حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

المحتمل ـ فضلا عن المشكوك ـ من المستقلّات العقليّة ، ولذا نحكم بوجوب الاجتناب عن محتملات الشّبهة المحصورة ، فكيف يعترف الخصم بجواز الأقدام عليه بالإجماع والعقل ، وإنّما اعترف الخصم بأنّ مشكوك الوجوب أو الحرمة أو موهومهما لا يجب مراعاته عقلا وإجماعا ، فالعقل والإجماع مؤمّنان عن المفسدة المترتّبة على فوت الواقع ، وأمّا مظنون الوجوب والحرمة فحيث لا عقل ولا إجماع يؤمّن المكلّف من تبعة مخالفة الواقع ، يجب عليه الاحتياط تحرّزا عن العقاب المحتمل ، فضلا عن مشكوكه ، ولم يعترف المستدلّ في مقدّمات دليله بأنّ العقاب المحتمل لا يجب التحرّز عنه ، فلاحظ.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ حكومة الاصول العملية على هذه القاعدة ، فرع اعتبارها كالاصول اللفظية ، وقد منع المستدلّ اعتبارها في صورة الظّن بالتكليف.

قوله قدس‌سره : «في الحاشية المنسوبة إليه في بيان وجه الأمر بالتأمّل ، بعد أن قال» : «إنّ التوقّف عن ترجيح الراجح أيضا ... الخ (٢).

أقول : هذا إذا كان الواقع منجّزا على المكلّف ، وهو في المقام أوّل الكلام.

إن قلت : إنّ العلم الإجمالي بثبوت تكاليف واقعية يوجب تنجّزها على المكلّف؟

قلت : ليس مبنى هذا الاستدلال على دعوى العلم الإجمالي ، وإلّا فيرجع إلى الدليل الآتي ، وحيث أنّ الواقع غير معلوم التنجّز على المكلّف ، لا مانع عن الرجوع في موارد الظّن إلى البراءة. والظاهر أنّ هذا هو مراد المجيب ، حيث قال : «إنّ وجوب

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١١١ سطر ٥ ، هامش ١ / ٣٨١.

(٢) فرائد الأصول : ص ١١١ سطر ٥ ، ١ / ٣٨١.

١٢١

الترجيح فرع الدوران ، وحيث أنّ الأمر ليس دائرا بين الأمرين لجواز الرجوع إلى البراءة فلا دليل على وجوب الترجيح أي العمل بالظنّ ، فجوابه في الحقيقة يئول إلى ما سيختاره المصنّف قدس‌سره ردّا للاستدلال ، فالإيراد عليه لا يخلو من نظر ، فتأمّل.

* * *

١٢٢

[دليل الانسداد]

قوله قدس‌سره : فهي مبنية على أن لا يثبت من الأدلّة المتقدّمة لحجّية الخبر الواحد ... إلخ (١).

أقول : بقى في المقام شيء يمكن الاستدلال به لحجّية خبر الواحد بالخصوص في حال الانسداد لم يتعرّض لذكره ، وهو أنّه لقائل أن يقول سلّمنا أنّ خبر الثقة ليس حجّة معتبرة لدى العقلاء ، كظواهر الألفاظ والمكاتبات ، بحيث يكون في عرض العلم ، إلّا أنّ من البديهيات التي لا يكاد يرتاب فيه أحد أنّ خبر الثقة ليس في عرض سائر الظنون الاجتهادية التي لا تنتهي إلى أصل معتمد ، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، والظّن الحاصل من الرؤيا ، أترى أنّ العقلاء يرخّصون العبد المأمور من قبل مولاه بتكاليف كثيرة ، لا بدّ له من امتثالها ، ولم يتمكّن من معرفتها تفصيلا ، ولا من الاحتياط في امتثالها في ترك الاعتناء بقول الثقات الوسائط بينه وبين المولى ، والرجوع إلى ظنونه الاجتهادية ، أو ترى أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١١٢ سطر ١١ ، ١ / ٣٨٦.

١٢٣

العقلاء يعدّونه معذورا لو لم يعمل بخبر الثقة ، معتذرا بأنّي رأيت رؤيا ظننت بصدق مظنونها فطرحت لأجله الخبر ، حاشاهم عن ذلك! بل الإنصاف أنّ خبر الفاسق الغير المتحرّز عن الكذب أيضا ليس لديهم في عرض سائر الظنون الاجتهادية ، بل يرونه حجّة معتبرة على تقدير تعذّر تحصيل العلم أو الرجوع إلى من هو أوثق منه ، بخلاف الظّن الحاصل من النوم والقياس وأشباهه.

