالا كاجتماع النقيضين ، ولا

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤ سطر ٢٢ ، ١ / ١٠٦.

٨٧

مستلزما لأمر محال ، فهو ممكن الوجود ، والتعبّد بالظنّ ليس محالا بذاته في حدّ ذاته ، ولا مستلزما لأمر محال ، فيجب أن يكون ممكنا.

أمّا المقدّمة الاولى ـ أعني عدم كونه في حدّ ذاته محالا ـ كالمقدّمة الثالثة ـ أعني ما ليس ممتنعا فهو ممكن ، فهو من الضروريات ـ لا يحتاج إثباتها إلى وسط.

وامّا انّه لا يستلزم محالا ، فثبوته يتوقّف على الإحاطة بجميع جهاته التي يمكن أن تكون مؤثّرة في قبحه ، ككونه مؤدّيا إلى مخالفة الواقع ، ومستلزما لاجتماع حكمين متضادين في موضوع واحد على تقدير المخالفة ، واجتماع المحبوبيّة والمبغوضية ، والتكليف بما لا يطاق ، إلى غير ذلك من الجهات التي يمكن كونها مؤثّرة في قبحه ، فلا بدّ من الإحاطة بها ، والعلم بعدم تأثيرها في القبح ، والقطع بأنّه ليس فيه جهة اخرى مقبحة غير ما أدركه المستدلّ بعقله ، ولا يخفى أنّ حصول القطع بانحصار الجهات فيما أدركه العقل بعيد ، لكونه كالشهادة على النفي ، ولذا أنكر المصنّف قدس‌سره حصول القطع فيما نحن فيه.

ولا يقاس ما نحن فيه بالمستقلّات العقليّة ، كحسن الاحسان وقبح الظلم ، حيث أنّ العقل يحكم بأنّه ليس في الأوّل جهة مقبّحة ، ولا في الثاني من جهة محسنة أصلا ، لأنّ حكم العقل في الأحكام المستقلّة إنّما هو على الموضوع الذي أحاط به بجميع جهاته ، بحيث جعل الجهات المغفولة عنوانا لتشخيص المعنون ، فليس المعنون وراء ما يصدق عليه العناوين المعقولة.

نعم ، حكم العقل على مصاديق تلك العناوين المعقولة ، كحكمه على الضّرب الشّخصي الصادر من زيد بأنّه قبيح مطلقا ، موقوف على إحراز أنّه ليس فيه جهة محسّنة يخرج بسببها عن كونه ظلما ، فيكون نظير ما نحن فيه.

كما أنّ حكم العقل بوجوب سلوك الطريق الظنّي حال الانسداد ، لكونه أقرب إلى الواقع من غيره ، من قبيل الأوّل ، أعني الاحكام المستقلّة التي تكون الجهة

٨٨

المحسّنة عنوانا لتشخيص الموضوع.

وقد ظهر لك أنّ الأولى أن يقرّر دليل الجواز ، كما قرّره المصنّف قدس‌سره بقوله «إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة» (١) ، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان.

وقد اعترضت في الأزمنة السابقة على هذا التقرير بقولي :

«وفيه : إنّ هذا لا يوجب القطع بالإمكان ، لأنّ عدم وجدان الدليل أعمّ من العدم في الواقع.

وامّا ما ذكره من كونه طريقا يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان ، فهو بحسب الظاهر إشارة إلى ما هو المحكيّ عن الشيخ الرئيس وغيره من أنّ «كلّما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ، ما لم يذره قائم البرهان» ، وهو غفلة ، إذ المقصود منه ليس الحكم بالإمكان الذاتي أو الوقوعي من دون دليل ، بل المراد الإمكان الاحتمالي ، بمعنى تجويز العقل صدق المسموع ، فالمقصود بذلك أنّه لا يجوز المبادرة في الإنكار فيما يسمع بمجرّد الاستبعاد ، بل يلتزم بإمكان صحّته ، بمعنى احتمالها بنظر العقل» انتهى.

وفيه : إنّ الاعتراض نشأ من الغفلة عن فهم المراد ، لأنّ المقصود بالاستدلال دعوى استقرار طريقة العقلاء على ترتيب أثر الممكن في مقام العمل ، كما هو الشأن في سائر الاصول العملية المعمول عليها لدى العقلاء ، لا البناء على إمكانه بمعنى اعتقاد أنّه ممكن ، ضرورة امتناع حصول الاعتقاد مع الشّك.

