واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدراً ، فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعاً فعليهم غضب الله ولهم عذاب عظيم».

ثمّ أخرج ما يؤيّد هذا القول عن ابن عباس أنّه قال : «فأمّا من اكره فتكلّم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم» (١).

وقال أبو بكر الجصاص الحنفي (ت / ٣٧٠ ه‍) بعد أن أخرج عن معمر رواية أبي عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر المتقدّمة : «هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه ، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه ، أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به ، فأُبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر» (٢).

ثمّ ذكر بعد ذلك إنّ الإكراه بالقتل ، وتلف الأعضاء على شرب الخمر ، أو أكل الميتة لا بدّ فيه من امتثال المكرَه ، وإن لم يفعل كان آثماً ، لأنّ الله عزوجل قد أباح له ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس ، مستدلاً بقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٣) (٤).

ثمّ أخذ في بيان الامور التي تصحّ فيها التقية وعدّ منها القذف ، والامور التي لا تصحّ فيها كالقتل والزنا وشبههما ممّا فيه مظلمة على الإنسان (٥).

__________________

(١) جامع البيان / الطبري ١٢٢ : ١٤.

(٢) أحكام القرآن / الجصاص ١٩٢ : ٣.

(٣) الأنعام ١١٩ : ٦.

(٤) أحكام القرآن / الجصاص ١٩٣ : ٣.

(٥) أحكام القرآن / الجصاص ١٩٤ : ٣.

٤١

وذكر أبو الحسن الماوردي الشافعي (ت / ٤٥٠ ه‍) عن ابن الكلبي ، إنّ الآية نزلت في عمار بن ياسر وأبويه ياسر وسمية ، وصهيب ، وخباب ، أظهروا الكفر بالإكراه وقلوبهم مطمئنة بالإيمان. ثمّ قال : «فإذا أُكره على الكفر فأظهره بلسانه وهو معتقد الإيمان بقلبه ، ليدفع عن نفسه بما أظهر ، ويحفظ دينه بما أضمر ، فهو على إيمانه ، ولو لم يضمره لكان كافراً» (١).

وبيّن الواحدي المفسّر الشافعي (ت / ٤٦٨ ه‍) كيف أنّ الذين لا يؤمنون بآيات الله يفترون الكذب ، ذلك لأنّهم يقولون لما لا يقدر عليه إلا الله تعالى : إن هذا من قول البشر ، مشيراً بذلك إلى الآيات المتقدمة على هذه الآية في سورة النحل ، قال : ثمّ سمّاهم كاذبين بقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٢).

ثمّ قال في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) : «ثمّ استثنى المكره على الكفر (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفّظ بكلمة الكفر (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)» (٣).

وقال الفقيه السرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ ه‍) عن جواز إظهار الكفر تقية في حالة الإكراه ، كما نصّت عليه هذه الآية ما نصّه : «رخّص فيه لعمار بن ياسر رضي الله عنه ، إلا أنّ هذا النوع من التقية يجوز لغير الأنبياء ، والرسل عليهم الصلاة والسلام ، فأمّا في حقّ المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين فما كان يجوز ذلك فيما يرجع إلى أصل الدعوة إلى الدين الحقّ ، وقد جوّزه بعض الروافض لعنهم الله» (٤).

__________________

(١) تفسير الماوردي المسمّى ب : (النكت والعيون) ٢١٥ : ٣.

(٢) النحل ١٠٥ : ١٦.

(٣) تفسير الواحدي ٤٦٦ : ١ مطبوع بهامش تفسير النووي المسمّى ب : (مراح لبيد).

(٤) المبسوط / السرخسي ٢٥ : ٢٤.

٤٢

أقول : اتّفق علماء الشيعة عن بكرة أبيهم على أنّه لو فرض حدوث ما لم يعلم جهته إلا من إمام ، كان في هذه الحال كالنبيّ (ص) ، لا تجوز عليه التقية قطعاً ، لأنّه يلزم من التقية في هذه الصورة الإغرار بالقبيح الذي لا يمكن تصوّر صدوره عن معصوم.

ولا شكّ أنّ ما يتعلّق بأصل الدعوة والدين هو من الوحي الذي لا تعلم جهته إلا من النبيّ ، ولذلك فالشيعة لا تجوز عليه (ص) التقية في ذلك قطعاً.

أمّا الجائز من التقية عند الشيعة الإمامية على مطلق المعصوم ، فهو كالجائز منها على النبيّ (ص) عند أهل السُّنّة ، وهو ما لا يخلّ بالوصول إلى الحقّ ، وسيأتي ما يدل عليه في المصدر الثاني من مصادر تشريع التقية.

