واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

وقوع صاحبها في ضيق لا يسعه الخروج منه بدونها ، ولهذا كانت هذه الآية من نِعَمِ الله تعالى على امّة محمّد (ص) ، كما صرّح بذلك علماء أهل السُّنّة.

قال القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) : «وهذه الآية تدخل في كثير من الأحكام ، وهي ممّا خصّ الله بها هذه الامّة.

روى معمّر ، عن قتادة قال : اعطيت هذه الامّة ثلاثاً لم يُعطَها إلا نبيّ : كان يقال للنبيّ : اذهب فلا حرج عليك ، وقيل لهذه الامّة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (١).

الآية الثامنة :

قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٢).

إنّ دلالة هذه الآية على وجوب تمسّك المسلم بالأخلاق الفاضلة ومراعاة شعور الآخرين ، ومقابلة الإساءة بالإحسان ، وردّ الباطل بالحقّ ، والتسامح مع الآخرين ، لا يكاد يشكّ فيه أي مسلم كان ، وهذا المعنى ممّا اتّفق عليه المفسّرون عن بكرة أبيهم.

ولا شكّ أنّ هذه الامور التي دلّت عليها الآية الكريمة تدخل بقدر ما في باب المداراة ، والمداراة هي من التقية اتفاقاً.

على أنّ هناك الكثير من الآيات الاخر التي تقرّب إلى الأذهان مشروعيّة

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٠٠ : ١٢.

(٢) فصّلت ٣٤ : ٤١.

٨١

التقية في القرآن الكريم ، من ذلك :

قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (١).

(وَ) قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢).

كما أنّ قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٣) ، يدلّ على أنّ للإنسان أن يُقدِّر نتائج ما يُقدم عليه من استعمال التقية أو تركها ، بل عليه أن يُقدِّر نتائج كلّ ما يُقدم عليه في حياته كلّها ، لأنّه مسئول عن تلك النتائج صغيرها وكبيرها يوم القيامة ، وستشهد بها جوارحه عليه ، ولا مجال هناك للإنكار أو المجادلة كما يُشعر بذلك قوله تعالى بعد ذلك : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (٤).

وهذا يعني أنّ الاضطرار أو الإكراه اللّذين يواجههما الإنسان في حياته يُترك تقديرهما له ، لأنّه أعلم من غيره حين ينزلان به ، وعليه أن يزن الامور بالميزان الحقّ ، فإن علم أنّه لا مخرج من الاضطرار إلا بأكل المحرّم فله ذلك ، وإن شعر أنّ الإكراه على المعصية من فعل أو قول إن أدّى مع عدم الامتثال للمكرِه إلى القتل أو ما يقاربه من وعيد متلف أو الاعتداء على الأعراض أو الأموال وغير ذلك من الاضرار الاخرى التي لا تُطاق عادة ، فله أن يستعمل التقية ، وقد مرّ هذا المعنى في كلمات المفسّرين للآية الثانية كالرازي وغيره ، فراجع.

__________________

(١) الطلاق ٧ : ٦٥.

(٢) البقرة ٨٥ : ٢.

(٣) القيامة ١٤ : ٧٥.

(٤) القيامة ١٥ : ٧٥.

٨٢

ثانياً السُّنّة المطهّرة القولية والفعلية

ورد مفهوم التقية في كثير من النصوص المخرجة في كتب الصحاح والمسانيد ، وكتب السيرة وقد اسندت إلى النبيّ (ص) ، وسنذكر منها ما يصحّ الاحتجاج به على مشروعية التقية ، وعلى النحو الآتي :

١ ـ أخرج البخاري (ت / ٢٥٦ ه‍) من طريق قتيبة بن سعيد ، عن عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ رجلاً استأذن في الدخول إلى منزل النبيّ (ص) ، فقال (ص) : «ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ، أو بئس أخو العشيرة ، فلمّا دخل الآن له الكلام. فقلت له : يا رسول الله قلت ما قلت ثمّ ألنت له في القول؟ فقال : أي عائشة ، إنّ شرّ الناس منزلة عند الله من تركه أو ودَعَهُ الناس اتّقاء فُحشه» (١).