ومعنى ترتيب أثر الممكن عليه ، أنّهم لا يطرحون الدليل الدالّ على وجود شيء بمجرّد احتمال استحالته ، بل يلتزمون بترتيب أثر الوجود عليه ما لم يعلم استحالته ، إذ ليس للممكن في حدّ ذاته أثر قابل لأن يترتّب عليه حال الشّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤ سطر ٢٥ ، ١ / ١٠٦.

٨٩

إلّا هذا ، أعني أثر وجوده عليه عند قيام طريق معتبر عليه ، ألا ترى أنّه لو قال المولى لعبده «صدّق زيدا فيما يخبرك» فاخبره زيد بمجيء عمرو من سفره ، يجب على العبد ترتيب آثار مجيئه ، ولا يجوز له طرح خبر زيد بمجرّد احتمال استحالته ، وكذا لا يجوز بشهادة العقل والعقلاء طرح الآثار الشرعيّة وتأويلها بمجرّد احتمال استحالته ، فالعقلاء استقرّت طريقتهم على ترتيب أثر الوجود على ما قام عليه طريق ما لم يثبت امتناعه ، ولا يجوز لديهم طرح الدليل المعتبر بمجرّد الاحتمال ، مع أنّ الوجود أخصّ من الإمكان ، فهذا دليل على أنّ عدم ثبوت الامتناع كاف لدى العقلاء في معاملة الإمكان ، بمعنى الالتزام بالعمل على طبق الطريق المؤدّي إلى وقوعه.

وقد اتّجه بما ذكرنا ما صدر من بعض المتكلمين من الاستدلال بأصالة الإمكان في بعض مقاصدهم الكلامية ، كالمعاد ، والمعراج الجسمانيين ، وخلود الكفّار في النار ، وكونهم معذّبين فيها ، وكون الجنّة والنار مخلوقتين بالفعل ، ونظائر هذه الموارد ، فانّ معنى التشبّث بالأصل في مثل هذه الموارد ، وجوب التديّن والالتزام بمضمون الآيات والأخبار الدالّة عليها ، وعدم جواز ارتكاب التأويل ، أو الطرح فيها بواسطة بعض الشكوك والشبهات الموهمة استحالتها.

ولكن قد اعترض بعض محققيهم في تعليقاته على بعض شروح «التجريد» على التمسّك بأصالة الإمكان ، بعين ما صدر منّا سابقا من الاعتراض على المتن حرفا بحرف ، إلّا في مجرّد التعبير.

وقد عرفت أنّه لا وقع لهذا الاعتراض على ما وجّهنا به كلامهم ، وإلّا فمن الواضح أنّه لا مسرح للاصول في إثبات كون الشيء ممكنا في الواقع ، وإنّما يعوّل عليها في مقام ترتيب الأثر ، كما يأتي لذلك مزيد توضيح في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

٩٠

قوله قدس‌سره : بل القطع أيضا ... الخ (١).

أقول : قد يتوهّم بطلان النقض بالقطع ، لا للوجه الذي سيذكره المصنّف قدس‌سره ، بل لأجل أنّ القطع طريق بنفسه لا بجعل جاعل ، حتّى يصلح للاتّصاف بالقبح على تقدير التخلّف ، فيكون شاهدا لما نحن فيه.

وفيه : انّ مناط النقض ليس كون الطريق مجعولا أو منجعلا بنفسه ، بل المناط إنّما هو جواز اتّباع طريق قد يتخلّف عن الواقع ، سواء كان اتّباعه بالزام العقل أو بأمر الشارع ، فكما أنّه يجوز للعقل الالزام باتّباع القطع ، مع أنّه قد يتخلّف عن الواقع ، كذلك يجوز للشارع الإلزام باتّباع الظّن ، إذ لا فرق في القبح بين كون الحاكم هو العقل أو الشارع ، فانحصر دفع هذا النقض بما أفاده المصنّف قدس‌سره من أنّ باب احتمال التخلّف عن الواقع منسدّ عند القاطع ، فلأجل ذا يحكم عقله بوجوب اتّباع قطعه.

نعم ، لو جاز قيام هذا الاحتمال لدى القاطع ، وألزمه مع ذلك عقله بوجوب اتّباع قطعه ، مع تمكّنه من سلوك طريق لم يكن فيه هذا الاحتمال ، لكان النقض وجيها ، إلّا أنّ الفرض غير ممكن.

