حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

بخلاف ما لو عرضت لها نجاسة خارجية.

ويمكن دفعه : بأنّ طهارة الخلّ المستحال إليه الخمر ، إنّما يثبت بالأدلّة الاجتهادية ، وإلّا فلو لم يكن الحكم الشرعي الواصل إلينا إلّا نجاسة الخمر ، أو مطلق العصير عند غليانه واشتداده ، لا شكّ أنّ الحكم بطهارتهما عند انقلابهما خلّا أو دبسا ، لأنّ مفروض النجاسة في النجاسات العينية ـ أيضا كالمتنجّسات في أنظار المتشرّعة ـ هو الجسم الخارجي الصّادق عليه عنوان النجس ، فما دام ذلك الجسم باقيا بحاله يحكم بنجاسته ، وإن تغيّر بعض أوصافه الموجبة لصدق العنوان ، ولذا لا يتوهّم أحد طهارة أجزاء الكلب والخنزير ـ كشعره وعظمه ـ عند الانفصال ، مع أنّه لا يصدق عليه اسم الكلب والخنزير.

هذا ، مع إنّا لا نتحاشى عن الفرق بين النجاسات الذاتية والعرضية ، في مساعدة العرف على بقاء الموضوع في الثاني دون الأوّل في بعض الموارد.

وكيف كان ، فقد اتّضح بما فصّلناه أنّه لا فرق بين استحالة المتنجّس والنجس ، في أنّ المحال إليه إذا كان بنظر العرف ماهية اخرى مغايرة للاولى ، أو فردا آخر من تلك الماهية ، لم يجر استصحاب النجاسة ، سواء كانت النجاسة ذاتية أو عرضية ، وكذلك لو شكّ في ذلك ، فانّ إحراز الموضوع شرط في جريان الاستصحاب.

ولقد نقلت هذه التعليقة من كتابنا المسمّى ب «بمصباح الفقيه» بأدنى اختلاف ، وفّقنا الله تعالى لإتمام ذلك الكتاب ، بمحمّد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

قوله قدس‌سره : بل الأحكام أيضا مختلفة (١).

أقول : مثلا البيضة المملوكة إذا غصبها غاصب وصيّرها دجاجة ، فشكّ في أنّ

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٣ سطر ٧ ، ٣ / ٣٠٠.

٤٤١

الدّجاجة هل هو ملك للغاصب حيث حصلت بفعله ، جرى استصحاب ملكية صاحب البيضة ، حيث أنّ معروض الملكية بنظر العرف أمر اعتباري لا يتغيّر باستحالة متعلّقه ، وهذا بخلاف ما لو شكّ في أنّ الدجاجة هل هي ممّا يملك أو هي ممّا لا يملك كالخنزير مثلا ، فلا يصحّ استصحاب ملكيتها السابقة الثابتة لها حال كونها بيضة ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : وممّا ذكرنا يظهر أنّ معنى قولهم «الأحكام تدور مدار الأسماء» ... الخ (١).

أقول : لا يخفى ما في إرادة المعنيّين الذين ذكرهما المصنّف رحمه‌الله لهذه العبارة من البعد ، كما لا يخفى على من لاحظ موارد تلفظهم بهذا القول ، بل المعنى في محاوراتهم ليس إلّا ما يتراءى منه في بادئ النظر ، وإنّما يستدلّون به لرفع الأحكام الثانية لموضوعات معلومة مبتنية عند خروج تلك الموضوعات عن مسمّياتها عرفا ، لا بالدقّة العقلية ، مثلا إذا دلّ الدليل على حرمة أكل التراب ، أو وجوب التصدّق بصاع من الحنطة ، أو اشتراط إطلاق الماء المستعمل في رفع الحدث والخبث ، وخلوص التراب في التيمّم ، فعند امتزاج شيء من التراب في الحنطة ، أو المضاف في الماء المطلق ، أو شيء من الحشيش في تراب التيمّم مع استهلاك الممتزج ، وتبعيّته للممتزج فيه في الاسم ، نقول لا أثر للممتزج بعد استهلاكه واضمحلاله ، فلا يلحقه حكمه ، بل هو تابع للممتزج فيه في الحكم ، لأنّ الأحكام تدور مدار الأسماء ، وامّا لدى الشكّ في أنّه هل لعنوان الكلّية أو الحياة دخل في قوام نجاسته أو تعفير ملاقيه ، فلا وقع للاستشهاد بهذه القضية ، بل يجب حينئذ تشخيص ما هو مناط الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٣ سطر ١٨ ، ٣ / ٣٠١

٤٤٢

وموضوعه بمراجعة الأدلّة والفحص عنها ، فإن ثبت وإلّا فالعمل على حسب ما يقتضيه القواعد من الاستصحاب أو غيره من الاصول.

قوله قدس‌سره : فانّ مناط الاستصحاب ... الخ (١).

أقول : توضيح المقام إنّ وحدة متعلّق الشكّ واليقين في الاستصحاب مبنيّ على المسامحة بإلغاء الزمان ، وإلّا فهما في الحقيقة متغايران ، ولا يتعلّق الشكّ بما تعلّق به اليقين حقيقة ، بل يصحّ السلب عنه.

وهذا بخلاف القاعدة فانّ متعلّقها متّحد فيها حقيقة ، وإنّما المغايرة بين زمان الشكّ واليقين ، فإن اريد من قوله عليه‌السلام «من كان على يقين من شيء فشكّ فيه فليمض على يقينه» الاستصحاب ، يكون معناه أنّه إذا احرز كون الشيء في السابق موجودا فشكّ فيه ، أي فشكّ في وجود ذلك الشيء فيما بعد ، أي في بقائه ، فليمض على يقينه ، يعني يبني على أنّه بعد موجود ، فذكر «اليقين» في القضية على هذا التقدير ليس إلّا لكونه طريقا لإحراز متعلّقه ، من دون أن يكون له مدخليّة ، في الحكم ، فيكون مفاد هذه القضية على هذا التقدير أنّه إذا كان شيء موجودا في السابق واحتمل زواله لا يعتنى بهذا الاحتمال.

