واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

أحدهما : «الرقيب والأمين يُلزَم به العامل لئلا يخون فيما يجبي ، يقال : أرسله ضاغطاً على فلان ، سمّي بذلك لتضييقه على العامل» (١) ، وهذا المعنى هو القريب المتبادر من كلام معاذ بقرينة السؤال عن العراضة ، أي الهدية.

والآخر : هو الحافظ الأمين أي : الله عزوجل ، وهذا المعنى البعيد هو المراد بقول معاذ ، ولكنّه أوهم زوجته بالأوّل.

وممّا سوّغ ذكره هنا على الرغم من أنّ التورية غير التقية هو أنّ التورية تشترك مع التقية في التخلّص من الضرر عند الإكراه أو الاضطرار ، وتُقدّم على التقية ما أمكن ، كما تشتركان في أنهما عبارة عن إظهار شيء غير مراد أصلاً.

وسبب آخر سوّغ ذلك هو أنّ بعض الكتّاب حمل ما ورّى به الإمام الصادق عليه‌السلام عن نفسه في بعض أحاديث الكافي على التقية ، من ذلك قول الصادق عليه‌السلام لمن سأله من الزيدية : «أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ فقال : لا .. الحديث» (٢).

فالمقصود : ليس فينا إمام مفترض الطاعة بزعمكم. أو ليس من بني فلان من أولاد عليّ عليه‌السلام مفترض الطاعة ، وإلا ففرض طاعتهم قد نصّ عليها القرآن ، والنبي الأكرم ، وأحاديثهم هم عليهم‌السلام في فرض طاعتهم لا سيّما عن الإمام الصادق لا تكاد تحصى كثرة.

وقد ناقشنا هذا الحديث وسائر أحاديث الكافي الاخرى التي تَوجّه لها طعن

__________________

(١) لسان العرب / ابن منظور ٦٧ : ٨ ضغط.

(٢) اصول الكافي ١٨١ : ١ / ١ كتاب الحجّة ، باب ما عند الأئمّة عليهم‌السلام من سلاح رسول الله (ص) ومتاعه.

١٠١

بعض الكتّاب من أهل السنّة كما أشرنا إلى ذلك في مقدّمة هذا البحث.

وبالجملة فإنّ التورية تسبق التقية عادة ، بل أوجبها عند تمكّن المضطرّ منها أكثر المفسّرين من أهل السنّة تخلصاً من التقية.

٥ ـ عمر بن الخطّاب (ت / ٢٣ ه‍) :

حدّث البخاري أنّ عمر بن الخطاب يوم أسلم ، أو يوم أراد أن يدخل الإسلام كان خائفاً مذعوراً من المشركين ، واضطرّ إلى ملازمة داره خوفاً من أن يخرج فيُقتل وبقي على هذا الحال حتى انقذه العاص بن وائل ، وكان حليفاً لهم في الجاهلية.

وإليك نصّ ما قاله عبد الله بن عمر بن الخطاب في إسلام أبيه ، كما في رواية البخاري من طريق يحيى بن سليمان في باب إسلام عمر بن الخطاب.

قال : «بينما هو في الدار خائفاً إذ جاءه العاص بن وائل السهمي أبو عمرو عليه حُلّةُ حِبَرَةٍ ، وقميص مكفوف بحرير ، وهو من بني سهم ، وهم حلفاؤنا في الجاهلية ، فقال له : ما بالك؟ قال : زعم قومك أنّهم سيقتلونني إن أسلمت. قال : لا سبيل إليك.

بعد أن قالها أمِنت. فخرج العاص ، فلقي الناس قد سال بهم الوادي ، فقال : أين تريدون؟ فقالوا : نريد هذا ابن الخطاب الذي صبا. قال : لا سبيل إليه. فكرّ الناس» (١).

أقول : إنّ عبارة : (بعد أن قالها أمِنت) هي من قول عمر ، أي : بعد ما قال

__________________

(١) صحيح البخاري ٦٠ : ٥ ، باب إسلام عمر بن الخطاب.

١٠٢

العاص : (لا سبيل إليك) أمنت ، وليس هي من قول ابنه كما نصّ عليه ابن حجر (ت / ٨٥٢ ه‍) في فتح الباري ، ثمّ قال : «وفي رواية الاسماعيلي : فقلت لعمر : من الذي ردّهم عنك يوم أسلمت؟ قال : يا بني ذاك العاص بن وائل» (١).

وهذا الحديث المروي في الصحيح صريح جدّاً بخوف عمر يوم أسلم من المشركين وتقيّته منهم حيث لزم داره.

وهذا يعني أنّ عمر بن الخطاب قد بدأ عهده بالاسلام مع التقية.

٦ ـ تقية رجل قرشي من عمر بن الخطاب :

قال ابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ ه‍) : «إنّ عمر بن الخطاب استعمل رجلاً من قريش على عمل ، فبلغه أنّه قال :

اسقِنِي شُربَةً ألذُّ عليهَا

واسقِ باللهِ مِثلَها ابن هشَامِ

فأشخصه إليه ، وذُكر أنّه إنّما أشخصه من أجل البيت. فضمّ إليه آخر ، فلمّا قدم ، قال عمر : ألست القائل :

اسقني شربة الذ عليها

واسق بالله مثلها ابن هشام؟

قال : نعم يا أمير المؤمنين.

