واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

أمّا ما ذكرناه من أقوال غير هؤلاء وهؤلاء من الأحناف والحنابلة فهو على عكس ذلك أيضاً ، وسيأتي المزيد من إثبات هذه الحقيقة التي أكّدها الشوكاني وغيره في الفصل الأخير من هذا البحث عند تناول التقية في فقه المذاهب والفرق الإسلامية.

وقال الفقيه الشافعي المفسّر محمّد بن عمر الجاوي النووي (ت / ١٣١٦ ه‍) : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) : «أي : من تلفّظ بكلمة الكفر من بعد إيمانه به تعالى فعليه غضب من الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفّظ بالكفر فتلفّظ به بأمر لا طاقة له به كالتخويف بالقتل ، وكالضرب الشديد ، وكالإيلامات القوية ممّا يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أي : والحال إنّ قلبه لم تتغير عقيدته».

ثمّ أورد بعد هذا قصة عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وتقيته من المشركين (١).

وذكر السيد جمال الدين القاسمي الشامي (ت / ١٣٣٢ ه‍) في تفسير هذه الآية بعض التنبيهات.

منها : إنّ الآية الكريمة قد استدلّوا بها على أنّ المُكرَه غير مكلّف ، وأنّ الإكراه يبيح التلفّظ بكلمة الكفر ، مع شرط طمأنينة القلب بالإيمان ، كما استدلّوا بها على نفي طلاق المُكرَه ، وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه إلا ما استُثني وعزاه إلى السيوطي الشافعي (ت / ٩١١ ه‍) في كتابه : الإكليل.

ثمّ قال بعد التنبيهات : «قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله (ص) من العذاب ما يعذرون به في

__________________

(١) تفسير النووي المسمّى ب : مراح لبيد لكشف معنى قرآن مجيد ٤٦٦ : ١.

٦١

ترك دينهم؟

قال : نعم ، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر على أن يستوي جالساً من شدّة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولون له : اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم ، حتى إنّ الجُعَل يمرّ بهم ، فيقولون له : هذا الجُعَل إلهك من دون الله؟ فيقول : نعم ، اقتداء منهم ممّا يبلغون من جهده» (١).

وقال المفسّر الخارجي الإباضي الجزائري محمّد بن يوسف اطفيش (ت / ١٣٣٢ ه‍) : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : «حال الإكراه مستمر ، حال القتل أو التعذيب ، أو ذاهل حالهما غير معتقد للكفر ، فإنه ليس بكافر ، لأنّ قلبه مطمئن بالإيمان ، وإن جرى لفظ الكفر على لسانه كرهاً» (٢).

ثمّ أورد قصّة عمار بن ياسر ، مع ما جرى للصحابي حبيب بن زيد الأنصاري وصاحبه مع مسيلمة الكذّاب.

ومنع التقية حال الإكراه على القتل أو الزنا ، قال : «لا يجوز له ولا يعذر» (٣).

وقال المراغي (ت / ١٣٦٤ ه‍) في معنى الآية الكريمة : «والمعنى ، أي : من كفر بالله بعد الإيمان والتبصّر فعليه غضب من الله ، إلا إذا أُكره على ذلك وقلبه مليء بالإيمان بالله والتصديق برسوله ، فلا تثريب عليه كما فعل عمار بن ياسر» (٤).

__________________

(١) تفسير القاسمي المسمّى ب : محاسن التأويل / جمال الدين القاسمي ١٦٥ : ١٠.

(٢) تيسير التفسير للقرآن الكريم / محمّد بن يوسف اطفيش ٩٧ : ٧.

(٣) م. ن ٩٩ : ٧.

(٤) تفسير المراغي ١٤٦ : ١٤.

٦٢

وقال المفسّر المعاصر محمد علي الصابوني الوهابي : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ..) : «أي : إلا من تلفّظ بكلمة الكفر مكرهاً ، والحال أنّ قلبه مملوء إيماناً ويقيناً .. قال المفسّرون : نزلت في عمار بن ياسر ، أخذه المشركون فعذّبوه حتى أعطاهم ما أرادوا مكرهاً» (١).

ثمّ أورد قصّة عمار بن ياسر ، وتقيته من المشركين على نحو ما مرّ في كلام من سبق من المفسّرين.

الآية الثالثة :

قال تعالى : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢).

اتّفق مفسّرو المذاهب والفرق الإسلامية على أنّ هذا الرجل الذي قال هذا القول فيما حكته هذه الآية الشريفة كان قد آمن بنبوّة موسى ولكنّه كان يكتم إيمانه خوفاً على نفسه من فرعون وأعوانه ، وقد روى بعضهم كما سيأتي أنّه قد كتم إيمانه مائة عام ، واختلفوا في من هو هذا الرجل ، والظاهر من أقوال أكثر المفسّرين أنّه كان ابن عمّ فرعون ، وممّا يؤيد قولهم إنّ لفظ (الآل) يقع عليه (٣).