ولعلّ هذا هو الذي ألجأ بعض الأعلام في الالتزام بأنّ نتيجة دليل الانسداد حجّية الظّن في الطريق دون الواقع ، حيث أنّه رأى أنّ الالتزام بجواز طرح ما بأيدينا من الأخبار ، والرجوع إلى سائر الظنون الاجتهادية مصاديق للضرورة ، ولم يقم لديه على اعتبارها دليل بالخصوص ، فظنّ أنّ منشأه أنّ دليل الانسداد لا يثبت إلّا حجّية الظّن في الطريق ، وتكلّف في توجيهه ، وغفل عن أنّ منشأه عدم كون الخبر لدى العقلاء كسائر الظنون المبنيّة على الحدس والتخمين ، وإلّا فلا يظن به الالتزام بحجّية ظنّ حصل له الظّن باعتباره من النوم ، ولو ظنّ باعتبار هذا الظّن أيضا من ظنّ حاصل من نوم آخر أو شيء آخر مثل النوم ، وهكذا ولو بعشرين درجة ، بل الذي أجده من نفسي أنّي لا أرى العمل بالظنّ المطلق أصلا ، إلّا إذا فرض عدم التمكّن من الوصول إلى الآثار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، ولو في ضمن فتاوى الأعلام ، بمعنى أنّه لو تمكّن من الوصول إلى رسالة عملية من علمائنا الماضين المقتبسين فتاويهم من الأخبار المأثورة ، لا يجوز التخطّي عنها والرجوع إلى الظّن المطلق ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : مرجع الإجماع قطعيّا أو ظنّيا ... الخ (١).

أقول : حاصل مرامه أنّ الرجوع إلى الاصول في المشكوكات فرع صيرورة

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٢٥ سطر ٢١ ،

١٢٤

المشكوكات مجاري لها ، فلا يرجع إلى الاصول النافية للتكليف ، إلّا على تقدير الشّك فيه ، وامّا مع العلم بتحقّقه ، والشّك في تعيين المكلّف به ، فلم يقل أحد بالرجوع إلى الاصول النافية للتكليف ، عدا ما ستسمعه في محلّه من بعض متأخّري المتأخّرين ، فضلا عن أن يكون إجماعيّا ، فالإجماع على الرجوع إلى الاصول موقوف على الإجماع على كونها مجاري لها ، وهو ينحلّ إلى الإجماع على الحجّة الكافية الموجبة لارتفاع أثر العلم الإجمالي ، وصيرورة المشكوكات بمنزلة الشكوك الابتدائية ، ومرجعه إلى دعوى الإجماع على حجّية الظّن بعد الانسداد ، إذ لا شيء غيره ممّا يتوهّم الاجماع على حجّيته.

والحاصل : إنّ الإجماع الذي يمكن ادّعائه في المقام ، واعترف بكونه مظنونا عند تلقين خصمه ، هو الإجماع على قيام الظّن مقام العلم ، واقتصار الشارع على الإطاعة الظنّية ، وإلّا فلا إجماع على الرجوع في المشكوكات التي هي من أطراف العلم الإجمالي المنجّز للتكليف إلى البراءة ، بل الإجماع على عدمه.

وقد عرفت أنّ الإجماع على حجّية الظّن ما لم ينته إلى حدّ العلم لا يجدي.

والأولى أن يجاب عن الإيراد بما يستفاد من النسخ الأصلية ، من أنّ عدم الفرق بين الظّن المتعلّق بالواقع والطريق ، إنّما هو على تقدير حجّية الظّن بدليل الانسداد ، وهي في المقام أوّل الكلام.

إن قلنا : إذا انعقد الإجماع واستقلّ العقل بعدم وجوب الاحتياط في موهومات التكليف ، أعني ما يظنّ عدمه ، فمقتضاه عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات ، بعد أن ظنّ بأنّ المرجع فيها إلى البراءة ، حيث يظنّ بعدم كونها مكلّفا بها في مرحلة الظاهر ، ولا فرق بنظر العقل بين أن يكون تكليفه الواقعي موهوما أو الظاهري.

قلت : امّا الإجماع فالقدر المتيقّن منه ما إذا كان احتمال التكليف في الواقع موهوما ، وامّا إذا كان في قوّة احتمال عدمه فلا قطع بالإجماع ، ولكنّه باعتراف

١٢٥

المصنّف قدس‌سره مظنون ومرجعه إلى الإجماع على حجّية الظّن ، وهو لا يجدي ما لم يكن قطعيا.

وامّا العقل فهو مستقلّ بوجوب الاحتياط في المشكوكات ، بعد فرض عدم استلزامه الحرج ، والظّن بكون المرجع فيها إلى البراءة مرجعه ـ كما نبّه عليه المصنّف قدس‌سره ـ إلى الظّن بأنّ الشارع اقتصر في مقام الامتثال على الامتثال الظنّي ، وهو غير مجد ما لم ينته إلى حدّ العلم ، وبهذا ظهر وجه اقتصار المصنّف قدس‌سره في الجواب على ما ذكره ، وإن كانت عبارته غير خالية عن شوب الإجمال ، فتدبّر.

قوله قدس‌سره : ويحصل ممّا ذكر إشكال آخر ... الخ (١).

أقول : لقائل أن يقول بعد منع طرو الإجمال على الظواهر لا مخلص عن هذا الإشكال ، ولو على القول باقتضاء دليل الانسداد حجّية الظّن ، لأنّه لا يقتضي إلّا حجّيته فيما انسدّ فيه باب العلم والظّن الخاصّ ، والمفروض خلافه ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وبالاصول المثبتة للتكليف من الاحتياط والاستصحاب ، مستلزم للحرج (٢).

