واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

صدور الذنب منهم ولا أحد يجيبه منهم ، امّا من يتجرّأ من المتزلّفين على القول ، فإنّه يصف الحجاج بصفات الأنبياء.

٢ ـ انّ تلك الخطب لا شكّ كان يسمعها عدد من الصحابة وكثير من التابعين ، ولم ينكروا عليه شيئاً خصوصاً فيما ورد فيها مخالفاً لشرع الله تعالى وسنّة نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣ ـ انّ الحجاج كان يعلم باتقاء أهل مكّة والمدينة والطائف والبصرة والكوفة وما بينهما منه ، لا سيّما وقد صرّح هو بنفسه بهذه الحقيقة فقال : «ألا وانّكم ستقولون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا مخافتي».

٣٩ ـ مجاهد بن جبر المكي (ت / ١٠٣ ه‍) :

وهو من كبار التابعين في التفسير باعتراف سائر العلماء من الشيعة وأهل السنة وقد امتدحه الشيخ الطوسي (ت / ٤٦٠ ه‍) في مقدمة التبيان فقال : «من المفسرين من حمدت طرائقه ، ومدحت مذاهبه ، كابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وغيرهم» (١).

وقد نص القرطبي في الآية الأُولى في الفصل الأول على أن مجاهداً كان يقرأ : (إلا أن تتّقُوا منهم تقية) في موضع (تقاة) ، وكيف بمن يقرؤها هكذا لا يرى جواز التقية بعدئذ؟ وقد مر في بيان دلالة هذه الآية على التقية تفسيره لها مما يشير إلى جواز التقية عنده فيما دون سفك الدم الحرام ، ونهب الأموال (٢).

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن / الطوسي ٦ : ١ من المقدمة.

(٢) راجع دلالة الآية الاولى في الفصل الأول على التقية ، عند القرطبي المالكي ، والطبري.

١٤١

٤٠ ـ عامر الشعبي (ت / ١٠٣ هأو ١٠٤ ه‍) :

كان عامر الشعبي من ندماء عبد الملك بن مروان (ت / ٨٦ ه‍) وقد أرسله إلى ملك الروم ، وكان من الطبيعي جداً أن يعمل بالتقية لا سيما في بلاط الأمويين ، وقد نقل الشيخ عباس علي براتي في بحثه : التقية في آراء علماء المسلمين عن القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ، أنّ الشعبي كان يعمل بالتقية وأنه كان ينال ممن لم يراع التقية عند الإكراه عليها (١).

٤١ ـ الضحاك بن مزاحم (ت / ١٠٥ ه‍) :

اخرج الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) عن الضحاك انه قال : «التقية باللسان ومن حمل على أمر يتكلم به ، وهو لله معصية ، فتكلم مخافة على نفسه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فلا إثم عليه ، إنما التقية باللسان» (٢).

وقد مر في الفصل الأول من قال بجواز التقية قولاً وفعلاً ، ولا فرق بينهما أخذاً بظاهر آية التقية ، مع النصوص النبوية المثبتة لذلك ايضاً.

٤٢ ـ عكرمة البربري مولى ابن عباس (ت / ١٠٥ ه‍) :

يظهر من تفسير عكرمة لآية التقية ، أنه كان يرى جوازها فيما دون قتل النفس ، ونهب الأموال ، فقد اخرج الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) في تفسير آية التقية وهي من قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) عن عكرمة انه قال : «ما لم يهرق

__________________

(١) التقية في آراء علماء المسلمين / الشيخ عباس علي براتي ص ١ بحث منشور في مجلة رسالة الثقلين ، العدد الثامن ، السنة / ١٤١٤ ه‍ ، نقله عن الجامع لاحكام القرآن للقرطبي المالكي ١٩٠ : ١.

(٢) جامع البيان / الطبري ٣١٧ : ٦.

١٤٢

دم مسلم ، ولم يستحل ماله» ، وبه قال مجاهد أيضاً (١).

٤٣ ـ الحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) :

لقد مر في الفصل الأول ما يؤكد ان الحسن البصري كان يقول : «التقية جائزة إلى يوم القيامة» (٢) ، والحسن البصري خبير بأحوال الصحابة ، وهذا الكلام : إما ان يكون قد سمعه منهم ، أو يكون مما استفاده هو من القرآن الكريم.

على أن الاستاذ علي حسين رستم أكد في بحثه (التقية عند أهل السنة نظرياً وتطبيقياً) تقية الحسن البصري في روايته عن علي عليه‌السلام.

اذ روى حديث علي عليه‌السلام ، ولكنه لم يسنده إليه بل رفعه إلى النبي (ص) تقية من ظلم الامويين ، مشيراً بذلك إلى مراسيل أبي داود.

وبعد فلا حاجة لمتابعة موقف الحسن من التقية بعد قوله : «التقية جائزة إلى يوم القيامة» ، ولله درُّ القائل : قطعت جهيزة قول كل خطيب.