عسَلاً بارِداً بِماءِ سحَابٍ

إنّنِي لا أُحِبُّ شُربَ المُدَامِ

قال : الله الله ، ارجع إلى عملك» (٢).

__________________

(١) فتح الباري ١٤١ : ٧ ، باب إسلام عمر بن الخطاب.

(٢) كتاب الأذكياء / ابن الجوزي : ١٣٠ ، وفيه الشيء الكثير من ذلك ، فراجعه.

١٠٣

٧ ـ تقيّة امرأة من عمر بن الخطاب :

روى عبد الله بن بريدة قال : بينا عمر يعسّ ذات ليلة ، انتهى إلى باب متجانف وامرأة تغنّي نسوة :

هل مِن سبيل إلى خَمرٍ فأشرَبُها

أم هل سبيل إلى نصرِ بنِ حجّاجِ

ثمّ ذكر ما كان من عمر وكيف أنّه دعا نصراً فوجده من أحسن الناس وجهاً وعيناً وشعراً ، فأمر عمر بشعره فجزّ ، ونفاه إلى البصرة بسبب شعر هذه المرأة به. ثمّ قال :

«وخافت المرأة التي سمع عمر منها ما سمع أن يُبدر إليها شيء فدسّت إليه أبياتاً :

قُل لِلأميرِ الّذي تُخشَى بَوادِرُهُ

ما لي وللخَمرِ أو نصرِ بنِ حجَّاجِ

إنِّي بُلِيتُ أبا حَفصٍ بغيرِهِما

شُربِ الحليبِ وطرفٍ فاتِرٍ ساجِ

لا تجعلَ الظّنّ حقّاً أو تُبيّنَهُ

إنّ السّبِيلَ سبيلُ الخائِفِ الرّاجي

ما مُنيَة قُلتُها عرَضاً بِضائرَةٍ

والنّاسُ مِن هالِكٍ قِدماً ومِن ناجٍ

إنّ الهوى رِعيةُ التّقوى تُقيِّدهُ

حتّى أقرّ بِألجامٍ وأسراجِ

قال : فبكى عمر وقال : الحمد لله الذي قيّد الهوى بالتقوى» (١).

٨ ـ سراقة بن مالك بن جشعم (ت / ٢٤ ه‍) وسراقة من الصحابة أسلم بعد الطائف في السنة الثامنة من الهجرة ، وقد اتّقى قومه كما هو مفصّل في قصّة هجرة النبيّ (ص) من مكّة إلى المدينة. فقد ذكر ابن سعد (ت / ٢٣٠ ه‍) في

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد المعتزلي ٢٧٠ : ١٢ تحت عنوان : نكت من كلام عمر وسيرته وأخلاقه.

١٠٤

الطبقات الكبرى أنّ قريشاً قد تتبّعت أثر النبيّ (ص) ، وكان معهم سراقة بن مالك بن جشعم القرشي ، وهو خير من يعرف تتبّع الأثر ، وأنّه بفضل ذلك أدرك النبيّ وصاحبه أبا بكر ، وكيف أنّ قوائم فرسه قد ساخت في الأرض ، وأنّه طلب من النبي (ص) أن يدعُو الله أن يطلق فرسه ، وأنّه في مقابل ذلك يرجع عنه ويرد من وراءه ، ففعل النبيّ (ص) ، فأُطلق فرسه ورجع من حيث أتى «فوجد الناس يلتمسون رسول الله (ص) ، فقال لهم : ارجعوا فقد استبرأت لكم ما هاهنا وقد عرفتم بصري في الأثر ، فرجعوا عنه» (١).

٩ ـ عبد الله بن مسعود (ت / ٣٢ ه‍) :

أخرج ابن حزم الظاهري (ت / ٤٥٦ ه‍) ، عن الحارث بن سويد قال : «سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلا كنت متكلماً به».

قال ابن حزم معقّباً : «ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف» (٢).

وهذا القول صريح باتفاق الصحابة على جواز التقية ، ولو باحتمال الخوف من سوط واحد من سياط السلطان الجائر.

ولم يقتصر أمر التقية عند ابن مسعود على الكلام فقط ، بل تعدّاه إلى أهم الأفعال العبادية ، حيث كان يتّقي من الوليد بن عقبة بن أبي معيط والي عثمان على المدينة ، فيصلّي خلفه على الرغم من أنّ الوليد هذا كان يأتي الى مسجد

__________________

(١) حياة الصحابة / محمد يوسف الكاندهلوي ٣٢٧ : ٤.

(٢) المحلّى / ابن حزم ٣٣٦ : ٨ مسألة : ١٤٠٩.

١٠٥

رسول الله (ص) ثملاً ويؤم الصحابة في الصلاة!!