قوله قدس‌سره : واخرى بالحلّ ... الخ (٢).

أقول : حاصله أنّ الممتنع إنّما هو اجتماع حكمين متضادّين في موضوع واحد في مرتبة واحدة ، من حيث الفعليّة أو الشأنيّة ، بأن يكونا إمّا فعليين أو شأنيين. وامّا إذا كانا مختلفين ـ كما هو المسلّم لزومه في المقام ـ فلا استحالة فيه ، كما سيتّضح لك وجهه إن شاء الله.

والمراد بالحكم الفعلي هو الحكم المنجّز الذي لا يعذر المكلّف في مخالفته ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥ سطر ٥ ، ١ / ١٠٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٥ سطر ٥ ، ١ / ١٠٧.

٩١

وبالشأني ما يكون معذورا في المخالفة بواسطة جهله بالواقع لا عن تقصير ، فتسميته الأحكام الواقعيّة أحكاما شأنية لا يخلو عن مسامحة ، إذ الحقّ أنّها أحكام متحقّقة صدرت لغرض الامتثال ، ولذا يجب الفحص عنها ، ولا يعذر المكلّف الجاهل بها في المخالفة ما دام مقصّرا ، ولكن العلم بها إجمالا أو تفصيلا شرط عقلي في تنجّزها ، أي في التزام المكلّف بها ، وحسن المؤاخذة على مخالفتها ، فهو شرط في تنجّز التكليف بها عقلا ، أي في وجوب امتثالها الذي هو حكم عقليّ ، ولا يعقل أن يكون كالقدرة على الفعل شرطا واقعيّا للأحكام الشرعيّة ، للزوم الدور ، فالحكم الشرعيّ عبارة عن إلزام الشارع بفعل شيء ، أو تركه أو الرخصة فيه ، وهذا مقدّم في الرتبة على العلم به ، فلا يعقل أن يكون للعلم به دخل في تحقّقه ، ولكنّه شرط عقلي في ترتّب الأثر عليه ، أي وجوب الخروج عن عهدته ، وجواز المؤاخذة على مخالفته ، فإطلاق الحكم الشأني على الأحكام الواقعيّة المجهولة ، بلحاظ عدم كون المكلّف ملتزما بها بالفعل في مقام العمل ، وكونه معذورا في مخالفتها ، لا عدم كونها أحكاما فعليّة في الواقع ، كما لو اضطرّ إلى ارتكاب محرّم ، أو ترك واجب لا بواسطة الجهل ، فانّه يصير حينئذ الحكم الواقعيّ الثابت للشيء من حيث هو ، بواسطة الاضطرار المانع عن فعليّته ما ينافي الواقع حيث أنّ عدم الاضطرار إلى مخالفتها شرط واقعي في تنجّزها ، بخلاف عدم الجهل.

قوله قدس‌سره : وامّا القسم الثاني فهو على وجوه (١).

أقول : قد نبّه المصنّف قدس‌سره على ثلاث منها ، وهاهنا وجه رابع ، وهو أن يكون للأمارة القائمة على الواقعة تأثير في الفعل الذي تضمّنت الأمارة حكمه ، ولكن لا

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٧ سطر ٦ ، ١ / ١١٣.

٩٢

على وجه تؤثّر في انقلاب حكمه الواقعي ، وهذا يتصوّر على قسمين :

أحدهما : أن تكون مصلحتها مقصورة على صورة المطابقة ، كما لو كان تصديق العادل ، وحسن الظّن به ، والتعبّد بقوله أمرا راجحا محبوبا عند الله ، لكن على تقدير كونه صادقا في الواقع ، ففي موارد الكذب لا مصلحة فيه ، ولكن لعدم امتيازها عن موارد الصّدق ، يدور الأمر بين الأمر بتصديقه مطلقا وعدمه ، فلو كانت مصلحته فائقة على المفسدة المرتّبة عليه في موارد التخلّف ، يكون الأمر به حسنا حيث أنّ فيه خيرا كثيرا وشرّا قليلا بالإضافة إلى خيره.