٤٤ ـ رجاء بن حيوة (ت / ١١٢ ه‍) :

كان رجاء من وعاظ الشام ، وكان ملازماً لعمر بن عبد العزيز (ت / ١٠١ ه‍) ، ومن تقيته ما حكاه القرطبي (ت / ٦٧١ ه‍) قال : «وقال إدريس بن يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق ويأتون

__________________

(١) جامع البيان / الطبري ٣١٦ : ٦.

(٢) صحيح البخاري ٢٥ : ٩ كتاب الإكراه ، وجامع البيان / الطبري ٣١٣ : ٦ ، والمبسوط / السرخسي ٤٥ : ٢٤ ، والتفسير الكبير / الرازي ١٤ : ٩ ، والجامع لاحكام القرآن / القرطبي ٥٧ : ٤.

١٤٣

بالأخبار .. فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد ، فرفع ذلك إليه.

فقال : يا رجاء أُذكَرُ بالسوء في مجلسك ولم تُغَيِّر؟

فقال : ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.

فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلا هو.

قال : الله الذي لا إله إلا هو.

فأمر الوليد بالجاسوس ، فضرب سبعين سوطاً. فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء! بك يستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري!!

فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك ، خير لك من أن يُقتل رجل مسلم» (١).

أقول : أين هذا من عيون المنصور العباسي (ت / ١٥٨ ه‍) ، فقد ذكر ابن نباتة المصري (ت / ٧٦٨ ه‍) في سرح العيون : ان مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) قد جمعه ذات يوم مجلس مع المنصور ، فقال له المنصور : «أليست إذا بكت ابنتك من الجوع ، تأمر بحجر الرحا فيتحرك ، كيلا يسمع الجيران بكاءها؟

فقال مالك : والله ما علم أحد بهذا إلا الله!

فقال له : أأعلم بهذا ، ولا أعلم أحوال رعيتي؟» (٢).

وإذا علمت أنّ أهل المدينة قد خلعوا المنصور وبايعوا غيره ، فلك ان تقدر

__________________

(١) الجامع لاحكام القرآن / القرطبي ١٢٤ : ١٠.

(٢) سرح العيون في شرح رسالة ابن خلدون / جمال الدين بن نباتة المصري : ٢٦١.

١٤٤

كم يمين صدرت منهم ، على نحو يمين رجاء.

٤٥ ـ ميمون بن مهران (ت / ١١٧ ه‍) :

نقل الغزالي (ت / ٥٠٥ ه‍) عن ميمون بن مهران قوله : «الكذب في بعض المواطن خير من الصدق» (١).

وفي كتاب الأشراف لابن أبي الدنيا (ت / ٢٨١ ه‍) : «وحدثني أبي ، قال : أخبرنا إسماعيل بن عُليّة ، قال : أخبرنا سوار بن عبد الله ، قال : انّ ميموناً كان جالساً وعنده رجل من قراء أهل الشام ، فقال : إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق ، فقال الشامي : لا ، الصدق في كل المواطن خير. فقال ميمون : أرأيت لو رأيت رجلاً يسرع وآخرَ يتبعه بالسيف ، فدخل الدار فانتهى إليك ، فقال : أرأيت الرجل؟

ما كنت قائلاً؟

قال : كنت أقول : لا!!

قال : فذاك» (٢).

٤٦ ـ عطاء بن أبي رباح (ت / ١١٨ ه‍) :

ذهب عطاء بن أبي رباح إلى أن يمين المكره غير ثابتة عليه ، بمعنى ان الحلف تقية جائز عند الإكراه ، ولا كفارة في ذلك ، وقد نسب له هذا القول الإمام الشافعي (ت / ٢٠٤ ه‍) في أحكام القرآن (٣).

__________________

(١) إحياء علوم الدين / الغزالي ١٣٧ : ٣.

(٢) الإشراف على مناقب الأشراف / ابن أبي الدنيا : ١١٨ / ٢١٦.

(٣) احكام القرآن / الإمام الشافعي ١١٤ : ٢ ١١٥.

١٤٥

٤٧ ـ قتادة بن دعامة السدوسي (ت / ١١٨ ه‍) :

ذكر أبو حيان الأندلسي (ت / ٧٥٤ ه‍) في تفسيره : إن قتادة قال : «إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر ، وقلبهم مطمئن بالإيمان» (١).

وقد مر قول الرازي الشافعي : «إن الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين ، حلت التقية محاماة على النفس» (٢).

٤٨ ـ شبه أبو عقال :

لم أقف على سنة وفاته ، إلا أنّه روى عن الصحابي أنس بن مالك (ت / ٩٣ ه‍) كما نصّ عليه مترجموه ، فهو إذاً من طبقة عطاء وقتادة وغيرهما من التابعين.