وربّما قصد الإمام السرخسي بقوله : «بعض الروافض» غلاة الشيعة كالخطابية لعنهم الله ، إذ لا يبعد أن يكون لديهم مثل هذا الاعتقاد السيّئ ، ولكن نسبة القول بذلك إلى «بعض الروافض» دون تشخيصهم ، فهو على الرغم ممّا فيه من التنابز إلا أنّه قد يُوهم البعض بأنّ المقصود هم الشيعة الإمامية نظراً لما يقوله سائر علماء الشيعة في سبب الوعيد الذي سبق حديث الغدير ، وربّما يكون هو المقصود.

فإن كان ما عناه سامحه الله هو هذا ، فنقول :

إنّ ما سبق حديث الغدير من وعيد قد بيّنه تعالى بقوله الكريم : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١).

__________________

(١) المائدة ٦٧ : ٧.

٤٣

فالوعيد الموجّه إلى النبيّ (ص) في هذه الآية لا شكّ فيه ، وهو لا يدل على تهاون النبيّ (ص) في أمر الدين ، أو توانيه فيما انزل إليه ، وعدم اكتراثه بشأن الوحي ، وكيف يمكن تصوّر صدور مثل هذا القول عمّن قال بعصمة جميع الأنبياء (ع) ، ونزاهتهم عن كل نقص؟!

بل المراد من ذلك في نظر علماء الشيعة الإمامية ومن وافقهم من علماء أهل السُّنّة هو أنّ النبيّ (ص) قد تريّث بعض الشيء لجسامة التبليغ الذي عدّه الله عزوجل موازياً لثقل الرسالة كلّها ، ريثما يتمّ تدبير الأمر من تهيئة مستلزماته ، كجمع حشود الحجاج الذين كانوا معه (ص) ، وتمهيد السبيل أمام هذه الحشود لكي تقبل نفوس بعضهم مثل هذا التبليغ ، لا سيّما الأعراب الذين أسلموا أخيراً ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم.

ولا يمنع أن يكون النبيّ (ص) قد خشي من بعضهم لأجل ما انزل عليه ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ،) على أنّ هذه الخشية لم تكن على نفسه الطاهرة ، فهو لا يخشى في الله لومة لائم ، وإنّما كانت على التبليغ نفسه إذ تفرّس (ص) مخالفته فأخّر التبليغ إلى حين ، ليجد له ظرفاً صالحاً وجوّاً آمناً عسى أن تنجح فيه دعوته ، ولا يخيب مسعاه ، فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل ، وبيّن له أهمية هذا التبليغ ، ووعده أن يعصمه من الناس ، ولا يهديهم في كيدهم ، ولا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة (١).

وهكذا تمّ التبليغ بخطبة وداع وعلى أحسن ما يرام بعيداً عن كل أجواء التقية ، إلا أنّه مع الأسف قد اضطرّ بعض من سمع التبليغ إلى التقية في عدم

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن / السيد محمّد حسين الطباطبائي ٤٦ : ٦.

٤٤

روايته كما سنثبته في الفصل الثاني من هذا البحث.

أمّا من أراد أن يفسّر تريّث النبيّ (ص) بالوجه المتقدّم على أنّه من التقية المصطلح عليها فليس بذاك ، وإنّما هي تقية ليست من قبيل دفع الضرر المحتمل عن النفس أو العِرض أو المال ، فهذا التفسير يكذّبه قوله تعالى في مدح رسله عليهم‌السلام والشهادة لهم بانّهم هم : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (١) ، وإنّما هي تقية لأجل هذا التبليغ ممّن كان المترقّب من حالهم أنّهم سيخالفونه مخالفة شديدة قد تصل إلى تكذيبه (ص). ومن تصفّح الجزء الأوّل من موسوعة الغدير للعلامة الأميني رحمهُ اللهُ (ت / ١٣٩٠ ه‍) سيجد الكثير ممّن وافق الشيعة الإمامية من علماء أهل السُّنّة على صحّة هذا التفسير.

ولعلّ من المناسب هنا أنّ نذكر قول ابن قتيبة (ت / ٢٧٦ ه‍) عن آية التبليغ. قال : «والذي عندي في هذا أنّ فيه مضمراً يبيّنه ما بعده ، وهو أنّ رسول الله (ص) كان يتوقّى بعض التوقّي ، ويستخفي ببعض ما يؤمر به على نحو ما كان عليه قبل الهجرة ، فلمّا فتح الله عليه مكّة ، وأفشى بالإسلام أمرَهُ أن يبلِّغ ما ارسل إليه مجاهراً به غير متوقّ ، ولا هائب ، ولا متألف. وقيل له : إن أنت لم تفعل ذلك على هذا الوجه لم تكن مبلِّغاً لرسالات ربّك. ويشهد لهذا قوله بعدُ : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : يمنعك منهم ، ومثل هذه الآية قوله : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٢)» (٣) ، انتهى بلفظه.

