حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

قوله قدس‌سره : كسائر التنزيلات ... الخ (١).

أقول : منها خبر العادل والبيّنة وغيرهما من الطرق الشرعية ، بناء على اعتبارها من باب التعبّد ، لا بناء العقلاء ، فانّ إلزام الشارع بسلوك طريق تعبّدي مرجعه إلى أمره بترتيب الآثار الشرعية على مؤداه ، إلّا أنّ بين الامارات والاصول التعبّدية كالاستصحاب ، وأصالة الصحّة ـ بناء على اعتبارهما من باب التعبّد لا الطريقية ـ فرقا ، وهو أنّ مؤدّى الامارة لمّا كان ثبوت متعلّقها حقيقة ، فهي كما تؤدّي إلى متعلّقها كذلك تؤدّي إلى آثاره ولوازمه ، مثلا إذا أخبر العادل بموت زيد مثلا ، فقد أخبر بجميع لوازمه بالالتزام ، أي دلّ خبره على وقوع الموت مع جميع لوازمه ، فإذا أمر الشارع بتصديقه وجب الالتزام والتعبّد بثبوت الجميع في مقام العمل ، ضرورة أنّ إنكار شيء منها ينافي تصديقه ، كما أنّ إنكار نفس الموت تكذيب له ، كذلك إنكار لوازمه.

وبعبارة اخرى : معنى جعل الخبر حجّة هو الإلزام بالالتزام بثبوت مفاده مطلقا ، سواء كان مدلولا مطابقيا له أم تضمّنيا أو التزاميا.

وامّا الاصول فلا مفاد لها ، إذ المفروض أنّ اعتبارها ليس من حيث الطريقية إلى متعلّقاتها ، وإنّما أوجب الشارع التعبّد بثبوت المتعلّقات ـ أي ترتيب آثارها ـ حال الشكّ ، فلا يتعدّى إلى آثار ما يلازمها.

اللهمّ إلّا أن يكون دليل الأصل لفظيا ، وادّعى ظهوره في الأعمّ ، كما قد يدّعي ذلك في أدلّة الاستصحاب ، وهو لا يخلو عن وجه لو بنينا على استفادة حجّيته من محض الأخبار ، كما تقدّمت الإشارة إليه عند التكلّم في وجه حجّيته ، فراجع.

وبما أشرنا إليه من أنّ مفاد حجّية الامارة وجوب تصديق مضمونها تعبّدا ،

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٣ سطر ١٣ ، ٣ / ٢٣٣.

٤٠١

وأنّ التصرّف الشرعي إنّما تعلّق بطريق المتعلّق لا نفسه ، ظهر لك وجه تقديم الامارات على الاصول ، فانّ مفاد أدلّة نصب الطرق كتصديق العادل ، هو أنّه يجب على المكلّف أن يأخذ بمفاده في مقام العمل ، ولا يلتفت إلى احتمال مخالفته للواقع ، بأن يرتّب على نفسه أحكام الشاكّ ، فهو متعبّد بالبناء على عدم كونه شاكّا ، وكون الواقع ثابتا لديه ، فيخرج بذلك عن موضوع أدلّة الاصول حكما.

وامّا مفاد دليل الاستصحاب ، فهو وإن كان أيضا وجوب ترتيب أثر ثبوت الواقع حال الشكّ ، وعدم معاملته معاملة الشاك ، ولذا يقدّم على أصل البراءة والاشتغال والتخيير التي هي من أحكام الشاكّ ، إلّا أنّ الشكّ مأخوذ في موضوع وجوب الأخذ بالحالة السابقة ، حيث أنّ الشارع قال من كان على يقين من شيء فشكّ فيه فليمض على يقينه ، فوجوب المضيّ حكم مجعول للشاكّ بوصف كونه شاكّا ، وهذا بخلاف أدلّة الامارات فانّ موضوعه شخص المكلّف ، وقد أمر الشارع بأن لا يعتنى باحتمال مخالفة الامارة للواقع ، بأن يعامل معاملة الشاكّ التي منها وجوب الأخذ بالحالة السابقة ، فكأنّه قال يجب الأخذ بالحالة السابقة حتّى يثبت خلافه ، ولكن يثبت خلافه بالبيّنة وخبر العادل ونحوه ، فلاحظ وتدبّر.

قوله قدس‌سره : فالمجعول في زمان الشكّ حكم ظاهري ... الخ (١).

أقول : لا تتوهّم أنّه يلزم من ذلك استعمال لفظ «لا تنقض اليقين بالشكّ» في معنيين ، فانّه لم يقصد به في شيء من موارده إلّا الإلزام بالمعاملة مع المتيقّن السابق معاملة بقائه حتّى يعلم بارتفاعه ، حيث أنّ الإلزام بإبقاء نفسه غير معقول مطلقا ، سواء كان حكما شرعيا أم موضوعا خارجيّا ، وإنّما المعقول هو الإلزام بمعاملة البقاء وترتيب أثر البقاء في مقام العمل ، فلا بدّ أن يكون ذلك الشيء الذي أمر الشارع

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٣ سطر ١٧ ، ٣ / ٢٣٤.

٤٠٢

بالالتزام ببقائه من حيث العمل ممّا له دخل في الشرعيات ، بأن يكون امّا بنفسه أمرا شرعيّا له أثر عملي كوجوب شيء أو حرمته ، أو كان له أثر عملي شرعي ، وإلّا فلا معنى لإلزام الشارع بالالتزام ببقائه ، كما هو واضح.

قوله قدس‌سره : كاستصحاب عدم الاستحاضة المثبت لكون الدّم الموجود حيضا ... الخ (١)

أقول : لو كان بعكس المثال لكان أولى ، إذ القاعدة الفرعية التي قد يدّعى كونها أصلا في باب الدماء ، هي أنّ كلّ دم ليس بحيض ولا نفاس فهو استحاضة لا العكس ، فراجع.

