حاشية فرائد الأصول

الشيخ آقا رضا الهمداني

حاشية فرائد الأصول

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: المؤسّسة مهدي موعود « عج »
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٨

نظره بالخصوصية ، ما علم من اهتمامه في أمر الفروج ، وعدم رضا الشارع بالاقدام على الشبهة فيها ، إذا كانت مقرونة بالعلم الإجمالي ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : ليس بأولى من حمل الحرام على حرام خاصّ ... الخ (١).

أقول : وأولى من هذين الحملين حمل قوله عليه‌السلام «إن كان خلط الحرام الحلال» على ما إذا حصل الخلط عند العامل ، بإرجاع ضمير كان إليه ، فتكون هذه الرواية كغيرها من الأخبار الدالّة على جواز الأخذ من السارق والعامل والسلطان ونحوه ، ممّا يستند الحلّ فيه ـ بالنسبة إلى مورد الابتلاء ـ إلى قاعدة اليد ، السليمة عن المعارض ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : فإنّ الخلط يصدق مع الاشتباه (٢).

أقول : المتبادر منه إرادة المزج ، ولعلّ المراد بالحرام هو الحرام المعهود عندهم ، الذي كانوا يجعلونه في السّمن والجبن من أليات الأغنام ، والأنفحة المتّخذة من الميتة مع جلدها ، والله العالم.

قوله قدس‌سره : فانّه ذكر كلام صاحب «المدارك» في مقام تأييد ما قوّاه ... الخ (٣).

أقول : قال صاحب «المدارك» في شرح قول المحقّق رحمه‌الله : «ولو اشتبه الإناء النجس بالطاهر ، وجب الامتناع منهما» ما هذه صورته :

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤٦ سطر ١٨ ، ٢ / ٢١٧.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٤٧ سطر ١٠ ، ٢ / ٢٢٠.

(٣) فرائد الأصول : ص ٢٤٨ سطر ١١ ، ٢ / ٢٢٥.

٢٠١

«هذا مذهب الأصحاب ، والمستدلّ فيه ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام :

«قال : سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء ، وقع في أحدهما قذر ، لا يدري أيّهما هو؟ وليس يقدر على إناء غيره؟

قال عليه‌السلام : يهريقهما ، ويتيمّم».

وهي ضعيفة المستند بجماعة من الفطحية.

واحتجّ عليه في المختلف أيضا بأنّ بأنّ اجتناب النجس واجب قطعا وهو لا يتمّ إلّا باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب وفيه نظر ، فانّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه ، إلّا مع تحقّقه بعينه ، لا مع الشّك فيه ، واستبعاد سقوط حكم هذه النجاسة شرعا إذا لم يحصل المباشرة بجميع ما وقع فيه الاشتباه غير ملتفت إليه ، وقد ثبت نظيره في حكم واجدي المني في الثوب المشترك ، واعترف به الأصحاب في غير المحصور أيضا ، والفرق بينه وبين المحصور غير واضح عند التأمّل ، ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشّك بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجس بذلك الماء ، ولم يمنع من استعماله ، وهو مؤيّد لما ذكرنا فتأمّل» انتهى.

واعترضه في الحدائق بعد نقله بقوله :

«أقول : وجه الفرق بين ما نحن فيه وما فرضه قدس‌سره ممكن ، فانّ مقتضى القاعدة المستفادة من الأخبار بالنسبة إلى الاشتباه في المحصور ، أن يكون افراد الاشتباه أمورا معلومة معيّنة بشخصها ، وبالنسبة إلى غير المحصورة أن لا يكون ذلك. وما ذكر من المشار إليها إنّما هو من الثاني لا الأوّل ، على أنّ القاعدة المذكورة إنّما تتعلّق بالأفراد المندرجة تحت ماهية واحدة ، والجزئيّات التي تحويها حقيقة واحدة ، فإذا اشتبه طاهرها بنجسها ، وحلالها بحرامها ، فيفرّق فيها بين المحصور وغير المحصور بما تضمّنه تلك الأخبار ، لا وقوع الاشتباه كيف كان» انتهى.

٢٠٢

أقول : ما ذكره ضابطا بين الشّبهة المحصورة وغير المحصورة ، فهو لا يخلو عن جودة ، كما سنشير إليه إن شاء الله ، ولكن قصره مورد حكم الأصحاب بغير المحصورة ، لا يخلو عن نظر كما سيشير إليه المصنّف رحمه‌الله فتأمّل.

قوله قدس‌سره : فالظاهر عدم التفكيك في هذا المقام بين المخالفة القطعيّة والمخالفة الاحتماليّة ... الخ (١).

أقول : يعني عدم إمكان التفكيك بينهما في هذا المقام ، وهذا بخلاف المقام الأوّل ، أي ما إذا كانت المخالفة لخطاب معلوم بالتفصيل ، فانّه يمكن الالتزام فيه بالتفكيك ، امّا بدعوى أنّ العقل لا يستقل في باب الإطاعة إلّا بحرمة المخالفة القطعيّة دون الاحتماليّة ، أو بدعوى دلالة بعض الأخبار المتقدّمة عليه ، ببعض التقريبات المتقدّمة ، وشيء منهما لا يتمشّى في المقام ، لأنّه إذا علم بأنّ هذا الماء نجس ، أو ذلك الثوب أو الإناء الآخر الذي هو سكنجبين مثلا مغصوب ، يعلم إجمالا بتوجّه أحد الخطابين إليه بالنسبة إلى ما هو مورد ابتلائه ، امّا خطاب «لا تغصب» أو خطاب «لا تستعمل النجس» فحينئذ إن بنينا على أنّ العلم الإجمالي بتوجه أحد الخطابين المردّد بين خطاب «لا تغصب» و «لا تستعمل النجس» موجب لتنجّز التكليف به ، وعدم قبح المؤاخذة على مخالفته ، فلا يعقل الرخصة في ارتكاب شيء من الطرفين ، لأنّ احتمال كون ذلك الخطاب هو خطاب «لا تغصب» لا يقتضي إلّا ترك ذلك الثوب أو الإناء الذي يحتمل غصبيّته ، فبالتصرّف فيه يعلم تفصيلا بمخالفة ذلك الخطاب على تقدير تحقّقه ، وإن كان ذلك الخطاب هو خطاب لا تستعمل النجس فلا يحصل مخالفته إلّا باستعمال ذلك الماء المحتمل النجاسة ، فلا يعقل في مثل الفرض

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤٩ سطر ١٥ ، ٢ / ٢٢٨.