وهذا الحديث صريح جداً بتقيّة رسول الله (ص) من أحد رعيته لفحشه ، فكيف إذاً لا تجوز تقية من هو ليس بنبي من المسلم الظالم المتسلّط الذي لا يقاس ظلمه مع ضرر كلام الفاحش البذيء؟

٢ ـ الحديث المشهور بين علماء المسلمين : «رفع الله من امّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه» (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٣٨ : ٨ كتاب الإكراه ، باب المداراة مع الناس ، سنن أبي داود ٢٥١ : ٤ / ٤٧٩١ و ٤٧٩٢ و ٤٧٩٣ ، ورواه محدّثو الشيعة الإمامية أيضاً باختلاف يسير كما في اصول الكافي / الكليني ٢٤٥ : ٢ / ١ كتاب الإيمان والكفر ، باب من يتّقى شرّه.

(٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري / ابن حجر العسقلاني ١٦٠ : ٥ ١٦١ ، مسند الربيع بن حبيب ٩ : ٣ ، تلخيص الحبير / ابن حجر ٢٨١ : ١ ، كشف الخفاء / العجلوني ٥٢٢ : ١ ، كنز العمال / المتّقي الهندي ٢٣٣ : ٤ / ١٠٣٠٧ ، الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة / السيوطي : ٨٧.

٨٣

وهذا الحديث يدلّ أيضاً على مشروعيّة التقية ، وانّ صاحبها لا يؤاخذ بشيءٍ ما دام مكرهاً عليها ، وقد مرّ في كلام ابن العربي المالكي ما له علاقة بهذا الحديث ودلالته على التقية في تفسيره للآية الثانية ، فراجع.

٣ ـ الحديث المروي عن ابن عمر (ت / ٦٥ ه‍) ، عن النبيّ (ص) أنّه قال : «المؤمن الذي يخالط الناس ، ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (١).

ولا تخفى ما في مخالطة الناس من امور توجب المداراة ، التي تدخل من هذا الباب في حقل التقية.

٤ ـ أخرج الهيثمي (ت / ٨٠٧ ه‍) من طريق إبراهيم بن سعيد ، عن النبيّ (ص) أنّه قال : «كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا حثالة؟ وشبّك بين أصابعه. قالوا : كيف نصنع؟ قال : اصبروا وخالقوا الناس بأخلاقهم ، وخالفوهم بأعمالهم» (٢).

ولعمري ، هل هناك أصرح من هذا بالتقية؟ وكيف تكون مخالقة حثالة الناس بأخلاقهم ، ومخالفتهم في أعمالهم من غير تقية؟

٥ ـ حديث ابن عمر عن النبيّ (ص) أنّه قال : «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه ، قال : قلت : يا رسول الله كيف يذلّ نفسه؟ قال : يتعرّض من البلاء لما لا يطيق» (٣).

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١٣٣٨ : ٢ / ٤٠٣٢ ، والسنن الكبرى / البيهقي ٨٩ : ١٠ ، ورواه البيهقي من طريق آخر بلفظ : (أفضل) مكان (أعظم أجراً) ، ومثله في حلية الأولياء / أبو نعيم ٦٢ : ٥ و ٣٦٥ : ٧ ، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٣٥٩ : ١٠ رواه عن البغوي.

(٢) كشف الأستار / الهيثمي ١١٣ : ٤ / ٢٣٢٤.

(٣) م. ن ١١٢ : ٤ / ٢٣٢٣.