الثاني : أن يكون المصلحة بلحاظ نوع الأمارة ، بمعنى أنّ تصديق العادل على الإطلاق ما لم يعلم مخالفته للواقع ، مشتمل على مصلحة مقتضية للأمر به فائقة على مفسدة فوت الواقع أحيانا ، لكن لو لوحظ مصاديقه ، ففي كلّ مورد ليس على وجه تكافؤ مفسدة مخالفة الواقع ، فشرب التتن لو كان حراما ، وقد أخبر العادل بحلّيته ، فاخباره وإن كان من الجهات الموجبة لحسنه ، لكن لا تعارض مفسدة الواقع ، فجواز الأمر بسلوكه على الإطلاق مع عدم صلاحية مصلحته لتغيّر الواقع على تقدير المخالفة ، إنّما هو بلحاظ سائر الموارد السليمة عن المفسدة القاهرة ، كالصورة السابقة ، لكن مقتضى هذا الوجه الفرق بين ما لو كان الحكم الواقعي الوجوب أو الحرمة ، فأخبر العادل بخلافه ، أو الإباحة ، ففي الأوّلين لا يتبدّل الحكم الواقعي بعد فرض مقهورية الجهة العارضة للجهة المقتضية للوجوب أو الحرمة ، وفي الأخير يتبدّل ، لأنّ جهات الإباحة لا تزاحم الجهات المحسّنة أو المقبّحة ، لكن لا محذور في الالتزام به ، لأنّ تبدّل حكم المباح الواقعي بالعناوين الطارئة ، كإطاعة الوالد ، أو الوفاء بالنذر. والعهد. والعقد وغير ذلك غير عزيز ، فيمكن الالتزام بأنّ إخبار العادل بوجوبه أو حرمته أيضا من هذا القبيل ، ولا يلزمه القول بالتّصويب ، فليتأمّل.

٩٣

قوله قدس‌سره : إلّا أنّ العمل على طبق تلك الأمارة ... الخ (١).

أقول : يعني أنّ المصلحة إنّما هي في نصب الطريق ، وتنزيل شيء منزلة العلم ، كالتسهيل على المكلّف ونحوه ، من غير أن يكون له دخل في حسن متعلّقه ، كنفس العلم الذي هو طريق عقليّ ، وبهذه التقرير لا يبقى مجال لتوهّم رجوع هذا الوجه إلى الوجه الثاني كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتّصويب (٢).

أقول : هذا إنّما هو في بادئ الرأي ، وإلّا فالقول بالأجزاء يناقض التصويب كما سيشير إليه المصنّف قدس‌سره ، لأنّ القائل بالأجزاء ملتزم بكون الواقع باقيا على وجوبه ، ولكن يزعم أنّ ما أدّى إليه نظر المكلّف ، بالنظر إلى الأدلّة الشرعيّة ، أو بحسب اعتقاده أيضا ، يقوم مقام الواقع في إسقاط ذلك التكليف ، بمعنى أنّ الشارع يقبله بدلا عن الواقع ، إمّا تفضّلا أو لكون اعتقاده أو قيام الطريق عليه من الجهات الموجبة لإفادته فائدة المأمور به ، فيسقط أوامرها بفعل ما أدّى إليه نظره لحصول الغرض ، فأين هذا من التّصويب الذي هو عبارة عن تبدّل أمره الواقعي بالأمر الظاهري.

والحاصل : إنّه فرق بين تبدّل الأمر الواقعي بالظاهري بواسطة الجهة العارضة ، وبين اقتضاء الجهات المعارضة قيام هذا الشيء مقام الواقع في إسقاط طلبه ، فعلى الأوّل لو أتى بالواقع لا يجديه في إسقاط ما هو واجب عليه بالفعل ، بخلاف الثاني ، وعلى الثاني لو ترك الواقع ، ولم يمتثل الأمر الظاهري أيضا ، لكانت ذمّته مشغولة بالواقع ، وعلى الأوّل لا واقع أمر ما كان مكلّفا به في الظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٧ سطر ١٨ ، ١ / ١١٤. وفي الأصل : (إلّا أنّ الأمر بالعمل ...).

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٩ سطر ٦ ، ١ / ١١٩.

٩٤

قوله قدس‌سره : فغاية الأمر التخيير بينهما أو تقديم الظّن ... الخ (١).

أقول : ليس مقتضى المقدّمات التي رتّبها جواز الالتزام والتعبّد بالظّن في الفرض ، ولو على سبيل التخيير ، إذ غاية الأمر أنّه بحكم العقل مخيّر بين ترك الفعل الذي ظنّ بوجوبه ، فيكون عمله مطابقا لأصالة البراءة ، وبين أن يأتي بالفعل فيكون عمله مطابقا للظّن.