أقول : فعلى هذا لا يجب الرجوع إلى تلك الاصول ، ولو على القول بأنّ العلم الإجمالي بالخلاف لا يمنع عن الرجوع إلى الاصول المثبتة للتكليف ، حيث لا يترتّب على اعمالها في مجاريها إلّا مخالفة التزامية ، وهي غير قادحة في حجّيتها.

ولكن قد يتوهّم : إنّ دعوى استلزام العمل بتلك الاصول الحرج مجازفة ، كيف وهو ممّا لا بدّ منه على كلّ تقدير ، إذ لا يقول أحد بجواز مخالفة الاحتياط عند الشّك

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٢٦ سطر ٨ ، ١ / ٤٢٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٢٦ سطر ٢٤ ، ١ / ٤٢٩.

١٢٦

في المكلّف به أو في الاستصحابات المثبتة للتكاليف.

ولكن يندفع هذا التوهّم : بعد الالتفات إلى أنّه على تقدير الانسداد ، وعدم حجّية الظّن الحاصل من الاخبار ، أو غيرها من الأمارات ، يصير أغلب الموارد مجاري قاعدة الاحتياط ، ولو مع الغضّ عن العلم الإجمالي الكلّي المقتضي لوجوب الاحتياط في الجميع ، لأنّ لنا علوما جزئيّة في مثل الصلاة والصوم والمعاملات وسائر العبادات أنّ فيها شرائط وأجزاء غير معلومة ، ومقتضاها الاحتياط في خصوص أطرافها ، بل يكفي في لزوم الخروج رعاية الاحتياط في خصوص الأجزاء وشرائط العبادات ، كما هي بعض مجاريه عند بعض ، ولو على تقدير عدم كونها من أطراف العلم الإجمالي ، وما ترى من أنّا نلزم بالاحتياط عند الشّك في تلك الموارد ، ولا يكون حرجا ، فمنشؤه الاقتصار على الاحتياط فيما عدا مورد الامارات ، كما لا يخفى على المتأمّل.

إن قلت : فعلى هذا قلّما يوجد للاصول النافية للتكليف مورد ، فإنّ لنا أن نلاحظ كلّ واقعة مشكوكة الحكم كشرب التتن مثلا مع بعض الوقائع الأخر ، بحيث يحصل لنا العلم الإجمالي بمخالفة الأصل فيها للواقع ، فيصير حينئذ مورد الاحتياط ، ولو مع الغضّ عن العلم الإجمالي الكلّي ، فكيف يستقيم ما إدّعاه من أنّ العمل بالاصول النافية ، عند ملاحظة الوقائع في حدّ ذاتها ـ مع قطع النظر عن العلم الإجمالي الكلّي ـ مستلزم للمخالفة القطعية الكثيرة؟

قلت : ليس كلّ علم إجمالي مؤثرا في تنجيز التكليف بالاحتياط ، فإنّ مثل هذه العلوم الجزئية كثيرا ما ليس جميع أطرافها مورد ابتلاء المكلّف.

والحاصل : إنّ مجاري الاصول العدمية أيضا ـ بعد الإغماض عن العلم الإجمالي الكلّي ، خصوصا الاستصحابات النافية للتكليف ـ فوق حدّ الإحصاء ، كما لا يخفى على المتأمّل.

١٢٧

قوله قدس‌سره : تعيّن وجوب تحصيل الظّن بالواقع فيها ... الخ (١).

أقول : قد يقال إنّ هذا انّما يتمّ على تقدير الحكومة ، وامّا على الكشف فلا ، إذ لا امتناع في نصب الشارع ما هو أبعد بنظر المكلّف ، كما هو الشأن في بعض الطرق المنصوبة ، وستسمع عن المصنّف قدس‌سره أنّه جعل احتمال نصب الشارع شيئا آخر وراء الظّن ـ على تقدير الكشف ـ من وجوه بطلان هذا القول.

ويمكن التفصّي عن ذلك بأنّ مناط حكم العقل بوجوب النصب ، إذا كان بقاء التكاليف الواقعيّة ، فلا يعقل تجويزه نصب ما هو الأبعد ، واحتمال كون الأبعد بنظره أقرب في الواقع وفي نظر الشارع ، كاحتمال كونه مشتملا على مصلحة يتدارك بها مفسدة كثرة التخلّف ، ممّا لا يوجب توقّف العقل في كون المنصوب من أفراد الظنون ، إذ لو كان غيره منصوبا لوجب على الشارع بيانه ، حيث لا طريق للعقل إلى معرفته ، بخلاف ما لو كان المنصوب ما يدرك العقل أقربيته إلى الواقع ، فإنّ إدراكه كاف في مقام البيان.

ولا يتوهّم أنّ هذا يئول إلى تقرير الحكومة ، لوضوح الفرق بين المقامين.

نعم ، لقائل أن يقول في هذا الفرض ـ أعني فرض بقاء الأحكام الواقعية بحالها ، وانحصار الطريق الأقرب في الظن في الواقع وفي نظر الآمر والمأمور ، وعدم مصلحة يتدارك بها مفسدة كثرة التخلّف في سائر الامور المحتملة ـ أنّ الظّن بنفسه طريق عقلي حينئذ ، وليس حجّيته قابلة لجعل الشارع إثباتا ونفيا ، كالعلم في حال الانفساخ ، فلو ثبت التصريح من الشارع بالعمل بالظنّ ، لا يكون أمره إلّا إرشاديا ، كالأمر باتّباع العلم في حال الانفتاح.

