واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

على الآمر دية المقتول في ماله في ثلاث سنين!!

ثمّ نقل عن زفر ، إنّ هذا الإكراه باطل ، ويجب القصاص على القاتل ، وهو المأمور. ونقل عن مالك والشافعي ، أنّهما يقتلان ، الآمر والمأمور (١).

وسيأتي عن الشافعي في أحد قوليه ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه أنّه لا حدّ على القاتل!

ومن الجدير بالإشارة ، هو انّ المتّفق عليه بين علماء الشيعة الإماميّة قاطبة هو حرمة التقية في الدماء ، وانّه لا اكراه في ذلك ، وانّ من يقتل تحت ذريعة الإكراه هو كم يقتل باختياره عمداً ، قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «إنّما جعلت التقية ليحقن بها الدم ، فإذا بلغ الدم فليس تقية» (٢).

٢ ـ لو اكره السلطان رجلاً على أن يقطع يد رجُلٍ فقطعها ، ثمّ قطع يده الاخرى ، أو رجله من غير اكراه ، ولم يأمره السلطان بذلك ، أي : قطعها اختياراً ، فهل يجب عليه القصاص فيما قطعه مختاراً؟

الجواب : لا قصاص عليه ، وعلى الآمر ، وتجب الدية عليهما من مالهما عند أبي يوسف (٣)!

٣ ـ لو أفطر الصائم في يوم من أيّام شهر رمضان عن عمد واصرار ، ثمّ أكرهه السلطان بعد ساعة أو ساعتين من الإفطار المتعمد في شهر رمضان على السفر في ذلك اليوم ، فهل يكون مكرهاً على الإفطار؟ وتسقط عنه

__________________

(١) فتاوى قاضيخان / الفرغاني ٤٨٤ : ٥ مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.

(٢) اصول الكافي / الكليني ١٧٤ : ٢ / ١٦ كتاب الإيمان والكفر ، باب التقية ، والمحاسن للبرقي : ٢٥٩ / ٣١٠ كتاب مصابيح الظُّلَم ، باب التقية.

(٣) فتاوى قاضيخان ٤٨٦ : ٥.

٢٠١

الكفّارة؟ أم لا؟

الجواب : روى ابن زياد عن أبي حنيفة ، سقوط الكفّارة عنه (١)!

٤ ـ لو اكرِه الرجل على قتل موروثه بوعيدِ قتلٍ ، فقتَلَ ، لا يحرم القاتل من الميراث ، وله أن يقتل المكرِه قصاصاً لموروثه في قول أبي حنيفة ومحمّد.

وهذا يعني أنّ للرجل أن يقتل أباه تقية على نفسه من القتل!

ولو اكره على أن يظاهر امرأته كان مظاهراً ، ولو اكره على الإيلاء صحّ إيلاؤه ، ولو اكرِه على الطلاق يقع الطلاق (٢).

وهذا يعني انعدام الفرق بين الاجبار والاختيار ، في حالتي الطلاق والظهار ، وعدم الأخذ بحديث «إنّما الأعمال بالنيّات» المدّعى تواتره.

٥ ـ تجوز التقية إذا كان الإقدام على الفعل أولى من الترك ، وقد تجب إذا صار بالترك آثماً ، كما لو اكرِه على أكل الميتة ، أو أكل لحم الخنزير ، أو شرب الخمرة.

ويجوز للمكره النطق بكلمة الكفر ، وسبّ النبيّ (ص) ، وقلبه مطمئن بالإيمان.

ولو اكرِهت المرأة على الزنا بقيد أو حبس ، لا حدّ عليها ، لأنّها وإن لم تكن مكرهة ، فلا أقل من الشبهة (٣).

٦ ـ لو اكرِه الرجل على أن يجامع امرأته في شهر رمضان نهاراً ، أو أن

__________________

(١) فتاوى قاضيخان ٤٨٧ : ٥.

(٢) م. ن ٤٨٩ : ٥.

(٣) م. ن ٤٨٩ : ٥ ٤٩٢.

٢٠٢

يأكل أو يشرب ففعل ، فلا كفّارة عليه ، ويجب عليه القضاء (١).