«حتى أنّه صلّى بهم الصبح مرّة أربعاً ثمّ قال : أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة» (١).

وفي هذا دليل على تقية ابن مسعود ومن كان معه في الصلاة خلف هذا الوالي الفاسق ، الذي جُلد على شرب الخمر في عهد عثمان (ت / ٣٥ ه‍) (٢).

١٠ ـ أبو الدرداء (ت / ٣٢ ه‍) :

روى البخاري في صحيحه عن أبي الدرداء أنّه كان يقول : «إنّا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم» (٣).

١١ ـ عبد الله بن حذافة (ت / نحو ٣٣ ه‍) :

ابن قيس السهمي القرشي أحد الصحابة وهو الذي بعثه النبي (ص) إلى كسرى ، وكان قد اسر في أيام عمر من قبل الروم ، وقد أكرهه ملك الروم على أن يقبّل رأسه ففعل تقية ، ولمّا عاد إلى المدينة قبّل عمر بن الخطاب رأس ابن حذافة ، لأنّه خلّص بتقيّته عدداً من المسلمين الذين أسرهم الروم (٤).

١٢ ـ المقداد بن الأسود (ت / ٣٣ ه‍) :

مرّت الإشارة إلى تقيّته في الدليل الثاني عشر من أدلّة السنّة النبوية على

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي ٥٣٢ : ٢.

(٢) انظر قصّة جلده في صحيح مسلم ١٣٣١ : ٣ / ١٧٠٧ كتاب الحدود ، باب الخمر ، والاصابة / ابن حجر ٦٠١ : ٢ ، واسد الغابة / ابن الاثير ٤٥١ : ٥ ٤٥٣.

(٣) صحيح البخاري ٣٧ : ٨ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٤) تاريخ الإسلام / الذهبي ٨٧ : ٢.

١٠٦

مشروعية التقية ، وذلك فيما رواه ابن ماجة في سننه ، حيث عد تقية المقداد من فضائله ، إذ ذكرها في باب فضل سلمان وأبي ذر والمقداد (١) ، ولو كانت التقية غير جائزة في الإسلام ، لكان ينبغي أن يعدّها من معايبه لا من فضائله.

١٣ ـ حذيفة بن اليمان (ت / ٣٦ ه‍) :

قال السرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ ه‍) في المبسوط : «وقد كان حذيفة رضي الله عنه ممن يستعمل التقية على ما روي أنّه يداري رجلاً ، فقيل له : إنّك منافق!!

فقال : لا ، ولكني أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه» (٢).

ولعلّ حذيفة رضي الله عنه يريد بهذا الكلام : أنّ ترك التقية ليس مطلقاً في كلّ الحال ، وإنّ عدم مداراة الناس يؤدّي إلى نفرتهم ، وعزلته عنهم ، وربّما نتج من ترك التقية وعدم المداراة ما يؤدّي إلى ضرر أكيد ، فيكون من باب إلقاء النفس إلى التهلكة التي هي من الإثم الذي يُذهب الدين كلّه ، ومن هنا يتّضح عدم الفرق بين التقية والمداراة في مجال دفع الضرر ، وإن اختلفت المداراة عن التقية بجلب المنفعة ، زيادة على دفع الضرر ، والمداراة مشروعة عند سائر المسلمين كما يظهر من أبوابها في كتب الحديث وما أخرجه المحدّثون كالبخاري وغيره في تلك الأبواب من الاحاديث الكثيرة التي تحثّ عليها ، وتجعلها من صفات العاقل الحكيم ، وكيف لا؟ وقد مرّ ما يثبت مداراة نبيّنا الكريم (ص) لمن كان في طبعه نوع من الشكاسة.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ٥٣ : ١ / ١٥٠.

(٢) المبسوط / السرخسي ٤٦ : ٢٤.

١٠٧

١٤ ـ خباب بن الأرت (ت / ٣٧ ه‍) :

وهو من جملة الصحابة الذين عُذّبوا بمكّة من قبل المشركين على أن يكفروا بالله ، ويرجعوا إلى عبادة الاوثان ، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية فيما نصّ عليه جميع المفسّرين وقد تقدّم ذلك ، ولا حاجة لإعادته.

١٥ ـ عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ ه‍) :

أمّا تقية عمّار فهي نار على علم ، والإطالة فيها إطالة في الواضحات ، وليس بدعاً على المسلم أن يتأسّى بعمّار عند الإكراه ، وقد علم الجميع أنّ عمّاراً ممن ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه.

١٦ ـ صهيب بن سنان بن مالك (ت / ٣٨ ه‍) :

وهذا الصحابي المعروف بصهيب الرومي هو من جملة الصحابة الذين عُذّبوا بمكّة على أن يكفروا بالله ، وقد وافاهم على ما أرادوا تقية على نفسه ، وقد مرّ ذكره أيضاً مع عمّار وأصحابه رضي الله عنهم.