وسبب قوله هذا إنّه علم بما قاله فرعون لقومه في موسى عليه‌السلام ، كما حكاه

__________________

(١) صفوة التفاسير / الصابوني ٢٢٧ : ٢.

(٢) غافر ٢٨ : ٤٠.

(٣) التفسير الكبير / الرازي ٥٦ : ٢٧ ، والكشاف / الزمخشري ٤٢٥ : ٣.

٦٣

القرآن الكريم بقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) (١).

وعلى الرغم من وضوح دلالة الآية على تقية هذا الرجل المؤمن ، إلا أنّه سنذكر طائفة من أقوال المفسّرين بشأن هذه الآية ، لكي يتأكّد من خلالها أنّ التقية كانت معروفة قبل الإسلام بقرون عديدة.

فقد نقل الماوردي (ت / ٤٥٠ ه‍) قول السدي (ت / ١٢٧ ه‍) : إنّ هذا الرجل كان ابن عمّ فرعون ، وهو الذي نجا مع موسى عليه‌السلام. ونقل عن ابن عباس (ت / ٦٨ ه‍) قوله : «لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره ، وامرأة فرعون ، وغير المؤمن الذي أنذر : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) (٢).

ثمّ قال : إنّه كان مؤمناً قبل مجيء موسى ، وكذلك امرأة فرعون ، قاله الحسن ، فكتم إيمانه ، قال الضحاك : كان يكتم إيمانه للرفق بقومه ، ثمّ أظهره ، فقال ذلك في حال كتمه» (٣).

ولا شك أنّ ما يعنيه كتمان الإيمان هو التقية لا غير ، لأنّه إخفاء أمر ما خشية من ضرر إفشائه ، والتقية كذلك.

ونقل ابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ ه‍) قول السدي المتقدّم ، ونقل عن الحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) أنّه قال : «كان مؤمناً قبل مجيء موسى» وعن مقاتل : «أنّه كتم إيمانه من فرعون مائة سنة» (٤).

__________________

(١) غافر ٢٦ : ٤٠.

(٢) القصص ٢٠ : ٢٨.

(٣) النكت والعيون / الماوردي ١٥٣ : ٥.

(٤) زاد المسير / ابن الجوزي ٢١٢ : ٧.

٦٤

وقال الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍) «إنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنّه كان يكتم إيمانه ، والذي يكتم يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون؟

ولهذا السبب حصل هنا قولان :

الأوّل : إنّ فرعون لما قال : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) لم يصرّح ذلك المؤمن بأنّه على دين موسى بل أوهم أنّه مع فرعون وعلى دينه ، إلا أنّه زعم أن المصلحة تقتضي ترك قتل موسى ، لأنّه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله ، والإثبات بالمعجزات القاهرة ، وهذا لا يوجب القتل ، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات.

الثاني : إن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أوّلاً ، فلمّا قال فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى ، وشافه فرعون بالحقّ» (١).

أقول : إن سياق الآية وما بعدها من آيات اخر يؤكّد صحة القول الأوّل من أنّه كان الرجل المؤمن يكتم إيمانه قبل قول فرعون وبعده أيضاً ، إذ لو كان قد أزال كتمان الإيمان لما قال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) وهذا لا يقوله من يظهر الإيمان ، وقد احتمل ابن الجوزي في هذا القول احتمالين ، وهما :

«أحدهما : مسرف على نفسه ، كذّاب على ربّه ، إشارة إلى موسى ، ويكون هذا من قول المؤمن.

الثاني : مسرف في عناده ، كذّاب في ادّعائه ، إشارة إلى فرعون (ويكون)

__________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ٦٠ : ٢٧.

٦٥

هذا من قوله تعالى» (١).

والأوّل أرجح ، فقد نصّ عليه أكثر المفسّرين ، ويدلّ عليه تظاهر هذا المؤمن بمظهر الناصح الشفيق عليهم ، الحريص على مصلحتهم ، وأنّه لا يهمّه أمر موسى عليه‌السلام بقدر ما تهمّه مصلحة فرعون وقومه كما في قوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ).

فهذا القول يدل بظاهره على أنّه أراد أن يوهمهم ، وإلا فهو غير شاكّ في أنّه سيصيبهم غضب الله تعالى فيما لو أقدموا على قتل موسى عليه‌السلام.

كما أنّ ما قاله هذا المؤمن لقومه بعد ذلك يدلّ على هذه الحقيقة ويرشد إليها.

كقوله : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) (٢).

وكقوله : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) (٣).

وكقوله : (وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ) (٤).