وامّا لو اريد منها قاعدة اليقين ، فيكون معنى قوله عليه‌السلام «من كان على يقين من شيء ...» أنّه إن اعتقد وجود شيء أوّلا فشكّ فيه ، أي زوال اعتقاده فيما بعد ، فالزمان المتأخّر على هذا التقدير ظرف لمجرّد الشكّ ، وفي الاستصحاب لوجود الشيء المشكوك في وجوده ، واليقين في القاعدة ملحوظ لذاته ومأخوذ من حيث هو موضوعا لوجوب المضيّ ، أي سببا للجزاء ، وفي الاستصحاب ملحوظ لا لذاته ،

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٤ سطر ١٨ ، ٣ / ٣٠٤.

٤٤٣

بل لكونه طريقا لمتعلّقه ، فالموضوع في الحقيقة هو المتعلّق ، أعني الوجود السابق المحرز باليقين.

وهاتان الملاحظتان لتمانعهما ذاتا يمنع اجتماعهما في استعمال واحد ، كامتناع اجتماع إرادة المعنى الاسمي والحرفي من كلمة واحدة في استعمال واحد ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إلّا أنّه مانع عن إرادتهما في هذا المقام (١).

أقول : المانع عن إرادتهما معا من قوله عليه‌السلام «فليمض على يقينه» إنّما هو باعتبار لفظ «اليقين» الذي اضيف إليه المضيّ ، حيث أنّ المراد من «اليقين» على تقدير إرادة القاعدة نفسه لذاته ، وعلى تقدير إرادة الاستصحاب ليس الملحوظ إلّا متعلّقه الذي احرز باليقين.

وامّا لفظ «المضيّ» فلم يرد منه على كلّ من التقديرين إلّا عدم الاعتناء بالشكّ ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله في ضمن الايراد الآتي.

قوله قدس‌سره : فإن قلت : إنّ معنى المضيّ على اليقين ... الخ (٢).

أقول : حاصل الإيراد أنّ المضيّ على اليقين عبارة عن عدم الاعتناء بالشكّ ، وهذا ممّا يختلف كيفيته باختلاف متعلّق الشكّ ، من دون أن يكون المضيّ على اليقين مستعملا في معنيين.

وحاصل الجواب : إنّه إنّما يتمّ لو كان لنا يقينان وشكّان ، كما لو تعلّق اليقين بعدالة زيد وباستمرارها ، فتعلّق الشكّ بكلّ منهما.

وامّا لو لم يكن إلّا اليقين بعدالة زيد يوم الجمعة مثلا ، فقيل «من كان على يقين

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٤ سطر ٢٥ ، ٣ / ٣٠٥.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٠٥ سطر ٣ ، ٣ / ٣٠٦.

٤٤٤

من عدالة زيد فشكّ فيها» فامّا أن يراد من اليقين نفس الاعتقاد الخاصّ من حيث أنّه صفة قائمة بالشخص متعلّقة بعدالته يوم الجمعة ، فيراد من الشكّ فيه ـ بمقتضى شهادة السياق ، باتّحاد المراد من متعلقيهما ـ زوال ذلك الاعتقاد ، وصيرورة ذلك المتيقّن الخاصّ مشكوكا ، فالمراد من المضيّ عليه حينئذ الحكم بتحقّقها في ذلك الزمان الذي كانت العدالة فيه متيقّنة ، أو يراد من اليقين العلم الطريقي ، فيكون المراد من الرواية ـ على هذا التقدير ـ من كان عالما بوجود شيء ، فشكّ في وجود ذلك الشيء بعد ذلك الزمان الذي يعلم بوجوده ، فليمض على يقينه ، أي لا يعتني باحتمال ارتفاع العدالة.

فهذان الاعتباران ملاحظتان ساريتان في كلّ فرد من أفراد اليقين ، يمتنع اجتماعهما بالنسبة إلى متعلّق واحد ، لتضادّهما ذاتا.

ولا يخفى عليك ، أنّ ما ذكرناه في توضيح المراد أسلم ممّا ذكره المصنّف رحمه‌الله في تقريبه ، لإمكان الخدشة فيما يتراءى من عبارته بالالتزام بكون المراد من «اليقين» اليقين بمطلق العدالة ، والمراد من الشكّ فيه صيرورة مطلق العدالة مشكوكة ، سواء تعلّق الشكّ باعتبار تحقّقها في الزمان الأوّل ـ كما في القاعدة ـ أو في الزمان الثاني ـ كما في الاستصحاب ـ.

ولا يتوجّه هذا النحو من المناقشة على ما قرّرناه من التمانع بين الملاحظتين ، وعدم إمكان اعتبارهما في متعلّق واحد ، ولكنّه لا ينحسم بذلك مادة الشّبهة ، وهي توهّم كون المراد من «اليقين» نفسه من حيث هو ، ومن الشيء الذي تعلّق به اليقين ذاته ، وهي مطلق العدالة في المثال من غير تقييده بزمان اليقين ، كما في باب الاستصحاب ، فلا يختلف حينئذ متعلّق اليقين والشكّ ، ويكون محصّل مفاد الرواية على هذا التقدير ، أنّه متى تعلّق اليقين بعد الترديد مثلا ، ثمّ تعلّق بعد ذلك الشكّ فيها ، يمضي على يقينه ولا يعتنى بالشكّ الظاهري ، من دون فرق بين

٤٤٥

أن يكون الشكّ شكّا في الحدوث أو بوجودها في الزمان الثاني ، فيكون شكّا في البقاء.