١٧ ـ جبر مولى الحضرمي :

وهذا من الصحابة الذين اكرهوا على الكفر ، فكفروا تقية ، ذكره الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍) وأغلب المفسّرين أيضاً ، في بيانهم لتقية عمّار بن ياسر وأصحابه يوم اكرِهوا عليها من قِبل المشركين.

قال الرازي بعد ذكر ما جرى لعمّار : «ومنهم : جبر مولى الحضرمي أكرهه سيّده فكفر ، ثمّ أسلم مولاه ، وحسن إسلامهما وهاجرا» (١).

__________________

(١) التفسير الكبير / الرازي : ١٢١ : ٢٠.

١٠٨

ولا شكّ أنّ هذا الصحابي قد بقي على تقيته طيلة مدّة كفر سيّده ، ولعلّها أطول تقية على الكفر في العهد العصيب.

١٨ ـ تقية جمع من الصحابة وغيرهم سنة / ٤١ ه‍ :

قال الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) في حوادث سنة ٤١ ه‍ : «حدثني عمر ، قال : حدّثنا علي بن محمد ، قال : خطب بُسر على منبر البصرة ، فشتم عليّاً عليه‌السلام ، ثمّ قال : نشدت الله رجلاً علم إني صادق إلا صدقني أو كاذب إلا كذبني.

قال : فقال أبو بكرة : اللهم لا نعلمك إلا كاذباً.

قال : فأمر به فخنق ، قال : فقام أبو لؤلؤة الضبّي ، فرمى بنفسه عليه ، فمنعه ، فأقطعه أبو بكرة بعد ذلك مائة جريب.

قال : وقيل لأبي بكرة : ما أردت إلى ما صنعت؟

قال : أيناشدنا بالله ثمّ لا نصدقه؟» (١).

ولا يمكن تصوّر أنّ أهل البصرة ليس فيهم من الصحابة في ذلك الحين غير أبي بكرة الثقفي نفيع بن الحارث (ت / ٨٦ ه‍) بالبصرة ، إذ لا بدّ وأن يكون الكثير منهم قد سمع مقالة بُسر بن أرطاة (ت / ٥٢ ه‍) واتّقى من بطشه وظلمه ، فضلاً عمّن سمع ذلك واتّقاه من البصريين ممّن ليست لهم صُحبة.

ويصدق هذا النوع من التقية الجماعية ، على جميع ما سمعه المسلمون على امتداد التاريخ من خطب الحكّام والامراء الظالمين التي مُلئت منكراً ، ولم يقف بوجههم أحد وقفة الصحابي أبي بكرة الذي كان قد اعتزل القتال في

__________________

(١) تاريخ الطبري ١٦٧ : ٥ في حوادث سنة / ٤١ ه‍.

١٠٩

موقعتي الجمل وصفّين ، ولم ينصر عليّاً عليه‌السلام ، إلا أنّه أبى إلا أن يقول الصدق بوجه بُسر بن أرطاة.

ولعلّ من هذه التقية ما تقوم به دُور الصحافة والاعلام في بعض الدول الإسلامية من كيل المدح والثناء على الخطب والكلمات الذليلة التي تستجدي الصلح من إسرائيل ، مع ما اقترفه اليهود من جرائم يندى لها جبين البشرية خجلاً ، فإن لم يكن ذلك من التقية ، فهو من النفاق الذي لا شبهة فيه ، وشتّان ما بين التقية والنفاق.

١٩ ـ أبو موسى الأشعري (ت / ٤٤ ه‍) :

روى القرافي المالكي (ت / ٦٤٨ ه‍) عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يقول : «إنّا لنكشّر في وجوه أقوام ، وإنّ قلوبنا لتلعنهم» ثمّ علّق عليه بقوله : «يريد : الظلَمة والفسَقَة الذين يتّقي شرّهم ، ويتبسّم في وجوههم» (١).

أقول : هذا من قول أبي الدرداء أيضاً ، كما تقدّم برقم / ١٠ عن صحيح البخاري ، فراجع.

٢٠ ـ مداراة معاوية للنابغة الجعدي (ت / ٥٠ ه‍) :

النابغة الجعدي هو حبان بن قيس المضري الشاعر المعمر ، كان في الجاهلية ممّن أنكر الخمر وهجر الأزلام ، واجتنب الأوثان ، وكان على دين إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ولما بعث نبيّنا (ص) ، وفد عليه وأنشده قصيدته الرائيّة الخالدة التي جاء فيها :

ولا خيرَ فِي حِلمٍ إذا لم تكُن لهُ

بوادِر تحمِي صفوَهُ أن يُكَدّرا

__________________

(١) الفروق / القرافي ٢٣٦ : ٤ الفرق الرابع والستون والمائتان.

١١٠

فقال (ص) : لا يفضض الله فاك.

وكان النابغة محبّاً لآل البيت عليهم‌السلام ، وقد شهد مع علي عليه‌السلام صفّين ، وله في ذلك أبيات معروفة يصف فيها أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام بأنّه السائق إلى نهج الهدى ، ويعرض بمعاوية وبمن جارا عليّاً عليه‌السلام ولم يدركه من الأوائل.