وامّا جواز العمل بالظّن بمعنى التّدين به والالتزام بأنّ مؤداه تكليفه في مقام العمل ، بحيث يجعله وسطا في إثبات متعلّقاته ، أو التعبّد بالأصل كذلك فلا ، وما ذكره في وجه تقديم العمل بالظّن فهو إنّما يؤثّر في الزام العقل باتّباعه ، إذا علم إجمالا بثبوت تكاليفه ، ولم يتمكّن من امتثاله بطريق العلم ، فيجب عليه حينئذ متابعة الظّن ، كما سيتّضح لك في تقرير دليل الانسداد.

ومن المعلوم أنّ التكلّم في المقام ليس مبنيّا على هذه المقدّمة ، إذا التكلم في المقام إنّما هو في جواز العمل بالظّن في خصوص مورد تعذّر فيه تحصيل العلم ، بحيث لو كان الأصل الجاري فيه حجّة ، ولم يكن اعتباره مقيّدا بعدم الظّن على خلافه ، لكان المتعيّن الرجوع إليه.

والحاصل : إنّ الكلام في هذا المقام ليس مبنيّا على دعوى العلم الإجمالي بثبوت تكاليف في الشريعة ، حتّى يتعيّن العمل بالظنّ عند تعذّر العلم ، ومن المعلوم أنّ الواقع ما لم يعلم تنجيزه عليه لا يجب إطاعته ، حتّى يتعيّن العمل بالظنّ عند تعذّر العلم.

ولو قال قائل : إنّ هذا هدم للمبنى ، لأنّه رجوع إلى أصل البراءة مع الظّن بالخلاف. والمفروض اختصاص اعتبار الاصول بما إذا لم يظنّ بخلافها.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٣٣ سطر ١١ ، ١ / ١٣٢.

٩٥

قلنا : هذا أصل عقلي مبني على قبح العقاب بلا بيان ، فلا يعقل اشتراطه بعدم الظّن.

اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ العقل لا يستقلّ بالقبح مع ظنّ التكليف ، فيجب حينئذ الاحتياط لقاعدة وجوب دفع العقاب المحتمل ، لا لكون الشيء مظنونا من حيث هو.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكرنا آنفا من أنّ غاية الأمر التخيير في المسألة الفرعية ، انّما هو من باب المماشاة ، وإلّا فعلى تقدير عدم كون الاصول اللفظيّة ، وكذا العمليّة ، ولا الظّن المقابل لها حجّة ، تكون المسألة ممّا لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، فإن استقلّ العقل بقبح العقاب عليه ـ كما هو الواقع فهو ـ وإلّا وجب الاحتياط تحرّزا عن العقاب المحتمل.

* * *

٩٦

[في الظنون المعتبرة]

قوله قدس‌سره : ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينة ... الخ (١).

أقول : قد يتخيّل أنّ إرجاع أصالة الحقيقة ، بل وكذا أصالة العموم والإطلاق ونحوها إلى أصالة عدم القرينة في غير محلّه ، لأنّ هذه الاصول بنفسها أصول معتبرة معتمد عليها لدى العقلاء ، ربّما يتشبّث بها في مجاريها مع العلم بعدم القرينة ، كما إذا قال المتكلّم «رأيت أسدا» أو قال «اعط كلّ فقير درهما» أو «أكرم عالما» فانّه كثيرا ما نقطع بعدم نصب القرينة على إرادة خلاف الظاهر ومع ذلك نشكّ في إرادة الظاهر ، فيحمل اللفظ عليه بواسطة أصالة الحقيقة في الأوّل ، وأصالة العموم في الثاني ، والإطلاق في الثالث ، ولا يجري في مثل الفرض أصالة عدم القرينة ، لأنّ المفروض حصول الشّك مع القطع بعدمها ، فاصالة عدم القرينة في مثل الفرض ـ مع أنّها لا تجري بواسطة القطع بالعدم ـ لا تجدي ، لعدم ارتفاع الشّك بها ، فكيف يكون مرجع تلك الاصول إليها!

نعم ، قد يكون الشّك في إرادة المعنى الحقيقي والعموم أو الإطلاق مسبّبا عن

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٣٤ سطر ٢ ، ١ / ١٣٥.

٩٧

احتمال وجود القرينة الصارفة ، فيكون حينئذ اصالة عدم القرينة في مثل الفرض حاكمة على تلك الاصول مانعة عن جريانها ، فعلى هذا التقدير أيضا لا يكون مرجع تلك الاصول إلى اصالة عدم القرينة ، بل لا تجري تلك الاصول بواسطة الأصل الحاكم ، فلا يتّجه إرجاع تلك الاصول إلى أصالة عدم القرينة في شيء من مواردها.