قوله قدس‌سره : لأنّ أصالة عدم الكرية حين الملاقاة ... الخ (٢).

أقول : حاصله أنّه لا يحرز بهذا الأصل وقوع الملاقاة في زمان القلّة ، فيبقى اصالة عدم الملاقاة قبل الكرية سليمة عن العارض ، فيترتّب عليها أثرها وهو عدم انفعال الماء.

ولا يتوقّف ترتّب هذا الأثر على إحراز كون الملاقاة بعد الكرية ، حتّى يكون الأصل بالنسبة إليه أيضا مثبتا ، لأنّ عدم الانفعال من آثار عدم الملاقاة بعد الكرية حتّى يكون الأصل بالنسبة إليه أيضا مثبتا ، لأنّ عدم الانفعال من آثار عدم الملاقاة المحرز بالأصل ، لا من آثار كون الملاقاة بعد الكرية.

ثمّ إنّ هذا كلّه على تقدير أنّ اللازم في الحكم بالانفعال إحراز وقوع الملاقاة في زمان القلّة ، وإلّا فلو قلنا بكفاية إحراز المقتضي للتنجيس وهو الملاقاة ، في الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٤ سطر ١٠ ، ٣ / ٢٣٦.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣٨٥ سطر ١٧ ، ٣ / ٢٤٠.

٤٠٣

بالنجاسة ما لم يعلم وجود المانع وهو الكرية ، فلا مجال لتوهّم المعارضة ، لأنّ استصحاب عدم المانع عن التأثير غير محتاج إليه ، لكفاية الشكّ في وجوده على الفرض.

وامّا استصحاب عدم الملاقاة قبل الكرية ، فلا يثبت وقوعها بعدها حتّى يوجب رفع اليد عمّا يقتضيه المقتضي ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : نعم لو وقع فيه في كلّ من اليومين ، حكم بطهارته ... الخ (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره إنّما يتمّ على القول بطهارة الماء النجس المتمّم كرّا ، وإلّا فمقتضى القاعدة نجاسة الماء والثوب المغسول فيه ، لأنّ من آثار عدم كريته يوم الخميس نجاسته بملاقاة الثوب النجس ، والعلم بحدوث الكرية لا ينفع في طهارة الثوب والماء ، بعد الشكّ في طهارة الكر الذي لاقاه الثوب النجس.

والحاصل : إنّ من آثار عدم كريّته يوم الخميس تنجسه بالملاقاة ، وبقاء نجاسته إلى زمان العلم بحصول مطهّر شرعي له ، كوقوع كرّ طاهر عليه. وامّا حصول صفة الكرية له فلا ينفع ، بعد الجهل بكونها عاصمة حين حصولها.

ثمّ ، لو فرض حصول العلم بكرّية عاصمة في أحد اليومين ، فليس الحكم بطهارة الثوب الواقع فيه في كلّ من اليومين من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين ـ أي طاهرهما بنجسهما ـ فانّ الحكم بطهارة الثوب في تلك المسألة معركة للآراء ، من أنّه هل هو لأجل استصحاب الطهارة وقاعدتها ، بل قد يقال فيها في بعض فروضها باستصحاب النجاسة ، كما ستعرفه إن شاء الله.

وامّا في المقام فطهارته معلومة بالفعل تفصيلا ، إذ لا شبهة في انغساله بكّر طاهر

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٨ سطر ١ ، ٣ / ٢٤٩.

٤٠٤

في أحد اليومين ، فهو من باب الحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المشتبه بالمضاف ، لا بالنجس كما هو واضح.

نعم ، لو علم بأنّ الماء في اليوم الثاني لو كان قليلا لكان نجسا ومنجسا للثوب الطاهر المغسول فيه ، لصار الحكم بطهارته حينئذ من ذلك الباب ، كما لا يخفى.

قوله قدس‌سره : لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر (١).

أقول : يعني عدم كلّ منهما إلى زمان وجود الآخر ، وإلّا فصفة القبلية والبعدية ، وكذا التقدّم والتأخّر أو التقارن ، كلّها من الإضافات الموقوفة على تحقّق المنتسبين ، كما هو واضح.

قوله قدس‌سره : ويندفع بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان ... الخ (٢).

أقول : توضيحه إنّه يعتبر في استصحاب عدم شيء ، صيرورته مشكوك الوجود في زمان ، والحادث الذي علم تاريخ حدوثه ليس بمشكوك الوجود في شيء من الأزمنة ، فانّه قبل ذلك الزمان معلوم العدم ، وبعده معلوم الحدوث ، فلا شكّ في وجوده في الزمان الواقعي لذلك الآخر ، إذا لوحظ زمانه من حيث هو ، لأنّ زمانه الواقعي ليس بخارج عن أحد الزمانين المعلوم فيه حال هذا الحادث المعلوم التاريخ ، وإنّما الشّك في زمان وجود ذلك الحادث ، من أنّه هل هو قبل حدوث هذا الحادث أم بعده؟ فمن هنا يتطرّق الشكّ في أنّ هذا هل كان حادثا إلى حين حدوث ذلك الآخر أم لا ، من غير أن يتطرق الشكّ فيه في زمانه من حيث هو ، بل بعد إضافته إلى ذلك الآخر.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٨ سطر ٦ ، ٣ / ٢٤٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣٨٨ سطر ١٢ ، ٣ / ٢٥٠.