٢٠٣

الرخصة في ارتكاب بعض الأطراف ، والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ، إذ لا معنى للموافقة الاحتمالية في الفرض ، لأنّ التردّد إنّما هو في نفس الحكم المعلوم بالإجمال ، وامّا ما يحصل به مخالفته على كلّ من التقديرين ، فهو معلوم بالتفصيل ، وهذا بخلاف ما لو كان الخطاب معلوما بالتفصيل وتردّد متعلّقه بين أمرين ، بأن علم مثلا أنّ أحد الإنائين خمر ، فعند تركه لكلّ من الإنائين يحتمل خروجه عن عهدة ذلك الخطاب.

نعم ، في صورة العلم الإجمالي بالخطاب المردّد أيضا قد يعقل التفكيك ، كما إذا علم إجمالا بوجود خمر أو مغصوب في الإنائين ، من غير أن يكون احتمال الخمرية قائما بطرف بالخصوص ، والغصبية في طرف آخر ، بل احتمل في كلّ منهما كونه خمرا أو مغصوبا ، وعلم إجمالا بوجود أحد العنوانين فيما بين الأطراف ، فعند تركه لكلّ من الأطراف في هذا الفرض ، يحتمل خروجه عن عهدة ذلك التكليف المردّد ، ولكن غرض المصنّف رحمه‌الله بعدم جواز التفكيك بحسب الظاهر إنّما هو فيما إذا كان كلّ من الاحتمالين قائما بطرف بالخصوص ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وامّا حكمهم بوجوب دفع الضرر المظنون ... الخ (١).

أقول : ربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ مظنون الضرر كمقطوعه ، في حدّ ذاته موضوع للحرمة ، فالظنّ بالضرر أخذ موضوعا للحرمة ، فعلى هذا ينحسم مادة النقض من أصله ، وامّا بناء على كونه طريقا محضا ، فالحكم باستحقاق العقاب على مخالفته ـ على تقدير عدم المصادفة ـ مبنيّ على القول بترتّب العقاب على مخالفة الأحكام الظاهرية من حيث هي ، كما هو أحد الأقوال في المسألة ، بل لعلّه أشهرها ، ولكنّه ليس بمرضيّ لدى المصنّف رحمه‌الله ، كما يصرّح به في آخر المبحث ، فكان غرضه في

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٤٩ سطر ٢٥ ، ٢ / ٢٣٠.

٢٠٤

المقام توجيه حكمهم بالاستحقاق ، وبيان مقايسة ما نحن فيه على تلك المسألة لا الحكم بمثل هذا الحكم ، كي يتوجّه عليه الاعتراض بمخالفته لمذهبه ، من عدم استحقاق العقاب على مخالفة الطريق ، عند عدم الإصابة إلّا من حيث التجرّي ، على القول به ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : وكذا لو كان ارتكاب الواحد المعيّن ممكنا عقلا ... الخ (١).

أقول : ستعرف أنّ كون المنهيّ عنه محلّ ابتلاء المكلّف بالفعل ، ليس من شرائط التكليف ، بل هو كإرادة الفعل من مقدّمات حصوله ، ولكن خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء موجب لخروجه عن مجاري الاصول ، فيبقى الأصل الجاري في الطرف الآخر من حيث هو سليما عن المعارض.

قوله قدس‌سره : والأقوى الجواز (٢).

أقول : قد تقرّر في محلّه قوّة ما قوّاه ، من أنّ التقييد والتخصيص إذا كانا بقرينة منفصلة ، يقتصر فيهما على القدر المتيقّن ، فيرجع في موارد الشّك إلى أصالة الإطلاق أو العموم مطلقا ، إن كان المقيّد والمخصّص دليلا لبيان إجماع أو عقل ونحوه ، كما فيما نحن فيه ، وإن كان لفظيا فكذلك أيضا ، إذا كان اللفظ مجملا مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، ولكن بالنسبة إلى الموارد التي نشأ الشّك فيها من إجمال المفهوم ، كما لو أخذ عنوان الابتلاء قيدا مأخوذا من دليل سمعيّ ، وتردّد مفهومه بين ما لم يكن أجنبيّا عن المكلّف بالمرّة ، أو كان بالفعل مورد حاجته ، فحينئذ يرجع في موارد الشّك إلى الحكم المطلق.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥١ سطر ٣ ، ٢ / ٢٣٤.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٥٢ سطر ١٦ ، ٢ / ٢٣٨.

٢٠٥

وامّا إذا كان الشّك ناشئا من اشتباه الامور الخارجية ، بأن تردّد الثوب الخاصّ مثلا بين كونه ثوبه الذي بالفعل مورد حاجته ، وبين ثوب شخص آخر أجنبيّ عنه فلا ، بل يرجع إلى الاصول العملية الجارية في المقام.