ومن تقيته ، ما حكاه ابن قتيبة الدينوري (ت / ٢٧٦ ه‍) عن ابنه عقال بن شبه ، من أنّه قال : «كنت رديف أبي ، فلقيه جرير على بغل ، فحيّاه أبي وألطفه. فلمّا مضى ، قلت : أبعدَ ما قال لنا ما قال؟

قال : يا بني! أفأوسع جرحي؟» (٣).

والظاهر ، انّ المراد من جرير هو جرير بن عطيّة الخطفي الشاعر المشهور (ت / ١١٠ ه‍) ، وأنّه هجا أبا عقال ، فحاول الأخير مداراته لكيلا يعود إلى الهجاء ثانية ، فاتّقى لسانه بهذه المداراة.

__________________

(١) البحر المحيط / أبو حيان الاندلسي ٤٢٣ : ٢.

(٢) التفسير الكبير / الرازي ١٤ : ٨.

(٣) عيون الأخبار / ابن قتيبة ٣٢٩ : ١.

١٤٦

٤٩ ـ الزهري (ت / ١٢٤ ه‍) :

محمّد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب المعروف بابن شهاب الزهري ، كان من كبار الحفّاظ والفقهاء من التابعين ، كان يتّقي من الامويّين خصوصاً في فضائل الإمام علي عليه‌السلام ، فيما صرّح هو بنفسه ، فقد روى ابن الأثير (ت / ٦٣٠ ه‍) في اسد الغابة بإسناده ، عن عبد الله بن العلاء ، عن الزهري ، عن سعيد بن جناب ، عن أبي عنفوانه المازني ، عن جندع (أبو جنيدة بن عمرو بن مازن الأنصاري) قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار). وسمعته وإلا صمتاً يقول وقد انصرف من حجّة الوداع ، فلمّا نزل غدير خمّ قام في الناس خطيباً ، وأخذ بيد علي ، وقال : (من كنت مولاه فهذا وليّه ، اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه).

وقال عبد الله بن العلاء : فقلت للزهري : لا تحدّث هذا بالشام وأنت تسمع ملء اذنيك سبّ عليّ!!

فقال : واللهِ إنّ عندي من فضائل عليّ ما لو تحدّثت لَقُتِلت. أخرجه الثلاثة» (١) ، انتهى بلفظه.

٥٠ ـ السدي (ت / ١٢٧ ه‍) :

أخرج الطبري عنه أنّه قال في آية التقية ، أنّها تعني : «إظهار الولاية للكافرين في دينهم ، والبراءة من المؤمنين» (٢) ، وهذا هو أحد مصاديق

__________________

(١) اسد الغابة في معرفة الصحابة / ابن الأثير ٣٠٨ : ١ نقلاً عن : الغدير للعلامة الأميني ٢٣ : ١.

(٢) راجع كلام الطبري في الآية الاولى ، في الفصل الأوّل.

١٤٧

التقية عند الإكراه على كلمة الكفر ، لا كل التقيّة كما مرّ في الفصل الأوّل ، والمهم هنا هو انّ السدي من القائلين بالتقية في أفظع الأشياء وهو الكفر كغيره من التابعين. على أنّ هذا المعنى قد أطبقت على صحّته كلمة المفسّرين ، بشرط أن يكون القلب مطمئن بالإيمان.

٥١ ـ واصل بن عطاء (ت / ١٣١ ه‍) :

وهو رأس الاعتزال ، وكان مفرط الذكاء ، ومن تقيته ما ذكره ابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ ه‍) في كتاب الأذكياء ، من أنّه خرج يريد سفراً في رهط ، فاعترضهم جيش من الخوارج ، فقال واصل : «لا ينطقن أحد ودعوني معهم ، فقصدهم واصل ، فلمّا قربوا بدأ الخوارج لِيُوقِعوا. فقال : كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن ، ولا لأيّ شيءٍ جئنا؟ فقالوا : نعم ، من أنتم؟ قال : قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله.

قال : فكفّوا عنهم ، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن ، فلمّا أمسك ، قال واصل : قد سمعت كلام الله ، فأبلغنا مأمننا حتّى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين. فقال : هذا واجب ، سيروا ، قال : فسرنا والخوارج والله معنا يحموننا فراسخ ، حتّى قربنا إلى بلد لا سلطان لهم عليه ، فانصرفوا» (١).

٥٢ ـ سالم بن أبي حفصة البُتري (ت / ١٤٠ ه‍) :

قال الكشي (من علماء الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري) في ترجمته : «وحكي عن سالم : أنّه كان مختفياً من بني اميّة بالكوفة ، فلمّا بويع لأبي العبّاس ، خرج من الكوفة محرماً فلم يزل يلبّي : لبّيك قاصم بني اميّة

__________________

(١) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : ١٣٦.

١٤٨

لبّيك ، حتّى أناخ (راحلته) بالبيت» (١).