٤٠٥

ومن الواضح أنّه ليس لعدمه في الزمان المغيّا بحدوث ذلك الحادث ، الذي جعلناه قسيما لنفس زمانه الواقعي المعرّى عن قيد إضافته إلى هذا الحادث ، حالة سابقة معلومة ، فلا يقاس هذا الفرض بصورة الجهل بتاريخهما ، فانّا وإن كان في تلك الصورة أيضا نقول ـ في مقام التعبير ـ الأصل عدم وجود كلّ منهما في الزمان الواقعي للآخر ، إلّا أنّا لا نريد بذلك زمانه المقيّد بوجوده ، كي يكون راجعا إلى دعوى أنّ الأصل عدم وجوده قبل الآخر ، بل نريد بذلك نفس زمان وجوده من حيث هو ، وحيث أنّ وجود كلّ منهما في نفس زمان الآخر من حيث هو مشكوك ، بحيث لو فرض عدم وجود ذلك الآخر لكان هذا بالمقايسة إلى زمانه مشكوك الحدوث ، فلو علم إجمالا بموت زيد وإسلام وارثه ، وشكّ في المتأخّر منهما ، فلا محالة يتطرّق الشكّ بالنسبة إلى مبدأ حدوث كلّ منهما ، وكذا لو علم بصدور حدث وطهارة منه ، أحدهما في الصبح والآخر في العصر ، وشكّ في المتأخّر منهما ، فهو بالمقايسة إلى ذلك اليوم شاكّ في صدور كلّ من الحدث والطّهارة إلى الغروب ، ويصير حدوث كلّ منهما إلى زمان حدوث الآخر مشكوكا لا من حيث إضافته إلى ذلك الآخر ، بل من حيث نفسه ، بحيث لو علم أنّ ذلك الآخر كان زمانه غرّة رمضان لبقى الشكّ في حدوث هذا إلى ذلك الوقت باقيا بحاله ، فيتحقّق بذلك ركن الاستصحاب ، وهو صيرورته مشكوك الوجود في زمان ، كما لا يخفى على المتأمّل.

قوله قدس‌سره : نعم ، ربّما يظهر من إطلاقهم التوقّف (١).

أقول : أيّ من توقّفهم على الإطلاق.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٨ سطر ١٦ ، ٣ / ٢٥١.

٤٠٦

قوله قدس‌سره : لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ... الخ (١).

أقول : ولكن لا يحكم ببقاء الطهارة في زمان الشكّ للاستصحاب ، كما قد يتوهّم ، لأنّه يعارضه استصحاب الحدث ، أي الحالة المانعة عن الصلاة المعلوم تحقّقها عند خروج الناقض ، فإنّ ارتفاعه غير معلوم ، وكون العلم به إجماليا غير مانع عن جريان استصحابه ، حتّى يسلّم مقابله عن المعارض ، كما لا يخفى.

نعم ، قد يتخيّل أنّ المعارضة بين الأصلين في هذه المسألة ونظائرها ، إنّما هي مع الجهل بحالته قبل الحالتين ، وإلّا فيأخذ بضد حالته السابقة ، فلو علم بأنّه أوّل الصبح ـ عند انتباهه من النوم ـ كان محدثا ، وصدر منه بعده طهارة وحدث ، وشكّ في المتأخّر منهما ، يستصحب طهارته ، حيث أنّ ارتفاع حدثه السابق بالطهارة المتيقّنة معلوم ، وانتقاض طهارته بحدث غير معلوم.

ويدفعه : إنّه يعلم بكونه حين خروج الحدث المعلوم بالإجمال محدثا ، أي ممنوعا عن الدخول في الصّلاة ، ولا يعلم بارتفاع ما علم بوجوده في ذلك الحين بتلك الطّهارة ، لاحتمال تأخّره عنها فيستصحب.

وتوهّم : أنّ العلم الإجمالي بوجود الحدث أي ـ الحالة المانعة ـ غير مؤثّر في تنجيز تكليف وراء ذلك التكليف المعلوم بالتفصيل الذي علم بسقوطه لاحتمال وقوع الحدث المعلوم بالإجمال عقيب الحدث ، فلم يؤثّر في حدوث حدث جديد فلا علم بوجود تكليف وراء ما علم سقوطه حتّى يجري استصحابه.

مدفوع : بأنّ المدار في جريان الاستصحاب صيرورة ما علم بثبوته في زمان مشكوك البقاء ، ولا شكّ في أنّه كان حال خروج هذا الناقض ممنوعا عن الدخول في الصّلاة ، ومن كتابة القرآن حتّى يتطهّر ، ولا يعلم بتطهّره بعده ، واحتمال اتّحاد حدثه

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٩ سطر ١٢ ، ٣ / ٢٥٣.

٤٠٧

مع الحدث السابق لا يوجب انقلاب ما علمه بالإجمال شكّا.

غاية الأمر أنّه يصير منشأ لاحتمال ارتفاع الحدث المعلوم ثبوته في ذلك الحين بتلك الطهارة ، فلا يقاس ما نحن فيه بما لو رأى بثوبه منيّا فشكّ في حدوثه بعد الغسل ، أو من الجنابة التي اغتسل منها ، فانّه وإن أمكن في هذا المثال أيضا أن يقال إنّا نعلم بكونه ممنوعا عن الصّلاة حين خروج هذا المني ، ولا نعلم بارتفاع ذلك المنع بهذا الغسل ، إلّا أنّ احتمال وحدة التكليف في المثال يورث الشكّ في ثبوت تكليفه لاداء ما علم سقوطه ، حيث أنّ علمه الإجمالي بعروض الجنابة له حين خروج هذا المني ، لا يوجب العلم بكونه جنبا في حال غير الحال الذي علمه بالتفصيل ، وهذا بخلاف ما لو علم بكون المني المرئي في الثوب من جنابة اخرى ، وشكّ في كونها قبل الغسل فلا يكون مؤثّرا في تكليف جديد أو بعده ، فيكون مؤثّرا في ذلك ، فانّه حينئذ يصير مثالا لما نحن فيه ، فيجب عليه حينئذ إحراز فعل الغسل بعد الجنابة الأخيرة ، فلا يبقى في ذلك مجرّد احتماله ، فاحتمال تعدّد التكليف فيما نحن فيه يورث الشكّ في سقوط ما علم ثبوته ، فيجب استصحابه حتّى يعلم بسقوطه ، ولا فرق في ذلك بين ما لو كان زمان ما يعلمه بالإجمال مغاير لزمان الحدث المعلوم بالتفصيل ، كما لو علم بالتفصيل كونه في اللّيل جنبا ، وعلم إجمالا بصدور غسل وجنابة بعد طلوع الفجر ، أحدهما أوّل اليوم مثلا والآخر في الظهر ، فانّ متعلّق علمه الإجمالي ثبوت وصف الجنابة له في اليوم ، وهو مشكوك الارتفاع بغسله ، لاحتمال تأخّره عنه ، وبين ما لو لم يكن كذلك ، بل احتمل كونه في زمان كان عالما بجنابته بالتفصيل ، كما لو كان تاريخ غسله معلوما كأوّل الصبح مثلا ، فعلم باستمرار جنابته السابقة إلى ذلك الوقت.