إلّا انّ هذا إيراد على أصل القول بالكشف ، لا على التزامه بأنّ الطريق المنصوب من افراد الظنون فليتأمّل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٢٨ سطر ٢٠ ، ١ / ٤٣٥.

١٢٨

قوله قدس‌سره : لأنّ مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الأصول على طبقه ... الخ (١).

أقول : توضيح المقام إنّه بعد أن علم إجمالا أنّ بعض ما بأيدينا من الطّرق منصوب من قبل الشارع ، لا يبقى لعلمنا الإجمالي الكلّي المتعلّق بأنّ لنا في الشريعة تكاليف في ما عدا مورد الامارات أثر ، بل يرجع في كلّ واقعة إلى ما يقتضيه الأصل الجاري في تلك المسألة ، سواء كان الأصل مثبتا للتكليف أم نافيا له.

وامّا في موارد الأمارات ، فإن كانت الامارات المحتمل نصبها بأسرها متصادقة على حكم ، ثبت ذلك الحكم ، سواء وافق الأصل أم خالفه ، حيث علم إجمالا بكون بعضها حجّة ، وكذا لو قام عليه بعض الامارات ولم يعارضه اخرى ، وكان الحكم موافقا للأصل ، لأنّه إن كانت الامارة حجّة في الواقع فهي الحجّة ، وإلّا فالأصل.

وامّا إن اقتضى الأصل حكما مخالفا لما يؤديه بعض الامارات ، فيشكل الأمر حينئذ ، حيث لم يعلم بكون ذلك البعض حجّة كي يجوز رفع اليد بواسطته عمّا يقتضيه الأصل ، ولا يجوز العمل بالأصل الجاري في ذلك المورد ، لكونه من أطراف العلم الإجمالي ، حيث علم إجمالا بأنّ بعض الأمارات المخالفة للاصول حجّة ، وهذا العلم الإجمالي وإن كان موجبا لسقوط الاصول عن الاعتبار ، ومانعا عن اجرائها في مجاريها ، لكن لا بمعنى أنّه يجوز رفع اليد عنها وإلغائها بالمرّة ، بل بمعنى انّه لا يجوز التمسّك بالاصول في شيء من مواردها بالخصوص ، لأجل المعارضة بالمثل ، أو استلزام استعماله في الجميع طرح العلم الإجمالي.

وامّا اعمالها في مجاريها على سبيل الإجمال بالنسبة إلى ما عدا القدر المتيقّن

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٣٢ سطر ٢ ، ١ / ٤٤٥.

١٢٩

الذي علم مخالفته للواقع فلا مانع عنه ؛ ولذا يجب الاحتياط في موارد استصحابات النجاسة أو الحرمة أو الوجوب ، إذا علم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع ، فلو كانت عدّة أشياء مستصحبة لنجاسة ، ثمّ علم إجمالا بطهارة بعضها ، أو شهدت البيّنة بذلك سقطت الاستصحابات عن الحجّية ، بمعنى أنّه لا يجوز التمسّك بالاستصحاب للحكم بنجاسة شيء منها بالخصوص ، لا أنّه يلغى بالمرّة بحيث يرجع في تلك الموارد إلى قاعدة الطهارة.

نعم ، لا أثر للاستصحابات النافية للتكليف ، إذا علم إجمالا بمخالفة بعضها للواقع ، حيث أنّه يجب حينئذ الاحتياط في أطراف الشبهة ، ولو مع العلم بنفي التكليف في ما عدا القدر المتيقّن ، فضلا عن استصحابه ، ففيما نحن فيه يجب في مورد التنافي بين مقتضيات الاصول والامارات الاحتياط ، بالأخذ بأحوط الأمرين ممّا يقتضيه الأصل أو الامارة ، فما كان منهما في مورد التنافي مثبتا للتكليف يعمل على حسبه من باب الاحتياط ، فالعمل مطلقا في مورد التنافي على الاحتياط.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى منع لزوم الحرج لانحصار مورد الإشكال الذي نلتزم فيه بوجوب الاحتياط ، فيما إذا تحقّق التنافي بين مؤدّى الأصل والامارة من حيث إثبات التكليف ونفيه ، وهذا ليس من الكثرة بمكان يلزم منه الحرج ، ولو بضميمة الاحتياطات الجزئية ، الجارية في سائر المسائل الخالية عن الامارات التي يكون الشّك فيها في المكلّف به ، فليتأمّل!.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٣٢ سطر ٩ ، ١ / ٤٤٦.

١٣٠

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ عدم جواز عمل القاضي بعلمه ليس مسبّبا عن عجزه عن تشخيص الواقع بالظنّ ، بل لأنّ دليل الانسداد لا يقتضي إلّا حجّية الظّن بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة الكلّية ، وامّا الوقائع الجزئية ، كبقاء طهارة الثوب ، أو كون هذا الشيء ملكا لزيد فلا ، كما سيتّضح لك فيما بعد إنشاء الله تعالى من أنّ جواز العمل بالظنّ لأجل دليل الانسداد لا يوجب جوازه مطلقا ، حتّى بالنسبة إلى تعيين الموضوعات الخارجية.