٨٤

أقول : لقد طبّق هذا الحديث من أدرك الحكم الأموي من الصحابة وما أكثرهم ، بل وجميع التابعين ، ذلك لأنّ من الثابت الذي لا يرقى إليه الشكّ مطلقاً ، أنّ علياً عليه‌السلام قد لعنه الأمويّون على منابر المسلمين لعشرات من السنين ، ولم يغيّر أحد هذا المنكر لا من الصحابة ولا من التابعين ، إلا القليل الذين احتفظ التاريخ بمواقفهم وسجّلها بكل إعزار وتقدير ، فقد أدرك الكلّ أنّ مثل هذا التغيير سيعرّضهم إلى ما لا يطيقون من البلاء ، ولا أعلم موقفاً أوضح منه في التقية.

٦ ـ أخرج المحدّثون عن علي عليه‌السلام (ت / ٤٠ ه‍) وابن عبّاس (ت / ٦٨ ه‍) ، ومعاذ بن جبل (ت / ١٨ ه‍) ، وعمر بن الخطّاب (ت / ٢٣ ه‍) ، عن النبيّ (ص) ، أنّه قال : «استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان ، فإنّ كل ذي نعمة محسود» (١).

أقول : لقد مرّت فائدة كتمان مؤمن آل فرعون إيمانه ، حيث استطاع وبفضل كتمان إيمانه ، وتظاهره بمظهر الناصح الشفيق على مصلحة فرعون وقومه أن يثني فرعون اللعين عمّا عزم عليه من جرم عظيم.

على أنّ هذا الحديث لا يعني الأمر بكتمان الحقّ والتظاهر بالباطل ، ولا يحثّ على ذلك مطلقاً ، بل فيما يعنيه أنّ في الكتمان فوائد لا تتحقّق بغيره ، ولمّا كانت التقية هي عبارة عن كتمان ما ترى وإظهار خلافه للحفاظ على النفس أو العِرض أو المال ، إذاً اتّضحت علاقة الحديث بالتقية.

٧ ـ حديث السيوطي ، عن النبيّ (ص) قال : «بئس القوم قوم يمشي المؤمن فيهم

__________________

(١) المعجم الكبير / الطبراني : ٩٤ : ٢٠ / ١٨٣ ، حلية الأولياء / أبو نعيم ٩٦ : ٦ ، الجامع الصغير / السيوطي ١٥٠ : ١ / ٩٨٥ ، كنز العمال / المتّقي الهندي ٥١٧ : ٦ / ١٦٨٠٠ و ٢٥٠ : ٦ / ١٦٨٠٩.

٨٥

بالتقية والكتمان» (١).

وهذا الحديث مؤيّد بنصوص القرآن الكريم ، وقد مرّ بعضها ، حيث امتدح الله تعالى مؤمن آل فرعون ، وذمّ فرعون وقومه.

كما وصف أهل الكهف بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) ووصف قومهم بأنّهم : (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٢).

ولا يمكن والحال هذه تصوّر حياة أهل الكهف خالية من التقية ، وهم بين ظهراني قوم يفترون على الله الكذب ، مع عتوّ ملكهم دقيانوس (ت / ٣٨٥ م) الذي جاس خلال الديار والبلاد بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه من المتمسّكين بدين المسيح عليه‌السلام ، وكان يتبع الناس فيخيّرهم بين القتل وعبادة الأوثان (٣).

وقد أخرج المفسّرون عن ابن عبّاس (ت / ٦٨ ه‍) ، وعطاء (ت / ١١٤ ه‍) ، ومجاهد (ت / ١٠٣ ه‍) ، وعكرمة (ت / ١٠٥ ه‍) ، وابن جريج (ت / ١٥٠ ه‍) وغيرهم من أنّ عامّة أهل بلدهم كانوا كفّاراً ، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم على وجه التقية ، ومنهم أصحاب الكهف الذين كانوا من الأشراف على دين عيسى عليه‌السلام ، وكانوا يعبدون الله سرّاً ويكتمون أمرهم (٤).