ولا شكّ أنّ هذه الأقوال تدلّ على أنّ هذا المؤمن كان يُشعر قومه بأقواله هذه بأنّه منهم وعلى دينهم واعتقادهم ، غاية الأمر أنّه يروم ما فيه مصلحتهم ، إذ عسى أن يكون موسى عليه‌السلام صادقاً فيما يقول فعند ما تحل

__________________

(١) زاد المسير ٢١٢ : ٧.

(٢) غافر ٢٩ : ٤٠.

(٣) غافر ٣٠ : ٤٠.

(٤) غافر ٣٢ : ٤٠.

٦٦

الندامة بهم كما حلّت بمن سبقهم ، بقتلهم الأنبياء عليهم‌السلام ، ولو لم يكن صادقاً فلن يضرهم ، لأنّ الله لا يهدي من هو مسرف كذّاب.

وأيّ كان الصحيح من القولين ، فإن الرجل المؤمن كان قد كتم إيمانه في صدرهِ على وجه التقية من قومه حفظاً على نفسه من بطش فرعون وأعوانه.

والقرآن الكريم لم يصفه على تقيته هذه بأنّه كان مخادعاً منافقاً يظهر خلاف ما يعتقد ، وأنّه لا يُعرف صدقه من كذبه ، بل وصفه بأحبّ الأوصاف إليه تعالى ، وهي صفة الإيمان ، فهو مؤمن بنصّ القرآن الكريم ، بل هو من الصدّيقين على لسان المصطفى (ص) ، وكفى بذلك فخراً.

فقد أخرج علماء الحديث من أهل السُّنّة ، عن ابن عباس وغيره ، عن رسول الله (ص) أنّه قال : الصدِّيقون ثلاثة : «حبيب النجار مؤمن آل ياسين ، ومؤمن آل فرعون الذي قال : (أتقتُلُون رجُلاً أن يقولَ ربِّي اللهُ) ، والثالث : علي بن أبي طالب ، وهو أفضلهم» (١) ، وهذا ما عرفه المفسّرون كما سيأتي في كلماتهم.

قال ابن عطيّة الأندلسي المالكي (ت / ٥٤١ ه‍) نقلاً عن الجوهري : «وقد أثنى الله على رجل مؤمن من آل فرعون كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله الله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر» (٢).

__________________

(١) أخرج الحديث المتّقي الهندي في كنز العمّال ٦٠١ : ١١ / ٣٢٨٩٧ ، ٣٢٨٩٨ ، عن ابن النجار ، عن ابن عبّاس. وعن أبي نعيم في الحلية ، وابن عساكر عن ابن أبي ليلى. وذكره القرشي في مسند شمس الأخبار : ٩٨ ، وقال محمّد بن حسين الجلال في حاشية كشف الأستار : ٩٨ : وحسّنه السيوطي. وقد أخرج هذا الحديث أغلب المفسّرين من أهل السنّة في تفسيرهم للآية المتقدّمة.

(٢) المحرّر الوجيز / ابن عطيّة ١٣٢ : ١٤.

٦٧

ثمّ أكّد أنّ قوله : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ) هو استنزال لهم ووعظ لهم من جهة ما هم عليه من شهوات ، مع التحذير من زوالها ، وبأُسلوب الناصح الشفيق لهم (١).

وقال القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) عن نصائح الرجل المؤمن ، وقوله لهم : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ما نصّه : «ولم يكن ذلك الشكّ منه في رسالته وصدقه ، ولكن تلطّفاً في الاستكفاف واستنزالاً عن الأذى» (٢) ، وهذا القول صريح بأنّ الرجل لم يُظهر إيمانه أمام فرعون ، وإلا فكيف يتّفق إظهار الإيمان مع رجاء التأثير عليهم في هذه النصائح المقرونة بالتلطّف في الاستكفاف والاستنزال عن الأذى؟

وقال عن قوله تعالى : (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) : «إنّ المكلّف إذا نوى الكفر بقلبه كان كافراً وإن لم يتلفّظ بلسانه ، وأمّا إذا نوى الإيمان بقلبه فلا يكون مؤمناً بحال حتّى يتلفّظ بلسانه ، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفّظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى ، إنّما تمنعه التقية من أن يسمعه غيره ، وليس من شرط الإيمان أن يسمعه الغير في صحّته من التكليف ، وإنّما يشترط سماع الغير له ، ليكفّ عن نفسه وماله» (٣).

وقال تاج الدين الحنفي (ت / ٧٤٩ ه‍) في قول المؤمن : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) : «هذا استدراج إلى الاعتراف بالبيّنات بالدلائل على التوحيد ... ولمّا صرّح

__________________

(١) المحرّر الوجيز ١٣٤ : ١٤.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٣٠٧ : ١٥.