امّا عن الإكراه نفسه ، ففي قول أبي حنيفة انّه لا يتحقّق إلا من السلطان ، وخالفه صاحباه محمّد وأبو يوسف بتحقّقه من كلّ متغلّب يقدر على تحقيق ما هدّد به ، قال الفرغاني : وعليه الفتوى ، ولو أمر السلطان من غير تهديد يكون اكراهاً (٢).

وقال الجصّاص الحنفي (ت / ٣٧٠ ه‍) : «من امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه ، متلفاً لها عند جميع أهل العلم ، ولو مات على هذه الحال كان عاصياً لله تعالى» (٣) ومن المباح الذي ذكره قبل ذلك هو أكل الميتة وغيرها من المعاصي عند الإكراه عليها أو الاضطرار إليها ، وعليه فالتقية واجبة فيما أباحه الإكراه عنده ، وقد جوّزها في شرب الخمر ، وأكل الميتة ، وقذف المحصنات (٤).

وفي كتاب المبسوط للسرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ ه‍) : يجوز ترك الصلاة الواجبة عند الإكراه على تركها ، وكذلك الافطار في شهر رمضان المبارك ، وقذف المحصنات ، والافتراء على المسلم.

وكما تصحّ التقية في هذه الامور تصحّ أيضاً في حالات كثيرة اخرى فيما لو اكره المرء عليها.

منها الزنا ، وأكل الميتة ، وأكل لحم الخنزير ، وشرب الخمرة ، وان من لم

__________________

(١) فتاوى قاضيخان ٤٨٧ : ٥.

(٢) م. ن ٤٨٣ : ٥.

(٣) أحكام القرآن / الجصاص ١٢٧ : ١.

(٤) م. ن ١٩٢ : ٣.

٢٠٣

يفعل ذلك وهو يعلم انّه يسعه كان آثماً ، وليس له أن يمتنع منه ، كما جوّز كلمة الشرك على اللسان تقية عند الإكراه (١).

امّا الإكراه المبيح لذلك عند الجصّاص الحنفي ، هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه من التلف ، إن لم يفعل ما اكرِه عليه.

أمّا الكاساني الحنفي (ت / ٥٨٧ ه‍) فقد توسّع في هذه المسائل كثيراً ، وسنختصر بعض ما قاله في بيان ما يقع عليه الإكراه.

انّ الإكراه عند الكاساني الحنفي في الأصل نوعان : نوع حسي ، وآخر شرعي ، وكلّ واحد منهما على ضربين : معين ، ومخيّر فيه.

أمّا الإكراه الحسي المعيّن :

فيشمل الأكل ، والشرب ، والشتم ، والاتلاف ، والقطع عيناً.

وأمّا الإكراه الشرعي :

فيشمل الطلاق ، والعتاق ، والتدبير ، والنكاح ، والرجعة ، واليمين ، والنذر ، والظهار ، والإيلاء ، والبيع ، والشراء ، والهبة ، والإجارة ، والإبراء عن الحقوق ، والكفالة بالنفس ، وتسليم الشفعة ، وترك طلبها ونحوها.

امّا التصرّفات الحسيّة من أكل وشرب ونحوهما ، فيتعلّق بها حكمان ، وهما :

الحكم الأوّل :

يرجع إلى الآخرة وهو على ثلاثة أنواع : مباح ، ومرخص ، وحرام.

__________________

(١) المبسوط / السرخسي ٤٨ : ٢٤ و ٥١ و ٧٧ و ٧٨ و ١٥٢ ، وقد ذكر اموراً اخرى كثيرة جدّاً ، راجع الجزء الرابع والعشرين كتاب الإكراه الذي شغل معظم صحائف هذا الجزء من المبسوط.

٢٠٤

ويدخل في النوع الأوّل : أكل الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، فللمكره ان يتناولها ، ولا يباح له الامتناع ، ولو امتنع فقُتل ، يؤاخذ ، لأنّه ألقى بنفسه إلى التهلكة. فالتقية واجبة في النوع الأوّل من الحكم الأوّل عنده.

ويدخل في النوع الثاني ، اجراء كلمة الكفر على اللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان ، وهذا هو محرم في نفسه ولكن رخصة التقية غيّرت حكم الكفر وهو المؤاخذة ، ولم تغيّر وضعه وهو الحرمة التي سقطت بعذر الإكراه.