ويدفعه : مضافا إلى ما فيه من مخالفة الظّاهر ، أنّه متى لوحظ «اليقين» بنفسه مناطا للحكم ، كي يعقل شمول الخبر للقاعدة ، امتنع جعل متعلّقه مطلقا ، إذ المفروض أنّه لم يتعلّق اليقين بعدالة زيد إلّا في الجملة ، وهذا ينافي إلغاء الشكّ فيها مطلقا بعد فرض وحدة متعلّقيهما ، كما هو مقتضى سوق الرواية ، وإنّما يلاحظ متعلّقه مطلقا على تقدير إرادة الاستصحاب ، حيث ، أنّ اليقين من حيث هو غير ملحوظ إلّا طريقا لإحراز متعلّقه ، فلا يلاحظ حينئذ تقييده بزمان اليقين ، بل يلاحظ نفس ذلك الشيء من حيث هو ويقال إنّ هذا الشيء وجوده في السابق مقطوع ، وفي اللّاحق مشكوك.

ألا ترى أنّك إذا قصدت بقولك «كنت على يقين من كذا» الأخبار عن تعلّق اعتقادك بوجود ذلك الشيء ، لا يكون شكّك في وجوده على الإطلاق مناقضا ليقينك الذي قصدته بالاخبار ، وإنّما المناقض له الشكّ المتعلّق بوجود على حسب ما قصدته متعلّقا لليقين ، فالشكّ في وجوده فيما بعد ليس متعلّقا بتلك النسبة المقصودة بالأخبار في هذه القضيّة ، بل بنسبة اخرى أجنبيّة عنها.

وامّا إذا قصدت بالأخبار عن ثبوت وصف العدالة له فيما سبق بحسب اعتقادك ، يكون الشكّ فيه فيما بعد شكّا في نفس تلك النسبة التي كان اليقين السابق طريقا لإحرازها لا في شيء آخر.

ثمّ ، لو سلّمنا ظهور الرواية في المعنى المزبور ، فمقتضاه عدم الفرق بين تعلّق الشيء بوجود العدالة فيما بعد زمان اليقين ، أو في نفس زمان اليقين ، أو بوجودها في الزمان المتقدّم على اليقين كالمتأخّر ، فانّه يصدق على كلّ تقدير إنّه تعلّق الشكّ بماهية العدالة بعد أن تعلّق بها اليقين ، فليتأمّل.

٤٤٦

قوله قدس‌سره : وقد تقدّم نظير ذلك في قوله قدس‌سره : «كلّ شيء طاهر ...» ... الخ (١).

أقول : لم سلّم ظهور هذه الرواية في استصحاب الطهارة لا في قاعدتها ، يمكن أن يدّعى دلالتها بالالتزام على أنّ الأصل في الأشياء الطّهارة ، إبقاء للموضوع على عمومه ، فيستفاد منها بالدّلالة التبعيّة أنّ كلّ شيء طاهر الذات ، إذ لو لم يكن كلّ شيء طاهرا لم يمكن إبقاء طهارته ، وتقييد موضوع الحكم بالأشياء الطّاهرة خلاف الأصل.

لكن مقتضى ما ذكر ، كون الرواية حينئذ دليلا اجتهاديّا لإثبات طهارة الأشياء لا لقاعدة الطهارة ، كما لا يخفى.

ثمّ لا يخفى عليك بالتدبّر في ما حقّقه المصنّف رحمه‌الله ، بيان عدم إمكان إرادة المعنيين من هذه الرواية ، أنّ توهّم إمكان إرادتهما من هذه الرواية ، وإن كان يظهر توهّم إمكان إرادة القاعدتين من أخبار الباب في الضعف ، إلّا أنّ مناط عدم الإمكان فيهما مختلف ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : مدفوعة بأنّ الشكّ الطارئ ... الخ (٢).

أقول : توضيحه إنّ الشكّ في الشيء عبارة عن التردّد بين وجوده وعدمه ، فللشكّ في عدالته يوم الجمعة طرفان ، كلّ من طرفيه يناقض فردا من اليقين ، فهو شكّ في واحد ، لا يتعدّد به مصداق العموم كي يمكن أن يقال بشمول العامين لأحد الفردين دون الآخر ، كما في الشكّ السببي والمسبّبي ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : لكنّه لا يتمّ إلّا على القول بالأصل المثبت (٣).

أقول : قد يتأمّل في كونه من الاصول المثبتة ، خصوصا فيما إذا كان من الامور

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٥ سطر ٢٤ ، ٣ / ٣٠٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٠٦ سطر ٥ ، ٣ / ٣١٠.

(٣) فرائد الاصول : ص ٤٠٦ سطر ١٦ ، ٣ / ٣١١.

٤٤٧

الشرعيّة التي لا ترتفع إلّا برافع ، كالطهارة الحدثية والخبثية ومقابليهما ، حيث أنّ بقائها ما لم يرفعه رافع من آثار وجودها المحرز بالأصل.

ويدفعه : إنّ بقائها من لوازم وجودها الواقعي ، لا من الآثار الشرعية المترتّبة على وجودها السابق ، ولذا لو أمكن إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى طهارة ثوبه أو نجاسته إلى يوم الجمعة ، وتعذّر جريانه بعده لابتلائه بالمعارض ، ليس له الحكم ببقائه فيما بعد ذلك الزمان ، مع أنّه يعلم بأنّ ثوبه لو كان طاهرا في يوم الجمعة أو نجسا ، لبقى على حاله فيما بعد ، فثبوته فيما بعد تقدير على تقدير.