وهذا يعني أنّه كان يتّقيهم في دولتهم ، فلمّا زالت أفصح عمّا في قلبه نحوهم ، على أنّ سالماً ليس من الشيعة الإمامية ، وإنّما من البُترية ، وقيل : التبرية بتقديم التاء المثنّاة من فوق على الباء الموحّدة والأوّل أشهر ، والبُترية بضم الباء الموحّدة ، وقيل كسرها هم فرقة من فرق الزيدية.

وأمّا ما ذكرناه عن الصحابة كعمّار ، وحذيفة وغيرهما ممّن عرف بالتشيّع ، ومن التابعين سعيد بن جبير وغيره ، فلكونهم ممّن احتجّ أهل السُنّة بأقوالهم ، وقد نقلنا تلكم الأقوال من كتب غير الشيعة الإمامية ، ممّا يصحّ معه انطباق المعنون على عنوان : «واقع التقية عند المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية».

٥٣ ـ عمرو بن عبيد المعتزلي (ت / ١٤٤ ه‍) :

ذكر الخطيب البغدادي (ت / ٤٦٣ ه‍) في تاريخه : انّ المنصور العبّاسي (ت / ١٥٨ ه‍) قال لعمرو بن عبيد : «بلغني أنّ محمّد بن عبد الله بن الحسن كتب إليك كتاباً؟

قال عمرو : قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.

قال : فيم أجبته؟

قال : أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا ، أنّي لا أراه؟

__________________

(١) رجال الكشي : ٢٣٦ ذيل الحديث : ٤٢٨ ، وانظر تهذيب التهذيب لابن حجر ٣٧٤ : ٣ / ٨٠٠ فقد ذكر في ترجمته ما يدلّ على تقيته على نحو ما مر في رجال الكشي.

١٤٩

قال المنصور : أجل ، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي!!

قال عمرو : لئن كذبتك تقية لأحلفنّ لك تقية.

قال المنصور : واللهِ ، واللهِ أنت الصادق البرّ» (١).

أقول : إنّ في هذه المحاورة دليلاً على إيمان المنصور بالتقية أيضاً ، فضلاً عن تصريح عمرو بن عبيد بها. إذ لو كانت التقية محرّمة ، لأبدى المنصور معارضته ، ولقال مثلاً : كيف تحلف بالله باطلاً؟

٥٤ ـ تقية جمع من التابعين سنة (١٤٥ ه‍) :

روى الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) ، وابن كثير (ت / ٧٧٤ ه‍) ما يدلّ على تقية جمع كبير من التابعين وغيرهم ، وذلك في إرضائهم المنصور بالنيل من رجلٍ حسني بعد قتله وهو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام ، الذي قتله المنصور لخمس بقين من ذي القعدة سنة / ١٤٥ ه‍.

قال الطبري ، وتابعه ابن كثير : «إنّ المنصور العباسي لما اتي برأس إبراهيم بن عبد الله ، وضعه بين يديه ، وجلس مجلساً عامّاً ، وأذِنَ للناس ، فكان الداخل يدخل فيسلم ، ويتناول إبراهيم فيسيء القول فيه ، ويذكر منه القبيح التماساً لرضا أبي جعفر ، وأبو جعفر (أي : المنصور) ساكت ممسك متغيّر لونه ، حتّى دخل جعفر بن حنظلة البهراني ، فوقف فسلّم ، ثمّ قال : عظّم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمّك ، وغفر له ما فرّط فيه من حقّك ، فاصفرّ لون أبي جعفر ، وأقبل عليه ، فقال : أبا خالد مرحباً وأهلاً هاهنا! فعلم

__________________

(١) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ٢٦٩ : ١٢.

١٥٠

الناس إنّ ذلك قد وقع منه ، فدخلوا فقالوا مثل ما قال جعفر بن حنظلة» (١).

وليس من شكّ في أنّ كلام الناس في إبراهيم أوّل الأمر ، لم يكن معبّراً عن عقيدة الكلّ ، أو البعض منهم على الأقل ، لِمَا سيأتي في تقية مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) من نقمة الناس على أبي جعفر المنصور ظلمه وطغيانه ، حتّى مال أكثر الفقهاء إلى محمّد النفس الزكية وأخيه إبراهيم.

لذا كان التحوّل المفاجئ في موقفهم من تأييد إبراهيم إلى الحطّ منه دليلاً على تقيتهم من المنصور ، كما أنّ تغيّر موقفهم في مجلس المنصور من النيل من إبراهيم إلى الدعاء له دليل آخر على تقيّتهم منه ، لأنّ هذا التغيّر السريع لم ينشأ من فراغ ، وإنّما نشأ من علم الداخلين فيما بعد على المنصور ، انّ مواساة المنصور والدعاء لإبراهيم بالمغفرة هو المناسب لرضا المنصور ، ولو لا ما قاله جعفر بن حنظلة ، لاستمرّ النيل من إبراهيم. ولا يعقل بعد ذلك أن يكون جميع من نالوا ، أو دعوا من سوقة الناس ورعاعهم ، إذ لا بدّ وان يكون من بينهم عدد من التابعين والفقهاء والمحدّثين ممّن لا تصحّ عند اخواننا أهل السُنّة نسبة النفاق إلى واحد منهم.