اللهمّ إلّا أن يجري في الامور الخارجية ـ التي هي موضوعات الأحكام ـ دليل الانسداد في خصوص مواردها ، كما قد يدّعى في باب الضّرر.

قوله قدس‌سره : هذا كلّه مع ما علمت سابقا في ردّ الوجه الأوّل ... الخ (٢).

أقول : لا يخفى عليك عدم ابتناء هذا الوجه على دعوى العلم الإجمالي بوجود طريق منصوب كي يتوجّه عليه هذا الايراد ، ضرورة أنّ مقتضاه ـ على تقدير صحّته ـ أنّه لو كان خبر الواحد مثلا مظنون الاعتبار ، لم يجز التعدّي عنه والعمل بالشهرة وغيرها ، فانّه لو عمل بالخبر ، يحصل معه الظّن برضا الشارع وإمضائه لعمله ، وحكمه ببراءة ذمّته ، بخلاف ما لو عمل بغيره ممّا لا يظنّ بحجّيته ، سواء علم إجمالا بوجود طريق معتبر فيما بأيدينا من الامارات أم لا ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٣).

أقول : إشارة إلى أنّ الملاك في حكم العقل بوجوب الإطاعة الظنّية ، وقبح

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٣٣ سطر ١٨ ، ١ / ٤٤٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٣٧ سطر ٢١ ، ١ / ٤٦٠.

(٣) فرائد الأصول : ص ١٤٠ سطر ٧ ، ١ / ٤٦٨.

١٣١

المؤاخذة على مخالفة الواقع الذي يؤدّى إليه الامتثال الظنّي ، هو عدم التمكّن من تحصيل العلم ، وعدم ثبوت طريق خاص ، لا عدم وجوده في الواقع ، فاحتماله لا يوجب إهمال النتيجة وإجمالها ما لم يتحقّق ، كما تقدّم التنبيه على ذلك في بعض المقدّمات المتقدّمة.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : الظاهر أنّه إشارة إلى أنّ دعوى الإجماع في مثل هذه المسائل المستحدثة غير مسموعة ، ولكنّك عرفت في بعض كلماتنا المتقدّمة ، عند تعرّض المصنّف رحمه‌الله لبيان نتيجة مقدّمات دليل الانسداد ، إمكان التفصّي عن هذا الإيراد ، فراجع.

قوله قدس‌سره : فتسميته دليلا عقليا لا يظهر له وجه ... الخ (٢).

أقول : قد يتوهّم أنّ توقّف إثبات العموم على الإجماع لا يقتضي خروج الدليل عن كونه عقليا ، إذ لا يجب في تسمية الدليل عقليّا أن يكون جميع مقدّماته عقلية ، فكما أنّ نفي وجوب الاحتياط ، وعدم جواز الرجوع إلى الاصول لقاعدة نفي العسر والإجماع ، وغيرهما من الأدلّة السمعية ، لا ينافي كون الدليل عقليّا ـ على تقدير الحكومة ـ كذلك ثبوت العموم بالإجماع ، بعد كون حجّية الشيء في الجملة مستفادة من العقل ، لا يضرّ في كون الدليل عقليّا.

ويدفعه : إنّ المناط في اتّصاف الدليل بكونه عقليّا ، إنّما هو كون الأكبر من لوازم الأوسط عقلا ، وامّا إحراز تحقّق ذات الأصغر أو الدليل بكونه عقليّا ، إنّما هو

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤٠ سطر ١٢ ، ١ / ٤٦٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٤٠ سطر ٧ ، ١ / ٤٦٨.

١٣٢

كون الأكبر من لوازم الأوسط عقلا ، وامّا إحراز تحقّق ذات الأصغر ، أو كونه مصداقا للأوسط بحكم العقل ، فلا مدخلية له في الاتّصاف.

نعم ، إذا كانت الصغرى سمعية يعدّ الدليل من العقليّات الغير المستقلّة.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ كون الظّن حجّة في الجملة لا يجدي في مقام العمل ، وإنّما المجدي تعيين ما هو الحجّة حتّى يتّصف فعلا بالحجّية ، وهذا لا يكون في الفرض إلّا بالإجماع ، فنقول عند ترتيب القياس إذا كان الظّن حجّة في الجملة ، كان الظّن الفلاني مثلا ، أو مطلق الظّن حجّة إجماعا ، لكن المقدّم ثابت عقلا ، فمطلق الظّن أو الظّن الفلاني حجّة بالفعل إجماعا ، فالدليل على إثبات حجّية الظّن بالفعل ليس إلّا الإجماع ، وهذا بخلاف تقرير الحكومة ، فإنّ الحاكم بحجّية الظن بالفعل على تقدير انسداد باب العلم ، وعدم كون البراءة أو الاحتياط مرجعا ليس إلّا العقل ، وقد أشرنا إلى أنّ إحراز انسداد باب العلم ، أو عدم كون الاحتياط والبراءة مرجعا بأيّ طريق كان ، لا مدخلية له في تسمية الدليل عقليا ، فحكم العقل بكون الظّن حجّة في الجملة ـ على تقدير الكشف ـ طريق لإحراز المقدّم في القياس الاستثنائي ، فلا مدخلية له في الاتّصاف ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ حجّية هذا الظّن المتيقّن الاعتبار بخصوصه لم يثبت في الفرض بدليل الانسداد ، وإنّما دلّ دليل الانسداد على أنّ لنا حجّة في الجملة ، وهو لم يجد في حجّية هذا الظّن بالفعل ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، فلم يثبت اعتبار هذا الظّن بدليل الانسداد ، فليتأمّل.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤١ سطر ٢ ، ١ / ٤٧٢.