__________________

(١) الأحزاب : ٣٩ : ٣٣.

(٢) الحجر ٩٤ : ١٥.

(٣) المسائل والأجوبة في الحديث والتفسير / ابن قتيبة : ٢٢٢.

٤٥

وهذا القول هو الذي رفضه الإمام الفقيه السرخسي ، والشيعة قاطبة تؤيّده على هذا الرفض.

ولنعد بعد هذا إلى جواز التلفّظ بالكفر تقية ، والقلب مطمئن بالإيمان ، كما مرّ في الآية الثانية المتقدّمة ، ودلالتها عند المفسّرين وغيرهم ، فنقول :

استدل الكيا الهراسي الشافعي (ت / ٥٠٤ ه‍) بهذه الآية على جملة من الأحكام فقال : «وذلك يدلّ على أنّ حكم الردّة لا يلزمه .. إنّ المشرّع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر .. واستدلّ به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المكرَه ، وعتاقه ، وكل قول حمل عليه بباطل ، نظراً لما فيه من حفظ حقّ عليه ، كما امتنع الحكم بنفوذ ردّته حفظاً على دينه» (١).

قال الزمخشري المعتزلي (ت / ٥٣٨ ه‍) في تفسير الآية المتقدّمة : «إنّما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منهم المكرَه ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (٢). ثمّ نقل قصة عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ ه‍) ، وما فعله مسيلمة الكذاب (ت / ١٢ ه‍) بالصحابيّين ، وكيف أنّ أحدهما قد شهد للكذاب تقية أنّه رسول الله.

أمّا ابن عطية الأندلسي الغرناطي المالكي (ت / ٥٤١ أو ٥٤٢ أو ٥٤٦ ه‍) فقد بيّن أنّ المراد من الكاذبين في قوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٣) ، هم : عبد الله بن أبي سرح ، ومقيس بن صبابة وأشباههما ممّن كان آمن برسول الله ثمّ ارتدّ. ثمّ قال :

__________________

(١) أحكام القرآن / الكيا الهراسي ٢٤٦ : ٣.

(٢) الكشاف / الزمخشري ٤٤٩ : ٢ ٥٥٠.

(٣) النحل ١٠٥ : ١٦.

٤٦

«فلمّا بيّن في هذه الآية أمر الكاذبين بأنّهم الذين كفروا بعد الإيمان ، أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذّبين بمكّة ، وهم : بلال ، وعمار ، وسمية امّه ، وخباب ، وصهيب وأشباههم ، وذلك أن كفار مكّة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء الضعفة ، يعذّبونهم ليرتدوا ، فربّما سامعهم بعضهم بما أرادوا من القول ، يُروى أنّ عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله من هذه الآية ، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده» (١).

ثمّ بيّن بعد ذلك ما يتعلّق بآية التقية من مسائل الإكراه فقال : «ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه :

أمّا من عذّبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه ، وكان العذاب يؤدّي إلى قتله فله الإجابة باللسان ، قولاً واحداً فيما أحفظ. فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ، ففي هذا اختلاف :

فقالت فرقة هي الجمهور : يجيب بحسب التقية.

وقالت فرقة : لا يجيب ويسلم نفسه.

وقالت فرقة : إن كان السجود نحو القبلة أجاب ، واعتقد السجود لله ..» (٢).

ثمّ أشار إلى حالات الإكراه التي تصحّ فيها التقية ، ولا يلزم المكره بشيء منها كالإكراه على البيع ، والأيمَان ، والطلاق ، والعتق ، والإفطار في شهر رمضان ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك من المعاصي ، ثمّ أكّد أنّ ما بيّنه هو المروي عن مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) من طريق مطرف ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ.

__________________

(١) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / ابن عطية الأندلسي ٢٣٤ : ١٠.

(٢) م. ن. ٢٣٥ : ١٠.

٤٧

وذكر بعد هذا أنّ التقية على مثل هذه الامور لا يشترط أن تكون من أجل المحافظة على النفس من التلف ، لتعدّد مصاديق الإكراه التي تسوغ معها التقية. فقال : «قال مالك : والقيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقّق ظلم ذلك المتعدي ، وانقاذه لما يتوعّد» (١).