نعم ، لو كان ما اعتقده سابقا مثل الوضوء أو غسل الثوب أو ملاقاته للنجس أو نحو ذلك ، ممّا كان له أثر شرعيّ مستمرّ اندرج في القسم الثاني الذي سيأتي التكلّم فيه ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : لكنّه فاسد ... الخ (١).

أقول : وممّا يوضّح فساده أنّ قاعدة اليقين لا تتوقّف على تجاوز محلّ المتيقّن ، إذ ربّما يشكّ فيه قبل تجاوز محلّه ، كما لو اعتقد عند الزّوال أو قبله طهارة ثوبه أو نجاسته أو كونه متطهّرا عن الحدث ، ثمّ شكّ فيه قبل تلبّسه بالصّلاة ، كما أنّ قاعدة عدم الأخذ بالشكّ بعد تجاوز المحلّ لا تتوقّف على سبق الاعتقاد ، كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله ، فلا ربط لإحدى القاعدتين بالاخرى ، كي يصحّ الاستشهاد لقاعدة اليقين بما ورد في تلك القاعدة!

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٦ سطر ١٧ ، ٣ / ٣١١.

٤٤٨

قوله قدس‌سره : فلا مدرك له ... الخ (١).

أقول : قد عرفت عند التكلّم في دلالة الأخبار على الاستصحاب ، ظهور بعضها ـ بل جملة منها ـ في القاعدة ، إلّا أنّ الأخذ بعمومها مشكل ، بل مخالف للإجماع كما تقدّمت الإشارة إليه في عبارة المصنّف رحمه‌الله ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حملها على إرادة الاستصحاب ، أو تخصيصها بما لا يستلزم مخالفة الإجماع ، وأقرب محاملها الحمل على ما إذا تلبّس بشيء وفرغ منه باعتقاد صحّته فشكّ فيه ، فيكون حينئذ مثل هذه الأخبار دليلا على قاعدة الصحّة ، التي سيأتي التكلّم فيها إن شاء الله.

قوله قدس‌سره : وفيه أنّه لا يرتفع التحيّر ، ولا يصير الدّليل الاجتهادي قطعي الاعتبار ... الخ (٢).

أقول : هذا الإيراد بحسب الظاهر مبنيّ على التسليم والمماشاة مع الخصم ، بجعل المراد من الشكّ في الشيء هو التحيّر في حكمه في مقام العمل ، الذي يرفعه الدليل القطعي الاعتبار ، والغضّ عن أنّ المتبادر من الأخبار الدالّة على أنّ من كان على يقين من شيء فشكّ فيه ، هو الشكّ في نفس ذلك الشيء لا فيما هو تكليفه في مقام العمل.

ومحصّل الإيراد : انّ الدّليل إنّما يكون رافعا للتحيّر فيما إذا كان قطعيّ الدلالة والدليليّة في خصوص المورد ، وامّا إذا كانت دلالته أو دليليته ثابتة بأصالة الحقيقة ، أو الإطلاق أو العموم الجارية في نفس ذلك الدليل ، أو الدليل الدالّ على اعتباره ، فصيرورته قطعيّا في خصوص المورد ، مبنيّ على تقديم هذه الاصول وتحكيمها على أصالة العموم في «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، كما هو الشأن في سائر المقامات التي

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٦ سطر ١٩ ، ٣ / ٣١١.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤٠٧ سطر ٢٢ ، ٣ / ٣١٥.

٤٤٩

تحقّق المعارضة بين الاصول الموضوعيّة والحكميّة ، أو الاصول الجارية في المسائل الاصولية والفرعيّة ، وإلّا فلو أغمضنا عن الحكومة ، وقلنا بجواز تخصيص ما دلّ على حجّية الخبر أو غيره من الامارات ، بعموم «لا تنقض» في مورد تصادقهما ، يكون عموم «لا تنقض» مانعا عن أن يصير الأمارة في هذا المورد حجّة ، فضلا عن أن ترفع موضوعه حقيقة كي تكون واردة عليه ، فمورد التصادق في حدّ ذاته صالح لأن يتعلّق به حكم كلّ من العامين ، ولكن اصالة العموم في «لا تنقض» لا تصلح لمزاحمة اصالة العموم في دليل تلك الامارة ، لكونها محكومة بالنسبة إليها.

وإن شئت قلت : إنّ حال الاستصحاب مع امارة الخلاف ـ بناء على ما ادّعاه الخصم ـ حال اصالة الإطلاق أو العموم مع الدليل المقيّد والمخصّص ، في أنّ عدم وجدان المخصّص قوام موضوع اصالة الإطلاق والعموم ، وسيتّضح لك في أوّل مبحث التراجيح أنّ الخاص أو المقيّد إذا كان قطعيّا من جميع الجهات ، وارد على اصالة العموم أو الإطلاق ، وإلّا فحاكم ، فكذا الحال في المقام ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : لأنّ مرجع ذلك بظاهره إلى عدم المعارض ... الخ (١).

أقول : وجهه أنّ ظاهر هذه العبارة في بادئ الرأي أنّ من شرط الاستصحاب أن لا يرد دليل شرعي دالّ على الأخذ بخلاف الحالة السابقة في موضوع الاستصحاب ، وهذا معنى عدم المعارض ، إذ بعد فرض اتّحاد الموضوع يكون الحكمان المتواردان عليه متنافيين ، مع أنّه لا معارضة بين الأصل والدليل الاجتهادي ، لما عرفت مرارا من أنّ الأدلّة تخرج الموضوع عن كونه موضوعا للاصول حقيقة إن كان علميّا ، وحكما إن كان تعبّديا ، فمراد هذا البعض بحسب

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٨ سطر ٢ ، ٣ / ٣١٦.