فالجنابة المعلومة بالإجمال ، يحتمل وقوعها بعد ذلك التاريخ أو قبله ، في زمان كان يعلم بجنابته بالتفصيل ، فانّ علمه الإجمالي في هذا الفرض وإن لم يؤثّر في إحراز

٤٠٨

جنابته في غير ذلك الوقت الذي علم بالتفصيل كونه جنبا ، لكنّه أثّر في وجوب إحراز وقوع الغسل بعده ، فانّه بعد أن علم أنّه كان بعد خروج هذا المني يحرم عليه الاشتغال بالصّلاة أو الدخول في المسجد حتّى يغتسل ، لا يجوز أن ينقض يقينه باحتمال كونه في اللّيل ، المستلزم لوقوع الغسل الواقع في أوّل الصبح بعده ، كما هو واضح.

فالأظهر سقوط الأصلين مطلقا ، لأجل المعارضة في هذه المسألة ، أعني مسألة من تيقّن الحدث والطّهارة وشكّ في المتأخّر منهما ، وكذا نظائرها كما لو غسل ثوبا بإناءين يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، سواء جهل تاريخهما أو تاريخ أحدهما ، وسواء علم بحالته السّابقة كطهارة الثوب قبل الغسل أو نجاسته أم لم يعلم ، والرجوع إلى سائر القواعد كقاعدة الطّهارة في الثوب والاشتغال في الأوّل.

وقد أشبعنا الكلام فيما يتعلّق بكلّ من الفرعين في الفقه ، وتصدّينا لدفع جميع ما يتوجّه عليه من النقض والإبرام ، فراجع.

قوله قدس‌سره : وهذا إنّما يصحّ نباء على الأصل المثبت ... الخ (١).

أقول : فيه نظر فانّا قد حقّقنا عند التكلّم في وجه حجّية الاستصحاب أنّ أصل العدم ـ الذي نقول باعتباره في مباحث الألفاظ وغيرها ـ مرجعه إلى عدم الاعتناء باحتمال وجود ما كان وجوده مؤثّرا ، في صرف المكلّف عمّا هو تكليفه في مقام عمله ، ولا يثبت به نفس ذلك العدم ، فضلا عن لوازمه ، فالأصل المثبت ليس بحجّة في شيء من موارده ، وحمل اللفظ على المعنى المتعارف عندنا من آثار عدم الاعتناء باحتمال أن يكون له معنى آخر في ذلك الزمان ، حيث أنّ توقّفه عن حمله عليه إنّما

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٨٩ سطر ١٧ ، ٣ / ٢٥٤.

٤٠٩

نشأ من هذا الاحتمال ، فيتفرّع على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، حمل اللفظ على ما يفهمه منه في عرفه ، كما أنّه يتفرّع على عدم الاعتناء باحتمال قرينة المجاز حمله على حقيقته.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بإحضار زيد ، وكان زيد اسما لشخص معروف لدى العبد ، فاحتمل العبد كونه اسما لشخص آخر أيضا ، أو كون هذا الشخص حين صدور الأمر غير مسمّى بهذا الاسم ، فاريد به معنى آخر ، أو كون الأمر حين صدوره محفوفا بقرينة المجاز ، ينفى هذه الاحتمالات باصالة عدم الاشتراك ، وعدم النقل ، وعدم قرينة المجاز ، بمعنى أنّه لا يعتني بمثل هذه الاحتمالات كي يتوقّف عن حمل اللفظ على ما يفهمه في عرفه ، لا أنّه يحكم بثبوت هذه الاعدام كي يرتّب عليها سائر لوازمها ، ولذا لا يجوز له الأخبار بأنّ ذلك الشخص الذي احتمل مشاركته لهذا الشخص في الاسم ، أن اسمه ليس بزيد ، أو أن هذا الاسم كان ثابتا لهذا الشخص من حين صدور الأمر ، أو أنّ الأمر كان حال صدوره مجرّدا عن القرينة ، إلى غير ذلك ممّا هو من لوازم تلك الاعدام في الواقع ، فلو كان الأصل المثبت حجّة في مباحث الألفاظ ، لكان له الحكم بثبوت نفس هذه الاعدام التي يتوقّف عليها إثبات لوازمها ، مع أنّه لا يجوز بلا شبهة ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : لكن التحقيق التفصيل بين موارد التمسّك ... الخ (١).

أقول : قد تقدّم في مبحث أصل البراءة إمكان توجيه استصحاب الصحّة مطلقا ، وكذا استصحاب وجوب المضيّ وحرمة القطع فراجع ، وتجدّد المقال في المقام لتقريب أوفى فنقول :

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩٠ سطر ٦ ، ٣ / ٢٥٦.