(٣) م. ن ٣٠٨ : ١٥.

٦٨

بالإنكار عليهم غالطهم بعد في أن قسّم أمره إلى كذب وصدق ، وأبدى ذلك في صورة احتمال ونصيحة ، وبدأ في التقسيم بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) مداراة منه ، وسلوكاً لطريق الإنصاف في القول ، وخوفاً إذا أنكر عليهم قتله أنّه ممّن يعاضده وينصره ، فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتّى يسلم من شرّه ، ويكون ذلك أدنى إلى تسليمهم» (١).

وهذا الكلام متين ومنسجم مع سياق الآيات القرآنية الحاكية لأقوال هذا المؤمن لفرعون وقومه ، ولا شكّ أنّه قد أدرك بأنّ الاسلوب الأمثل لإقناع فرعون وهو ابن عمّه كما مرّ بترك ما أراد فعله هو النصح والمداراة ، ليكون أقرب إلى الأخذ بأقواله ممّا لو أعلن إيمانه ، فهو قد كذّب وقومه نبيّاً مرسلاً جاءهم بالمعجزات والدلائل الدالّة على صدقه ، فكيف يصدّقون بمن هو دونه وعلى دينه؟

ولقد أكّد هذا المعنى أبو حيّان الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ ه‍) بقوله : «قال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسمّيه علماؤنا : استدراج المخاطب. وذلك أنّه لمّا رأى فرعون قد عزم على قتل موسى والقوم على تكذيبه ، أراد الانتصار له بطريق يخفى عليهم بها أنّه متعصّب له ، وأنّه من أتباعه ، فجاءهم من طريق النصح والملاحظة فقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ، ولم يذكر اسمه ، بل قال : (رَجُلاً) يُوهم أنّه لا يعرفه ، ولا يتعصّب له (أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) ولم يقل : رجلاً مؤمناً بالله ، أو : هو نبيّ ، إذ لو قال شيئاً من ذلك لعلموا إنّه متعصّب ، ولم يقبلوا قوله. ثمّ اتّبعه بما بعد ذلك فقدَّمَ قوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً) موافقة لرأيهم فيه ، ثمّ تلاه بقوله : (وَإِنْ يَكُ صادِقاً) ،

__________________

(١) الدرّ اللقيط / تاج الدين الحنفي ٤٥٨ : ٧.

٦٩

ولو قال : هو صادق بكلّ ما يعدكم ، لعلموا إنّه متعصّب ، وإنّه يزعم أنّه نبي ، وإنّهُ يصدّقه ... ثمّ أتبَعهُ بكلام يُفهم منه أنّه ليس بمصدّق وهو قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) انتهى» (١).

ومن هنا يتبيّن أنّ ما ذهب إليه البرسوي الحنفي (ت / ه) في معنى قوله تعالى حكاية عن حال المؤمن : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) من أنّه كان يستره ويخفيه من فرعون وملئه لا خوفاً ، بل ليكون كلامه بمحلٍّ من القبول (٢) ، لا دليل عليه ، وتخالفه سائر الأقوال المتقدّمة واللاحقة أيضاً ، على أنّه قال بعد ذلك : «وكان قد آمن من بعد بمجيء موسى أو قبله بمائة سنة وكتمه» (٣).

ولعمري من أين له أن يعلم إنّ كتمان إيمانه قبل أن يسمع بمقولة فرعون بمائة عام كان من غير خوف على نفسه من الكافرين؟

قال الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ ه‍) بعد أن ذكر قول المؤمن : «ثمّ تلطّف لهم في الدفع عنه فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً ...) ، ولم يكن قوله هذا لشكّ منه ، فإنّه كان مؤمناً كما وصفه الله ولا يشكّ المؤمن» (٤).

وقال الآلوسي الوهابي (ت / ١٢٧٠ ه‍) وقد ذكر قول المؤمن لفرعون وقومه : «ثمّ إنّ الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به ، فتلطّف في الاحتجاج فقال : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) لا يتخطّاه وبال كذبه» (٥).

__________________

(١) البحر المحيط / أبو حيّان ٤٦١ : ٧.

(٢) روح البيان / البرسوي ١٧٧ : ٨.

(٣) م. ن ١٧٧ : ٨.

(٤) فتح القدير / الشوكاني ٤٨٩ : ٤.

(٥) روح المعاني / الآلوسي ٦٤ : ٢٤.

٧٠

وقال القاسمي (ت / ١٣٣٢ ه‍) عن الرجل المؤمن : «إنّه سلك معهم طريق المناصحة والمداراة ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وأدخل في تصديقهم له ، ليسمعوا منه ولا يردّوا عليه نصيحته ، وذلك أنّه حين فرضه صادقاً ، فقد أثبت أنّه صادق في جميع ما يعِدُ. ولكنّه أردفه (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، ليهضمه بعض حقّه في ظاهر الكلام ، ليريهم إنّه ليس بكلام من أعطاه حقّه وأثنى عليه ، فضلاً عن أن يكون متعصّباً له. وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل» (١).