ولا يخفى عليك أنّ سوق عبارة المصنّف رحمه‌الله يشعر بأنّه جعل المقام من قبيل التقييد بالمجمل ، كما يؤيّد ذلك تنظيره بسائر المفاهيم العرفيّة التي يتعذّر ضبط مفهومها ، فعلى هذا يتّجه التفصيل بين الشبهات المفهومية والمصداقية ، ولكن ما نحن فيه ليس كذلك ، إذ الحاكم بخروج غير المبتلى عن تحت أدلّة التكاليف هو العقل والعرف ، الذين لا يدور حكمهما مدار صدق مفهوم مجمل ، بل يتعلّق حكمهما بنفس المصاديق من حيث هي كما تبيّن في محلّه ، فيكون المتّجه حينئذ الرجوع إلى اصالة الإطلاق في جميع موارد الشّك ، من غير فرق بين الشبهات المفهومية والمصداقية.

هذا كلّه على تقدير تسليم كون إطلاقات ما دلّ على الاجتناب عن المحرّمات بحكم العقل والعرف مقيّدة بصورة الابتلاء ، وهو محلّ نظر ، بل منع كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا ، إذ ليس المقصود بتحريم شيء على المكلّف إلّا منعه عن ارتكابه ، بحيث لو أراد أن يرتكبه لم يجز له ذلك ، فمعنى قول الشارع «حرّم عليكم الميتة والخمر ولحم الخنزير» ، أنّه لزم عليكم الاجتناب عن هذه الامور ، فليس للمكلّف أن يبلى نفسه بشرب الخمر مثلا ، بحيث لو علم أنّه لو جعله من موارد ابتلائه ، يضطرّ إلى شربه بإكراه ونحوه ، وجب عليه أن لا يجعله كذلك ، لأنّ حرمته عليه مشروطة بكونه في مورد ابتلائه كي يلزمه جواز جعله من مورد الابتلاء في الفرض المزبور ، ضرورة أنّه لو كان الابتلاء شرطا في التحريم امتنع أن يكون التحريم سببا لحرمة نفس الابتلاء.

وامّا ما تراه من استهجان توجيه التكليف بالاجتناب عنه إلى غير المبتلى ، فهو ليس إلّا كقبح توجيه الأمر بفعل شيء ـ مثل الإنفاق على أولاده وزوجته ـ إلى

٢٠٦

من يفعله بمقتضى طبعه ، ولكن هذا الاستهجان العرفي فيما لو اريد بالنهي بعثه على ترك الفعل الذي هو خارج عن مورد ابتلائه ، ولا داعي له إلى ارتكابه ، أو اريد بالأمر بالإنفاق على أولاده بعثه على الفعل ، حيث لا يصلح أن يكون الطلب باعثا له على الترك أو الفعل ، فانّ الترك في الأوّل يحصل من المكلّف بمقتضى طبعه ، وكذلك الفعل في الثاني يصدر منه بمقتضى عادته ، سواء كان هناك طلب شرعي أم لا ، فالطلب حينئذ لغو مستهجن ، إن كان الغرض منه البعث على إيقاع المكلّف.

وامّا إذا كان المقصود به بيان لزومه ، وعدم جواز مخالفته ، كما في سائر التكاليف الشرعيّة ، فلا استهجان فيه ، كما أنّه لا استهجان في التصريح بأنّه يحرم عليه شرب الخمر ، ويجب عليه الإنفاق على زوجته ، فحرمة شرب الخمر ، وعدم جواز الصلاة في الثوب الحرير أو النجس ، أو غير ذلك من التكاليف ، غير مقيّدة بشيء ، ولكن لا يترتّب على هذه التكاليف أثر عملي فيما إذا لم يكن متعلّقها مورد ابتلاء المكلّف ، أو كان ولكن المكلّف لم يكن مريدا ، لارتكابه بالطبع أو بواسطة بعض الأغراض المقتضية لتركه ، إذ الترك حينئذ يستند إلى عدم المقتضى ، أو سائر الأسباب المقتضية له ، دون ذلك التكليف ، ففي مثل هذه الموارد لو وقع الشّك في بقاء حرمته ، لا يجري استصحاب الحرمة أو أصالة الحلّ ونحوها ، إذ لا معنى لاجراء الأصول إلّا ترتيب الأثر في مقام العمل ، وليس لمتعلّقه أثر على في الفرض ، لأنّه متروك على كلّ حال ، سواء كان حلالا أو حراما ، فلو كان بعض أطراف الشبهة المحصورة كذلك ، لا يجري الأصل فيه ، فيبقى الأصل في سائر الأطراف سليما عن المعارض ، وكذلك الكلام فيما لو علم وجوب شيء مردّد بين ما يصدر من المكلّف على كلّ تقدير ، وبين ما لا يكون كذلك ، كالإنفاق على ابنه أو شخص آخر ممّا يؤثّر إيجابه في إيقاعه في الكلفة.

هذا فيما إذا كان بعض الأطراف معلوما خروجه عن مورد الابتلاء ، وامّا مع

٢٠٧

الشّك في ذلك ، فمقتضى القاعدة وجوب الاحتياط ، للجهل بصلاحية الجهل يكون ما يرتكبه حراما عذرا في ارتكابه على تقدير حرمته ، فيجب التجنّب عنه تحرّزا عن العقاب المحتمل.

اللهمّ إلّا أن يقال ، إنّ إطلاقات أدلّة الاصول حاكمة على الأصل ، فانّ عدم شمولها لما هو مورد ابتلائه ، مع كونه في حدّ ذاته شيئا مشكوك الحرمة ، مبني على صلاحية الطرف الآخر للممانعة ، بأن يكون هو أيضا في حدّ ذاته شيئا مشكوك الحكم مشمولا للإطلاقات لو لا المعارضة ، وكونه كذلك موقوف على أن يكون ذلك الطرف أيضا في مورد ابتلائه ، بحيث يصحّ أن يتوجّه عليه خطاب منجز ، بالأمر بترتيب أثر الحلية والطهارة عليه في مقام عمله ، كما هو معنى إجراء الأصول ، وهذا المعنى غير محرز في المقام بالنسبة إلى ما يشكّ في كونه في موارد الابتلاء ، وما لم يحرز ذلك لا يصلح مانعا عن إعمال الأصل في الطرف الآخر ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : إلّا أن يقال إنّ المستفاد من صحيحة عليّ بن جعفر المتقدّمة ... الخ (١).