٤١٠

قد اعترف المصنّف رحمه‌الله في مبحث أصل البراءة بأنّ للصحّة معنى آخر غير ما ذكر ، حيث اعترض على نفسه بأنّ مقتضى ما ذكر بقاء الأجزاء السابقة على صحّتها إلى آخر الأبد ، وهو خلاف ما هو الشائع في النصوص.

فأجاب عنه بما لفظه : قلت نعم ، ولا ضير في التزام ذلك ، ومعنى بطلانها عدم الاعتداد بها في حصول الكلّ ، لعدم التمكّن من ضمّ تمام الباقي إليها.

أقول : معنى عدم الاعتداد بها صيرورتها لغوا بالنظر إلى الأثر المقصود بها ، وهو وقوعها بعضا من الكلّ الذي يجب عليه الخروج عن عهدة أمره ، فصحّة الأجزاء السابقة المقابلة للبطلان بهذا المعنى ، عبارة عن عدم صيرورتها لغوا ، وكونها بالفعل بعضا من الصلاة الواجبة عليه ، ومسقطة للأمر الغيري المتعلّق بها المنبعث من مطلوبيّة الكلّ ، وأثر صحّتها بهذا المعنى جواز المضيّ في الصّلاة ، وعدم مشروعية استئنافها ، إذ لا امتثال عقيب الامتثال ، فيترتّب على استصحابها هذا الأثر ، فليتأمّل.

ثمّ إنّا قد أشرنا فيما تقدّم أن لاستصحاب صحّة الأجزاء السابقة صورة لا يتطرّق إليها هذه المناقشات ، وهي استصحاب صحّتها عند الشكّ في وجود الناقض ، أو ناقضيّة الموجود ، كما لو شكّ في ناقضيّة الحدث الأصغر في أثناء غسل الجنابة. ومن هذا القبيل ما لو شكّ في خروج البول ، أو ناقضيّة المذي في أثناء الوضوء ، فانّه يستصحب في مثل الفرض أثر الاجزاء المأتي بها ، وهي تأثيرها في رفع الحدث لدى انضمام سائر الأجزاء إليها ، وهو أثر شرعيّ ثابت لها في السابق ، فيستصحب بلا إشكال وتأمّل.

والمناقشة المذكورة إنّما تتمشّى فيما إذا تعلّق الشكّ بالاجزاء اللّاحقة من حيث قابليتها للانضمام إلى السابق ، لا في مثل الفرض الذي نشأ الشكّ من احتمال انتقاض أثر الأجزاء السابقة لا غير ، كما لا يخفى.

٤١١

قوله قدس‌سره : وامّا الشرعيّة الاعتقادية فلا يعتبر الاستصحاب فيها ... الخ (١).

أقول : الأحكام الشرعيّة الاعتقادية ، هي النسب الجزئية التي يكون نفس معرفتها والإذعان بها من حيث هي مقصودة بالذات من طلبها ، مثل أنّ الله تعالى واحد ، وأنّه عادل ، وأنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّه ، وأنّ الله تعالى يحيي الموتى ويجازيهم ، إلى غير ذلك من تفاصيل البرزخ والمعاد ونحوها ، فمثل هذه الأحكام إمّا أن يكون معرفتها والإذعان بها واجبة أو مستحبّة أو جائزة.

وكيف كان ، فهذا النحو من الأحكام لا يعقل أن يتعلّق الشكّ بها بعد ثبوتها بدليل عقلي أو نقلي قطعي ، إلّا إذا كان من قبيل النبوّة والإمامة ونحوها ، ممّا أمكن كونه مغيّا بغاية.

فعمدة ما هو محطّ النظر في المقام إنّما هو التكلّم في صحّة استصحاب نبوّة نبيّ ، بعد الشكّ في انقضاء نبوّته ونسخها.

فنقول : إذا ثبت نبوّة نبيّ في زمان بدليل عقلي ، كما إذا علم بكونه أكمل أهل زمانه من جميع الوجوه التي لها دخل في استحقاق منصب النبوّة ، فحكم العقل بكونه نبيّا في ذلك الزمان ، أو دلّ دليل سمعي عليه كاخبار النبيّ السابق بنبوّته ، فشكّ في بقائها بعد وجود من يحتمل أكمليته منه ، يجب عليه عقلا الفحص عن حاله ، وتحصيل العلم ببقاء شريعته وعدم نسخها ، للخروج عن عهدة التكاليف الشرعية المنجرّة عليه بإبلاغ نبيّ زمانه ، كما أنّه يجب عليه أيضا ـ ذلك أي معرفة نبيّ زمانه شرط في الايمان ، وخروج المكلّف عن حدّ الكفر ـ فإذا تعذّر عليه تحصيل العلم بذلك ، امتنع بقاء وجوبه سواء كان نفسيا أو مقدّميا ، واستصحاب بقاء نبوّته غير مجد ، فانّه لا يؤثّر في حصول العلم كي يعقل بقاء حكمه.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩٠ سطر ٢٠ ، ٣ / ٢٥٩.

٤١٢

نعم ، لو قلنا بإفادته الظنّ وكفاية الاعتقاد الظنّي في الخروج عن حدّ الكفر ، امّا مطلقا أو لدى تعذّر العلم ، عوّل على استصحابه ، هذا بالنسبة إلى نفس الاعتقاد ووجوب الإذعان بالنبوّة.

وامّا استصحابها بملاحظة سائر الآثار العملية المتفرّعة على بقاء نبوّته ، أي استصحاب الشريعة السابقة التي لم يعلم نسخها ، فلا مانع عنه ، بل قد أشرنا فيما سبق إلى أنّ استصحاب أصل الشريعة من أظهر مصاديق الاستصحابات المعتبرة لدى العقلاء ، وأنّ اعتباره لديهم من باب عدم الاعتناء باحتمال نسخها ما لم يتحقّق لا من حيث الظنّ ولا من باب التعبّد ، فراجع.