وقال الخارجي الإباضي محمّد بن يوسف اطفيش (ت / ١٣٣٢ ه‍) عن الرجل المؤمن إنّه : «من القبط ، ابن عمّ فرعون ، وكان يجري مجرى ولي العهد ، ومجرى صاحب الشرطة ، وقيل : كان إسرائيليّاً ... فمعنى كونه من آل فرعون على القولين أنّه فيهم بالتقية مُظهراً أنّه على دينهم ، وظاهر قوله : (يا قَوْمِ) أنّه منهم» (٢).

وقال في مكان آخر : «واستعمل الرجل تقية على نفسه ، ما ذكر الله عزوجل عنه بقوله : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) ومعنى عليه كذبه : أنّه لا يتخطّاه وبال كذبه من الله تعالى فضلاً عن أن يحتاج في دفعه إلى قتله» (٣).

وقال الشيخ المراغي (ت / ١٣٦٤ ه‍) : «الرجل المؤمن هو ابن عمّ فرعون ، وولي عهده وصاحب شرطته ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله :

__________________

(١) محاسن التأويل / القاسمي ٢٣٢ : ١٤.

(٢) تيسير القرآن / محمّد بن يوسف اطفيش الإباضي ٣٤٣ : ١١.

(٣) م. ن ٣٤٤ : ١١ ٣٤٥.

٧١

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (١) ثمّ قال في تفسير الآية الكريمة : «أي : وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفاً على نفسه : أينبغي لكم أن تقتلوا رجلاً ما زاد على أن قال : ربّي الله ، وقد جاءكم بشواهد دالّة على صدقه؟ ومثل هذه المقام لا تستدعي قتلاً ، ولا تستحق عقوبة!

فاستمع فرعون لكلامه ، وأصغى لمقاله ، وتوقّف عن قتله» (٢).

وهكذا شاء الله أن يجعل من تقية هذا الرجل المؤمن رضي الله تعالى عنه ومن نصحه لقومه ، ومداراته وتلطّفه تقية في الكلام سبباً لدرء القتل عن موسى عليه‌السلام.

وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فكيف ساغ لبعضهم القول : بأنّ التقية من وضع أئمّة الرافضة ليبرّروا بها ما اختلف من أقوالهم؟

بل كيف يصحّ القول بعدئذٍ بأنّ من يتّقي هو مخادع كذّاب؟

الآية الرابعة :

قال تعالى : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً* إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (٣).

هذه الآية الكريمة هي من جملة الآيات المبيّنة لقصّة أصحاب الكهف في

__________________

(١) القصص ٢٠ : ٢٨.

(٢) تفسير المراغي ٦٣ : ٢٤.

(٣) الكهف : ١٩ : ١٨ ٢٠.

٧٢

القرآن الكريم ، ولأجل تقريب دلالتها على التقية كان لا بدّ من التعرّض لقصّتهم على نحو ما في كتب التفسير السُّنّية ، وباختصار كثير فنقول :

إنّ للمفسّرين في بيان قصّتهم أقوالاً ، أشهرها ثلاثة ، وهي :

القول الأوّل : إنّهم هربوا من مَلكهم بعد أن دعاهم إلى عبادة الأصنام ، فلجئوا إلى الكهف الذي سدّه الملك عليهم ليموتوا فيه. وإنّ رجلين من المؤمنين كانا يكتمان إيمانهما قد كتبا أسماء أهل الكهف في لوح من الرصاص وجعلاه في تابوت من نحاس وأثبتاه في باب الكهف ، لعلّ الله تعالى يُطلع عليهم قوماً مؤمنين فيعلمون أخبارهم ، وقد اسند هذا القول إلى ابن عبّاس رضي الله عنه (١).

وهذا القول يدلّ على أنّهم كانوا يتّقون من مَلكهم ، ويكتمون إيمانهم عنه قبل أن يكرههم ملكهم على عبادة الأصنام ، فلم يسعهم بعد ذلك إلا الهرب بدينهم ونجاة أنفسهم ، ولا شكّ أنّهم كانوا قبل ذلك ليس في عُزلة عن الناس ، وإنّما كانوا في معاشرة ظاهرة ، ومخالطة فيها من المداراة الكثير ، لأنّ كتم الإيمان لا يكون في العُزلة ، وإنّما يكون في المعاشرة والمخالطة ، وهذا هو معنى التقية.