أقول : استفادة الضابط المذكور من الصحيحة موقوفة على انحصار محملها فيما ذكر وهو ممنوع ، بل ظاهر السؤال الواقع في الصحيحة أنّه لم يعلم إلّا اصابة نفس الإناء ، وحيث أنّ وصول شيء من تلك القطع إلى الإناء لا ينفكّ غالبا عن إصابة الماء أيضا ، تحيّر السائل في حكمه ، وأجابه الإمام عليه‌السلام بنفي البأس ما لم يظهر شيء من الدم في الماء ، وهذا الجواب بحسب الظاهر جار مجرى العادة ، من عدم حصول العلم بإصابة الماء في مثل الفرض ، إلّا بظهور الدّم فيه ، لأنّ ما عداه من الامارات كإصابة

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٢ سطر ١٧ ، ٢ / ٢٣٨.

٢٠٨

الإناء ، أو تفرّق أجزاء الدم ، أو تموّج الماء لا يورث غالبا إلّا الظّن بالإصابة لا القطع ، وبهذا ظهر لك ضعف الاستشهاد بهذه الصحيحة لمذهب الشيخ.

كما أنّه بما أشرنا إليه من أنّ إصابة الإناء أمارة ظنّية لإصابة الماء ، ظهر أيضا اندفاع ما قد يقال من أنّ عدم المناسبة بين اصابة الإناء ، والسؤال عن حكم الماء ـ خصوصا من مثل علي بن جعفر ـ قرينة على أنّ المراد امّا إصابة خصوص الماء ، فينطبق على مذهب الشيخ ، أو الأعمّ منه ومن الماء فيصير دليلا على جواز ارتكاب الشبهة المحصورة ، إذا كانت أطرافها من قبيل الماء ، وظهر الإناء في خروج بعضها عن مورد الابتلاء الفعلي ، وحيث تبيّن في محلّه ضعف ما ذهب إليه الشيخ يتعيّن المعنى الثاني ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : بناء على أنّ الاجتناب عن النجس ، يراد به ما يعمّ الاجتناب عن ملاقيه ولو بوسائط (١).

أقول : يعني أنّ المراد بالاجتناب عن النجس ، هو التباعد عنه على وجه لا يستعمل نفسه ، ولا ما يلاقيه في مطعوم أو مشروب ونحوه ، فعلى هذا لو اشتبه النجس في إناءين ولاقى ثوبه أحدهما ، وجب الاجتناب عن ثوبه أيضا ، إذ على تقدير أن يكون النجس ذلك الإناء الذي لاقاه الثوب ، لا يحصل الاجتناب عنه ما لم يجتنب عن ملاقيه ، فمتى علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ، فقد تنجّز في حقّه التكليف بالاجتناب عن ذلك النجس ، ولا يحصل الاجتناب عنه ـ على تقدير كونه هذا الاناء الذي لاقاه الثوب ـ إلّا بالاجتناب عنه وعن الثوب جميعا ، ولا يجدي حينئذ أصالة عدم ملاقاة الثوب للنجس الواقعي ، فيجب حينئذ من باب الاحتياط

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٢ سطر ٢٤ ، ٢ / ٢٣٩.

٢٠٩

الاجتناب عن جميع الأطراف ، مع كلّ ما لاقى شيئا منها ، وإلّا فلا يحصل القطع بالاجتناب عن ذلك النجس المعلوم.

واصالة عدم ملاقاة هذا الثوب للنجس غير مجدية ، فانّه لا يثبت بذلك أنّ الإناء الذي لاقاه هذا الثوب ليس بنجس ، كي يوجب ذلك القطع بحصول الاجتناب عن ذلك النجس المعلوم ، فاحتمال كون هذا الإناء هو ذلك النجس المعلوم بالإجمال موجب بوجوب ترتيب أثر النجس الواقعي على هذا الإناء من باب الاحتياط.

وإن شئت توضيح ذلك في ضمن مثال فنقول : إذا أمر المولى عبده بضيافة شخص وإكرامه ، وجب على العبد ـ بمقتضى العرف والعادة ـ إكرام ذلك الشخص مع كلّ من يتبعه من مواليه وخدمه ، فإكرام التابع هل هو من شئون إكرام المولى بحيث لولاه لم يحصل إكرام المولى ، بل يعدّ في العرف استخفافا به وإهانة له ، فليس له في حدّ ذاته حكم بحياله ، وإنّما الواجب إكرام المولى الذي لا يحصل إلّا بإكرامه مع كلّ من يتبعه ، أو إنّه تبعا للمولى يجب إكرامه ، فتبعيّته للمولى سبب لوجوب إكرامه من حيث هو بالتبع ، فيثبت في المقام حكمان :

أحدهما : بالأصالة وهو وجوب إكرام المولى.

وثانيهما : بالتّبع ، وهو وجوب إكرام التابع.

فعلى الأوّل ، لو تردّد ذلك الشخص الواجب إكرامه بين شخصين ، لا يدخل أحدهما إلّا ومعه خادم والآخر بلا خادم ، وجب إكرام الجميع من باب الاحتياط ، إذ على تقدير كونه ذلك الشخص الذي معه خادم ، لا يتحقّق إكرامه بدون إكرام خادمه.

وعلى الثاني ، لا يجب إكرام الخادم ، لأنّ الأصل براءة الذمّة عنه ، وعدم كونه خادما للشخص الذي علم إجمالا وجوب إكرامه ، فكذلك الكلام فيما نحن فيه.

٢١٠

فإن قلنا : بأنّ الاجتناب عن النجس لا يحصل إلّا بالاجتناب عنه وعن ملاقيه ، يجب الاحتياط في الجميع.