قوله قدس‌سره : أو النقل القطعي (١).

أقول : تقييد النقل بالقطعي بحسب الظاهر بلحاظ خصوصية المقام ، وإلّا فلا مدخلية لقطعيته في المنع عن افادته الظنّ لدى الشكّ في بقائه ، بعد فرض عدم إفادة دليله القطعي ، إلّا القطع بثبوته في الزمان الأوّل في الجملة ، كما هو واضح.

قوله قدس‌سره : لأنّ الشكّ إنّما ينشأ من تغيّر بعض ما يحتمل مدخليته وجودا وعدما في المستصحب (٢).

أقول : هذا مانع عن جريان الاستصحاب رأسا ، فيما إذا كان المستصحب ثابتا بالعقل ، فضلا عن إفادته الظنّ كما عرفته في محلّه.

وامّا إذا كان ثابتا بالنقل ، فهو وإن لم يكن مانعا عن أصل جريانه ، بناء على الرجوع إلى العرف في تشخيص موضوع الاستصحاب لا العقل ، ولكنّه مانع عن

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩٠ سطر ٢٣ ، ٣ / ٢٥٩.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣٩٠ سطر ٢٣ ، ٣ / ٢٥٩.

٤١٣

إفادته الظنّ ، لما عرفت فيما سبق من أنّا لو سلّمنا إفادة الاستصحاب للظنّ ، فانّما هو في بعض صور الشكّ في الرافع ، لا في مثل هذه الموارد ، فانّ دعوى افادته للظنّ مطلقا حتّى في مثل هذه الموارد مجازفة صرفة ، كما لا يخفى على من راجع وجدانه ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : لأنّ نسخ الشرائع شائع ... الخ (١).

أقول : نسخ الشرائع السابقة لم يكن إلّا على سبيل التعاقب ، فشيوعه ليس إلّا كشيوع موت الأنبياء السابقين ، وكون مثل هذا الشيوع مانعا عن حصول ظنّ البقاء في المشكوك ، لا يخلو عن تأمّل.

هذا مع أنّ عدّ مثل النسخ الذي لم يتّفق حصوله من لدن آدم إلى زمان الخاتم إلّا كم مرّة أمرا شائعا ، بحيث يكون شيوعه مانعا عن ظنّ عدمه لدى الشكّ محلّ مناقشة ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : وممّا ذكرنا يظهر أنّه لو شكّ في نسخ أصل الشريعة ... الخ (٢).

أقول : قد أشرنا آنفا إلى أنّه لا مانع عن استصحاب أصل الشريعة ، بل هو من الاستصحابات المعتبرة لدى العقلاء ، كما هو واضح.

قوله قدس‌سره : والدليل النقلي الدالّ عليه لا يجدي ... الخ (٣).

أقول : ثبوت الدليل النقلي في خصوص الشريعة اللاحقة يجديه ، فضلا عن

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩٠ سطر ٢٥ ، ٣ / ٢٦٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ١ ، ٣ / ٢٦٠.

(٣) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ٣ ، ٣ / ٢٦٠.

٤١٤

ثبوته في كلتا الشريعتين ، كما سيعترف به المصنّف رحمه‌الله في الفرض الثاني ، حيث أنّ عدم ثبوت الشريعة اللاحقة أوجب تردده في حقيّة كلّ من المذهبين ، فوجب عليه بعد تعذّر العلم الاحتياط في مقام العمل ، بالجمع بين العمل بأحكام كلّ من الشريعتين بحكم العقل ، فإذا وجب عليه ذلك ورجع إلى النبيّ اللّاحق بحكم العقل ، فأمره النبيّ اللاحق بعدم نقض اليقين بالشكّ يجب عليه البقاء على دينه السابق حتّى يثبت نسخه ، لأنّه إن كانت الشريعة السابقة باقية على حالها غير منسوخة ، فقد أصاب في عمله ، وإلّا فقد بقي عليها بأمر النبي اللّاحق.

قوله قدس‌سره : بناء على أنّ مدّعى الدين الجديد ... الخ (١).

أقول : هذا البناء إنّما يتمّ فيما إذا كان المدّعي عارفا بجميع ما يمكن أن يستدلّ به للدين الجديد ، كما إذا كان المستدلّ نفس مدّعي النبوّة ، أو من هو بمنزلته ، وإلّا فعجز بعض رعيته عن إقامة البرهان على وجه يذعن به خصمه ، لا يورث الظنّ ببطلان أصل الدين ، فضلا عن القطع خصوصا إذا لم يكن المدّعي عارفا بطريق الاستدلال كأغلب العوام.

قوله قدس‌سره : وهذا الجواب بظاهره مخدوش ... الخ (٢).

أقول : لا وجه للخدشة فيه بما ذكر أصلا ، إذ ليس لنا طريق إلى إحراز نبوّة عيسى عليه‌السلام من غير تصديق نبيّنا ، إذ ليس نبوّة عيسى عليه‌السلام ثابتة في هذه الأعصار بتواتر معجزاته ، لعدم إمكان تحصيل القطع ببلوغ كلّ طبقة ممّن أخبر بأنّه عليه‌السلام كان

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ٥ ، ٣ / ٢٦٠.

(٢) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ٩ ، ٣ / ٢٦١.