١٣٣

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ التعدّي إلى المتيقّن بالإضافة لا ينفع في إزالة أثر العلم الإجمالي المفروض كما هو ظاهر.

هذا مع جريان مثل هذا الكلام في نفس المتيقّن ، بالإضافة للعلم الإجمالي بتقييدها وتخصيصها في الجملة ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ... الخ (٢).

أقول : يمكن التفصّي عن ذلك بما وجّهنا به كاشفية العقل ، عن كون الطريق المنصوب من افراد الظّن دون غيره ، بدعوى أنّه لو كان الطريق المنصوب غير الظّن القويّ الذي يدرك العقل طريقته ، لوجب على الشارع بيانه ، دون ما إذا كان المنصوب ما يدركه العقل ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (٣).

أقول : لعلّه إشارة إلى أنّ دليل الانسداد ـ على تقدير الكشف ـ طريق للعلم بثبوت طريق واقعي منصوب في حال الانسداد ، لا مقيّدا بحال الانسداد ، فالظنّ بكونه طريقا ، واقعيّا مطلقا يستلزم الظّن بطريقيته في حال الانسداد ، فيظنّ بأنّه هو الطريق الذي علم كونه منصوبا بدليل الانسداد.

قوله قدس‌سره : فانّ الأوّل محال لا قبيح (٤).

أقول : هذا فيما إذا كان الموجد موجبا لا مختارا ، وإلّا فكالثاني ، فانّ ملاك الفرق

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤٢ سطر ٥ ، ١ / ٤٧٥.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٤٢ سطر ٩ ، ١ / ٤٧٥.

(٣) فرائد الأصول : ص ١٤٤ سطر ٥ ، ١ / ٤٨٠.

(٤) فرائد الأصول : ص ١٤٦ سطر ١٣ ، ١ / ٤٨٦.

١٣٤

مدخليّة العزم والاختيار في فاعليّة الفاعل ، فإن كان مختارا في فعل كإلزام الغير بعمل ، أو إيجاده مباشرة ، فارتكبه لبعض دواعيه النفسانيّة الغير المقتضية له في نظر العقل أو العقلاء ، فقد فعل فعلا قبيحا يستحق عليه المذمّة لدى العقلاء.

وامّا إذا كان الفاعل موجبا ، فيمتنع صدور الترجيح منه من دون اجتماع شرائط التأثير ، ومعه يجب ، فلا يوصف فعله بالقبح ، ويستحيل الترجيح منه بلا مرجّح ، وكذلك الكلام بالنسبة إلى أثر الفاعل المختار بالنظر إلى جهاته الخارجة عن اختياره ، وقد اشير بقولنا «فارتكبه لبعض دواعيه النفسانيّة» إلى أنّ الترجيح بلا مرجّح على الإطلاق ـ حتّى في نظر الفاعل بوجه من الوجوه ، كما زعمه الأشاعرة القائلون بجوازه ـ غير معقول ، لرجوعه إلى الترجيح بلا مرجّح ، فهو محال.

قوله قدس‌سره : فتأمّل (١).

أقول : لعلّه إشارة إلى ابتناء المدّعى على عدم الفرق بين المسائل الاصوليّة والفرعيّة ، في اعتبار القدر المتيقّن بالنسبة إليهما ، وفيه كلام سيأتي.

قوله قدس‌سره : ومن المعلوم أنّ العمل بها لأجل ذلك ... الخ (٢).

أقول : في العبارة إشعار باقتضاء العلم الإجمالي للعمل بمشكوكات الاعتبار التي هي من أطراف العلم الإجمالي. وأنت خبير بأنّ مقتضاه الاحتياط في أطراف الشبهة ، بالأخذ بما هو الأحوط من الظنون المظنونة الاعتبار ، وما يخالف ظواهرها من مشكوكات الاعتبار.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٤٦ سطر ٢٥ ، ١ / ٤٨٨.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٤٩ سطر ٢٢ ، ١ / ٤٩٦.

١٣٥

قوله قدس‌سره : الثالث من طرق التعميم ... الخ (١).