القول الثاني : إنّهم هربوا من ملكهم بجناية اتُّهِم بها أحد المؤمنين من الذين كانوا يكتمون إيمانهم خوفاً على أنفسهم من ملكهم الكافر ، وكان أصحاب الكهف من رفاق هذا المؤمن ، فخافوا من الملك بعد أن أمر بطلبهم فهربوا إلى الكهف ، وقد نُسب هذا القول إلى وهب بن منبه (ت / ١١٤ ه‍) (٢).

__________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ١٠٩ : ٥ ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٣٥٧ : ١٠.

(٢) زاد المسير / ابن الجوزي ١١٠ : ٥.

٧٣

وهذا القول على الرغم من ضعفه بوهب ، وهو أحد أقطاب الإسرائيليّات ، وكان يقول بالقدر كما هو معروف في كتب التراجم ، إلا أنّه كالأوّل في دلالته على تقيتهم قبل هروبهم ، لأنّهم من المؤمنين بنصّ الكتاب العزيز ، وكان ملكهم كافراً باتّفاق المفسّرين ، ولا يمكن أن يجتمع المؤمن الضعيف مع كافر متسلّط من غير تقية في كتم الإيمان.

القول الثالث : وهو من أقوى الأقوال ، وخلاصته : أنّهم كانوا أبناء عظماء المدينة وأشرافهم ، خرجوا من المدينة على غير ميعاد لِمَا كان من أمر ملكهم دقيانوس الذي يعبد الأوثان ويجبر الناس على عبادتها ، فاتّفقت كلمة أصحاب الكهف على الهرب بدينهم وأنفسهم منه ، فلجئوا إلى الكهف ، وقد نُسب هذا القول إلى ابن عبّاس (ت / ٦٨ ه‍) ، ومجاهد بن جبر (ت / ١٠٣ ه‍) ، وعكرمة (ت / ١٠٥ ه‍) ، وقتادة (ت / ١١٨ ه‍) (١).

ويؤيّد هذا القول ما نسبه الفخر الرازي (ت / ٦٠٦ ه‍) إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام من أنّهم كانوا ستّة وسابعهم الراعي الذي وافقهم لمّا هربوا من ملكهم ، وكان ثلاثة منهم أصحاب يمين الملك ، وكان الملك يستشيرهم جميعاً في مُهمّاته (٢).

وهذا القول كسابقيه يدلّ على أنّهم كانوا يكتمون الإيمان مع منزلتهم

__________________

(١) زاد المسير / ابن الجوزي ١١٠ : ٥ ، التفسير الكبير / الرازي ٩٧ : ٢١ ، الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٣٥٩ : ١٠ ، والدرّ المنثور / السيوطي ٣٦٦ : ٥ ، تفسير أبي السعود / محمّد بن محمّد العمادي ٢٠٩ : ٦.

(٢) التفسير الكبير ١٠٦ : ٢١ ، وانظر جامع البيان / الطبري ١٥٠ : ١٥ ، والدر المنثور ٣٧٣ : ٥.

٧٤

وشرفهم في قومهم ولعلّ فيما حكاه الرازي أقوى في الدلالة على تقيتهم ، إذ لا يمكن بموجبه تصوّر عدم تقيتهم ، إلا أن يقال بأنّهم لم يكونوا من المؤمنين أصلاً ، وهذا احتمال باطل لم يقل به أحد قطّ ، وقد صرّح القرآن الكريم بخلافه ، حيث قال تعالى عنهم : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) (١).

وكيف يعقل عدم اتّقائهم وهم من مستشاري ملكهم الكافر؟

نعم ، قد يقال بأنّ قوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) (٢) بأنه دال على عدم تقيّتهم ، كما ورد في كتب التفسير لدى الشيعة الإمامية (٣) كما أنّ قولهم : («رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) هو قول من لا يرى التقية أصلاً ، فأين تقية أصحاب الكهف حينئذٍ؟

والجواب : إنّ هذا القول إن دلّ على عدم تقيّتهم فلا دليل عليه أنّهم كانوا لا يرون التقية قبل قولهم هذا ، وقد مرّ ما يشير إلى أنّ قولهم هذا كان في آخر أيام مكثهم بين قومهم ، وكانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محالة.

ولقد مرّ أيضاً في دلالة الآية السابقة على التقية أنّ مؤمن آل فرعون كما في أحد القولين قد أظهر إيمانه حين سمع فرعون اللعين يقول : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) ، وأنّ هذا المؤمن قد شافه فرعون بالحقّ ولم يتّق منه ، مع أنّه كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه بنصّ القرآن الكريم.

وبعد سلامة دلالة قول أصحاب الكهف المتقدّم على عدم التقية ، فيكون

__________________

(١) الكهف ١٣ : ١٨.

(٢) الكهف : ١٤ : ١٨.