٤١٥

يحيي الموتى حدّ التواتر ، بل ربّما يدّعى القطع بعدمه ، لأجل أنّ عدد الحواريين ـ على ما قيل مضبوط ـ ليس بالغا حدّ التواتر ، وإخبار غيرهم بمعجزاته غير معلوم ، فالإنصاف أنّه ـ لو أغمض عن إخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا يمكن إثبات نبوّة أحد من الأنبياء السابقين ، فكيف نبوّة عيسى عليه‌السلام الذي لم يعلم ببلوغ عدد من آمن به في زمانه حدّ عدد التواتر ، فإذا انحصر الطريق في إخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنا أن نقول إنّا نعترف بنبوّة كلّ عيسى وموسى أخبر بنبوّة نبيّنا ، لا لمجرّد كون الاخبار واجبا عليه ، ونعلم بصدوره منه ، بل لأنّ نبيّنا كما أخبر بنبوّته ، أخبر بأنّه قال للحواريين : ثمّ يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد ، فيكون هذا الأخبار عندنا ككونه مسمّى بعيسى بن مريم ، من العناوين التي يميّزها شخص النبيّ السابق ، كما أنّه لو كان نبينا مخبرا بأنّه كان أسمر اللون ، كنّا نقول إنّا نعترف بنبوّة عيسى بن مريم هو أسمر اللون ، وكون عيسى بن مريم شخصا واحدا وجزئيا حقيقيا ، لا يجدى في الاعتراف بنبوّته بعد فرض تخطّي الطريق عنه ، وعدم انطباقه عليه ، لأنّ المفروض إنّا علمنا باخبار نبيّنا (عليه وآله السلام) بأنّه كان في السابق شخص خلقه الله تعالى بقدرته من غير أب ، وكانت أمّه مريم واسمه عيسى ، وكان يخلق من الطين بهيئة الطير ، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وكان يبرئ الأكمه والأبرص ، ويحيي الموتى بإذن الله ، وكان ممّن أخبر بأنّه يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد ، فلو فرضنا عدم اتّصاف الشخص الخارجي الذي يزعمه النصارى نبيّا ، بشيء من العناوين المذكورة ، لا سبيل لنا إلى الاعتراف بنبوّته.

والحاصل : إنّ الطريق لدينا منحصر في اخبار نبيّنا ، فإذا انحصر الطريق بقوله فلا بدّ من أن نجعل قوله عنوانا لتشخيص مؤدّاه ، بأن نقول من كان هذه صفته وكان اسمه عيسى فهو نبيّ ، ومن لم يكن كذلك فلا نعرفه.

٤١٦

وفي جواب الإمام عليه‌السلام تنبيه على هذا النحو من المناظرة ، ولكنّ جوابه لا يرجع إليه ، فانّ طريقه للتشخيص ليس منحصرا بما ذكر ، بل هو كان عارفا بحال الأنبياء ومعجزاتهم وكتبهم وأخبارهم مفصّلا كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يكن يحسن منه المناظرة مع خصمه بمثل ذلك ، ولذا اعترف بمدّعاه في الجملة ، وقال في جوابه أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّت به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يبشّر به امّته ، فكأنّه قال إن كانت النصارى يريدون نبوّة الشخص الذي نحن نعترف بنبوّته ، فذلك الشخص أخبر بنبوّة نبيّنا ، وإن كانوا يريدون غيره فنحن ننكر نبوّته ، فكأنّ الجاثليق قال في جوابه مرادنا ذلك الشخص المعبود ، وعليكم إقامة البيّنة على ما تدّعون من أنّه أخبر بمجيء نبيّكم ، كما أنّ علينا إثبات نبوّته وكتابه بشاهدين إن أنكرتموه ، فمن تقبلون شهادته كنبيّكم وخواص أصحابه ، فاستحسن الإمام عليه‌السلام مناظرته وقال : «الآن جئت بالنصفة يا نصرانيّ» ، ثمّ ذكر أخبار خواص عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولا يخفى عليك أنّ هذا لا ربط له بشيء من الأجوبة الآتية ، ولا ينافي حجّية الاستصحاب على تقدير الشكّ وتعذّر تحصيل العلم ، فهو أجنبيّ عمّا نحن بصدده ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : لأنّ عدم التقييد مطابق للأصل ... الخ (١).

أقول : توضيح مراده أنّ الإطلاق له معنيان :

أحدهما : أن يكون صرف ذات الشيء ملحوظا موضوعا للحكم من غير ملاحظة شيء قيدا له حتّى إطلاقه ، وهذا موافق للأصل ، ولكنّه عبارة اخرى عن

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ٢٣ ، ٣ / ٢٦٣.

٤١٧

الإهمال والإجمال.

وثانيهما : الطبيعة المطلقة ، أي الموصوفة بصفة الإطلاق والتجرّد عن القيد السارية في جميع أفراد المطلق ، وهو بهذا المعنى مخالف للأصل ، لأنّه أيضا نوع من القيد يتوقّف إثباته على اجراء قاعدة الحكمة ونحوها ، وهي إنّما تجري على تقدير تمامية مقدّماتها لا مطلقا ، كما هو واضح.

قوله قدس‌سره : والحاصل أنّ هنا في الواقع ... الخ (١).

أقول : محصوله أنّ النبوّة في الواقع امّا مغيّاة إلى وقت خاص ، ومستمرّة إلى آخر الأبد ، فإن اريد بالنبوّة المطلقة الإطلاق بالمعنى الثاني الذي قلنا بمخالفته للأصل ، فهي عبارة عن النبوّة المستمرّة ، التي هي فرض دلالة الدليل عليها ، لم يبق معه مجال للاستصحاب ، وإن اريد بها الإطلاق بالمعنى الأوّل ، فهي عبارة عن النبوّة المردّدة بين الأمرين ، فهي ومطلق النبوّة سيّان في الترديد بين الأمرين ، فلا وجه لتسليم جريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

هذا ، والذي يظهر بالتدبّر في كلام المحقّق القمي رحمه‌الله أنّ ما اختاره في هذا المقام بعينه هو الذي اختاره المحقّق رحمه‌الله في محكيّ «المعارج» حيث قال :

«والذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم ، فإن كان يقتضيه مطلقا ، وجب الحكم باستمرار الحكم ، كعقد النكاح فانّه يوجب حلّ الوطي مطلقا ، فإذا وقع الخلاف في الألفاظ التي يقع بها الطلاق ، فالمستدلّ على أنّ الطلاق لا يقع به ، او قال حلّ الوطي ثابت قبل النطق بهذه الألفاظ فكذا بعده كان صحيحا» إلى آخر ما تقدّمت حكايته ، عند التكلّم في تقوية القول التاسع.