أمّا ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ ه‍) ، فقد فصل القول في هذه الآية ، وذكر فيها تسع مسائل ، نذكرها باختصار ، وهي :

المسألة الاولى : نزول الآية في المرتدين ، مع الإحالة إلى ما بيّنه من أحكام المرتدّين في سورة المائدة.

المسألة الثانية : استثناء من تكلّم بالكفر بلسانه عن إكراه ، ولم يعقد على ذلك قلبه ، فإنّه خارج عن حكم المرتدّ ، معذور في الدنيا ، مغفور له في الآخرة.

ثمّ أكّد بعد هذا أنّ التهديد على عمل معين إذا كان من قادر ظالم تصحّ معه التقية ويسقط عن صاحبها الإثم في الجملة ، إلا في القتل ، وادّعى عدم الخلاف بين الامّة في حرمة القتل تحت طائلة الإكراه.

وسيأتي عنه في المسألة السادسة خلاف هذا الادّعاء!!

ثمّ قال : «واختُلف في الزنا ، والصحيح أنّه يجوز له الإقدام عليه ، ولا حدّ عليه ، خلافاً لابن الماجشون ، فإنّه ألزمه الحدّ ، لأنّه رأى انّها شهوة خلقية لا يتصوّر عليها إكراه ، ولكنّه غفل عن السبب في باعث الشهوة ، وانّه باطل.

__________________

(١) المحرّر الوجيز ٢٣٦ : ١٠.

٤٨

وأمّا الكفر بالله فذلك جائز له بغير خلاف ، على شرط أن يلفِظَ بلسانه ، وقلبه منشرح بالإيمان».

المسألة الثالثة : احتجّ بهذه الآية على أنّ الكفر ليس بقبيح لعينه وذاته ، إذ لو كان كذلك لما حسنه الإكراه.

ولا يخفى ما فيه ، لأنّه لو سُئل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يكفر بكل تشريع سماوي ، ما ذا تقول؟ أيهما القبيح عندك؟ الظلم ، أو العدل والإحسان؟ فما ذا سيكون جوابه؟

المسألة الرابعة : ان الكفر بالإكراه جائز ، ومن صبر ولم يكفر تقية فقتل فهو شهيد.

قال : «ولا خلاف في ذلك ، وعليه تدلّ آثار الشريعة التي يطول سردُها ، وإنّما وقع الإذنُ رخصة من الله رفقاً بالخلف ، وإبقاء عليهم ، ولما في هذه الشريعة من السماحة ، ونفي الحرج ، ووضع الإصرِ».

المسألة الخامسة : في بيان سبب نزول هذه الآية المكّية.

المسألة السادسة : «لمّا سمح الله تعالى في الكفر به .. عند الإكراه ولم يؤاخذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤخذ به ، ولا يترتّب حكم عليه ، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء : (رُفع عن امّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه)».

ثمّ ذكر اختلاف العلماء في تفاصيل معنى الخبر بعد اتّفاقهم على صحّته فقال : «فأنّ معناه صحيح باتفاق من العلماء ، ولكنّهم اختلفوا في تفاصيل.

منها : قول ابن الماجشون في حدّ الزنا وقد تقدّم.

٤٩

ومنها : قول أبي حنيفة : إنّ طلاق المكره يلزم ، لأنّه لم يعدم فيه أكثر من الرضا ، وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل. وهذا قياس باطل ، فإنّ الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق ، راضٍ به ، والمكره غير راضٍ به ، ولا نيّة له في الطلاق ، وقد قال النبيّ (ص) : (إنّما الأعمال بالنيّات ولكل امرئٍ ما نوى).

ومنها : أن المكره على القتل إذا قتل يُقتل ، لأنّه قتل من يكافئه ظلماً استبقاءً لنفسه فقتل.

وقال أبو حنيفة وسحنون : لا يقتل!! وهي عثرة من سحنون ..».

المسألة السابعة : تعجّب في هذه المسألة من اختلاف علماء المالكية في الإكراه على الحنث في اليمين هل يقع به أم لا ، بمعنى : هل تجوز فيه التقية أم لا؟

ثمّ حكم بجوازها مؤكّداً عدم الفرق بين الإكراه على اليمين في أنّها لا تُلزم وبين الحنث في أنّه لا يقع.

المسألة الثامنة : وهي غريبة حقّاً حقّاً ، فقد جوّز فيها التقية للرجل في أن يعطي أهله لما لا يحل عند الإكراه على ذلك ، ولا يقتل نفسه دونها ، ولا يتحمّل اذىً في تخليصها ، وقد اعتمد في ذلك على إسرائيلية لا شكّ فيها ، وخلاصتها أنّ إبراهيم عليه‌السلام هاجر ومعه سارة ، ودخل بها قرية فيها ملك جبار فأرسل إلى إبراهيم أن يرسلها له ، ففعل إبراهيم ، ولكن الله أنجاها من هذا الكافر الذي أراد بها سوءاً!! فالتقية على هذا المستوى جائزة عنده ، مع أنّ من أسباب تشريعها صيانة العِرض لا هتكه.