٤٥٠

الظاهر ليس إلّا ما نبّه عليه المصنّف رحمه‌الله من اشتراط جريان الاستصحاب بعدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

قوله قدس‌سره : مع أنّه قد يقال إنّها صارت مدّعية ... الخ (١).

أقول : ما يقال من صيرورتها مدّعية بمجرّد دعواها تلقي الملك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضعيف ، إذ لا يوجب مطلق دعوى التلقّي انقلاب الدعوى ، حتّى ينقلب المدّعي منكرا أو المنكر مدّعيا ، مثلا لو ادّعى زيد أنّ ما في يد عمرو كان ملكا لي فمات وأنا وارثه فهو لي ، أو أنّ يده مسبوقة بيدي فكان ملكا لي ولم أنقله إلى غيري فهو لي ، أو هي أرض أنا محييها أو مشتريها من مالكها الأصلي فهي لي ، فان وافقه الخصم ، وأقرّ له بما يدّعيه من المقدّمات المقتضية لحرمة اليد الطارئة ، لو لا حدوث سبب شرعي مقتض لإباحتها ، نفذ إقراره في حقّه ، وصار مدّعيا ، فانّه بعد أن أقرّ له بأنّه ورثه من أبيه ، أو هو محيي هذه الأرض ، أو انّه مشتريها من صاحبها الأصلي ، أو أقرّ له إجمالا بأنّه كان له في السابق ، فقد أقرّ له بما أثره شرعا بطلان يده وحرمة تصرّفه في هذا المال ، لو لم يدّع انتقاله إليه بسبب شرعي ، وخصمه ينكر السبب ، فعليه إمّا دفع المال إليه أو ادّعاء انتقاله منه ، فيطالب حينئذ بالبيّنة.

وكذلك الكلام فيما لو أقام الخصم البيّنة على ملكيّته السابقة ، وأنّه ورثه من أبيه ، أو انّه محيي هذه الأرض ومشتريها أو نحو ذلك ، فانّه بمنزلة إقرار صاحب اليد في وجوب دفع المال إليه ، لو لم يدّع انتقاله منه بطيب نفسه ، فليس شيء من ذلك من باب تقديم الاستصحاب على اليد ، بل من باب تقديم قول المنكر على قول المدّعي ، بعد أن ثبت بمقتضى البيّنة ، أو اعتراف صاحب اليد ، كون يده عادية لو لم يحصل

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤٠٩ سطر ١٧ ، ٣ / ٣٢٢.

٤٥١

السّبب الذي ينكره خصمه.

هذا إذا أنكر الخصم السّبب ، كي يعود نزاعهم إلى التشاجر في وقوع النقل وعدمه.

وامّا لو لم ينكر النقل ، بل اعترف بجهله بالحال ، بأن قال كان هذا ملكا لي أو لمورّثي ، ولم أعلم بانتقاله منّي ومن مورثي إليك بسبب شرعي ـ كما في قضيّة أبي بكر ـ فليس له مطالبة البيّنة ، بل لا يصغى إلى مثل هذه الدعوى ، إذ ليس أثر الاعتراف أزيد من العلم بكونه في السابق ملكا للمدّعي ، بل ليس للمدّعي فيما بينه وبين الله التصرّف ـ في مثل الفرض ـ في ما في يد الغير اعتمادا على ملكيّته السابقة ، التي يحتمل زوالها بناقل شرعي ، لأنّ اليد كما أنّها إمارة لغيره عند الجهل بالسّبب كذلك امارة له ما لم يعلم بكونها عادية ، فحكم المشهور بانتزاع العين من يده إنّما هو في صورة إنكار السّبب الموجب لانقلاب الدعوى ، لا الاعتراف بجهله بالحال المستلزم لبقاء الدعوى على ما كانت عليه ، وهي الملكية الفعلية لا في سببها ، فمطالبة أبي بكر البيّنة منها عليها‌السلام ـ مع أنّه لم يكن في مقابلها من ينكر التلقي ـ ممّا لا وجه له.

وليس دعوى الجهل بالسّبب كإنكاره في سماع الدعوى ومطالبة البيّنة ، وإلّا لفتح من ذلك باب واسع لأكل أموال الناس على وجه مشروع ، فإنّ أكثر الناس يعترفون بأنّ كثيرا ممّا في أيديهم كان ملكا للسابقين ، ولا يعلم ورثتهم نقلها إليهم بناقل.

قوله قدس‌سره : الثاني من جهة أنّ الشكّ في وصف الصّحة للشيء ، ملحق بالشّك في أصل الشيء أم لا (١).

أقول : لا يخفى أنّ هذا التعبير غير مناسب لما صدّر به العنوان ، لأنّ الكلام إنّما

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤١٠ سطر ٦ ، ٣ / ٣٢٥.

٤٥٢

هو في اصالة الصحّة في العمل بعد الفراغ عنه ، فكان المناسب أن يقول :

هل الشكّ في وجود العمل بعد خروج محلّه ، هل هو ملحق بالشكّ في وصف صحّته أم لا؟

ولكنّه حيث اعتقد أنّ أخبار الباب لا تدلّ إلّا على عدم الاعتناء بالشكّ في وجود شيء بعد تجاوز محلّه ، التجأ إلى هذا النحو من التعبير.

لكن يتوجّه عليه : إنّه كان عليه أن يصدّر العنوان بقاعدة الشكّ بعد تجاوز المحلّ ، ثمّ التكلّم في قاعدة الصحّة.