ومثل هذا شتم النبي (ص) ، وشتم المسلم ، وإتلاف مال المسلم ، أو مال نفسه ، كلّ ذلك إذا كان الإكراه بوعيد متلف ، وإلا فلا يرخص بذلك ، وكذا بالنسبة إلى النوع الأوّل.

ويدخل في النوع الثالث ، قتل المسلم ، وضرب الوالدين ، والزنا بالنسبة للرجل ، امّا المرأة ففيه اختلاف ، واختار الكاساني حرمته.

الحكم الثاني :

يرجع إلى الدنيا.

المكرَه على المباح كشرب الخمر ونحوه لا يجب عليه شيء.

والمكرَه على الكفر لا يحكم عليه بالكفر.

والمكرَه على اتلاف مال الغير لا ضمان عليه ، وإنّما المُكرِه هو الضامن.

والمكرَه على القتل لا قصاص عليه عند أبي حنيفة وصاحبه محمّد ، ولكن يعزّر القاتل ، ويجب القصاص على المكرِه ، وعند أبي يوسف لا يجب القصاص لا على المكرِه ولا على المكرَه ، وإنّما تجب الدية على الأوّل.

٢٠٥

والمكره على الزنا لا يجب عليه الحدّ إذا كان الإكراه من السلطان عند أبي حنيفة ، وأمّا المرأة فلا حدّ عليها ، إلى آخر ما ذكره من كلام طويل أخذنا موضع الحاجة منه (١).

امّا ابن نجيم الحنفي (ت / ٧٩٠ ه‍) فقد نصّ على قاعدة هامّة توجب على المكرَه أو المضطرّ الموازنة بين المفسدة الناتجة من الاقدام على الفعل المكرَه عليه أو المضطر إليه ، وبين المفسدة الناتجة من حالة الترك ، وعليه بعد ذلك أن يراعي أعظمها ضراراً ، فيرتكب أخفّهما. ثمّ نقل عن الزيلعي قوله : «الأصل في جنس هذه المسائل : إن من ابتلي ببليتين ، وهما متساويتان ، يأخذ بأيّهما شاء ، وإن اختلفتا يختار أهونهما ، لأنّ مباشرة الحرام ، لا تجوز إلا للضرورة ، ولا ضرورة في حقّ الزيادة» (٢).

وفي مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لداماد أفندي الحنفي (ت / ١٠٧٨ ه‍) : إنّ البيع لا ينفذ مع الإكراه ، ولا دفع الهبة ، وللمكره على إتلاف مال المسلم أن يتلفه ، والضمان على المكرِه ، وإذا علم المُكرَه انّ المكرِه له على القتل سيقتله إن لم يقتل ، فله أن يقتل والقصاص على من أكرهه ، وعند أبي يوسف لا يجب القصاص على أحد (٣) وقد اعتذر السرخسي عن قول أبي يوسف هذا ، فقال : «وكان هذا القول لم يكن في السلف ، وإنّما سبق به أبو يوسف رحمه‌الله واستحسنه» (٤).

__________________

(١) بدائع الصنائع / الكاساني الحنفي ١٧٥ : ٧ ١٩١.

(٢) الأشباه والنظائر / ابن نجيم الحنفي : ٨٩.

(٣) مجمع الأنهر في شرح ملتقى / داماد أفندي ٤٣١ : ٢ ٤٣٣.

(٤) المبسوط / السرخسي ٤٥ : ٢٤.

٢٠٦

ونكتفي بهذا القدر محيلين من أراد المزيد عن التقية في فقه الأحناف إلى مصادرهم الفقهية (١).

__________________

(١) الهداية / المرغيناني ٢٧٥ : ٣ ، شرح فتح القدير / ابن عبد الواحد ٦٥ : ٨ ، اللباب / الميداني ١٠٧ : ٤ ، النتف في الفتاوى / السغدي ٦٩٦ : ٢ ، البحر الرائق / ابن نجيم ٧٠ : ٨ ، تحفة الفقهاء / السمرقندي ٢٧٣ : ٣ ، الفتاوى الهندية / الشيخ نظام ٣٥ : ٥ ، مجمع الضمانات / ابن محمّد البغدادي : ٢٠٤ ، ردّ المحتار على الدرّ المختار / ابن عابدين ٨٠ : ٥ ، تقريرات الرافعي على حاشية ابن عابدين / محمّد رشيد الرافعي ٢٧٨ : ٢ ، الفروق / الكرابيسي ٢٦٠ : ٢ ، غمز عيون البصائر / شهاب الدين الحموي ٢٠٣ : ٣ و ٣٣٩ : ٤ ، والمبسوط للسرخسي الجزء الرابع والعشرون كلّه تقريباً.