٥٥ ـ تقية خارجة بن عبد الله المعاصر لمقاتل بن سليمان (ت / ١٥٠ ه‍) :

كان خارجة بن عبد الله لم أقف على سنة وفاته يستحلّ دم مقاتل بن سليمان ، وهو على الرغم من معاصرته لمقاتل لم يقدم على قتله تقيةً منه على نفسه ، وإشفاقاً عليها من القصاص ، كما صرّح هو بذلك فقال : «لم استحلّ

__________________

(١) تاريخ الطبري : ٤٧٦ : ٤ في حوادث سنة (١٤٥ ه‍). والبداية والنهاية / ابن كثير ٥٤ : ١٠ من المجلّد الخامس في حوادث سنة (١٤٥ ه‍) أيضاً.

١٥١

دم يهودي ولا ذمّي ، ولو قدرت على مقاتل بن سليمان في موضع لا يراني فيه أحد لقتلته» (١).

٥٦ ـ تقية الإمام أبي حنيفة النعمان (ت / ١٥٠ ه‍) :

حرص الإمام أبو حنيفة على الابتعاد عن العبّاسيّين طيلة حياته ، لما عرفه من ظلمهم واضطهادهم العلماء وحملهم على ما يكرهون ، ولهذا لا نجد في سيرة الإمام تقرّباً إلى السلاطين والحكّام ، ولقد كلّفه ذلك ثمناً باهضاً ، إذ استدعي مرّات ومرّات ، وحبس وضرب على كبر سنّه ولم يتغيّر موقفه في عدم التقرّب إلى الولاة والحكّام. ولكن قد أجبرته السلطة حينذاك أن يتّقيهم كرهاً لينجو بنفسه من تعسّفهم واضطهادهم ، ولم يكن الإمام أبو حنيفة مبتدعاً في تقيّته ، فقد اتّقى قومه من هو أفضل الأنبياء والمرسلين (ص) ، ولفيف من الصحابة والتابعين قبله ، وفيما يأتي نورد جملة من المواقف التي حملته كرهاً على التقية ، وهي :

الموقف الأوّل مع ابن هبيرة :

كان يزيد بن عمر المعروف بابن هبيرة (ت / ١٣٢ ه‍) من ولاة آخِر الامويّين مروان بن محمّد (ت / ١٣٢ ه‍) على البصرة والكوفة. وقد حاول ابن هبيرة استقطاب العلماء لتقوية مركزه ، ومنهم أبي حنيفة ، وقد لبّى أصحاب أبي حنيفة دعوة ابن هبيرة كما سيأتي في تقيّتهم ، إلا أنّ أبا حنيفة رفض أن يكون جسراً لرغبات ابن هبيرة ، ولهذا حاول ابن هبيرة أن ينزل أكبر الأذى به ، ويتنحل عذراً ليكون مبرّراً لقتله ، فدسّ إليه رجلاً وأبو حنيفة في طريقه إلى

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٢٥١ : ١٠ في ترجمة مقاتل بن سليمان.

١٥٢

السجن ، فقال له الرجل : يا أبا حنيفة أيحلّ للرجل إذا أمره السلطان الأعظم أن يقتل رجلاً ، أن يقتله؟

فأجابه بلباقة : كان الرجل ممّن وجب عليه القتل؟

قال : نعم.

قال : فاقتله.

قال : فإن لم يكن ممّا وجب عليه القتل؟

قال : السلطان الأعظم لا يأمر بقتل من لا يستحقّ القتل (١).

الموقف الثاني في مبايعة السفاح (ت / ١٣٦ ه‍) :

روى أبو يوسف (ت / ١٨٢ ه‍) ، عن داود الطائي قال : لمّا نزل أبو العباس الكوفة ، وجه العلماء فجمعهم فقال : «إنّ هذا الأمر قد أفضى إلى أهل بيت نبيّكم ، وجاءكم الله بالفضل ، وإقامة الحقّ ، وإنّه يا معشر العلماء أحقّ من أعان عليه (أنتم) ، ولكم الحباء ، والكرامة والضيافة من مال الله ما أحببتم ، فبايعوا بيعة تكون لكم عند إمامكم حجّة عليكم ، وأماناً في معادكم ، لا تلقون الله بلا إمام فتكونوا ممّن لا حجّة له ، ولا تقولوا : أمير المؤمنين نهابه أن نقول الحقّ. فنظر القوم إلى أبي حنيفة ، فقال : إن أحببتم أن أتكلّم عنّي وعنكم ، فامسكوا. قالوا : قد أحببنا ذلك ، فقال :

الحمد لله الذي بلغ الحقّ من قرابة نبيّه (ص) ، وأماط عنّا جور الظلمة ، وبسط ألسنتنا بالحقّ ، وقد بايعناك على أمر الله والوفاء لك إلى قيام الساعة ،

__________________

(١) أخبار أبي حنيفة / حسين بن علي الصيمري : ١٩.