المسألة التاسعة : بخصوص حكم الإكراه الحقّ مع عدم الانقياد إليه (١).

__________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ١١٧٧ : ٣ ١١٨٢.

٥٠

وقال ابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ ه‍) في تفسيرها : «الإكراه على كلمة الكفر يبيح النطق بها ، وفي الإكراه المبيح لذلك ، عن أحمد روايتان :

إحداهما : أنه يخاف على نفسه ، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما امر به» (١).

وقال الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍) : «وفي الآية مسائل ..» وقد ذكر في المسألة الثانية قصّة عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وأنّه قيل بشأنه لرسول الله (ص) : «يا رسول الله! إنّ عمّاراً كفر. فقال : (كلا ، إنّ عمّاراً مُلئ إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه) ، فأتى عمار رسول الله (ص) وهو يبكي ، فجعل رسول الله (ص) يمسح عينيه ويقول : (ما لك؟ إن عادوا لك ، فعُد لهم بما قلت).

ثمّ قال : ومنهم جبر مولى الحضرمي أكرهه سيده فكفر ، ثمّ أسلم مولاه وحسن إسلامهما وهاجرا» (٢).

وقد بيّن مراتب الإكراه في المسألة السابعة ، ولأهميتها نذكر ما قال :

«المرتبة الأُولى : أن يجب الفعل المكره عليه ، مثل ما إذا أكرهه على شرب الخمر ، وأكل الخنزير ، وأكل الميتة ، فإذا أكرهه عليه بالسيف ، فها هنا يجب الأكل ، وذلك لأنّ صون الروح عن الفوات واجب .. لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٣).

المرتبة الثانية : أن يصير ذلك الفعل مباحاً ، ولا يصير واجباً ، ومثاله ما إذا

__________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ٤٩٦ : ٤.

(٢) التفسير الكبير / الفخر الرازي ١٢١ : ٢٠.

(٣) البقرة ١٩٥ : ٢.

٥١

أكرهه على التلفّظ بكلمة الكفر ، فها هنا يُباح له ، ولكنّه لا يجب.

المرتبة الثالثة : أنّه لا يجب ولا يُباح بل يحرّم ، وهذا مثل ما إذا أكرهه إنسان على قتل إنسان آخر ، أو على قطع عضو من أعضائه ، فها هنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية. وهل يسقط القصاص عن المكرَه (لو قتل) أم لا؟

قال الشافعي رحمه‌الله في أحد قوليه : يجب القصاص» (١).

أقول : إنّ القول الآخر للإمام الشافعي رحمه‌الله هو : لا قصاص على من يَقتل تقية ، ولا بدّ من حمل هذا القول الأخير على التقية ، لأنّه عاش في ظلّ ظروف أوجبت عليه التقية في هذا الحكم ، كما سنُشير إليه في الفصل الثاني من هذا البحث ، وذلك في بيان مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية.

واحتجّ الفقيه ابن قدامة الحنبلي (ت / ٦٢٠ ه‍) بهذه الآية على جواز التقية عند الإكراه عليها ، ثمّ قال : «وإنّما ابيح له فعل المكره عليه ، دفعاً لما يتوعّده به من العقوبة فيما بعد» (٢).

كما أنّ من أُكره على كلمة الكفر فأتى بها ، لم يصر كافراً عنده ، قال : وبهذا قال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي (٣) ، وقد ذكر تفصيلات اخرى ستأتي عند الحديث عن التقية في فقه الحنابلة.

وقال القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) : «هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير ، لأنّه قارب بعض ما ندبوه إليه». ثمّ نقل عن ابن عباس أنّه

__________________

(١) التفسير الكبير ١٢٢ : ٢٠.

(٢) المغني / ابن قدامة ٢٦٢ : ٨.

(٣) م. ن ٩٧ : ١٠ مسألة : ٧١١٦.

٥٢

قال : «وأمّا عمار فاعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً ، فشكا ذلك إلى رسول الله (ص) ، فقال رسول الله (ص) : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالإيمان ، فقال رسول الله (ص) : فإن عادوا فعد». ثمّ بيّن عن مجاهد : إنّ الذين اخذوا مع عمار بن ياسر ، هم : بلال ، وخباب ، وصهيب ، وسمية ام عمار ، وأنّهم قالوا كلّهم كلمة الكفر مثل الذي قاله عمار ، إلا ما كان من بلال (١).