كلّ ذلك يؤيّد صحّة ما رواه السيوطي آنفاً ، ويفصح عن أنّ التقية لا تكون

__________________

(١) الجامع الصغير / السيوطي ٤٩١ : ١ / ٣١٨٦ ، عن الديلمي في مسند الفردوس ، عن ابن مسعود.

(٢) الكهف ١٥ : ١٨.

(٣) تقدّم هذا الكلام في بيان دلالة الآية الرابعة على التقية ، عن تفسير أبي السعود ، فراجع.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٣٥٩ : ١٠ ، زاد المسير ١٢٠ : ٥ ، الدرّ المنثور ٣٦٦ : ٥.

٨٦

من المؤمن أبداً ، لأنّ المؤمنين إخوة ، والمؤمن مرآة المؤمن ، وإنّما تكون من الإنسان الظالم الذي لا يؤتمن جانبه.

٨ ـ ما رواه ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ ه‍) في أحكام القرآن حول إرسال النبيّ (ص) جماعة من الصحابة لقتل كعب بن الأشرف الطائي في السنة الثالثة من الهجرة ، وكان فيهم محمّد بن مسلمة (ت / ٤٣ ه‍) ، وكيف انّ ابن مسلمة وأصحابه قد استأذنوا النبيّ (ص) في أن ينالوا منه (ص) ، فقالوا : «يا رسول الله أتأذن لنا أن ننال منك؟» (١) فأذن لهم بذلك ، وهكذا مكّنهم الله تعالى على قتله بعد أن تظاهروا لكعب تقية وبإذن النبيّ (ص) بأنّهم كرهوا دينه.

٩ ـ الحديث المخرج في كتب الطرفين ، وهو من قوله (ص) : «لا ضرر ولا ضرار» وفي لفظ آخر : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» (٢).

وهذه القاعدة ، أعني : قاعدة نفي الضرر ، قد تفرّعت منها قواعد كثيرة ، نصّ عليها ابن نجيم الحنفي (ت / ٩٧٠ ه‍) ، وقد ذكر في كلّ منها مسائل شتّى ، ومنها المسائل المحتمل فيها وقوع الضرر ، أو المتيقّن عند الإكراه ، وسيأتي كلامهُ في الفصل الأخير عند الحديث عن التقية في فقه الأحناف.

__________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ١٢٥٧ : ٢.

(٢) ورد اللفظ الأوّل في مسند أحمد ٣١٣ : ١ ، وسنن ابن ماجة ٧٨٤ : ٢ في الأحاديث : ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ و ٢٣٤٢ ، والسنن الكبرى للبيهقي ٦٩ : ٦ و ٧٠ و ٤٥٧ ، و ١٣ : ١٠ ، والمعجم الكبير للطبراني ٨١ : ٢ و ٣٠٢ : ١١ ، وسنن الدارقطني ٧٧ : ٣ ، ومستدرك الحاكم ٥٨ : ٢ ، ومجمع الزوائد للهيثمي ١١٠ : ٤ ، وكنز العمّال ٥٩ : ٤ / ٩٤٩٨ ، وحلية الأولياء ٧٦ : ٩ ، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر ٣٢٥ : ٦.

وورد اللفظ الثاني في نصب الراية للزيلعي ٣٨٤ : ٤ و ٣٨٦ ، وارواء الغليل للألباني ٤١١ : ٣ ، ورواه من الشيعة : الصدوق في من لا يحضره الفقيه ٢٤٣ : ٤ حديث ٧٧٧ ، والاحسائي في عوالي اللآلي ٣٨٣ : ١.

٨٧

١٠ ـ ما رواه الحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) وأيّده عليه سائر المفسّرين من أنّ عيوناً لمسيلمة الكذّاب (ت / ١٢ ه‍) قد أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما ، فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمّداً رسول الله؟ قال : نعم. قال : أتشهد انّي رسول الله ، فأبى ولم يشهد ، فقتلهُ. وقال مثل ذلك للثاني فشهد لمسيلمة الكذّاب بما أراد ، فأطلقه ، فأتى النبيّ (ص) ، وأخبره بما جرى ، فقال (ص) : «أمّا صاحبك فمضى على إيمانه ، وأمّا أنت فأخذت بالرخصة» (١).