(٣) هذا ما اختاره الشيخ الطوسي في التبيان ١٥ : ٧.

٧٥

موقفهم منها كموقف مؤمن آل فرعون ، حين شافه فرعون بالحقّ وترك التقية بعد أن كان عليها.

ويدلّ عليه ما ذكر أبو السعود العمادي التركي المفسّر (ت / ٩٨٢ ه‍) قال : «ونبؤهم حسبما ذكره محمّد بن إسحاق بن يسار أنّه قد مرج أهل الإنجيل ، وعظمت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم. فعبدوا الأصنام ، وذبحوا للطواغيت. وكان ممّن بالغ في ذلك ، وعتا عتوّاً كبيراً دقيانوس ، فإنّه غلا فيه غلوّاً شديداً ، فجاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه من المتمسّكين بدين المسيح عليه‌السلام ، وكان يتّبع الناس فيخيّرهم بين القتل وعبادة الأوثان» (١).

ومن هنا يُفهم أنّ تقية أصحاب الكهف قبل قولهم هذا كان فيها من مجاهدة النفس الشيء العظيم ، لأنّ ما يُكره عليه المسلم مثلاً من مسلم آخر ، فهو في أغلب الأحوال لا يكون مثل ما يُكره عليه المسلم من كافر. بل وما يكره عليه المسلم من قِبل الكافر مرّة واحدة أو مرّات ، لا يقاس بمعاناة الفتية الذين آمنوا بربّهم ، وقضوا جُلَّ حياتهم بين قوم عكفوا على عبادة الأوثان.

أقول : ولهذا ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام (ت / ١٤٨ ه‍) من طرق الشيعة الإمامية أنّه قال : «ما بلغت تقية أحد تقية أصحاب الكهف ، إن كانوا ليشهدون الأعياد ، ويشدّون الزنانير ، فأعطاهم الله أجرهم مرّتين» (٢).

وكيف لا يشدّون الزنّار على وسطهم ، وهم في أوساطهم؟ وكيف لا يشهدون أعيادهم ، وهم من أعيانهم؟

__________________

(١) تفسير أبي السعود ٢٠٩ : ٦ ، ومثله في معالم التنزيل / البغوي ٥٤١ : ٣.

(٢) اصول الكافي ١٧٤ : ٢ ١٧٥ / ١٤ و ١٩ كتاب الإيمان والكفر ، باب التقية.

٧٦

على أنّ القرآن الكريم قد أشار إلى تقيتهم بعد بعثهم من رقدتهم التي جعلها الله تعالى آية للعالمين ... حيث قال قائل منهم : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً).

قال الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍) : «وقوله : (وَلْيَتَلَطَّفْ) : أي : يكون ذلك في سرّ وكتمان ، يعني : دخول المدينة وشراء الطعام (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي : لا يخبرن بمكانكم أحداً من أهل المدينة» (١).

وقال القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) : «(وَلْيَتَلَطَّفْ) : أي في دخول المدينة وشراء الطعام (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أي : لا يخبرن ، وقيل : إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه ، (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ). قال الزجّاج : معناه : بالحجارة ، وهو أخبث القتل ، وقيل : يرموكم بالسبّ والشتم ، والأوّل أصحّ ، لأنّه كان عازماً على قتلهم كما تقدّم في قصصهم».

ثمّ بيّن في المسألة السادسة من مسائل هذه الآية حكم الوكالة إذا اقترنت بالتقية كما في توكيل أهل الكهف صاحبهم بشراء الطعام مع إيصائه بأن يتّقي قومه بإخفاء سرّه ما استطاع فقال ما نصّه : «في هذه الآية نكتة بديعة ، وهي أنّ الوكالة إنّما كانت مع التقية خوف أن يشعر بهم أحد لما كانوا عليه من خوف على أنفسهم ، وجواز توكيل ذوي العذر متّفق عليه» (٢).

وبعد فلا حاجة للإطالة في إيراد أقوال المفسّرين بمعنى قوله : (وَلْيَتَلَطَّفْ) فقد اتّفق جميع المفسّرين على القول بأنّ المراد من ذلك هو

__________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ٢١ / ١٠٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٣٧٦ : ١٠ ٣٧٧.

٧٧

إيصاله بأن يخفي أمره عن قومه ، لأنّهم إذا اطّلعوا على واقع الحال ، عرفوا المكان ، وإذا عرفوه فهم إمّا سيقتلون من فيه أو يجبرونهم على عبادة الأوثان (١).

نعم ذكر بعضهم وجهاً آخر للتلطّف ، خلاصته أن يكون على حذر من أهل المدينة بحيث لا يُغبن في شراء الطعام ، وهذا الوجه بعيد عن أجواء الآية الكريمة كلّ البعد ، خصوصاً مع قوله : (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) كما نبّه عليه الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ ه‍) (٢).