وقال البيضاوي الشافعي (ت / ٦٨٥ ه‍) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : «على الافتراء ، أو كلمة الكفر ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لم تتغيّر عقيدته ، وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب».

ثمّ روى بعد ذلك قصّة عمار بن ياسر وقال : «وهو دليل على جواز التكلّم بالكفر عند الإكراه ، وإن كان الأفضل أن يتجنّب عنه إعزازاً للدين» ثمّ ذكر بعد ذلك قصّة مسيلمة الكذّاب مع الصحابيّين ، اللذين انتهى خبرهما إلى النبيّ (ص) ، وكيف أنّه رخّص لمن اعترف لمسيلمة الكذّاب لعنه الله بأنّه رسول الله (٢).

وقال المفسّر الشافعي علي بن محمّد المعروف بالخازن (ت / ٧٤١ ه‍) : «التقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النيّة قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، ثمّ هذه التقية رخصة» (٣).

أقول : إِنّ هذا الكلام من الخازن الشافعي مردود بما مرّ عن الرازي الشافعي

__________________

(١) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي ١٨١ : ١٠.

(٢) أنوار التنزيل وأسرار التأويل / البيضاوي ٥٧١ : ١.

(٣) تفسير الخازن ٢٧٧ : ١ نقلاً عن : آراء علماء المسلمين في التقية والصحابة وصيانة القرآن الكريم / السيد مرتضى الرضوي : ٣٩.

٥٣

في بيانه مراتب الإكراه ، ومردود أيضاً بما تقدّم من أقوال سائر من ذكرنا من المفسّرين والفقهاء ، ومردود أيضاً بما سيأتي من أقوال مفسّري أهل السُّنّة لا سيّما الشافعية في تفسيرهم لهذه الآية ، فترقّب.

وقال ابن جُزي الكلبي الغرناطي المالكي (ت / ٧٤١ أو ٧٤٧ ه‍) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : «استثنى من قوله : (من كفر) ، وذلك إنّ قوماً ارتدّوا عن الإسلام ، فنزلت فيهم الآية ، وكان فيهم من أُكرِه على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان ، منهم : عمار بن ياسر ، وصهيب ، وبلال ، فعذرهم الله» ، ثمّ فصّل قصّة عمار بن ياسر ، وما قال له النبيّ (ص) على النحو المتقدّم من أقوال المفسّرين وقال : «وهذا الحكم فيمن اكره بالنطق على الكفر ، وأمّا الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم ، فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟

فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم.

وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتق ، ولا شيء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز الإجابة إليه ، كالإكراه على قتل أحد ، أو أخذ ماله» (١).

أقول : سيأتي بيان ما جرى للإمام مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) من لدن خلفاء بني العباس بسبب إفتائه في يمين المكره وقوله في ذلك : ليس على مكره يمين ، في الفصل الثاني من هذا البحث وذلك في بيان مواقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقية ، وسترى هناك كيف قد كلّفته هذه الفتيا كثيراً.

وقال تاج الدين الحنفي (ت / ٧٤٩ ه‍) : «من اكره على الكفر ، ولفظ به ، وقلبه

__________________

(١) تفسير ابن جُزي محمّد بن أحمد الكلبي : ٣٦٦.

٥٤

مطمئن بالإيمان ، فلا يؤاخذ به .. والمعنى : إنّما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المُكرَه ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (١).

وقال أبو حيان محمّد بن يوسف الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ ه‍) : «استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان ، ورخّص له في النطق بكلمة الكفر ، إذ كان قلبه مؤمناً ، وذلك مع الإكراه. والمعنى : إلا من اكره على الكفر ، تلفّظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان» (٢).

وقال في مكان آخر من تفسير الآية : «وفي قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) دليل على أن من فعل المُكرَه لا يترتّب عليه شيء. وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر ، أو فعل ما يؤدّي إليه ، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى.

وقد تكلّموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك ، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها ، وذلك كلّه مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر ، المعذّبون على الإسلام : خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، وأبواه : ياسر وسمية ، وسالم ، وجبر عُذِّبوا فأجابهم عمار وجبر (مولى الحضرمي) فخلّي سبيلهما ، وتمادى الباقون على الإسلام ، فقتل ياسر وسمية ، وهما أول قتيل في الإسلام» (٣).