[أقول :] توضيح الاستدلال إنّه بعد أن علم إجمالا بوجود طريق منصوب كاف فيما بأيدينا من الامارات ، يجب بحكم العقل الاحتياط في جميعها ، تحصيلا للجزم بسلوك الطريق المنصوب. وقد أشرنا في بعض التعليقات المتقدّمة أنّ فائدة الاحتياط في الامارات ، جواز الرجوع إلى الاصول في الموارد الخالية عنها ، مثلا إذا علمنا إجمالا بحرمة شاة في قطيع غنم يبلغ مجموعها عشرة ، فمقتضى الاحتياط اللازم وجوب التحرّز عن الكلّ ، ولكنّه لو نصب الشارع طريقا تعبّديا لتعيين الحرام ، وقام على حرمة واحد معيّن على وجه أثّر في زوال أثر المعلوم بالإجمال ، بأن كان مؤدّاه حرمة ذلك الفرد ، من زمان سابق على الزمان الذي علم بحرمة بعضها إجمالا ، فيرجع فيما عدا ذلك الفرد إلى أصل الإباحة ، فإذا اشتبه هذا الطريق المنصوب بين امارات قامت كلّ واحدة منها على حرمة واحدة من تلك الأغنام ، يجب الاحتياط بالنسبة إلى مؤدّيات الامارات ، ويرجع فيما عداها إلى أصل الإباحة ، كما لا يخفى وجهه.

ولكن يتوجّه على هذا الوجه من التعميم ، أنّه يتمّ ما لم يعارض الاحتياط في المسألة الاصولية أصلا مثبتا للتكليف من الاستصحاب ، وقاعدة الاحتياط ـ في الموارد التي نلتزم فيها بوجوب الاحتياط ، كأطراف الشبهة المحصورة ـ فانّه لا يجوز رفع اليد عن الاصول المعتبرة المثبتة للتكليف ، لأجل قيام امارة غير معلومة الاعتبار على خلافها.

وامّا ما قرع سمعك من تقديم الاحتياط في المسألة الاصولية على الاحتياط في المسألة الفرعية ، فانّما هو في مثل المثال المتقدّم ممّا يوجب الاحتياط في المسألة

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٥٠ سطر ٨ ، ١ / ٤٩٧.

١٣٦

الاصولية ارتفاع أثر الحكم المعلوم بالإجمال ، وجعل ما عدا مورد الامارات كالشكوك الابتدائية ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : وامّا دعوى أنّه إذا ثبت جواز العمل بكل ظنّ ... الخ (١).

أقول : حاصلها إنّه إذا جاز العمل بالشهرة مثلا في مورد من الموارد ، جاز العمل بها مطلقا ، لعدم القول بالفصل.

وفيه : إنّ جواز العمل بها في مقابل البراءة لأجل مراعاة الاحتياط بالنسبة إلى الطريق المنصوب ، لا يقتضي جواز العمل بها في مقابل سائر الاصول المثبتة للتكليف.

ودعوى عدم القول بالفصل حسنة ، على تقدير ثبوت حجّيّتها في بعض الموارد ، لا مجرّد تطبيق العمل عليها من باب الاحتياط ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : ما يحتمل أن يكون واجب الارتكاب (٢).

أقول : ينبغي تقييد محتمل الوجوب بما إذا كان من أطراف واجب معلوم بالإجمال ، وإلّا فمجرّد الاحتمال لا يؤثّر في جواز الفعل مع كونه من محتملات الحرام المعلوم ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : فيثبت وجوب العمل بمطلق الظّن ، ووجوب الرّجوع في المشكوكات إلى مقتضى الأصل ... الخ (٣).

أقول : لزوم العسر من الاحتياط في المشكوكات ، مقتضاه عدم رعاية

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٥١ سطر ١٢ ، ١ / ٥٠٠.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٥٢ سطر ٢٢ ، ١ / ٥٠٤.

(٣) فرائد الأصول : ص ١٥٣ سطر ١٠ ، ١ / ٥٠٦.

١٣٧

الاحتياط فيها ، وجواز ارتكاب مشكوك الحرمة ، وترك مشكوك الوجوب ، لا إلغاء أثر العلم الإجمالي ، كي يصير الاصول الجارية فيها من حيث هي حجّة ، وإلّا ففي الموهومات أيضا يكون الأمر كذلك ، فكيف يرفع اليد عن الاصول المثبتة للتكليف بالظنّ المخالف له ، بعد فرض عدم حجّية ذلك الظّن؟

فبذلك يظهر أنّ ما ذكره من المساواة بين القول بحجّية الظّن ، والقول بتبعيض الاحتياط ـ بعد فرض استلزام الاحتياط في المشكوكات الحرج ـ لا يخلو عن مناقشة ، فانّه على تقدير حجّية الظّن يصير الاصول الجارية في المشكوكات حجّة في مجاريها ، وفي الموهومات ساقطة عن الاعتبار ، لأجل قيام الدليل على خلافها.

وامّا على تقدير تبعيض الاحتياط :

فإن قلنا بأنّ العسر موجب لإلغاء أثر العلم الإجمالي في مواقع العسر ، وصيرورتها بمنزلة الشكوك البدوية في كونها مجاري للاصول ، فلا يتفاوت الحال في ذلك بين المشكوكات والموهومات ، فكما لا يجوز مخالفة الاصول المثبتة للتكليف في المشكوكات ، كذلك لا يجوز مخالفتها في الموهومات.