وكيف كان ، فالذي يقتضيه التحقيق في المقام هو أنّ لنا قاعدتان أصالة :

إحداهما : أصالة الصحّة في العمل بعد الفراغ عنه.

والثانية : قاعدة الشكّ في الشيء بعد خروج وقته وتجاوز محلّه.

وهاتان القاعدتان تتصادقان بعد الفراغ عن عمل مرتكب شكّ في وجود بعض أجزائه أو شرائطه ، ممّا تجاوز محلّه كما عدا الجزء الأخير من المركّب.

وتفترق القاعدة الثانية عن الاولى فيما لو شكّ في وجود جزء أو شرط تجاوز محلّه قبل أن يفرغ عن العمل ، أو شكّ في وجود العمل المؤقت بعد مضيّ وقته ، وتفترق الاولى عن الثانية فيما لو شكّ بعد الفراغ عن العمل ، في كون المأتي به واجدا للوصف المعتبر في صحّته ، أو شكّ في الجزء الأخير الغير المقوّم للمصداق العرفي ، حتّى يكون منافيا لتحقّق الفراغ من العمل ، فانه ربّما يجري بالنسبة إليه اصالة الصحّة دون الشكّ بعد تجاوز المحلّ.

وممّا يدلّ على اعتبار اصالة الصحّة في الجملة ـ مضافا إلى الإجماع ، وسيرة المتشرّعة ، بل العقلاء كافّة المعتضدة ببعض الوجوه العقلية والنقلية المتقدّمة في قاعدة اليد جملة من الأخبار الآتية ولا داعي لارتكاب التأويل فيها بحملها على إرادة القاعدة الثانية.

٤٥٣

منها : موثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام.

قال : «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو» (١).

ويدلّ عليه أيضا في خصوص الطهارة والصلاة قول الصادق عليه‌السلام في خبره الآخر :

«كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكّرا فامضه» (٢).

ويمكن الاستدلال لها ببعض ببعض الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ مثل قوله عليه‌السلام : «من كان على يقين ثمّ شكّ ، فليمض على يقينه ، فانّ اليقين لا يدفع بالشكّ» (٢).

بالتقريب الذي تقدّمت الإشارة إليه فيما سبق من ظهورهما في إرادة قاعدة اليقين ، وتخصيصهما لأجل مخالفتهما للإجماع بموارد أصل الصحّة.

ويدلّ عليه أيضا : موثقة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

«إذا شككت في شيء من الوضوء ، وقد دخلت في غيره ، فليس شكّك بشيء ، إنّما الشّك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٣).

وتقريب الاستدلال بها : أنّ ضمير في «غيره» يرجع إلى الوضوء ، لا إلى الشيء الذي شكّ فيه كما يشهد به النصّ والإجماع ، ففي صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام :

«إذا كنت قاعدا على وضوءك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا ، فأعد عليهما ، وعلى جميع ما شككت فيه انّك لم تغسله ، أو تمسحه ممّا سمى الله ، ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه ، وقد صرت في حال اخرى في الصّلاة وفي غيرها ، فشككت في بعض ما سمّى الله ، ممّا أوجب الله عليك وضوئه ، لا شيء عليك فيه» (٤) الحديث.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٨ باب ٢٣ حديث ١٠٥٢٦.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١ باب ٤٢ ، حديث ١٢٤٨.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١ باب ٤٢ ، حديث ١٢٤٨.

(٣) وسائل الشيعة : ج ١ باب ٤٢ ، حديث ١٢٤٤.

(٤) وسائل الشيعة : ج ١ باب ٤٢ حديث ١٢٤٣.

٤٥٤

وكما أنّ هذه الصحيحة تكشف عن أنّ ضمير في «غيره» يرجع إلى الوضوء لا إلى الشيء الذي شكّ فيه ، كذلك تدلّ على أنّ المراد من «الشيء» في ذيل الرواية هو العمل الذي وقع الشكّ فيه ، لأجل احتمال الاخلال بشيء من أجزائه وشرائطه ، لا الشيء الذي شكّ في وجوده ، بل هذه الفقرة بنفسها ظاهرة في ذلك ، لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام «إذا كنت في شيء» إنّك إذا كنت متشاغلا بعمل غير متجاوز عنه ، فيجب أن يكون ذلك العمل مركّبا ذا أجزاء وشرائط ، حتّى يعقل تعلّق الشكّ به ، ما دام الإنسان فيه ، وارتكاب الإضمار في الرواية بحمل «الشيء» على إرادة محلّه ممّا لا دليل عليه ، فظاهرها أنّ المراد من «الشيء» هو العمل المركّب الذي يتعلّق به الشكّ ، وظهورها في ذلك رافع لإجمال مرجع الضمير في صدرها ، لكون القاعدة المذكورة في الذيل بمنزلة البرهان لإثبات الحكم المذكور في الصدر ، فيجب أن يكون الحكم المذكور في الصدر من جزئيات ما هو الموضوع في تلك القاعدة ، حتّى يستقيم البرهان ، فيستفاد من تلك الموثّقة أمران :

أحدهما : إنّه لو تعلّق الشّكّ بصحّة عمل مركّب بعد الفراغ عنه ، لا يعتدّ بالشكّ.

الثاني : إنّ عدم الاعتداد بالشكّ بعد الفراغ من الوضوء ، إنّما هو لكونه من جزئيات هذه القاعدة.

ثمّ إنّ القدر المسلّم الذي يمكن اثبات اعتبار هذه القاعدة فيه ، إنّما هو فيما إذا تحقّق الفراغ من العمل الذي يعدّ في العرف عملا ، بأن يكون له نحو استقلال وملحوظية بنظر العرف ، وإن كان بنظر الشارع جزء من عمل آخر أو شرطا له ، كالسّعي والطّواف وغيرهما من أعمال الحجّ ، وكالوضوء والغسل والتيمّم التي هي مقدّمة للصلاة.