وإن بنينا على أنّ الاجتناب عن الملاقي حكم شرعي آخر تابع لدليله ، جرى بالنسبة إليه الأصل ، كما حقّقه المصنّف رحمه‌الله ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : كما استفيد نجاسة البلل المشتبه ... الخ (١).

أقول : هذا تنظر للمقام لا تمثيل.

قوله قدس‌سره : لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات فإن كان بعضا معيّنا (٢).

أقول : توضيح الفرق بين ما لو اضطرّ إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي ، وبين ما لو اضطرّ إليه بعده ، هو أنّ الاضطرار إلى الحرام رافع لحرمته واقعا ، إذ ما من حرام إلّا وقد أحلّه الله لمن اضطرّ إليه ، فمتى اضطرّ إليه ، فمتى اضطرّ إلى واحد معيّن ، يحتمل أن يكون ذلك المعيّن هو الحرام الواقعي ، المردّد المرتفع حرمته لأجل الاضطرار ، كما أنّه يحتمل أن يكون الحرام المعلوم ذلك الآخر ، فيكون حراما فعليّا ، فاتّصاف الحرام المعلوم إجمالا بصفة الحرمة فعلا غير معلوم ، فيرجع في الطرف الآخر ـ الذي يحتمل أن يكون حراما فعليّا ـ إلى أصل البراءة.

وإن شئت قلت : إنّ الواحد المعيّن الذي اضطرّ إليه حلال في حقّه جزما ، سواء كان نجسا أو خمرا أو نحو ذلك أم لم يكن ، والطرف الآخر شيء مشكوك الحلّية ، فيرجع فيه إلى الأصل السالم عن المعارض ، وهذا بخلاف ما لو اضطرّ إلى

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٣ سطر ٩ ، ٢ / ٢٤١.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٥٤ سطر ١٨ ، ٢ / ٢٤٥.

٢١١

واحد غير معيّن ، حيث أنّ الاضطرار لم يتعلّق بنفس الحرام ـ ولو على سبيل الاحتمال ، كما في الفرض السابق ـ بل تعلّق بما هو أعمّ من الحرام ، بحيث لو علم بالحرام تفصيلا لوجب عليه الاجتناب عنه ، واختيار الطرف الآخر ، وهذا دليل على أنّ ذلك الحرام المعلوم بالإجمال متّصف بالفعل بصفة الحرمة ، يجب التجنّب عنه مع الإمكان ، فانّ المعيار في تشخيص كون العلم الإجمالي منجز للتكليف وعدمه ، هو كون كلّ واحد من أطراف الشبهة على وجه لو علم المكلّف تفصيلا ـ بكون ذلك الحرام المعلوم بالإجمال ـ لتنجّز في حقّه التكليف بالاجتناب عنه ، ومقتضى كونه حراما بالفعل وجوب التجنّب عنه بترك جميع محتملاته ، وحيث تعذّر ترك الجميع ، حكم العقل بمعذوريّته في ترك البعض الذي اضطرّ إليه ، أي في المخالفة الاحتمالية الحاصلة بفعل هذا البعض لا مطلقا.

وبعبارة اخرى : توجيه الخطاب بالاجتناب عن ذلك الحرام المردّد بين الأطراف في الفرض الأوّل غير محرز ، وفي الثاني محرز ، وهو مقتضى لوجوب الاجتناب ، وما يصلح للمانعية عن تنجّزه ليس إلّا الاضطرار ، وهو لا يصلح للمانعية عن نفس الحرمة ولا عن تنجّزها رأسا ، وإنّما يمنع عن المؤاخذة على ارتكاب المحرّم ـ على تقدير تحقّقه ـ بفعل ما اضطرّ إليه لا غير ، فاحتمال مصادفة الحرام في سائر المحتملات التي لم يضطرّ إلى فعلها سبب تام لوجوب التجنّب عنها عقلا ، كما أنّه كذلك فيما إذا حصل الاضطرار بعد حصول العلم الإجمالي ، وإن تعلّق ببعض معيّن ، فإنّ الاضطرار الحاصل فيما بعد ليس إلّا كإراقة بعض أطراف الشبهة ، أو اتلافه أو خروجه عن مورد ابتلاء المكلّف ، ومن الواضح أنّ هذا لا يجدي في جواز ارتكاب سائر الأطراف التي وجبت التجنّب عنها ، لاحتمال مصادفتها للحرام الذي ينجّز التكليف بالاجتناب عنه بواسطة العلم.

فتلخّص ممّا ذكر : إنّه متى اضطرّ إلى واحد معيّن قبل العلم الإجمالي أو معه ،

٢١٢

رجع في حكم سائر الأطراف إلى قاعدة البراءة ، وإن اضطرّ إليه بعد العلم ، أو اضطر إلى واحد غير معيّن ـ سواء كان قبل العلم أم بعده ـ عمل في سائر الأطراف بما يقتضيه قاعدة الشّغل.

قوله قدس‌سره : قد يمنع الابتلاء دفعه في التدريجيات (١).