__________________

(١) فرائد الاصول : ص ٣٩١ سطر ٢٣ ، ٣ / ٢٦٣.

٤١٨

وتوضيح مراد المحقّقين : بحيث يندفع ما قد يتوهّم من أنّ مرجع ما ذكراه إلى التمسّك بالإطلاق لا بالاستصحاب ، هو أن بنائها على أنّه لا بدّ في إجراء الاستصحاب من إحراز كون المستصحب بحيث لو خلّى ونفسه لاستمرّ بقائه إلى زمان الشكّ ، فإن كان حيوانا وجب إحراز كونه من النوع الذي لو لم يعرض عارض يقتضي موته لبقي حيّا بحسب استعداده النوعي ، وإن كان من قبيل إباحة الوطي أو جواز التصرّف في ملك الغير ونحوه ، فلا بدّ من ملاحظة سببه ، فإن كان مردّد سببه بين ما يقتضيه مطلقا ، أو إلى غاية منقضية كعقد النكاح أو الانقطاع والإذن المطلق أو المؤقت ، والانتقال بالبيع أو بالإجارة ونحوها لم يجر الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب بعد إحراز كونه من النوع الذي يقتضي استمراره إلى زمان الشكّ ، بأن كان الشكّ في بقائه ناشئا من احتمال حدوث ما يؤثّر في رفعه ، وإن كان حكما شرعيا فلا بدّ فيه أيضا من إحراز كونه كذلك ، وهذا إنّما يعرف في الأحكام الشرعيّة من إطلاق أدلّتها ، وعدم أخذ غاية أو صفة زائلة قيدا في موضوعها ، بأن قال مثلا «الخمر حرام» و «الحجّ أو الصوم أو الصلاة ونحوها واجبة» من غير تقييدها بقيد أو تحديدها إلى غاية ، فانّه يفهم من مثل هذا التعبير أنّ هذه الأحكام ثابتة في الشريعة على الإطلاق ، ولكن لا على نحو امتنع رفعها ، بل ربّما يوجد ما يوجب رفعها من مرض أو سفر أو حيض أو واجب أهمّ ، أو غير ذلك من موانع التكليف ، فمتى شكّ في حدوث شيء من تلك الروافع ، أو في رافعية أمر موجود ـ كما في الشبهات الحكمية ـ احتيج إلى التمسّك بالاستصحاب.

ولا يجدي إحراز إطلاقها من حيث هي في جواز التمسّك بها على الإطلاق في موارد الشكّ.

ضرورة أنّه قلّما يكون للمطلقات إطلاق أحوالي من جميع الجهات ، بحيث يصحّ التمسّك بها في جميع موارد الشكّ ، ألا ترى أنّه لو شكّ في حل الغنم الموطوءة لا

٤١٩

يصحّ التمسّك بإطلاق مثل «أحلّ الله الغنم» بل يرجع إلى استصحاب حلّيته إن كان لها حالة سابقة ، وإلّا فإلى أصالة الحل.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك استقامة كلام المحقّق القمي رحمه‌الله في هذا المقام ، وعدم ورود شيء عليه من الإيرادات المزبورة في المتن عدا أنّ مقتضاه عدم حجّية الاستصحاب في الشكّ في المقتضى ، كما لعلّه ملتزم به بمقتضى اعتباره إحراز مقدار الاستعداد شرطا في صحّة الاستصحاب.

وملخّص مرامه : إنّه أبطل استصحاب النبوّة ، بأنّه لم يثبت اقتضاء دليلها ، لثبوت النبوّة في زمان الشكّ لو لا الرافع ، لجواز كونها في حدّ ذاتها محدودة إلى زمان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ دفع عن نفسه النقض باستصحاب سائر الأحكام الّتي ربّما يكون أدلّتها امورا لبيّة أو بشهادة مجملة لا يمكن إحراز اقتضائها للبقاء في زمان الشكّ من إطلاق أدلتها بأنّا علمنا بشهادة التتبّع والاستقراء ، أنّ الغالب في الأحكام الشرعية ـ في غير ما ثبت له حدّ كبعض الأحكام الخاصّة المتوجّهة على المكلّفين في زمان الحضور ـ ليست بائنة ولا محدودة إلى حدّ معيّن ، بل هي أحكام كلّية أراد الشارع ثبوتها ما دامت الشريعة باقية ، لا في خصوص هذه الشريعة ، بل في كلّ شريعة ، ولكن اكتفى الشارع غالبا في بيان هذه الأحكام التي أراد استمرارها بأدلّة مطلقة ـ كالأمثلة المزبورة ـ من غير أن يكون لها عموم أزماني وأحوالي ، كي يكون أدلّتها مغنية عن الاستصحاب في موارد الشكّ بمقتضى أصالة العموم أو الإطلاق ، بل أثبتها لموضوعاتها من حيث هي ، ولكن ظهر من الخارج أنّه أرادها على سبيل الاستمرار ، إلّا أن يدلّ دليل عقلي أو نقلي على رفعه ، أي علم بقرائن خارجية من التتبّع والاستقراء ، أو دليل الحكمة ونحوه أنّ المراد بها الإطلاق الذاتي الذي لا ينافيه الشكّ في ارتفاعه بالعوارض ، فمتى شكّ في رفعه يجب استصحابه.

هذا هو الشأن فيما ثبت من أحكامه بأدلّة مطلقة ، كما هو الغالب ، وما يشكّ في

٤٢٠