الآية الخامسة :

قال تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (٣).

ومعنى الآية كما نصّ عليه سائر المفسّرين : إنّ الله تعالى قد بيّن لكم الحلال من الحرام ، وازيل عنكم اللبس والشكّ ، ثمّ استثنى فقال : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي : ما اضطُررتم إليه من المحرّمات فهو لكم. والآية ناظرة لقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

__________________

(١) انظر : تفسير الماوردي ٢٩٤ : ٣ ، ومعالم التنزيل / البغوي ٥٥٧ : ٣ ، وروح البيان / البرسوي ٢٢٩ : ٥ ، وروح المعاني / الآلوسي ٢٣١ : ١٥ ، ومحاسن التأويل / القاسمي ١٨ : ١١ ، وتيسير التفسير / محمّد بن يوسف اطفيش الإباضي ٣٥٣ : ٧ ، وتفسير المراغي ١٣٣ : ١٥.

(٢) فتح القدير ٢٧٦ : ٣.

(٣) الأنعام ١١٩ : ٦.

(٤) البقرة ١٧٣ : ٢.

٧٨

ولا خلاف بين أهل الإسلام بجواز أكل المضطرّ لمثل هذه المحرّمات ، وهذا الاضطرار كما يحصل من الجوع في مخمصة ، فقد يحصل أيضاً نتيجة الإكراه عليه.

قال مجاهد بن جبر المكّي (ت / ١٠٣ ه‍) وهو من أئمّة المفسّرين من التابعين ، في تفسير الآية الخامسة : «يعني : اكره عليه ، كالرجل يأخذه العدوّ فيكرهونه على أكل لحم الخنزير وغيره في معصية الله تعالى ، إلا أنّ الإكراه يبيح ذلك إلى آخر الإكراه» (١).

وهذا دليل مضاف على ما تقدّم من أنّ التقية ليست في الكلام فقط ، وإنّما تكون في الفعل أيضاً ، حيث دلّت هذه الآية على جواز التقية في الفعل عند الإكراه عليه ، كما لو أكرَه الكافرُ مسلماً على أكل لحم الخنزير فإنّه يُباح له ذلك ، كما ابيح ذلك للمضطرّ ، ولا يسعه أن يمتنع.

قال الجصّاص الحنفي (ت / ٣٧٠ ه‍) : «ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم .. إنّه لو امتنع من أكل المباح معه حتى مات كان عاصياً لله تعالى» (٢).

الآية السادسة :

قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٢٢٧ : ٢.

(٢) أحكام القرآن / الجصّاص ١٢٧ : ١.

(٣) البقرة ١٩٥ : ٢.

٧٩

إنّ الاختلاف الحاصل في معنى قوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بين أقطاب المفسّرين من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم بين ترك النفقة في سبيل الله تعالى للخوف من الفقر ، كما ورد عن ابن عبّاس (ت / ٦٨ ه‍) ، وبين ترك الجهاد في سبيل الله تعالى كما ورد عن حذيفة (ت / ٣٦ ه‍) ، والحسن (ت / ١١٠ ه‍) ، ومجاهد (ت / ١٠٣ ه‍) وقتادة (ت ١١٨ / ه) ، والضحاك (ت / ١٠٥ ه‍) وغيرهم (١).

لا يعني هذا حصر التهلكة في هذين المعنيين ، إذ لا يُقيّد المعنى بسبب النزول اتفاقاً ، والعِبرة إنّما هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولهذا فالآية ناظرة وإن نزلت بسبب مخصوص إلى كلّ ما تؤدّي عاقبته إلى الهلاك ، إلا ما استثني منه بدليل معتبر ، كمن يكرهه السلطان الظالم على قتل رجل مؤمن فيأبى ، فيُقتل ، فهذا لا يعدّ ممّن قد ألقى نفسه إلى التهلكة ، ولكن لو كان الامتناع عن شرب الخمر يؤدّي إلى القتل حتماً ، فعندها سيكون الممتنع قد ألقى نفسه إلى التهلكة ، وهذا ما نبّه عليه الإمام الرازي في الآية الثانية عند بيانه مراتب الإكراه ، وقد عدّ الامتثال للمُكرِه واجباً على المُكرَه في مثل هذه الحال ، فراجع.

الآية السابعة :

قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) لا خلاف في أنّ أصل الحرج لغةً ، هو : الضيق (٣) ، ولا خلاف أيضاً في أنّ التقية لا تحصل إلا من جرّاء

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٣١٦ : ٢.

(٢) الحجّ ٧٨ : ٢٢.

(٣) لسان العرب / ابن منظور ١٠٧ : ٣ «حرَجَ».

٨٠