١٥٣

فلا أخلى الله هذا الأمر ممّن قربه من نبيّه.

فأجابه أبو العبّاس بجواب جميل ، وقال : مثلك من خطب عن العلماء ، فأحسنوا اختيارك ، وأحسنت في البلاغ.

فلمّا خرجوا ، قالوا له : ما أردت بقولك : (إلى قيام الساعة) ، وقد انقضت الساعة؟

قال : احتلت لنفسي وأسلمتكم للبلاء ، فسكت القوم ، وعلموا انّ الحقّ ما صنع» (١).

الموقف الثالث في مبايعة المنصور (ت / ١٥٨ ه‍) :

ذكر ابن عبد البر القرطبي المالكي (ت / ٤٦٣ ه‍) ، انّ جماعة من الفقهاء دخلوا على المنصور ، وكان فيهم أبو حنيفة ، وقد أقبل المنصور على أبي حنيفة وتركهم فقال : «أنت صاحب حِيلٍ ، فالله شاهد عليك أنّك بايعتني صادقاً من قلبك. قال : الله يشهد عليّ حتّى تقوم الساعة. فقال : حسبك. فلمّا انصرف أبو حنيفة ، قال له أصحابه : حكّمت على نفسك بيعته حتّى تقوم الساعة. قال : إنّما عنيت حتّى تقوم الساعة من مجلسك ، إلى بول ، أو غائط ، أو حاجة ، حتّى تقوم من مجلسك ذلك» (٢).

الموقف الرابع في بناء مدينة بغداد سنة (١٤٥ ه‍) :

لقد كان أبو حنيفة يجاهر في أمر إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، ويفتي

__________________

(١) أخبار أبي حنيفة ١٤ ١٥ ، أبو حنيفة حياته ، عصره آراؤه الفقهيّة / محمّد أبو زهرة : ٤١ ، وتاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة أيضاً ١٥٥ : ٢.

(٢) الانتقاء / ابن عبد البر : ١٥٩.

١٥٤

الناس بالخروج معه على المنصور العباسي (١) ولما انتهت ثورة إبراهيم بقتله سنة (١٤٥ ه‍) تولّى الإمام أبو حنيفة وبنفس السنة المذكورة مهمّة الإشراف على ضرب اللِّبن وعدِّ لبناء مدينة بغداد بأمر المنصور العباسي (٢).

ولا شكّ أنّه كان كارهاً لذلك ، ولكنّه اتّقى المنصور في هذا العمل الذي انيط له من قِبل المنصور الذي علم بموقف أبي حنيفة من إبراهيم ، فحاول أن يجد مبرّراً لقتله ، ولكن الإمام عرف ذلك منه فاتّقاه في هذه المشاركة.

الموقف الخامس في قبوله قضاء الرصافة :

ذكرنا انّ أبا حنيفة كان يأبى تولّي أي منصب من مناصب الدولتين الاموية والعباسيّة ، ولكن في رواية الخطيب البغدادي (ت / ٤٦٣ ه‍) ، وابن خلكان (ت / ٦٨١ ه‍) انّ أبا حنيفة قد جلس في القضاء في آخر أيام حياته بعد الضغط الشديد عليه ، بحيث لم يجد من ذلك مفرّاً.

فقد ذكرا انّ المنصور لمّا أتمّ مدينة بغداد ، أرسل إلى أبي حنيفة وعرض عليه قضاء الرصافة ، فأبى ، فقال المنصور : إن لم تفعل ضربتك بالسياط!!

قال أبو حنيفة : أوَتفعل؟

قال : نعم.

فقعد أبو حنيفة في القضاء يومين ، فلم يأته أحد ... فلمّا مضى يومان اشتكى أبو حنيفة ستّة أيّام ثمّ مات (٣).

__________________

(١) العِبر في خبر من غبر / الذهبي ١٥٥ : ١ في حوادث سنة (١٤٥ ه‍).

(٢) تاريخ الطبري ٤٥٩ : ٤ في حوادث سنة (١٤٥ ه‍).

(٣) تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي ٣٢٩ : ١٣ ، ووفيات الأعيان / ابن خلّكان ٤٧ : ٥.

١٥٥

الموقف السادس في مسائله مع الإمام الصادق عليه‌السلام (ت / ١٤٨ ه‍) :

المشهور عن الإمام أبي حنيفة قوله : «لو لا السّنتان لهلك النعمان» وهما سنتان من التلمذة المباشرة على يد الإمام الصادق عليه‌السلام ، ولقد كانت بينهما لقاءات متكرّرة بالكوفة استفاد منها أبو حنيفة كثيراً ، وعرف عن كثب منزلة الإمام الصادق علماً وأدباً ونسكاً وورعاً ، ولا غرو في ذلك ، ومن أحقّ من أبي حنيفة بهذا؟

ولقد أوجس المنصور خيفة شديدة من التفاف الناس حول الإمام الصادق عليه‌السلام ، فحاول الحطّ منه ، وتقليل شأنه في نظر العلماء أوّلاً ، ومن ثمّ ابعاد عامّة الناس عنه بعد أن يتمّ له ذلك ثانياً.