وقد مرّ ، وسيأتي أيضاً أن هؤلاء الصحابة كلّهم قد أجابوا المشركين إلى ما انتدبوهم إليه إلا ما كان من بلال ، وليس الأمر كما قاله أبو حيان ، على أنَ

__________________

(١) الدرّ اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي ٥٣٧ : ٥ ٥٣٨ ، مطبوع بحاشية تفسير أبي حيان الأندلسي المسمّى ب : (البحر المحيط).

(٢) تفسير البحر المحيط / أبو حيان ٥٣٨ : ٥.

(٣) تفسير البحر المحيط ٥٤٠ : ٥.

٥٥

ما يفهم من عبارة المفسّرين أن جبراً قد استمر ارتداده عن الإسلام في الظاهر تقية لمدة طويلة إلى أن أسلم مولاه الحضرمي الذي كان قد أكره جبراً على الكفر.

وقال ابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ ه‍) : «وأما قوله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، فهو استثناء ممّن كفر بلسانه ، ووافق المشركين بلفظه مكرهاً لما ناله من ضرب وأذى ، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.

وقد روى العوفي عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر ، حين عذّبه المشركون حتى يكفر بمحمّد (ص) ، فوافقهم على ذلك مكرهاً ، وجاء معتذراً إلى النبيّ (ص) ، فأنزل الله هذه الآية».

ثمّ نقل عن الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) ما رواه في قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وعن البيهقي (ت / ٤٥٨ ه‍) أنّه قال : «إنّه أي : عمار بن ياسر سبّ النبي (ص) ، وذكر آلهتهم بخير. فشكا ذلك إلى النبيّ (ص) ، فقال : يا رسول الله! ما تركتك حتى سببتك ، وذكرت آلهتهم بخير. قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئناً بالإيمان. فقال : إن عادوا فعُد».

ثمّ قال : «ولهذا اتّفق العلماء على أنّ المُكرَه على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى» مستدلاً بشهادة حبيب بن زيد الأنصاري ، وسلامة صاحبه حين امتحنهما مسيلمة الكذّاب ، فاستشهد الأوّل لامتناعه عن الإقرار لما أراده الكذّاب ، ونجا الثاني لموافقته على ما أراد ، وبقول النبيّ (ص) له : «وأمّا أنت فأخذت بالرخصة» (١).

__________________

(١) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٦٠٩ : ٢.

٥٦

وقال المفسّر السُّنّي نظام الدين الحسن بن محمّد القمّي النيسابوري (ت / ٨٥٠ ه‍) : «والمعنى : إنّما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره ، فلم يدخل تحت الافتراء .. وإنّما صحّ استثناء المكره من الكافر مع أنّه ليس بكافر ، لأنّه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً ، فلهذه المشاكلة صحّ الاستثناء.

قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر» (١).

ثمّ تطرّق إلى بعض مسائل التقية ، منها : التقية في الدماء ، والزنا ، فقال : «ومنها : لا يجب ولا يباح بل يحرم ، كما إذا اكرِه على قتل إنسان ، أو على قطع عضو من أعضائه ، فها هنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية ، وحينئذٍ لو قتل ، فللعلماء قولان :

أحدهما : لا يلزم القصاص. وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي في أحد قوليه ، لأنّه قتله دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل ..

وثانيهما : وبه قال أحمد والشافعي في أصحّ قوليه : إنّ عليه القصاص لأنّه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه» (٢).

ثمّ نقل النيسابوري عن أبي حنيفة (ت / ١٥٠ ه‍) أنّه قال : لو أكره السلطان أحداً على الزنا فزنى ، لم يجب على الزاني الحدّ ، ولو أكرهه بعض الرعية وجب (٣).

__________________

(١) غرائب القرآن ورغائب الفرقان / النيسابوري ١٢٢ : ١٤.

(٢) م. ن ١٢٣ : ١٤.

(٣) م. ن ١٢٤ : ١٤.

٥٧

إذاً التقية وبموجب هذا القول ونظائره المتقدّمة تصحّ في الدماء وهتك الأعراض!!

وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ ه‍) : «وأما من أُكرِه على ذلك فهو معذور بالآية ، لأنّ الاستثناء من الإثبات نفي ، فيقتضي أن لا يدخل الذي اكرِه على الكفر تحت الوعيد ، والمشهور : إنّ الآية المذكورة نزلت في عمار بن ياسر ، كما جاء من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمار بن ياسر ، قال : أخذ المشركون عماراً فعذّبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ...» (١).

وأخرج عن الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) ما رواه بسنده عن ابن عباس (ت / ٦٨ ه‍) أنّه قال : «أخبر الله أنّ من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله ، وأمّا من اكرِه بلسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه ، فلا حرج عليه ، إن الله إنّما يأخذ (يُؤاخذ) العباد بما عقدت عليه قلوبهم» (٢).