أقول : ما ذكره قدس‌سره فارقا بين التدريجي والدفعي في غاية الإشكال ، إذ لا امتناع عقلا ولا عرفا ، بل ولا استهجان أبدا في توجيه الخطاب إلى المكلّف ، بترك الفعل في زمان متأخّر عن زمان الطلب ، بأن قال مثلا «صمّ يوم الخميس» أو قال «لا تصمّ يوم الخميس» أو أمره بوطء زوجته في اليوم الأوّل من الشهر المقبل ، أو بترك وطيها في ذلك اليوم ، كما هو الشأن في جميع التكاليف الموقّتة ، فلو توقّف الخروج عن عهدة شيء منها على مقدّمة كالمشي إلى الحجّ مثلا ، لا يعذر المكلّف في مخالفتها بترك تلك المقدّمة ، التي يعلم بأنّه لو تركها يقع في مخالفة ذلك التكليف ، فإذا تردّد ذلك التكليف ـ وجوبيا كان أو تحريميا ـ بين أمرين مختلفين بالزمان ، وجب عليه الاحتياط بلا تأمّل ولا إشكال ، عدا الإشكال المعروف بالنسبة إلى جميع التكاليف الموقتة التي يجب التهيؤ للخروج عن عهدتها في وقتها قبل حضور أوقاتها ، وقد فرغنا عن حلّ هذا الإشكال في محلّه ، فتنظير هذه الموارد على ما كان بعض أطراف الشبهة خارجا عن مورد الابتلاء قياس مع الفارق ، إذ الخطاب بغير المبتلى به غير منجّز ، بمعنى أنّه ليس لوجوب الاجتناب عنه بالنسبة إلى المكلّف الذي ليس من شأنه الابتلاء به أثر عملي فيستهجن عرفا ، بل يقبح عقلا نهيه عنه لو اريد بذلك بعثه على الترك ، كما تقدّم توضيحه فيما سبق ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، فانّه بعد علمه

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٥ سطر ٢٣ ، ٢ / ٢٤٨.

٢١٣

بابتلائه بكلّ من الطرفين في زمانه ، ليس النهي عن اجتنابه مستهجنا ، بل هو نهي حقيقي يراد به الامتثال وترك الفعل في زمانه ، بحيث لو توقّف على مقدّمة متقدّمة وجب عليه تحصيلها ، ولكن في مسألة الحائض لا يجب الاحتياط ، لأجل الطرق المنصوبة لها شرعا في تشخيص أيّام حيضها ، مثل الرجوع إلى التميز وغيره ممّا ذكر في محلّه ، فتخرج بسببها عن موضوع مسألتنا حكما لا حقيقة.

وامّا مسألة التاجر ، فيجب عليه الإمساك عن المعاملات التي لا يعلم حكمها ، إذا احتمل ابتلائه بمعاملة ربوية ، وإن لم يكن له علم إجمالي أصلا ـ لأنّ الجاهل بالأحكام الشرعية ، إذا تمكّن من الفحص والتعلّم غير معذور اتفاقا ـ فيجب عليه امّا الاحتياط ، أو التعلّم دفعا للعقاب المحتمل ، وليس الجهل بالنسبة إليه عذرا عقليّا أو شرعيّا ، كما سيجيء تحقيقه عند تعرّض المصنّف رحمه‌الله لبيان حكم العامل بالبراءة قبل الفحص ، فهذا المثال خارج عمّا نحن فيه.

نعم ، لو عرف أحكامه ، وعلم إجمالا بأنّه يبتلى بمعاملة ربويّة في يومه أو شهره خطأ ، على وجه لا يلحق بغير المحصور ، لا يبعد أن يكون مثالا لما نحن فيه ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : ولكن الأظهر هنا وجوب الاحتياط ، وكذا في المثال الثاني من المثالين المتقدّمين (١).

أقول : ولعلّ نظره في إيجابه للاحتياط في المثال الثاني إلى ما أشرنا إليه ، من أنّه مورد للاحتياط مطلقا ، وإن لم يكن مقرونا بعلم إجمالي ، وفي المثال الثالث إلى أنّ المكلّف به في الحقيقة هو الوفاء بالنذر أو الحلف ، وهو تكليف وجوبي سواء كان متعلّقه فعل شيء أو تركه ، فعند اشتباهه في أمور محصورة يندرج في موضوع المسألة

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٦ سطر ٢ ، ٢ / ٢٤٩.

٢١٤

الباحثة عمّا لو اشتبه الواجب بغير الحرام ، وستعرف أنّ الحكم فيه وجوب الاحتياط ، وخروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء فعلا ، ممّا لا أثر له في تلك المسألة.

وامّا شبهة عدم تنجّز التكليف بالواجبات المشروطة ـ التي منها التكاليف المؤقتة ، إلّا بعد تحقّق شرائطها وحضور أوقاتها ـ فلا يعقل وجوب الاحتياط في مثل الفرض ، حيث أنّه فرع تنجّز التكليف بالواجبات ، فهي شبهة سارية غير مخصوصة بالمقام ، ضرورة عدم الفرق من هذه الجهة بين المقدّمات العلمية ، والمقدّمات الوجوديّة التي لا يتمكّن من فعلها إلّا قبل تنجّز تلك التكاليف ، كالمسير إلى الحجّ والغسل لصوم الغد ، وغير ذلك ممّا لا يحصى ، وقد اتّضح حلها في محلّه.

قوله قدس‌سره : لعدم جريان استصحاب الطهر (١).

أقول : وجهه واضح فانّها تعلم حينئذ بأنّها إمّا بالفعل حائض ، أو أنّها حاضت قبل هذه الأيّام ، فلا يبقى معه مجال لاستصحاب الطهارة ، حيث أنّها علمت إجمالا بانتقاضها في هذا الشهر وحدوث نقيضها.

لا يقال : فعلى هذا يجب الرجوع إلى استصحاب الحيض؟

لأنّا نقول : هذا أي استصحاب ضد الحالة السابقة أحد الأقوال في مسألة من تيقّن حدثا وطهارة ، وشكّ في المتأخّر منهما ، وستعرف في مبحث الاستصحاب ضعفه ، وأنّ الأقوى هو الرجوع إلى سائر الأصول الجارية في المقام ، فهي بعد أن علمت على سبيل الإجمال بعروض حالة حيضها في هذا الشهر ، وكونها فيما عدا أيّام حيضها طاهرة ، تندرج في موضوع تلك المسألة ، كما سيتّضح حالها إن شاء الله في ذلك المبحث.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٦ سطر ٦ ، ٢ / ٢٤٩.