٢٠٧

التقيّة في الفقه الشافعي

تصحّ التقيّة عند الإمام الشافعي (ت / ٢٠٤ ه‍) في الامور التي يباح للمكرَه التكلّم بها ، أو فعلها مع كونها محرّمة شرعاً.

من ذلك التلفّظ بكلمة الكفر ، مع اطمئنان القلب بالإيمان ، ذلك لأنّ قول المكره عند الشافعي كما لم يقل في الحكم ، وقد أطلق القول فيه ، حتى اختار عدم ثبوت يمين المكرَه عليه ، واحتج له بما ورد في الكتاب العزيز ، والسنّة المطهّرة ، ونسب القول بهذا إلى عطاء بن أبي رباح (ت / ١١٤ ه‍) أحد أعلام التابعين (١).

وقال الكيا الهراسي الشافعي (ت / ٥٠٤ ه‍) عمّن يكفر بالله تعالى مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان : «إنّ حكم الردّة لا يلزمه ... إنّ المشرّع غفر له لما يدفع به عن نفسه من الضرر ... واستدلّ به أصحاب الشافعي على نفي وقوع طلاق المُكرَه ، وعتاقه ، وكل قول حُمل عليه بباطل ، نظراً لما فيه من حفظ حقّه عليه ، كما امتنع الحكم بنفوذ ردّته حفظاً على دينه» (٢).

__________________

(١) أحكام القرآن / الإمام الشافعي ١١٤ : ٢ ١١٥.

(٢) أحكام القرآن / الكيا الهراسي ٢٤٦ : ٣.

٢٠٨

وتصحّ التقيّة عند الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍) في شرب الخمرة ، وأكل الميتة وأكل لحم الخنزير ، وتجب التقية إذا كان الإكراه عليها بالسيف ، لأنّ الحفاظ على الحياة واجب ، للنهي الوارد في القرآن الكريم عن القاء النفس إلى التهلكة.

والمباح عند الفخر الرازي هو النطق بكلمة الكفر ، ولا يجب عليه النطق ، وإنّما يباح ، والحرام هو القتل ، وإن قتل المكرَه ففي أحد قولي الشافعي يجب القصاص (١) أمّا القول الآخر فلا يجب. والظاهر ، بل المتيقّن من كلام فقهاء الشافعية ومفسّريهم انّ القول الأوّل أصحّ ، وهو القول الذي عليه الفُتيا عندهم.

على أنّ الرازي لم يقيّد ما ذكره من التقية بحالة بكون الإكراه من كافر لمسلم ، بل جوّزه فيما لو حصل من مسلم لآخر ناسباً ذلك القول إلى الإمام الشافعي (٢).

كما قال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ ه‍) برخصة التقية عند الإكراه على تلفّظ كلمة الكفر (٣) ، وقد مرّ في الفصل الأوّل ترخيص ذلك للمكرَه من قِبل الكثيرين من مفسّري الشافعية ولا حاجة إلى إعادة أقوالهم.

وعند النووي الشافعي (ت / ٦٧٦ ه‍) لو حلف إنسان بالله تعالى كاذباً ، فلا كفارة عليه إن كان مكرهاً عليه ، ذلك لأنّ «يمين المكره غير لازمة عند مالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأكثر العلماء ... وأمّا المكرَه ، فلا تصحّ يمينه لِمَا

__________________

(١) التفسير الكبير / الرازي ١٢١ : ٢٠.

(٢) م. ن ١٤ : ٨.

(٣) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ٢٦٣ : ١٢.

٢٠٩

روى واثلة بن الأسقع ، وأبو امامة (رضي الله عنهما) أنّ رسول الله (ص) قال : ليس على مقهور يمين» (١).

ونفى النووي القطع بحقّ السارق عند الإكراه على السرقة ، كما حكم بعدم ردّة المكره على الكفر (٢).