ولمّا آل الأمر إلى معاوية ، كتب إلى مروان في شأن النابغة ، فأخذ مروان أهل النابغة وماله ، فدخل النابغة على معاوية وكان عنده عبد الله بن عامر ، ومروان ، فأنشده :

من راكب يأتي ابنَ هندٍ بحاجتي

على النّأي ، والأنباءُ تُنمى وتُجلَبُ

ويُخبر عنِّي ما أقول ابنُ عامرٍ

ونعم الفتى يأوي إليه المُعصَّبُ

فإن تأخذوا أهلي ومالي بظنّةٍ

فإنّي لحرّابُ الرجالِ مُجرَّبُ

صبور على ما يكره المرءُ كلّهِ

سِوى الظلم إنّي إن ظُلمت سأغضَبُ

فما كان من معاوية إلا أن التفت إلى مروان فقال : ما ترى؟ قال : أرى ألا تردّ عليه شيئاً. فقال : ما أهون عليك أن ينجحر هذا في غار ثمّ يقطع عِرضي ثمّ تأخذه العرب فترويه ، أما والله إن كنتَ لمن يرويه. اردُد عليه كل شيء أخذته منه (١).

هذا هو حال معاوية وهو الملك المطاع والرئيس لا المرءوس مع واحد من رعيّته ، فكيف يكون إذن حال المغلوب على أمره ممّن هو أقوى وأقدر منه؟

٢١ ـ ثوبان مولى النبي (ص) (ت / ٥٤ ه‍) :

لقد عُرف عن ثوبان إباحته الكذب في المواطن التي لا ينفع فيها الصدق ،

__________________

(١) الأغاني / أبو الفرج الأصبهاني ٨ : ٥ و ٣٠ ٣٢.

١١١

فقد نقل الغزالي (ت / ٥٠٥ ه‍) عنه قوله : «الكذب إثم إلا ما نفع به مسلماً ، أو دفع عنه ضرراً» (١).

وإذا الكذب وهو أمقت الأشياء وارذلها ، يباح لنفع المسلم ، أو دفع الضرر عنه عند الصحابي ثوبان ، فما ظنّك برأيه في التقية التي خرجت عن حكم الافتراء بنصّ القرآن الكريم. مع أنّ الغاية من تشريعها هي دفع الضرر. قال تعالى :

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢).

قال تاج الدين الحنفي (ت / ٧٤٩ ه‍) : «والمعنى : انما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، واستثنى منه المكره ، فلم يدخل تحت حكم الافتراء» (٣).

٢٢ ـ أبو هريرة (ت / ٥٩ ه‍) :

إنّ تتبّع سيرة هذا الصحابي يكشف عن استعماله التقية على أوسع نطاق خصوصاً مع الأمويّين ، ولقد كان أبو هريرة يجاهر بالتقية ، ويصرّح بأنّه لولاها لقطع بعلومه.

ففي صحيح البخاري : «حدّثنا إسماعيل ، قال : حدّثني أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله (ص) وعاءين : فأمّا أحدهما فبثثته ، وأمّا الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (٤).

__________________

(١) إحياء علوم الدين / الغزالي ١٣٧ : ٣.

(٢) النحل : ١٦ / ١٠٥ ١٠٦.

(٣) الدر اللقيط من البحر المحيط / تاج الدين الحنفي ٥٣٧ : ٥ ٥٣٨.

(٤) صحيح البخاري ٤١ : ١ كتاب العلم ، باب حفظ العلم (آخِر أحاديث الباب).

١١٢

أقول : روى البخاري ، عن أبي هريرة أيضاً انّه قال : «إنّ الناس يقولون : أكثر أبو هريرة ، ولو لا آيتان في كتاب الله ما حدّثت حديثاً ، ثمّ يتلو : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (١)» (٢).

ترى ما هي البيّنات التي خشي أبو هريرة من بثها بين الناس؟ فاضطر إلى كتمها تقية ، لكي لا يقطع منه البلعوم.

لقد أجاب ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ ه‍) على هذا السؤال ولكن لم يُتِمَّ جوابَه ، وإن أفصح عما فيه الكفاية ، فقال :

«وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي امراء السوء ، وأحوالهم ، وزمنهم. وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : (أعوذ بالله من رأس الستين ، وإمارة الصبيان). يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لانّها كانت سنة ستين من الهجرة».

ثمّ نقل عن ابن المنير قوله : «وانما أراد أبو هريرة بقوله : (قُطع) أي : قَطع أهل الجور رأسه ، إذا سمعوا عيبه لفعلهم ، وتضليله لسعيهم» (٣).

أقول : ليس من البعيد ان تكون بعض الأحاديث التي كتمها أبو هريرة ليست في معايب الأمويين ، وانما في مناقب وفضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي يلعنونه على منابرهم. فيكون مثله كمثل من يمتدح المفكر الإسلامي الخالد الشهيد محمد باقر الصدر بمرأى ومسمع من أقدم على اعدامه استهانة بدين

__________________

(١) البقرة : ٢ / ١٥٩.