٢١٥

قوله قدس‌سره : لأنّ فساد الرّبا ليس دائرا مدار الحكم التكليفي ... الخ (١).

أقول : يعني الحكم التكليفي المنجّز في مقام العمل ، كفساد الصلاة في المغصوب ، الدائر مدار تنجّز التكليف بالاجتناب عنه ، وعدم كونه معذورا في مخالفته ، وإلّا فدورانه مدار الحكم التكليفي الواقعي ، كفساد الصلاة الواقعة في اجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكله ، فلا مانع عن الالتزام في مواقع الشّك بحليّة أكله ، لأصالة الحلّ وبطلان الصّلاة الواقعة فيه ، لقاعدة الشّغل واصالة الفساد ، فكذلك الكلام في المقام ، فتدبّر.

قوله قدس‌سره : اللهمّ إلّا أن يقال إنّ العلم الإجمالي ... الخ (٢).

أقول : لا مسرح لهذا القول في المثال المزبور ، أي فيما إذا علم إجمالا بابتلائه في اليوم أو الشهر بمعاملة ربويّة ، فانّه قد علم تفصيلا بأنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ،) وكذا (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مخصّص بقوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا ،) فلا يجوز التمسّك بعموم شيء من الآيتين في شيء من المعاملات التي يشكّ في كونها ربويّة ، سواء كان هناك علم إجمالي بابتلائه بمعاملة ربويّة أم لا ، لما تقرّر في محلّه من عدم جواز التمسّك بالعمومات في الشّبهات المصداقية.

نعم ، لهذا الكلام مجال فيما إذا علم إجمالا بفساد بعض المعاملات التي ليس بعض أطرافه مورد ابتلائه ، كما لو علم إجمالا بأنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مخصّص امّا بالنسبة إلى بيع الخبز واللّحم ونحوه ممّا يبتلى به المكلّف عادة ، أو بالنسبة إلى بيع السّمور والفنك ونحوه ممّا لم يعرف حقيقته ، ولا يتّفق الابتلاء به بمقتضى العادة ، وسوق عبارة المصنّف رحمه‌الله يشعر بإرادته ما هو مثل هذا الفرض ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٦ سطر ٧ ، ٢ / ٢٤٩.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٥٦ سطر ١٠ ، ٢ / ٢٥٠.

٢١٦

فكأنّه أغمض عن خصوصية المثال ، وأراد بيان الحكم فيما كان الشبهة فيه حكمية لا موضوعيّة خارجيّة كما في مثال الرّبا ، فتأمّل.

قوله قدس‌سره : لكن الظّاهر الفرق بين الاصول اللفظية والعمليّة (١).

أقول : الفرق بينهما في بادئ الرأي هو أنّ العبرة في باب الألفاظ بظهور اللفظ من حيث هو ، في كون مدلوله مرادا للمتكلّم ، وكون المدلول موردا لابتلاء المكلّف في مقام عمله ممّا لا مدخلية له في ذلك ، فمتى علم إجمالا بورود تخصيص أو تقييد أو ارتكاب تجوّز بالنسبة إلى شيء من الظواهر ، عرضه الإجمال وسقط عن الاعتبار ، من غير فرق بين كون أطراف ما علمه بالإجمال موردا لابتلاء المكلّف وعدمه.

هذا ، ولكن التحقيق أنّ العلم الإجمالي الذي يكون بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء ، لا يصلح مانعا عن العمل بما يقتضيه الشّك في الطّرف الآخر الذي هو محلّ الابتلاء ، من الرجوع إلى الأصول المقرّرة للشّك ، لفظيّة كانت أم عمليّة ، ولكن فرّق بين ما هو مناط الابتلاء في مجاري الأصول اللفظيّة والعملية ، فانّ العبرة في الأوّل يكون ممّا يجري فيه الأصل ، مورد ابتلاء المكلّف من حيث الحاجة إلى معرفة ما أراده المتكلّم بهذا الكلام ، بحسب أغراضه الباعثة على فهمه ، سواء كان لمدلوله أثر عملي بالنسبة إليه أو إلى شخص آخر ، أم لم يكن أصلا ، بل كان من قبيل القصص والحكايات ، فلو علم العبد إجمالا باشتمال الكتابة التي أرسلها مولاه إليه على فقرات لم يقصد بها ظواهرها ، وأشهد تلك الفقرات بغيرها ، لم يجز له الاعتماد على ظواهر شيء منها. لمعارضة أصالة الحقيقة في كلّ فقرة منها بجريانها في ما

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٦ سطر ١٢ ، ٢ / ٢٥٠.

٢١٧

عداها ، فيعرضها الإجمال. وهذا بخلاف ما لو علم إجمالا إمّا بكون هذا الكتاب كذلك ، أو كتاب آخر أرسله إلى شخص آخر ، أو كتابة اخرى مرسلة من شخص آخر إليه ممّا لا حاجة له إلى معرفتها ، ولو كانت تلك الكتابة أيضا ككتابة مولاه ، ممّا لا بدّ له من معرفة مدلولها والخروج عن عهدة ما فيها من التكاليف ، وجب عليه الأخذ بظواهر كلّ منهما من باب الاحتياط ، حيث أنّ المورد حينئذ يصير من قبيل اشتباه الحجّة باللاحجّة ، وهذا بخلاف ما لو كان العلم متعلّقا بخصوص أحد الكتابين ، فانّه ليس من هذا القبيل ، كما سيأتي توضيحه في مبحث الاستصحاب إن شاء الله.