وقد علّق الشربيني الشافعي (ت / ٩٧٧ ه‍) على قول النووي بعد أن استدل بالآية الكريمة من قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فقال : «لا يكون مرتدّاً ، لأنّ الإيمان كان موجوداً قبل الإكراه ، وقول المكره ملغى ما لم يحصل فيه اختيار لِمَا اكرِه عليه ، كما لو اكرِه على الطلاق ، فإنّ العصمة كانت موجودة قبل الإكراه ، فإذا لم يحصل منه اختيار لما اكرِهَ عليه ، لم يقع عليه طلاق» (٣).

أمّا لو اكرِه رجل على قتل المسلم بغير حقّ فقتله ، قال النووي الشافعي في المجموع بعد أن أوجب القود على المكرِه : «وأمّا المكرَه بالفتح ففيه قولان :

أحدهما : لا يجب عليه القود ، لأنّه قتله للدفع عن نفسه ، فلم يجب عليه القود ، كما لو قصده رجل ليقتله للدفع عن نفسه» (٤)!

وهذا القول ، وكل قول أسقط القصاص عن القاتل كرهاً هو في غاية الصراحة بجواز التقية في الدماء ، التي سبق إليها أبو يوسف فأسقط

__________________

(١) المجموع شرح المهذّب / النووي ٣ : ١٨.

(٢) منهاج الطالبين / النووي ١٣٧ : ٤ و ١٧٤.

(٣) مغني المحتاج في شرح المنهاج / الشربيني ١٣٧ : ٤ مطبوع بحاشية منهاج الطالبين.

(٤) المجموع شرح المهذّب / النووي ٣٩١ : ١٨.

٢١٠

القصاص من الجميع القاتل والآمر بالقتل!

ومن التقية في الفقه الشافعي ، سقوط الحدّ عمّن تزني كرهاً ، كما صرّح به الإمام الشافعي.

قال : «إذا استكرَه الرجل المرأة أُقيم عليه الحدّ ، ولم يقم عليها ، لأنّها مستكرهة» (١).

ولو كانت التقية محرّمة في حالة الإكراه على الزنا مطلقاً ، لأوجب الحدّ على من تزني كرهاً ، كما أوجبه على من يكرهها عليه.

ومن موارد التقية أيضاً ، ما صرّح به السيوطي الشافعي (ت / ٩١١ ه‍) من جواز النطق بكلمة الكفر عند الإكراه ، ونقل عن بعضهم بأنّ الأفضل هو التلفّظ صيانة للنفس. ثمّ ذكر موارد اخرى جوّز فيها التقية عند الإكراه.

منها : السرقة ، وشرب الخمرة ، وشرب البول ، وأكل الميتة ، وأكل لحم الخنزير ، وإتلاف مال الغير ، وأكل طعام الغير ، وشهادة الزور إن كانت في إتلاف الأموال والإفطار في شهر رمضان ، وترك الصلاة المفروضة ، والزنا على قول.

وباختصار : إنّ كلّ ما يسقط بالتوبة الخالصة لله تعالى يسقط بالإكراه ، على حد تعبيره (٢).

ثمّ بيّن بعد تلك الامور التي جوّز فيها التقية عدم اشتراط كون الإكراه عليها بالقتل أو الوعيد المتلف للأعضاء وما شابه ذلك من الإكراهات

__________________

(١) الام / الإمام الشافعي ١٥٥ : ٦.

(٢) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي / السيوطي : ٢٠٧ ٢٠٨.

٢١١

الشديدة ، فقال عمّا يحصل به الإكراه ما نصّه :

«إنّه يحصل بكلّ ما يؤثّر العاقل الإقدام عليه حذراً ممّا هدّد به ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، والأفعال المطلوبة ، والامور المخوّف بها ، فقد يكون الشيء إكراهاً في شيء دون غيره ، وفي حقّ شخص دون آخر» (١) ، ولله دره على هذا الكلام!

__________________

(١) الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الفقه الشافعي / السيوطي : ٢٠٩.

٢١٢

التقية في الفقه الحنبلي

صرّح ابن قدامة الحنبلي (ت / ٦٢٠ ه‍) بإباحة التقية في حالات الإكراه ، وقال في تبرير إباحة فعل المكرَه : «وإنّما ابيح له فعل المكرَه عليه ، دفعاً لما يتوعّده (المكرِه) به من العقوبة فيما بعد» (١).