(٢) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ١٧٣ : ١.

(٣) م. ن ١٧٥ : ١.

١١٣

الإسلام وسائر المسلمين.

وسيأتي ما يدل عليه في بيان تقية الصحابي زيد بن أرقم (ت / ٦٨ ه‍) ، وتقية التابعي الزهري (ت / ١٢٤ ه‍) في كتمانهما ما يدل على مكانة علي بن أبي طالب عليه‌السلام من رسول الله (ص) ، تقية من ظلم الأمويين.

واذا كان كتمان حديث رسول الله (ص) المؤدي إلى اللعنة كما فهمه أبو هريرة لما في تتمة ما تلاه من الآية الكريمة جائزاً في حال التقية عنده ، فلك أن تقدر تقيته فيما وراء ذلك ، إذ لا يسع المقام للاستزادة من تقية راوية الإسلام!

٢٣ ـ تقية جمع من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان (ت / ٦٠ ه‍) :

أخرج النسائي (ت / ٣٠٣ ه‍) في سننه من طريق أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، عن سعيد بن جبير قال : «كنت مع ابن عباس بعرفات ، فقال ما لي لا اسمع الناس يلبون؟

قلت : يخافون من معاوية!!

فخرج ابن عباس من فسطاطه ، فقال : لبيك اللهم لبيك ، لبيك فإنهم تركوا السنة من بغض علي» (١).

وهذا الحديث صريح بأن جميع من حجّ من الصحابة والتابعين في ذلك الموسم الذي شهده معاوية قد اتّقى من معاوية في ترك التلبية بعرفة إلا ما كان من ابن عباس رضي الله عنه.

٢٤ ـ تقية جمع آخر من الصحابة من معاوية بن أبي سفيان :

في كتاب الغدير للعلامة الأميني تحقيق واسع حول طرق الحديث المروي

__________________

(١) سنن النسائي ٢٥٣ : ٥ كتاب المناسك ، باب التلبية بعرفة.

١١٤

عن عبد الله بن مسعود (ت / ٣٢ ه‍) ، وأبي سعيد الخدري (ت / ٧٤ ه‍) ، عن رسول الله (ص) انه قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه».

وفي لفظ : «يخطب على منبري فاقتلوه».

وفي آخر : «يخطب على منبري فاضربوا عنقه».

وفي لفظ أبي سعيد : «فلم نفعل ، ولم نفلح».

وفي لفظ الحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) : «فما فعلوا ، وما فلحوا».

وفي لفظ آخر للحسن كما في رواية البلاذري : «فتركوا أمره ، فلم يفلحوا ، ولم ينجحوا».

وقد انتهى العلامة الأميني من تحقيق طرق الحديث برمتها ، وفحص عن الرواة الناقلين لهذا الحديث من طرق البلاذري فحصاً دقيقاً ، واثبت وثاقتهم من كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنة ، بما يجعل الباحث يسلم بصحة صدور هذا الحديث عن النبي (ص) (١).

وبعد ثبوت صحته ، فإن دلالته على تقية من شهد من الصحابة معاوية وهو يخطب على منبر النبي (ص) ، أوضح من الشمس في رابعة النهار.

٢٥ ـ عبد الله بن عمر بن الخطاب (ت / ٦٥ ه‍) :

قال البخاري في الجامع الصحيح : «حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر. قال : وأخبرني ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عمر قال : دخلت على حفصة ونسواتها

__________________

(١) راجع الغدير للعلامة الأميني : ١٤٢ : ١٠ ١٤٧.

١١٥

تنطف قلت : قد كان من أمر الناس ما ترَين ، فلم يُجعَل لي من الأمر شيء؟ فقالت احق ، فإنهم ينتظرونك ، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.

فلما تفرق الناس ، خطب معاوية ، قال : من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، ولنحن أحقّ به منه ، ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة فهلا أجبته ، قال عبد الله : فحللت حبوتي ، وهممت أن اقول : أحق بهذا الأمر من قاتلك وأباك على الإسلام ، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع ، وتسفك الدم ، ويحمل عني غير ذلك ، فذكرت ما اعدّ الله في الجنان.

قال حبيب : حُفِظتَ وعُصِمتَ. قال محمود ، عن عبد الرزاق : ونوساتها» (١) ، انتهى بتمامه.

وبمراجعة شروح صحيح البخاري ، نرى أن قوله : (قد كان من أمر الناس ما ترين). أراد به ما وقع بين عليّ عليه‌السلام ومعاوية من القتال في صفين ، واجتماع الناس على الحكومة بينهم .. ثمّ شاور عبد الله بن عمر اخته حفصة في التوجه إليهم أو عدمه ، فأشارت عليه باللحوق بهم خشية أن ينشأ من غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة.