ومن محاولات المنصور تلك التي تكشف عن تقية أبي حنيفة ، ما قاله أبو حنيفة نفسه ، قال : «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد ، لما أقدمه المنصور بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد فهيئ له من المسائل الشداد ، فهيّأت له أربعين مسألة ، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر (أي : المنصور) وهو بالحيرة ، فأتيته ، فدخلت عليه ، وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه ، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر ، فسلّمت عليه ، وأومأ إليّ فجلست ، ثمّ التفت إليه ، فقال : يا أبا عبد الله! هذا أبو حنيفة ، فقال : نعم ... ثمّ التفت إليَّ المنصور ، فقال : يا أبا حنيفة! ألقِ على أبي عبد الله من مسائلك ، فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون : كذا ، وأهل المدينة يقولون : كذا ، ونحن نقول : كذا. فربّما تابعنا ، وربّما خالفنا جميعاً. حتّى أتيت على الأربعين مسألة ثمّ قال مستدلاً على أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام أعلم أهل زمانه بلا منازع : ألسنا قد

١٥٦

روينا : إنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» (١).

أقول : يستطيع الباحث أن يدرك بسهولة من خلال ما قاله الإمام أبو حنيفة مدى تأثير السلطة على العلماء ، وحملهم على التقية كرهاً ، كما حصل لأبي حنيفة مع الإمام الصادق عليه‌السلام ، في محاولة المنصور اليائسة في إبعاد الناس عن الإمام بشتّى الوسائل ، وأخبثها ، ومن بينها إجبار العلماء الأعلام على مناظرته ، لعلّه ينقطع عن الجواب.

ولو لا أمر المنصور لما سُئل الإمام الصادق أربعين سؤالاً ، لا لتحصيل الجواب منه ، وإنّما لتحصيل الانقطاع عن الجواب! ولا شكّ انّ أبا حنيفة كان يعلم علم الإمام ، ولكن ما حيلة المضطرّ إلا ركوبها!

الموقف السابع مع ابن أبي ليلى (ت / ١٤٨ ه‍) :

ذكر الاستاذ علي الشملاوي في بحثه : التقية في اطارها الفقهي ما قاله جابر بن حمّاد ابن الإمام أبي حنيفة كما في رواية الخطيب البغدادي قال جابر : «سمعت أبي حمّاداً يقول : بعث ابن أبي ليلى إلى أبي حنيفة ، فسأله عن القرآن.

فقال : مخلوق.

فقال : تتوب ، وإلا أقدمت عليك!

فقال : القرآن كلام الله.

فقال : فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب من قوله : القرآن مخلوق.

__________________

(١) الموفق في مناقب أبي حنيفة ١٧٣ : ١ نقلاً عن قصة التقريب بين المذاهب / محمّد تقي الحكيم : ١٠.

١٥٧

فقال أبي : فقلت لأبي حنيفة : كيف صرت إلى هذا وتابعته؟

قال : يا بني خفت أن يقدم عليَّ ، فأعطيته التقية» (١).

٥٧ ـ تقية أصحاب أبي حنيفة من ابن هبيرة (ت / ١٤٨ ه‍) :

عرض ابن هبيرة والي الامويّين على الكوفة أعمالاً من أعمال ولايته على الفقهاء الذين أرسل إليهم لهذا الفرض ، وكان منهم ابن أبي ليلى (ت / ١٤٨ ه‍) ، وابن شبرمة ، وداود بن أبي هند ، وأبي حنيفة.

وقد أعطى لكلّ واحد منهم عملاً من أعمال ولايته ، وتنازل لأبي حنيفة عن جزء من سلطانه ، ليكون في يده خاتم الدولة يختم به كل أمر ، وجعل من حقّه انفاذ الأحكام التي يصدرها القضاء والخراج ، وختم أوامر الوالي. فرفض أبو حنيفة وقبل الآخرون أعمالهم ، وأشاروا على أبي حنيفة بالقبول فرفض ذلك. حتّى انّ ابن أبي ليلى قال : «دعوا صاحبكم ، فإنّه هو المصيب» (٢).

إلا أنّ أصحاب أبي حنيفة ألحّوا عليه بقبول ما أعطاه ابن هبيرة ، وقالوا : ننشدك الله أن تُهلك نفسك ، فإنّا إخوانك ، وكلّنا كاره لهذا الأمر ، ولم نجد بدّاً من ذلك ، فرفض أيضاً (٣).

وهذا القول الأخير لا يمكن أن يفهم منه معنى غير معنى التقيّة.