ومن التقيّة في الفقه الحنبلي ، الإكراه على كلمة الكفر. وقد صرّح بذلك مفسّرو الحنابلة كابن الجوزي (ت / ٥٩٧ ه‍) في زاد المسير ، فقد نصّ على جواز الكفر تقية عند الإكراه على الكفر.

أمّا الاكراه المبيح لذلك عند أحمد بن حنبل (ت / ٢٤١ ه‍) في أصحّ قوليه ، أنّه يخاف على نفسه ، أو على بعض أعضائه التلف إن لم يفعل (٢).

وعند ابن قدامة : إن من اكرِه على كلمة الكفر فأتى بها تقيّة لا يحكم بردّته ، قال : «وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي» ثمّ استدلّ بالكتاب العزيز ، والسنّة المطهّرة على صحّة ما ذهب إليه.

__________________

(١) المغني / ابن قدامة ٢٦٢ : ٨.

(٢) زاد المسير / ابن الجوزي ٦٩٦ : ٤.

٢١٣

بل وحتّى لو كان الأمر ظاهراً في إكراه المسلم على النطق بالكفر من غير تهديد ، ووعيد ، وضرب لا يحكم بردّته ، إن قامت البيّنة على أنّه كان محبوساً عند الكفّار ، أو مقيّداً عندهم ، وهو في حالة خوف (١).

ومن مسائل الإكراه التي تصحّ معه التقية في الفقه الحنبلي ما ذكره ابن قدامة ، منها : الزنا ، فمن استكرَه امرأة على الزنا ، فعليه الحدّ دونها ، لأنّها معذورة ، وعليه مهرها ، حرّة كانت أو أمَة ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يجب المهر ، لأنّه وطء يتعلّق به وجوب الحدّ ، فلم يجب به المهر ، كما لو طاوعته.

قال : «والصحيح الأوّل ، لأنّها مكرهة على الوطء الحرام فوجب لها المهر» (٢).

وقال في مسألة اخرى : «ولا حدّ على مكرهة في قول عامّة أهل العلم ، روي ذلك عن عمر ، والزهري ، وقتادة ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، ولا نعلم فيه مخالفاً ، وذلك لقول رسول الله (ص) : «عفى لُامّتي عن الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه».

ثمّ روى آثاراً عن الصحابة تدلّ على صحّة ذلك (٣).

وقال في مسألة اخرى : «وإن اكرِه الرجل فزنى ، فقال أصحابنا عليه الحدّ ... وقال أبو حنيفة : إن اكرهه السلطان ، فلا حدّ عليه ، وإن أكرهه غيره حُدّ استحساناً. وقال الشافعي ، وابن المنذر : لا حدّ عليه لعموم الخبر (٤).

__________________

(١) المغني / ابن قدامة ١٠ ٩٧ مسألة : ٧١١٦.

(٢) م. ن ٤١٢ : ٥ مسألة ٣٩٧١.

(٣) م. ن ١٥٤ : ١٠ مسألة : ٧١٦٦.

(٤) م. ن ١٥٥ : ١٠ مسألة : ٧١٦٧.

٢١٤

ومنها : لو اكرهت المرأة على الجماع ، فلا كفّارة عليها في الفقه الحنبلي ، رواية واحدة ، وعليها القضاء (١).

ومنها : الإكراه على الطلاق ، فلو اكرِه الرجل على طلاق زوجته ، لم يلزمه ، ولا تختلف الرواية عن الإمام أحمد بن حنبل في عدم صحّة طلاق المكرَه ، وهذا هو المروي كما صرّح به ابن قدامة عن علي عليه‌السلام ، وعمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن سمرة قال : «وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير ، وعكرمة ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وشريح ، وعطاء ، وطاووس ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن عون ، وأيّوب السختياني ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد.

وأجازه أبو قلابة ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، وأبو حنيفة ، وصاحباه ، لأنّه طلاق من مكلّف في محلّ يملكه ، فينفذ كطلاق غير المكره».

ثمّ احتجّ للأوّل بحديث : «وضع عن امّتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه» (٢).

ومن هنا يتبيّن انّ التقية في الزنا تسقط الحدّ عن المرأة ، ولا مخالف فيه ، وللمرأة أن تتقي لو اكرهت على الجماع ، ولا كفّارة عليها ، كما أنّ التقية تصحّ عند الإكراه على الطلاق في الفقه الحنبلي وإن كان لا يلزم المكره طلاقاً ، أمّا الذي ألزمه الطلاق ، فلم يمنع من التقية فيه أيضاً.