أمّا الشربيني الشافعي (ت / ٩٧٧ ه‍) فقد علّق على ما أفتى به النووي الشافعي (ت / ٦٧٦ ه‍) بعدم ردّه المُكرَه على الكفر بقوله بعد أن استدلّ بالآية المتقدّمة : «لا يكون مرتداً ، لأنّ الإيمان كان موجوداً قبل الإكراه ، وقول المُكرَه ملغى ما لم يحصل فيه اختيار لما اكرِه عليه ، كما لو اكرِه على الطلاق ، فإنّ العصمة كانت موجودة قبل الإكراه ، فإذا لم يحصل منه اختيار لما اكرِه عليه لم يقع عليه طلاق» (٣).

__________________

(١) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ٢٦٢ : ١٢.

(٢) م. ن ٢٦٣ : ١٢.

(٣) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني ١٣٧ : ٤ مطبوع بهامش منهاج الطالبين للنووي. وانظر : منهاج الطالبين ١٣٧ : ٤ و ١٧٤ : ٤.

٥٨

وقال البرسوي الحنفي (ت / ١٣٧ ه‍) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : «اجبر على ذلك التلفّظ بأمر يخاف على نفسه ، أو على عضو من أعضائه .. لأنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه على القول دون الاعتقاد ، والمعنى : لكنّ المكره على الكفر باللسان (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، بالإيمان : حال من المستثنى ، أي : والحال أنّ قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ، وفيه دليل على أنّ الإيمان المنجي المعتبر عند الله هو التصديق بالقلب» (١).

أقول : إنّ علّة نفي الكفر عن المكره كما يفهم من هذا القول وسائر الأقوال المتقدّمة هي أنّ الكفر اعتقاد ، والإكراه دونه ، وهذا الحكم يجب أن يَطّرد على جميع ما يقدم عليه الإنسان تقية عند الإكراه إلا ما خرج عنه بدليل معتبر لاطّراد العلّة نفسها.

وقال الإمام الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ ه‍) في تفسير الآية : «أجمع أهل العلم على أنّ من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل إنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبِين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر».

ثمّ ردّ قول محمّد بن الحسن الشيباني (ت / ١٨٩ ه‍) بخصوص أنّ من أظهر الكفر كان مرتداً في الظاهر ، وأنّه تبين منه زوجته ، ولا يُصلّى عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلماً فقال : «وهذا القول مردود على قائله ، مدفوع بالكتاب والسُّنّة» (٢).

__________________

(١) روح البيان / البرسوي ٨٤ : ٥.

(٢) فتح القدير / الشوكاني ١٩٧ : ٣.

٥٩

وهذا القول على خلاف أقوال مفسّري الأحناف وفقهائهم وأعلامهم ، بل على خلاف أقوال جميع علماء الإسلام قاطبة ، فضلاً عن معارضته صراحة للكتاب العزيز والسُّنّة النبوية.

فقد أجمع الكلّ على أن عمّار بن ياسر قد ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه مع أنّه سبّ النبيّ (ص) ، وذكر اللات والعزى بخير. فهو قول شاذ لا يعتدّ به لمخالفته صراحةً للكتاب العزيز ، والسُّنّة المطهّرة ، وإجماع المسلمين.

كما ردّ الشوكاني قول الحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) ، والشافعي (ت / ٢٠٤ ه‍) وسحنون القاضي المغربي المالكي (ت / ٢٤٠ ه‍) ، وهو الذي روى المدونة الكبرى لمالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) بتوسيط عبد الرحمن بن قاسم الفقيه المالكي (ت / ١٩١ ه‍) ، عن الإمام مالك من أنّ الرخصة في التقية إنّما جاءت في هذه الآية في القول ، وأمّا الفعل فلا رخصة فيه!

قال الشوكاني : «ويدفعه ظاهر الآية فإنّها عامّة فيمن اكرِه من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول ، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرّر في علم الاصول» (١).

أقول : لقد ذكرنا من أقوال المالكية قول : ابن عطية ، وابن العربي ، وابن جُزي ، وأبي حيان وهؤلاء كلّهم قد خالفوا سحنون القاضي فيما ذهب إليه.

وذكرنا أيضاً من أقوال الشافعية قول : الماوردي ، والواحدي ، والرازي ، والخازن ، وابن كثير ، والبيضاوي ، وابن حجر العسقلاني ، والشربيني ، وهؤلاء كلّهم قد خالفوا الإمام الشافعي فيما نسبه إليه الشوكاني.

__________________

(١) فتح القدير ١٩٧ : ٣.

٦٠