وامّا أجزاء الأعمال التي ليس لها استقلال ، كغسل الوجه واليدين وأشباههما فلا ، لأنّ مدرك هذه القاعدة إمّا الإجماع والسيرة أو الأخبار.

٤٥٥

امّا الأوّلان فلا يستفاد منهما إلّا اعتبارهما في الجملة.

وامّا الأخبار فهي قاصرة عن إثبات اعتبارها في مثل الفرض ، لأنّ ظاهر الروايتين الأوليتين إرادة مضيّ الأعمال الماضية المنصرفة عن مثل الفرض ، وامّا الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، فيشكل ، الاعتماد عليها في إثبات مثل هذا الأصل بعد كونها مؤوّلة.

وامّا قوله عليه‌السلام في موثقة ابن أبي يعفور : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» فيتعيّن حمله أيضا صرفا أو انصرافا على إرادة الأعمال المستقلّة ، كالوضوء ونحوه ، لعدم جريان هذه القاعدة بالنسبة إلى أجزاء الوضوء إجماعا ونصّا ، فيلزم من حمله على العموم عدم اطّراد القاعدة التي سيقت لبيان حكم الوضوء بالنسبة إلى بعض مصاديق الوضوء ، وهو بعيد.

هذا ، مع أنّ الأمر دائر بين التخصيص والتخصّص الذي لا شبهة في أولويّته ، مضافا إلى أنّ صدر الرواية يمنع عن حمل لفظ «الشيء» المذكور في ذيلها على هذا النحو من العموم ، إذ كما أنّ ذيل الرواية يرفع إجمال الصدور ، وتعيّن المراد من الضمير ، كذلك يرتفع الإجمال عن الذيل ، حيث إنّه يفهم من سياق الرواية أنّ مفهوم الصدر من مصاديق منطوق الذيل ، فتكون الرواية بمنزلة قولك «إذا شككت في شيء من الوضوء ، ولم تدخل في غير الوضوء ، فشكّك معتبر إنّما يلغى إذا كان بعد الفراغ من الشيء لا قبله» ، فيعلم من ذلك أنّ الشكّ في الوضوء مطلقا ، ما دام الاشتغال به شكّ في الشيء قبل الفراغ منه.

فظهر لك ممّا ذكرنا قصور الأدلّة المتقدّمة ، عن إثبات جواز التمسّك بأصالة الصحّة ، فيما لو شكّ في جزء عمل بعد دخوله في الجزء الآخر ، إذا كان المجموع كالوضوء في كونه عملا واحدا في العرف.

ولكنّه ربّما يستدلّ لذلك بعموم بعض الأخبار الواردة في باب الصلاة التي هي

٤٥٦

مدرك للقاعدة.

الثانية : مثل خبر إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال :

«إن شكّ في الركوع بعد ما سجد ، فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (١).

وصحيحة زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

«رجل شكّ في الأذان ، وقد دخل في الإقامة؟

قال : يمضي.

قلت : رجل شكّ في الأذان والإقامة وقد كبّر؟

قال : يمضي.

قلت : رجل شكّ في التكبير وقد قرأ؟

قال : يمضي.

قلت : شكّ في القراءة وقد ركع؟

قال : يمضي.

قلت : شكّ في الركوع وقد سجد؟

قال : يمضي على صلاته.

ثمّ قال : يا زرارة! إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشككت فليس بشيء» (٢).

فانّ مفاد الروايتين عدم الاعتناء بالشكّ في وجود شيء من الأجزاء بعد تجاوز محلّه والدخول في الجزء الآخر ، ويستفاد حكم ما لو شكّ في صحّة الاجزاء السابقة بالفحوى ، أو بإرجاع الشكّ في وصف الصحّة إلى الشكّ في وجود الشيء الصحيح.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٦ باب ١٣ حديث ٨٠٧١.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٨ باب ٢٣ حديث ١٠٥٢٤.

٤٥٧

ولكنّه يتوجّه على الاستدلال : إنّ القاعدة المستفادة منهما بحسب الظاهر مخصوصة بالصلاة ، وليست كقاعدة الصحّة سارية في جميع أبواب الفقه ، لقصور الروايتين عن إثبات عمومها ، حيث أنّ سوق هذه القاعدة بعد ذكر الشكوك المتعلّقة بجملة من أجزاء الصلاة ـ خصوصا في الصحيحة التي وقع فيها السؤال عن حكم الأجزاء واحدا بعد واحد ـ يوهن ظهورها في العموم ، بل يصلح أن يكون قرينة لإرادة اجزاء الصلاة من اطلاق الشيء ، بل لعلّ هذا هو المتبادر من إطلاقه في مثل المقام ، فكيف يمكن إثبات مثل هذا الأصل بمثل هذا الظاهر!

وكيف كان ، فإن قلنا بأنّ هذه القاعدة غير مخصوصة بالصلاة ، بل قاعدة عامّة مخصّصة في خصوص الوضوء بالأدلّة المتقدّمة ، يشكل رفع اليد عنها بالنسبة إلى الغسل والتيمّم ، إذ لا معارض لها عدا ما يتوهّم من دلالة ذيل موثقة ابن أبي يعفور على أنّ الشكّ في أثناء العمل معتبر مطلقا.

ويدفعه : عدم كون الموثقة في مقام بيان حكم المنطوق حتّى يصحّ التمسّك بالإطلاق ، وإطلاق الحكم في الوضوء ثبت من مفهوم الصدر وغيره ، لا من إطلاق الذيل ، فالشأن إنّما هو في إثبات عموم القاعدة الثانية ، وهو في غاية الإشكال.