١١ ـ ما رواه ابن ماجة (ت / ٢٧٣ ه‍) في قصّة عمّار بن ياسر (ت / ٣٧ ه‍) وامّه سميّة بنت خباط (ت / ٧ ق ٠ ه‍) ، وصهيب (ت / ٣٨ ه‍) ، وبلال (ت / ٣٧ ه‍) والمقداد (ت / ٣٣ ه‍) قال : «فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا وقد وآتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً» (٢) وفي لفظ أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر كما في تفسير الطبري (ت / ٣١٠ ه‍) : «أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتّى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبيّ (ص) ، فقال النبيّ (ص) : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئنّاً بالإيمان ، قال النبيّ (ص) : فإن عادوا فعد» (٣).

وفي لفظ الرازي (ت / ٦٠٦ ه‍) انّه قيل بشأن عمّار : «يا رسول الله إنّ عماراً كفر. فقال : كلا ، إنّ عمّاراً مليء إيماناً من فرقه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه ، فأتى عمّار رسول الله (ص) وهو يبكي ، فجعل رسول الله (ص) يمسح عينيه ويقول : ما لك؟ إن عادوا لك ، فعد لهم بما قلت» (٤).

__________________

(١) تفسير الحسن البصري ٧٦ : ٢.

(٢) سنن ابن ماجة ٥٣ : ١ ، ١٥٠ / باب ١١ في فصل سلمان وأبي ذرّ والمقداد.

(٣) جامع البيان / الطبري ١٢٢ : ١٤.

(٤) التفسير الكبير / الرازي ١٢١ : ٢٠ ، وقد تقدّمت قصّة عمّار بن ياسر وما قبلها

٨٨

١٢ ـ وما يستدلّ به على التقية في هذا الباب ما اتّفق عليه جميع المسلمين وبلا استثناء من أنّه (ص) كان يدعو الناس سرّاً إلى الإسلام في أوّل الأمر ، إشفاقاً منه على هذا الدين العظيم حتى لا يُخنق في مهده ، وتباد أنصاره.

فالدعوة إلى الإسلام قد بدأت إذاً من دائرة التقية ، حيث اتّفق علماء السيرة ، والمؤرّخون ، والمفسّرون وغيرهم على القول بأنّ رسول الله (ص) لم يجهر بالدعوة إلى الإسلام إلا بعد ثلاث سنين من نزول الوحي (١).

ولو كانت التقية غير مشروعة ، لكونها مثلاً من الكذب والنفاق والخداع ، أو أنّها معارضة لعقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لما مرّت الدعوة إلى هذا الدين الحنيف بهذا العمر من التستّر والكتمان.

وقد مر عن ابن قتيبة (ت / ٢٧٦ ه‍) في المسائل والأجوبة في مناقشتنا لقول السرخسي في تقية النبيّ (ص) في الآية الثانية ما له علاقة بالمقام ، فراجع.

وإن دلّ هذا على شيء إنّما يدلّ على ضرورة ملازمة التقية لكل دعوة إصلاح ، حتى لا يذاع أمرها ، وتخنق في مهدها ، وممّا يشهد على صحّة هذا القول هو ما ينادي به الإسلاميّون في الساحة الإسلامية من ضرورة تطبيق أحكام الشرع الإسلامي ، ولا شكّ أنّ تحرّكاتهم تلك لا بدّ وأن تكون قد مرّت

__________________

ايضاً في تفسير الآية الثانية بكثير من تفاسير أهل السُّنّة فراجع.