ويدخل في التقيّة لدى الحنابلة الأكل من الميتة ، وسائر المحرّمات الاخرى

__________________

(١) المغني ٦٢ : ٣ مسألة : ٢٠٥٥.

(٢) م. ن ٢٦٠ : ٨ مسألة : ٥٨٤٦.

٢١٥

التي لا تزيل العقل ، ويباح ذلك لمن اضطرّ إليها.

قال الفقيه الحنبلي بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي (ت / ٦٢٤ ه‍) : «أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر ، وكذلك سائر المحرّمات ، التي لا تزيل العقل» (١).

ولا يخفى أنّ الداعي لإباحة أكل الميتة وإتيان سائر المحرّمات الاخرى التي لا تزيل العقل هو الاضطرار إليها ، والاضطرار الذي يحصل من جرّاء مخمصة ، يحصل أيضاً من الإكراه الشديد عليها.

__________________

(١) العُدَّة في شرح العمدة / المقدسي الحنبلي : ٤٦٤.

٢١٦

التقيّة في الفقه الزيدي

جاء في البحر الزخّار لأحمد بن مرتضى اليماني الزيدي (ت / ٨٤٠ ه‍) إنّ : «ما أباحه الاضطرار أباحه الإكراه ، لقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وقال أيضاً : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) وهي في عمار وياسر حين اكرها على الكفر. وترك ما اكره عليه أفضل وإن قُتل» (١).

وقد وضّح الصعدي الزيدي (ت / ٩٥٧ ه‍) في جواهر الأخبار ما أشار إليه أحمد بن مرتضى اليماني في البحر الزخار من نزول قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) في عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ ه‍) رضي الله عنه.

وقال في البحر أيضاً : والإكراه يكون بوعيد القادر ، إمّا بقتلٍ ، أو قطع عضو ، أو ضرب ، أو طعن بذي حدّ ، وهذا مؤثّر إجماعاً. وإمّا بلطم أو ضرب ، فيشترط كونه مؤثّراً في التضرّر ، وأمّا الحبس فلا بدّ من كونه كذلك ، فالساعة ليس بإكراه ، والسَّنة اكراه ، وما بينهما مختلف ، والضابط التضرّر ، ومنه القيد ، والكتف ، وطرح العِمامة ، والجر بالرجل في الملأ ،

__________________

(١) البحر الزخار / أحمد بن مرتضى ٩٨ : ٦ كتاب الإكراه.

٢١٧

فيؤثّر فيمن له رتبة علم ، أو شرف لا في ذوي الدناءة ، وكذلك السبّ والشتم ... وفي الوعيد بأخذ المال ، وجهان : أصحّهما إكراه».

ثمّ عدّد بعد ذلك الامور المختلف فيها ، هل هي اكراه ، أو لا؟ فقال : «والعِبرة في التضرّر ، أي يجري مجرى حدوث علّة ، أو زيادتها ، أو استمرارها كما مرّ لأصحابنا فيما يبيح ترك الواجب» (١).

ويفهم من ذلك لا سيّما مع قوله المتقدّم ، ما أباحه الاضطرار أباحه الإكراه انّ التقيّة تصحّ عنده في جميع هذه الامور التي حسبها إكراهاً.

كما أنّه أباح التقيّة فيما لم يتعدّ ضرره إلى الغير وادّعى عليه الإجماع ، فقال : «وما لم يتعدّ ضرره إلى الغير فيباح له كلمة الكفر والمسكر ونحوه إجماعاً ، ولا يباح القذف بالإكراه ، ولا السبّ لتعدّي ضررهما ، وتعظيم الله تعالى إيّاه لتسميته (بُهْتاناً عَظِيماً) (٢) ، ولا يباح الزنا بالإكراه إجماعاً ، ويصحّ إكراه المرأة فيسقط الحدّ والإثم ، حيث لا تمكّن من الدفع ، ويباح مال الغير بالإكراه بشرط الضمان كالاضطرار».

ثمّ بيّن اختلافهم في إكراه الرجل على الزنا بين سقوط الحدّ وبين وجوب إقامته (٣).