ومعنى قوله : (فلم تدعه حتى ذهب ، فلما تفرق الناس خطب معاوية) أي : ان حفصة لم تدعه حتى حضر التحكيم بين أبي موسى الأشعري ، وعمرو بن

__________________

(١) صحيح البخاري ١٤٠ : ٥ كتاب بدء الخلق ، باب غزوة الخندق. وقوله : (ونسواتها تنطف) غلط ، والصحيح : ونوساتها تنطف ، أي ذوائبها تقطر ، والمراد من الحبوة : ثوب يلقى على الظهر ويربط طرفاه على الساقين بعد ضمهما. كذا في عمدة القاري للعيني ١٨٥ : ١٧.

١١٦

العاص كما في قصة التحكيم المعروفة ، وكيف ان أبا موسى خلع علياً عليه‌السلام بخدعة من ابن العاص الذي أثبت صاحبه في الحكم ، ولما انفصل الأمر على هذا خطب معاوية ، وقوله : «فليطلع لنا قرنه» ، تعريض منه بابن عمر وعمر ، وقوله : (أحقّ به منه ومن أبيه) ، أي : أحقّ بأمر الخلافة من ابن عمر وعمر بن الخطاب!

وقول ابن عمر : (من قاتلك واباك ..) يريد به علياً عليه‌السلام ، اذ كان قد قاتل معاوية وأباه يومي أُحد والخندق ، وهما كانا كافرين (١).

على ان قول ابن عمر : فحللت حبوتي ، وهممت ان أقول ، لا يدل على تقية ابن عمر وحده ، وانّما يدل على تقية غيره من الصحابة الذين حضروا خطبة معاوية ، اذ ليس من المعقول ان يخطب معاوية على ابن عمر وحده ، كما أن تأييد الصحابي المعروف حبيب بن مسلمة بن مالك الفهري (ت / ٤٢ ه‍) لعبد الله بن عمر يكشف عن تقيّة الفهري ومن حضر معهما أيضاً.

ويظهر من سيرة الصحابي ابن عمر أنه كان يتقي من الأمويين وولاتهم كثيراً ، فقد اشار الإمام مسلم (ت / ٢٦١ ه‍) إلى مبايعة ابن عمر ليزيد بن معاوية وإنكاره على عبد الله بن مطيع خروجه على يزيد إبّان ما كان من موقعة الحرة (٢) المشهورة التي استمر فيها قتل المؤمنين من المهاجرين والأنصار بسيوف جند أهل الشام ، الذين خرّبوا مدينة الرسول (ص) وأكثروا فيها الفساد ، حيث أباحوا المدينة المنورة ثلاثة أيام بلياليها مما لا يخفى هذا على سائر الباحثين.

وهذا الموقف من ابن عمر لا يفسر التفسير الصحيح إلا على أساس التقية

__________________

(١) راجع شروح صحيح البخاري ، مثل عمدة القاري للعيني ١٨٥ : ١٧ ١٨٦ ، وفتح الباري لابن حجر العسقلاني ٢٢٣ : ٧ ، وإرشاد الساري للقسطلاني ٣٢٤ : ٦ ٣٢٥.

(٢) صحيح مسلم ١٤٧٨ : ٣ / ١٨٥١ كتاب الإمارة ، باب / ١٣.

١١٧

في غير موضعها ، لأنه سبق وأن امتنع عن البيعة لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، وليس من المعقول جداً ولا يوافقنا عليه أحد من المسلمين ان يكون يزيد بن معاوية أحق بالخلافة من علي عليه‌السلام في نظر ابن عمر ، أو أجدر منه عليها. لو لا أنّه أمن سوط عليٍّ عليه‌السلام واتّقى ببيعته ليزيد خوفاً من سيفه الذي يقطر دماً.

ومن تقيته أيضاً أنه كان يصلي خلف الظالمين ويأتم بهم. فقد أخرج البيهقي (ت / ٤٥٨ ه‍) من طريق سعيد بن عبد العزيز ، عم عمير بن هانئ قال : «بعثني عبد الملك بن مروان بكتب إلى الحجاج فأتيته ، وقد نصبَ على البيت أربعين منجنيقاً فرأيت ابن عمر إذا حضر الصلاة مع الحجاج صلى معه ، وإذا حضر ابن الزبير صلى معه فقلت : يا أبا عبد الرحمن أتصلي مع هؤلاء وهذه أعمالهم؟ فقال : يا أخا أهل الشام ، ما أنا لهم بحامد ، ولا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق» (١).

وقال ابن سعد (ت / ٢٣٠ ه‍) في طبقاته : «لا يأتي أمير إلا صلى ابن عمر خلفه ، وأدى إليه زكاة ماله» (٢).

وأخرج ابن أبي شيبة (ت / ٢٣٥ ه‍) من طريق قيس بن يونس ، عن عمير بن هانئ قال : «شهدت ابن عمر ، والحجاج محاصر ابن الزبير ، فكان منزل ابن عمر بينهما ، فكان ربما حضر الصلاة مع هؤلاء ، وربما حضر الصلاة مع هؤلاء» (٣).