فالأظهر كون الغسل والتيمّم كالوضوء في الحكم المزبور ، كما هو مقتضى الأصل.

ولكن الإنصاف أنّ منع جريان قاعدة الصحّة في بعض موارد الشكّ في الأجزاء السابقة في الغسل لا يخلو عن مجازفة ، كما لو فرّق بين الأجزاء بفصل يعتدّ به في العرف ، كأن غسل رأسه في الصبح ، ثمّ شكّ في الظهر عند إرادة غسل سائر جسده في أنّه أسبغ غسل رأسه في الصبح أم لا ، فإنّ الظاهر مساعدة العرف في مثل الفرض على إجراء أصالة الصحّة ، حيث أنّ التفكيك بين الأجزاء يجعل كلّ جزء بنظر العرف عملا مستقلّا ، فلو أمكن التفصيل بأن يقال لو أتى بأجزاء الغسل متوالية كالوضوء فكالوضوء في الحكم ، وإلّا فكلّ جزء بنفسه موضوع مستقلّ لقاعدة

٤٥٨

الصحّة ، لكان وجيها.

قوله قدس‌سره : لكن الإنصاف إمكان تطبيق موثقة محمد بن مسلم ... الخ (١).

أقول : قد عرفت أنّه لا مقتضى لهذا التطبيق حتّى نتكلّف فيه ، ثمّ نتكلّف في إرجاع الشكّ في الصحّة إلى الشكّ في الوجود.

قوله قدس‌سره : وإلّا فظاهر الصحيحتين الأوليين اعتباره ... الخ (٢).

أقول : لا يخفى عليك أنّ الجمع بين الصحيحتين وغيرهما من الروايات مبني على الالتزام باتّحاد القاعدة المستفادة من الجميع.

ولكنك عرفت أنّ قاعدة الشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ ، المستفادة من الصحيحتين ، غير قاعدة أصالة الصحّة بعد الفراغ عن العمل ، وموثقة ابن مسلم وما عداها من الروايات المزبورة ، موردها ـ على ما هو الظاهر منها ـ هو هذه القاعدة ، فلو سلّمت دلالة الصحيحتين على اعتبار الدخول في الغير ، فهو غير مجد في إثبات اعتباره في قاعدة الشكّ بعد الفراغ من العمل ، كما أنّ اعتباره في هذه القاعدة لا يجدي في نفيه بالنسبة إلى تلك القاعدة ، بل لا بدّ في كلّ منهما من ملاحظة مدركه بالخصوص.

فنقول : امّا قاعدة الشكّ بعد الفراغ فقد عرفت أنّ مدركها الإجماع والسيرة وبعض الأخبار التي تقدّمت الإشارة إليها.

وامّا الإجماع والسيرة ، فهما من الأدلّة اللبيّة ، يقتصر في مقدار دلالتهما على القدر المتيقّن ، فلا يستفاد منها نفي هذا الشرط.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٤١٠ سطر ٢٤ ، ٣ / ٣٢٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٤١١ سطر ١٥ ، ٣ / ٣٣٢.

٤٥٩

وامّا الأخبار ، فمقتضى إناطة عدم الاعتناء بالشكّ في الوضوء في صحيحة زرارة ، بالقيام من الوضوء والفراغ منه ، وصيرورته في حالة اخرى من صلاة وغيرها ، وكذا موثّقة ابن أبي يعفور بالدّخول في غير الوضوء ، اعتبار الدخول في الغير ، ومقتضى تعليق الاعتناء بالشكّ في ذيل الموثقة المسوق لبيان ضابط الحكم ، بكونه في الشيء الذي يشكّ فيه ، وعدم تجاوزه عنه من دون تقييده بالدخول في غير ، عدم الاعتبار ، فيحتمل قويّا جري المقيّد في صدر الموثقة وكذا الصحيحة ، مجرى الغالب ، كما أنّه يحتمل أن يكون ترك التقييد في ذيل الموثّقة للجري مجرى الغالب حيث أنّ الغالب أنّ من فرغ من عمل يشتغل بعمل آخر مباين للأوّل.

ولكن الإنصاف أنّ ظهور الذيل في إناطة الحكم وجودا وعدما بكونه مشغولا بالعمل أقوى ، ويعضده إطلاق موثقة ابن مسلم ، وكذا قوله عليه‌السلام «كلّما مضى من صلاتك وطهورك فذكرته تذكرا فامضه كما هو» ، وكذا ظاهر التعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام في خبر بكير بن أعين :

«في الرّجل يشكّ بعد ما يتوضّأ؟ هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ».

فالأظهر كفاية مجرّد الفراغ ، وعدم اعتبار الدخول في الغير.

ولكن ربّما يتوقّف إحراز عنوان الفراغ من العمل ـ خصوصا إذا كان الشكّ في صحّته ـ ناشئا من احتمال الإخلال بجزئه الأخير على انتقاله إلى حالة اخرى ، كما لا يخفى.

وامّا قاعدة الشكّ بعد تجاوز المحلّ ، فالأشبه اعتبار هذا الشرط فيها ، فإنّ عمدة مستندها الصّحيحتان المتقدّمتان ، الظّاهرتان في اعتبار الدخول في الغير ، واحتمال جرى القيد فيها مجرى الغالب لا يجدي في إهماله ، بعد موافقته للأصل ، وعدم ورود إطلاق ينافيه ، فلو شكّ في كلمة من الحمد موصولة بسابقتها ، بعد فوات الموالاة المعتبرة بينهما ، فقد تجاوز محلّها ، ولكنّه لا يكفي في عدم الاعتناء بشكّه ، بل

٤٦٠