على أنّ بعض الامور التي منع فيها التقية ، قد خالفه بها الإمام محمّد بن علي الشوكاني (ت / ١٢٥٠ ه‍) ، وهو من أشهر أئمّة الزيدية المعروفين ، في الفقه ، والاصول ، والتفسير ، والحديث ، وسيمرّ بنا كلامه.

__________________

(١) البحر الزخّار ٩٩ : ٦.

(٢) كما في سورة مريم ، الآية ١٥٦.

(٣) البحر الزخّار ١٠٠ : ٦.

٢١٨

وجاء في حدائق الأزهار : «ويجوز باكراه القادر بالوعيد بقتل أو قطع عضو كل محظور ، إلا الزنا. وإيلامه أو هى ، وسبّه ، ولكن يضمَن المال ، ويتأوّل كلمة الكفر ، وما لم يبق له فيه فعل فكَلا فِعل ، وبالاضرار ترك الواجب ، وبه تبطل أحكام العقود. وكالإكراه خشية الغرق ونحوه» (١).

وقد شرح الشوكاني عبارة الحدائق في سيله الجرّار ، بأنّ جواز فعل ما يكره عليه بالوعيد بالقتل ، أو قطع العضو ، قد أذن به الشرع ، ورفع التكليف به ، قال : «ولا شكّ أنّ الكفر هو الغاية التي ليس ورائها غاية في معصية الله عزوجل ، وقد أباح الله التكلّم بكلماته مع الإكراه ، بقوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) (٢)» (٣).

ثمّ قال : «وأمّا الإكراه بالاضرار فقط ، فالظاهر انّه يجوز به فعل المحظور ... وأيضاً قد أباح الله أكل الميتة لمجرّد الاضطرار إليها ، وأكلها من جملة المحظورات كما هو معلوم. ومن جملة ما يدلّ على الجواز مع مطلق الضرر قوله عزوجل : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (٤)» (٥).

ثمّ بيّن وجه استثناء الزنا من المحظورات ، لأنّه فاحشة كبرى ، أمّا وجه استثناء إيلام الآدمي ، فلأنّه لا يجوز دفع الضرر عن نفسه بإنزاله بغيره.

وردّ على الحدائق بأنّه لا وجه لمنع سبّ الآدمي عند الإكراه ، كما ردّ القول

__________________

(١) حدائق الأزهار / أحمد بن يحيى الملقّب بالمهدي : ٢٦٤ مطبوع مع شرحه السيل الجرّار للشوكاني.

(٢) النحل : ١٦ / ١٠٦.

(٣) السيل الجرّار المتدفّق على حدائق الأزهار / الشوكاني ٢٦٤ : ٤.

(٤) آل عمران ٢٨ : ٣.

(٥) السيل الجرّار ٢٦٥ : ٤.

٢١٩

بضمان المكرَه لما أتلفَ من مال كرهاً ، وأوجبه على المكرِه ، فقال : «لأنّه لا حكم لمباشرته مع الإكراه ، بل يكون الضمان على فاعل الإكراه» (١).

وقال في شرح عبارة الحدائق «وبالاضرار ترك الواجب ، وبه تبطل أحكام العقود» : «أقول : إذا جاز بالاضرار فعل ما حرّمه الله سبحانه كما قرّرنا فكيف لا يجوز به ترك الواجب؟ وكيف لا تبطل به المعاملات؟ فإن بطلانها ممّا لا ينبغي أن يتردّد فيه متردّد ، أو يشكّ فيه شاكّ .. انّ المناط الشرعي في جميع المعاملات هو التراضي كما قال عزوجل : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (٢) ، وأي رضا يوجد مع الإكراه؟» (٣).

وقد مرّ في الفصل الأوّل عن الشوكاني أيضاً تجويزه الموالاة للكافر تقيّة لمحافظة النفس ، أو العرض ، أو المال عند الإكراه عليها (٤) مصرّحاً بإجماع أهل العلم على مشروعيّة التقية بقوله :

«أجمع أهل العلم على أنّ من اكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل ، إنّه لا إثم عليه إن كفَر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر» (٥).

__________________

(١) السيل الجرّار ٢٦٥ : ٤.

(٢) النساء ٢٩ : ٤.

(٣) السيل الجرّار / الشوكاني ٢٦٦ : ٤.

(٤) فتح القدير / الشوكاني ٣٣١ : ١.

(٥) م. ن ١٩٧ : ٣.

٢٢٠