(١) راجع كتب السيرة النبويّة مثل : السيرة النبويّة / ابن هشام ٢٨٠ : ١ ، والسيرة النبويّة / ابن كثير ٤٢٧ : ١ ، والسيرة الحلبية / ابن برهان ٢٨٣ : ١ ، والسيرة النبويّة / دحلان ٢٨٢ : ١ مطبوع بهامش السيرة الحلبية.

وكتب التاريخ مثل : تاريخ الطبري ٥٤١ : ١ ، والكامل في التاريخ / ابن الأثير ٦٠ : ٢ ، والبداية والنهاية / ابن كثير ٣٧ : ٣ ، وكذلك سائر كتب التفسير لا سيّما ما اختصّ منها بالأثر في تفسير قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الشعراء ٢١٤ : ٢٦.

٨٩

بدور التقية والكتمان ، إذ لا يعقل ظهورها وبهذا الحجم الذي أرعب الكثير من الدوائر الاستعمارية كان فجأة وبلا استعداد وتنظيم.

١٣ ـ أخرج البخاري من طريق عبد الوهاب ، عن أبي مليكة قال : «إنّ النبيّ (ص) اهديت له أقبية من ديباج مزرّرة بالذهب ، فقسّمها في ناس من أصحابه ، وعزل منها واحداً لمخرمة ، فلمّا جاء ، قال : خبّأت هذا لك.

قال أيوب (أحد رجال اسناد البخاري) بثوبه أنّه يريد إيّاه ، وكان في خُلُقِه شيء» (١).

قال محمّد بن يوسف الكرماني (ت / ٧٨٦ ه‍) في شرح صحيح البخاري : «أيوب بثوبه : أي : متلبساً به ، حالاً عن لفظ خبّأت ، يعني : قال رسول الله (ص) : خبّأت هذا الذهب لك ، وكان ملتصقاً بالثوب ، وإن رسول الله (ص) كان يُرى مخرمة إزاره ، ليطيّب قلبه به ، لأنّه كان في خُلُق مخرمة نوع من الشكاسة.

ولفظ : (قال بثوبه) معناه : أشار أيّوب إلى ثوبه ليستحضر فعل النبيّ (ص) للحاضرين ، قائلاً : انّه يُرى مخرمة الإزار» (٢).

أقول : ربّما يقال انّ الحديث ليس فيه ما يدلّ على تقية النبيّ (ص) من مخرمة ، لأنّه (ص) لم يظهر لمخرمة إلا الواقع ، فأين التقية في هذا الحديث؟

والجواب : إنّ في هذا الحديث مداراة واضحة ، والمداراة تدخل في باب التقية ، بل لا فرق بينهما كما يظهر من كلام السرخسي في حذيفة بن اليمان

__________________

(١) صحيح البخاري ٣٨ : ٨ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

(٢) صحيح البخاري بشرح الكرماني / الكرماني ٧٢٢ / ٥٧٥٦ كتاب الأدب ، باب المداراة مع الناس.

٩٠

على ما سيأتي في موقف الصحابة من التقية في الفصل الثاني.

١٤ ـ وأخرج البخاري أيضاً من طريق عبد الله بن مسيلمة ، عن عبد الله بن عمر ، عن عائشة قالت : «إنّ رسول الله (ص) قال لها : ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ فقلت : يا رسول الله ألا تردّها على قواعد إبراهيم؟ قال : لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت» (١).

ولقد أعاد البخاري رواية الحديث بصيغ اخرى أيضاً.

وأخرج ابن ماجة (ت / ٢٧٣) من طريق ابن أبي شيبة ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة قالت : «سألت رسول الله (ص) عن الحِجرِ؟ فقال : هو من البيت. قلت : ما منعهم أن يدخلوه فيه؟ قال : عجزت بهم النفقة. قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ، لا يُصعد إليه إلا بسلّم؟ قال : ذلك فعل قومك ، ليدخلوه من شاءوا ويمنعوه من شاءوا ، ولو لا أنّ قومك حديث عهد بكفر مخافة أن تنفر قلوبهم ، لنظرت هل أغيّره فأُدخل فيه ما انتقص منه ، وجعلت بابه بالأرض» (٢).