وفي شرح العقيدة الطحاوية : «وفي صحيح البخاري : ان عبد الله بن عمر

__________________

(١) السنن الكبرى / البيهقي ١٢٢ : ٣.

(٢) الطبقات الكبرى / ابن سعد ١٤٩ : ٤.

(٣) المصنف / ابن أبي شيبة ٣٧٨ : ٢.

١١٨

كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي ..» (١).

فصلاة ابن عمر خلف هؤلاء مما لا يمكن انكارها ، كما لا يمكن ان تكون بغير تقية. قال الفقيه الحنبلي ابن قدامة (ت / ٦٢٠ ه‍) : «لا تجوز الصلاة خلف المبتدع والفاسق في غير جمعة وعيد ، يصليان بمكان واحد من البلد ، فإن من خاف منه إن ترك الصلاة خلفه ، فانه يصلي خلفه تقية ثمّ يعيد الصلاة».

وقد ذكر أثراً صحيحاً عن النبي (ص) في مقام الاحتجاج به على صحة قوله ، وهو ما اخرجه عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ت / ٧٨ ه‍) قال : «سمعت النبي (ص) على منبره يقول : لا تؤُمَّنّ امرأة رجلاً ، ولا يؤمّ أعرابي مهاجراً ، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا ان يقهره بسلطانه أو يخاف سوطه أو سيفه» (٢).

ومن تقيته أيضاً ما أخرجه الهيثمي (ت / ٨٠٧ ه‍) عن مجاهد بن جبر ، عن ابن عمر قال : «سمعت الحجاج يخطب ، فذكر كلاماً انكرته ، فأردت أن أُغيّر ، فذكرت قول رسول الله (ص) : لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه ، قال : قلت : يا رسول الله كيف يذل نفسه ، قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق» (٣).

أقول : هكذا يجب ان تفهم تقية الصحابي ابن عمر من معاوية ويزيد وولاتهما ، لا أن يُلجأ إلى الاحتجاج بما رواه ابن عمر عن رسول الله (ص) انّه

__________________

(١) شرح العقيدة الطحاوية / القاضي الدمشقي ٥٣٠ : ٢.

(٢) المغني / ابن قدامة ١٨٦ : ٢ ، ١٩٢ ، وانظر سنن ابن ماجة ٣٤٣ : ١ (نقلاً عن بحث التقية في آراء علماء المسلمين للشيخ عباس علي براتي ص ٨٢ ، منشور في مجلة رسالة الثقلين العدد الثامن ، السنة الثانية / ١٤١٤ ه‍ ، اصدار المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام قم المقدسة).

(٣) كشف الأستار عن زوائد مسند البزاز على الكتب الستة / نور الدين الهيثمي ١١٢ : ٤ / ٣٣٢٣.

١١٩

قال : «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له» (١). فليس هذا للمحتج في شيء ، اذ مع حمل هذا الأثر على الصحة فإنه لا يدل اكثر من مبايعة الظالمين تقية لا اختياراً ، لأن المراد من الطاعة ، انما هي طاعة من أمر الله تعالى ورسوله الكريم بطاعتهم ، وليس المراد منها طاعة يزيد ومبايعته ، حتى وإن أُريد بالخلع المذكور في هذا الأثر ، هو الخلع بعد البيعة حيث كانت قد أُخذت بالإكراه كما هو المعروف في أخذ البيعة ليزيد بن معاوية زمن الحرّة ، فخلعه اذاً لا تبعة فيه ، ولا حنث يمين ، لان البيعة كانت تقية بضغط الإكراه ، وليس على مكره يمين.

فها هم أهل المدينة انفسهم قد نقموا على أبي جعفر المنصور (ت / ١٥٨ ه‍) ظلمه وطغيانه ، وخلعوا ايديهم من طاعته بعد بيعتهم له ، وخرجوا مع محمد النفس الزكية (ت / ١٤٥ ه‍) وفيهم كبار التابعين بعد أن افتاهم مالك بن انس (ت / ١٧٩ ه‍) بان بيعتهم له إنما كانت تقية بضغط الإكراه عليها ، وليس على مكره يمين (٢).

ولم يقل أحد بالأمس ولا اليوم من فقهاء المسلمين قاطبة : أن أهل المدينة بخلعهم المنصور ومبايعة النفس الزكية سيلقون الله يوم القيامة لا حجة لهم.

ومن هنا يفهم أن حمل ما رواه ابن عمر عن رسول الله (ص) لا يمكن شرعاً وعقلاً ان يحمل مع القول بصحته على غير المعنى المتقدم ، وإلا فلا يخلو هذا الأثر من اتهام عظيم لسائر صلحاء هذه الأمة ، وابرارها ممن خلعوا يداً عن طاعة الظالمين ، واشتروا انفسهم ابتغاء مرضاته تعالى.

__________________

(١) صحيح مسلم ٢٠ : ٦ ٢٢ ، باب الأمر بلزوم الجماعة.

(٢) تاريخ الطبري ٤٢٧ : ٤ في حوادث سنة / ١٤٥ ه‍.

١٢٠