٥٨ ـ تقيّة ابن سمعان من المنصور (ت / ١٥٨ ه‍) :

ذكر ابن قتيبة انّ المنصور العبّاسي اجتمع في أوّل خلافته بمالك بن أنس ،

__________________

(١) التقية في اطارها الفقهي / علي الشملاوي : ١٨٥ نقله عن تاريخ بغداد ٣٨٧ : ١٣.

(٢) الأئمّة الأربعة / مصطفى الشكعة : ١١٦.

(٣) أبو حنيفة / محمّد أبو زهرة : ٣٨ ، والأئمّة الأربعة / الشكعة : ١١٦.

١٥٨

وابن أبي ذؤيب ، وابن سمعان ، وسألهم : أي الرجال أنا عندكم ، أمِن أئمّة العدل ، أم مِن أئمّة الجور؟

أمّا مالك فقد توسّل إليه بالله ، وتشفّع بالنبيّ (ص) أن يستعفيه من الجواب ، فاستعفاه.

وأمّا ابن أبي ذؤيب ، فلم يخش في الله لومة لائم ، إذ أوقف المنصور على حقيقة حاله ، وصارحه بواقع أمره ، حتّى إنّ الإمام مالك بن أنس قد ظنّ أنّه سيُسفك دم ابن أبي ذؤيب قبل أن يتمّ كلامه فجمع أطراف ثوبه لئلا يتلوّث بالدم.

وأمّا ابن سمعان ، فقد خاف على نفسه واتّقى من المنصور ، فوصفه بصفات الصدِّيقين الأبرار الأخيار ، وأنّه من خير من ولدته حواء ، وأنّه من أعدل الأئمّة ، وأنّه وأنّه (١).

٥٩ ـ سفيان الثوري (ت / ١٦١ ه‍) :

عن أبي إسحاق الفزاري ، قال : جاءني نعي أخي من العراق ، وقد خرج مع إبراهيم بن عبد الله الطالبي ، فقدمت الكوفة ، فأخبروني أنّه قُتِل ، وأنّه قد استشار سفيان الثوري وأبا حنيفة ، فأتيت سفيان وانبأته مصيبتي بأخي ، وقلت : واخبرت أنّه استفتاك. قال : نعم ، قد جاءني فاستفتاني ، فقلت : ما ذا أفتيته؟ قال : قلت : لا آمرك ولا أنهاك. قال : فأتيت أبا حنيفة. فقلت له : بلغني أنّ أخي أتاك فاستفتاك. قال : قد أتاني واستفتاني ، قال ، قلت : فبما ذا أفتيته؟ قال : أفتيته بالخروج ، قال : فأقبلت عليه ، فقلت : لا جزاك الله خيراً ، قال : هذا رأيي» (٢).

__________________

(١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة الدينوري ١٧٣ : ٢.

(٢) تاريخ بغداد ٣٨٥ : ١٣ نقلًّا عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر ٣١٨ : ١.

١٥٩

ويفهم من قول سفيان المتقدّم : لا آمرك ولا أنهاك ، أنّه كان يرى الخروج مع إبراهيم مشروعاً ، ولو كان المنصور إماماً عادلاً ، لوجب على سفيان أن ينهى عن الخروج عليه ، لا أن يقول : لا آمرك ، ولا أنهاك ، فهذا قول من فكرّ في عواقب الامور ، وأدرك أنّه ليس من مصلحته الإفصاح بما هو الحقّ ، فترك لنفسه مجالاً في الجواب تقيّة من انكشاف أمره لدى المنصور.

٦٠ ـ المفضل الضبي (ت / ١٦٨ ه‍) :

كان المفضّل الضبي العالم اللغوي المشهور من أنصار إبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، ولكن حين فشلت ثورة إبراهيم وقبض المنصور على المساندين لهذه الثورة ، وأنزل العقاب الصارم بهم ، كان المفضّل الضبي من بين من قبض عليه ، فعفا عنه المنصور ، وسرعان ما تبدّلت مواقف المفضل حتّى استخلصه المنصور لنفسه ، وقرّبه إليه ، وصار نجماً في بلاط الخليفة ، وعهد إليه أن يؤدّب ولده المهدي (١) ، وكأنّه لم يكن بالأمس ناقماً على المنصور ظلمه وطغيانه ، وأنّى لهذا أن يكون لو لا التقية والمداراة التي كان يظهرها مؤدّب المهدي لمن خرج على أبيه بالأمس ، حتّى لكأنّ خروجه لم يكن شيئاً مذكوراً.

٦١ ـ تقية الإمام مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) :

الموقف الأوّل : مع الامويّين :

جاء في ترجمة الإمام الصادق عليه‌السلام (ت / ١٤٨ ه‍) في ميزان الاعتدال للذهبي (ت / ٧٤٨ ه‍) ما نصّه : «وقال مصعب ، عن الدراوردي ، قال : لم يرو مالك عن

__________________

(١) أبو حنيفة بطل الحرية والتسامح في الإسلام / عبد الحليم الجندي : ٢٣٠.

١٦٠