وهذا الحديث قد أخرجه البخاري بلفظه من طريق مسدد ، عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة (٣) ، كما أخرجه مسلم (ت / ٢٦١ ه‍) في صحيحه من طريقين كلاهما عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة (٤) ، وأخرجه الترمذي (ت / ٢٩٧ ه‍) كذلك وقال : «هذا حديث حسن صحيح» (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري ١٧٩ : ٢ كتاب الحجّ ، باب فضل مكّة وبنيانها.

(٢) سنن ابن ماجة ٩٨٥ : ٢ / ٢٩٥٥ ، كتاب المناسك باب الطواف بالحِجر.

(٣) صحيح البخاري ١٧٩ : ٢ ١٨٠ ، كتاب الحجّ باب فضل مكّة وبنيانها ، وأعاد روايته في كتاب الأحكام باب ما يجوز من اللّو في الجزء التاسع : ص ١٠٦.

(٤) صحيح مسلم ٩٧٣ : ٢ / ٤٠٥ و ٤٠٦ / كتاب الحجّ باب جدر الكعبة وبابها.

(٥) صحيح الترمذي ٢٢٤ : ٣ / ٨٧٥ (كتاب الحجّ باب ما جاء في كسر الكعبة).

٩١

وفي لفظ الإمام أحمد بن حنبل (ت / ٢٤٠ ه‍) : «لو لا أن قومك حديث عهد بشرك أو بجاهلية لهدّمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين : باباً شرقياً ، وباباً غربياً ، وزدت فيها من الحجر ستة أذرع ، فإنّ قريشاً اقتصرتها حين بنت الكعبة» (١).

وقريب من هذا اللفظ ما أخرجه البخاري من طريق عبيد بن إسماعيل ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، ومن طريق سنان بن عمرو ، عن عروة ، عن عائشة (٢). وبعد ... أليس في هذه الأحاديث دلالة صريحة على أنّ رسول الله (ص) كان يتّقي القوم مخافة أن تنفر قلوبهم ، لحداثة عهدهم بالكفر ، وقربه من الشرك والجاهلية؟

ثالثاً دليل الإجماع :

لقد ثبت ممّا تقدّم انّ التقية قد شرّعها الله تعالى في كتابه الكريم ، وتقدّمت أقوال ما يزيد على ثلاثين مفسّراً من مفسّري المذاهب والفرق الإسلامية في جواز التقية ، زيادة على ما أثبتته أهم كتب الحديث وأصحّها عند أهل السُّنّة من جواز التقية أيضاً.

وهذا يعني انّ أهم مصادر التشريع في الإسلام قد أثبتت مشروعية التقية ، إذ ليس هناك من مصدر تشريعي أقوى حجّة من الكتاب والسُّنّة على الإطلاق.

وأمّا عن الإجماع ، فهو على الرغم من كونه في نظر علماء الشيعة مجرّد

__________________

(١) مسند أحمد ١٧٩ : ٦ ، وأخرجه الحاكم في المستدرك ٤٧٩ : ١ ٤٨٠ وقال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه هكذا» ، وأخرجه المتّقي الهندي في كنز العمال ٢٢٢ : ١٢ / ٣٤٧٦٣ عن مسند أحمد و ٢٢٢ : ١٢ / ٣٤٧٦٤ عن مستدرك الحاكم.

(٢) صحيح البخاري ١٨٠ : ٢ (كتاب الحجّ باب فضل مكّة وبنيانها).