وهكذا الكلام في الكتب المصنّفة الواصلة إلينا ، فلو علم إجمالا باشتمال شيء منها على كنايات واستعارات وتجوّزات كثيرة ، لا يفي ببيانها القرائن المحفوفة بها ، أو اشتماله على أغلاط كثيرة وتحريفات مغيّرة للمعاني ، على وجه أحدّ من الشّبهة المحصورة ، لا يجوز نسبة شيء ممّا يظهر من فقراتها ـ التي هي أطراف الشبهة ـ إلى المصنّف ذلك الكتاب ، ولو علم إجمالا بأنّ الرسالة العملية التي للتقليد كذلك ، أو شيئا من كتب التواريخ التي لا حاجة له إلى معرفة مضامينها ، لا يقدح ذلك في جواز العمل بظواهر الرسالة.

وكيف كان ، ففي مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) ونحوها لا يجوز الأخذ بعمومها ، بعد العلم الإجمالي بطروّ تخصيص عليها ، من غير فرق بين أن يكون الخاصّ بالفعل مورد ابتلاء المكلّف وعدمه ، فانّ هذه العمومات هي مورد ابتلاء المكلّف ، وقد عرضها الإجمال بعد العلم بعدم إرادة حقيقتها ، ولا يجدي في ذلك اشتباه المخصّص وتردّده بين امور ليس بعضها مورد ابتلاء المكلّف في مقام العمل ، لما أشرنا إليه من أنّ العبرة في المقام بالحاجة إلى معرفة حكمها في استكشاف ما اريد بهذه العمومات ، فلاحظ وتدبّر.

٢١٨

قوله قدس‌سره : فانّ دعوى عدم شمول ما دلّ على وجوب حفظ الفرج عن الزنا ... الخ (١)

أقول : لا يظنّ بأحد أن يدّعي الانصراف في مثل هذه التكاليف المشتركة ، المعلوم تعلّقها بكلّ مكلّف حتى الخنثى ، وإن قيل بأنّه طبيعة ثالثة لا رجل ولا انثى ، فلا يعمّه الأدلّة السمعية الدالّة على أنّه يجب على الرّجال والنساء حفظ فروجهم ، ولكن يفهم حكمه من اشتراك الطائفتين في مثل هذه التكاليف بتنقيح المناط ، فالذي يدّعي الانصراف بحسب الظاهر لا يدّعيه إلّا بالنسبة إلى التكاليف المخصوصة بإحدى الطائفتين ، كوجوب صلاة الجمعة على الرجال ، ووجوب ستر سائر الجسد عن النظر وفي الصلاة عن النساء.

وهذه الدعوى غير بعيدة ، ولكنّ الظاهر أنّ الانصراف بدوي منشؤه عدم وضوح حال الفرد ، بحيث لو علم باخبار معصوم ونحوه أنّه من هذا الصنف أو ذاك ، لا يكاد يشكّ بأحد في استفادة حكمه من الإطلاقات ، فليتأمّل.

قوله قدس‌سره : بناء على العمل بالأصل فيهما ... الخ (٢).

أقول : لو بنينا على أنّ العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع غير مانع عن جريانهما ، ما لم يستلزم مخالفة عملية لما علمه بالإجمال ، فالمتّجه على القول بعدم جواز ارتكاب شيء من الأطراف أيضا ، الفرق بين ما كان الأصل في كلّ واحد من المشتبهين في نفسه هو الحلّ أو الحرمة ، فيحكم في الأوّل بوجوب تركهما من باب الاحتياط ، وفي الثاني لأجل استصحاب الحرمة الحاكم على قاعدة الاشتغال ، ويظهر الثمرة في ترتيب الآثار الخاصة المرتّبة على الحرام الواقعي ، كنجاسة ملاقيه ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٧ سطر ١ ، ٢ / ٢٥٣.

(٢) فرائد الأصول : ص ٢٥٧ سطر ٨ ، ٢ / ٢٥٤.

٢١٩

فلو كان الإناءان معلومي النجاسة سابقا ، جرى الاستصحاب فيهما ، وتفرّع عليه الحكم بنجاسة الجسم الملاقي لأحدهما ، وهذا بخلاف ما لو حكمنا بوجوب الاجتناب عنهما من باب الاحتياط ، كما عرفته فيما سبق. ولكنّك عرفت في مبحث العلم الإجمالي إجمالا أنّ المبنى فاسد ، وسنشير إليه أيضا فيما بعد ، وتمام الكلام فيه في مبحث الاستصحاب.

قوله قدس‌سره : ولا يلزم هنا مخالفة قطعية في العمل ... الخ (١).

أقول : هذا بمنزلة البرهان للعمل بالأصل فيهما ، ولكن يرد عليه أنّ المانع عن جريان الأصل فيهما هو العلم بمخالفته للواقع ، لا بمخالفة الحكم المعلوم بالإجمال ، فانّ عدم الالتزام بنجاسة كلا الإنائين المعلوم صيرورة أحدهما طاهرا ، ليس نقضا لليقين بالشكّ كي يعمّه أدلّة الاستصحاب ، بل هو نقض لليقين باليقين ، وكيف لا وإلّا لم يكن يتفاوت الحال في ذلك بين أن يكون لمعلومه بالإجمال أثر علمي أو لا يكون ، فليس مفاد تلك الأدلّة وجوب الالتزام ببقاء نجاسة كليهما ، إذ لا شكّ في عدم كونهما كذلك ، ولا بقاء نجاسة أحدهما معيّنا ، لأنّه ترجيح بلا مرجّح ، ولا مخيّرا فانّ أحدهما المخيّر ليس بفرد ثالث غير هذين الفردين اللّذين لا يمكن أن يشمل شيئا منهما أدلّة الاستصحاب ، وسيأتي مزيد توضيح ذلك في محلّه إن شاء الله.

فالحقّ أنّ العلم الإجمالي مانع عن اجراء الأصول مطلقا ، سواء استلزم ذلك مخالفة عملية لمعلومه بالإجمال أم لا ، فليس لمن جوّز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام أن يلتزم بالتفصيل المزبور.

__________________

(١) فرائد الأصول : ص ٢٥٧ سطر ٨ ، ٢ / ٢٥٤.

٢٢٠