وإن لم نقل بذلك ، فلا يتفاوت الحال في مشكوكات أيضا كالموهومات ، بين أن يكون مقتضى الأصل الجاري فيها من حيث هي ثبوت التكليف أو عدمه.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ مقتضى لزوم العسر من الاحتياط ، إلغاء أثر العلم الإجمالي المقتضي له ، والرجوع إلى الاصول الجارية في الموارد من حيث هي ، ولكن الاعتناء بالاحتمالات الموهومة ، الموجبة للرجوع إلى الاصول الجارية فيها ، مستلزم للحرج ، مع أنّ الرجوع إلى الاصول المخالفة للظنّ ممّا يعلم إجمالا بمخالفة كثير منها للواقع ، فتسقط الاصول بالنسبة إليها عن الاعتبار ، وهذا بخلاف المشكوكات ، فانّه لا يعلم بمخالفة الاصول الجارية فيها للواقع ، فليتأمّل.

١٣٨

قوله قدس‌سره : فلو فرض عدم حصول الظّن بالصدور ... الخ (١).

أقول : هذا إذا لم يعلم إجمالا بمخالفة هذا الظاهر للواقع في كثير من الأخبار ، وإلّا فيسقط الظهور عن الاعتبار ، كما أنّ حجّية ظواهر الأخبار بالخصوص مبنيّ على أن لا يعلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر منها في كثير من الموارد ، فكثرة الأخبار التي يطمئن بصدورها غير مجدية ، إلّا على هذا التقدير.

قوله قدس‌سره : فلا أرى الظّن الاطمئناني الحاصل من الأخبار ... الخ (٢).

أقول : عدم كونها أقل عددا من تلك لا يستلزم اندفاع العسر ، وإن قلنا بكفاية الأخبار المصحّحة بعدلين في الفقه ، بحيث يرجع في موارد فقدها إلى الاصول ، لأنّ العمدة فيما يندفع به العسر إنّما هو الأخذ بالقواعد الكلية النافية للتكليف ، كأصالة البراءة وقاعدتها ، وقاعدة الحلّ والاباحة والطهارة ، فعلى القول بحجّية الأخبار المصحّحة بعدلين ، يرجع في جميع هذه الموارد إلى الاصول النافية للتكليف ، وعلى تقدير تبعيض الاحتياط يجب الاحتياط في الجميع ، إلّا إذا اطمئن بنفي التكليف فيها بالخصوص ، لا بعنوان كونها مشكوكة الحكم ، وامّا بهذا العنوان فهو ظنّ في مسألة اصولية لم يعلم حجّيته ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : فإنّ ادعاء ذلك ليس كل البعيد (٣).

أقول : بل قريب جدّا ، لأنّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف نشأ ممّا علم بالضّرورة من الدين ، من اشتراكنا مع الحاضرين في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام في

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٥٣ سطر ١٨ ، ١ / ٥٠٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٥٣ سطر ٢٤ ، ١ / ٥٠٨.

(٣) فرائد الأصول : ص ١٥٤ سطر ١٩ ، ١ / ٥١٠.

١٣٩

تكاليفهم ، وكونهم مكلّفين بأزيد ممّا وصل إليهم وأخبروا به غير معلوم وكونهم مخبرين بتكاليف لم تتضمنها الأمارات الواصلة إلينا غير معلوم ، بل لا يبعد دعوى الظّن بعدمه ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : لأنّ المعلوم إجمالا صار معلوما بالتفصيل ... الخ (١).

أقول : قد أشرنا مرارا ، وسيأتي تحقيقه في مبحث أصل البراءة ، إلى أنّ قيام الأمارة المعتبرة على حرمة بعض القطع ، لا يؤثّر في انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي ، بخلاف ما لو حصل له علم تفصيلي بحرمة البعض ، فانّه يؤثّر في الانحلال أحيانا لا مطلقا ، كما سينبّه عليه المصنّف قدس‌سره في الشّبهة المحصورة ، ولكن قيام الأمارة يؤثر في إلغاء أثر العلم الإجمالي ، وصيرورته بمنزلة ما لو انحلّ في عدم اقتضائه لوجوب الاحتياط ، لأنّه إذا قامت البيّنة مثلا على كون بعض القطيع محرّما ، يصير ذلك بمنزلة ما لو شهدت البيّنة بذلك قبل حدوث العلم الإجمالي ، وستعرف في محلّه أنّه إذا كان الأمر كذلك لا يؤثّر العلم الإجمالي في وجوب الاحتياط ، فالتعبير بصيرورته معلوما بالتفصيل مسامحة.

قوله قدس‌سره : نعم بعض من وافقنا واقعا أو تنزلا في عدم الفرق في النتيجة ... الخ (٢).

أقول : لا مناص عن الالتزام بحجّية الظن المانع على المختار ، من عدم الفرق بين الظّن المتعلّق بالمسائل الاصولية والفرعية ، لأنّ المناط في حكم العقل إنّما هو الظّن بتفريغ الذمّة عمّا هو المكلّف به فعلا في مقام العمل ، بحيث لا يكون المكلّف معذورا

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ١٥٥ سطر ٢٠ ، ١ / ٥١٣.

(٢) فرائد الأصول : ص ١٦٢ سطر ١٢ ، ١ / ٥٣٣.

١٤٠