ويدفعه : إنّ الحق أنّ الاصول الوجودية الجارية في مباحث الألفاظ لا تأصّل لها بنفسها ، بل وكذا كلّ أصل وجودي معتبر لدى العقلاء ، كأصالة الصحّة ، واستصحاب الحالة السابقة ، ومرجعها إلى اصول عدمية يتفرّع عليها تلك الوجودات ، فهي بنفسها من حيث هي غير متأصّلة ـ كما يأتي تحقيقه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى ـ. فمرجع استصحاب الحالة السابقة إلى أصالة عدم ما يرفعها ، التي هي عبارة اخرى عن عدم الاعتناء باحتمال وجود الرافع ، ومرجع الاصول الجارية في مباحث الألفاظ إلى عدم الاعتناء بالاحتمالات المنافية لها ، من احتمال وجود القرينة ، أو غفلة المتكلّم عن نصبها أو غلطه ، أو إرادته لإظهار خلاف مراده لتقيّة ونحوها من الامور المقتضية لإرادة خلاف الظاهر ، وسيأتي في عبارة المصنّف قدس‌سره عند توجيه كلام المحقّق القمّي قدس‌سره الإشارة إلى ما نبّهنا عليه ، من رجوع الاصول الجارية في مباحث الألفاظ إلى عدم الاعتناء بالاحتمالات المنافية للظّاهر ، الذي هو عبارة اخرى عن أصالة عدم تلك المحتملات.

نعم ، لو قلنا بأنّ مناط اعتماد العقلاء على هذه الاصول في مجاريها هو الظّن النوعيّ الحاصل من غلبة إرادة الحقيقة والعموم والإطلاق ونحوها ، لا عدم الاعتناء بالاحتمالات المنافية لها ، لكانت هذه الاصول في حدّ ذاتها أصولا ـ كما نبّه عليه المصنّف قدس‌سره في بعض كلماته ـ ولكنّه خلاف التّحقيق ، ولا يرتضيه المصنّف قدس‌سره بحسب الظاهر.

٩٨

إذا عرفت ما ذكرناه ، علمت أنّه لا يتوجّه الاعتراض على المصنّف قدس‌سره فيما ادّعاه من إرجاع الاصول المذكورة إلى أصالة عدم القرينة ، لأنّه إنّما فرضها فيما إذا كان الشّك مسبّبا عن احتمال وجود القرينة ، بحيث لو علم بعدم القرينة قطع بمراد المتكلّم ، ففي مثل الفرض يكون مرجعها إلى اصالة عدم القرينة لا محالة.

وامّا ما أوردناه نقضا عليه من الأمثلة التي فرضنا الشّك فيها مع العلم بعدم القرينة ، فهو خارج عن مفروض كلامه ، ومرجع الاصول فيها حينئذ هي أصول عدمية آخر جارية بالنسبة إلى الأسباب الموجبة للشّك ، فليتأمّل.

* * *

٩٩

[في حجّية ظواهر الكتاب]

قوله قدس‌سره : فأحال معرفة حكم المسح على إصبعه ... الخ (١).

أقول : الظاهر أنّه أحال معرفة سقوط المسح على البشرة على ظاهر الكتاب ، وامّا استفادة كفاية المسح على المرارة من ظاهر الكتاب ـ كما هو ظاهر الرواية ـ فلعلّها بواسطة ما هو المفروض في الأذهان ، من أنّ «الميسور لا يسقط بالمعسور» فكأنّ السائل لم يكن تحيّره إلّا في كيفيّة وضوئه ، من حيث تعسّر المسح على البشرة ، لا في أصل التكليف به ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : فإن ثبت جواز الاستدلال بكلّ قراءة ... الخ (٢).

أقول : يعني في مورد المعارضة ، بأن جاز التعبّد في محلّ التعارض أيضا ، بأنّ كلّا من القراءات كلام الله تعالى في مقام الاستدلال ، كما يجوز التعبّد بكونه كذلك في مقام القراءة ، فيكون حينئذ حالها حال المتواترات في وجوب التوقّف في محلّ التعارض ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٣٧ سطر ١ ، ١ / ١٤٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ٤٠ سطر ٩ ، ١ / ١٥٨.

١٠٠