٩٢

أداة تكشف عن وجود دليل متين وقويم ، كآية من كتاب الله تعالى ، أو حديث شريف ينطق بالحكم المجمع عليه ، إلا أنّه لا بأس من التعرّض إلى دليل الإجماع حول مشروعية التقية ، لا سيّما وقد عدّه علماء أهل السُنّة دليلاً قائماً بنفسه تماماً كالكتاب والسُّنّة ، بمعنى انّ الإجماع معصوم عن الخطأ ، بل ويستحيل في حقّه الخطأ ، ومن يرد على المجمعين بالاشتباه والغلط ، فهو كمن يرد قول الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال عبد العزيز بن أحمد البخاري الحنفي (ت / ٧٣٠ ه‍) في كشف الأسرار عن اصول البزدوي : «الأصل في الإجماع أن يكون موجباً للحكم قطعاً كالكتاب والسنّة» (١).

وقال الغزالي (ت ٥٠٥ ه‍) في المنخول : «الإجماع حجّة كالنصّ المتواتر» (٢). ومن هنا كان التعرّض لدليل الإجماع ، مع التذكير بأنّ من يُكرَه على كلام فيقوله ، أو على فعل فيفعله ، وفيهما معصية لله ، وقلبه غير راضٍ بما قال أو فعل فإنّ تصرّفه هذا هو ما يسمّيه القرآن الكريم ، والسنّة النبويّة ، وجميع من نطق الشهادتين من أهل الإسلام ، وجميع العقلاء بالتقية ، وانّه لا شيء عليه ، بدليل ما مرّ ودليل الإجماع الآتي :

١ ـ قال أبو بكر الجصّاص الحنفي (ت / ٣٧٠ ه‍) : «ومن امتنع من المباح كان قاتلاً نفسه متلفاً لها عند جميع أهل العلم» (٣).

__________________

(١) كشف الأسرار / البخاري ٢٥١ : ٣ نقلاً عن علم اصول الفقه في ثوبه الجديد / محمّد جواد مغنية : ٢٢٦.

(٢) المنخول / الغزالي : ٣٠٣ نقلاً عن علم اصول الفقه في ثوبه الجديد : ٢٢٦.

(٣) أحكام القرآن / الجصّاص ١٢٧ : ١.

٩٣

٢ ـ وقال ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ ه‍) : «لما سمح الله تعالى في الكفر به ... عند الإكراه ، ولم يؤاخِذ به ، حمل العلماء عليه فروع الشريعة ، وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء : رُفِع عن امّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استُكرهوا عليه ... فأنّ معناه صحيح باتّفاق من العلماء» (١).

٣ ـ وقال عبد الرحمن المقدسي الحنبلي (ت / ٦٢٤ ه‍) : «أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطرّ ، وكذلك سائر المحرّمات التي لا تزيل العقل» (٢).

وقد مرّ في هذا الفصل ان الاضطرار إلى أكل الميتة قد يكون بسبب الجوع أو بسبب الإكراه من ظالم أو كافر وذلك في الآية الخامسة فراجع.

٤ ـ وقال القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) : «أجمع أهل العلم على أن من اكرِه على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان» (٣).

٥ ـ وقال ابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ ه‍) بعد أن نقل قول رسول الله (ص) لعمّار حين اكره على الكفر : «كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئناً بالإيمان. فقال : إن عادوا فعُد».

قال : «ولهذا اتّفق العلماء على أنّ المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى» (٤).

__________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ١١٧٩ : ٣.

(٢) العدّة في شرح العمدة / عبد الرحمن المقدسي : ٤٦٤.

(٣) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٨٠ : ١٠.

(٤) تفسير القرآن العظيم / ابن كثير ٦٠٩ : ٢.

٩٤

٦ ـ وقال ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ ه‍) : «قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر : أجمعوا على أنّ من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، أنّه لا يحكم عليه بالكفر» (١).

٧ ـ وقال الإمام الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ ه‍) : «أجمع أهل العلم على أنّ من اكره على الكفر حتّى خشي على نفسه القتل ، أنّه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر» (٢).

٨ ـ وقال جمال الدين القاسمي الشامي (ت / ١٣٣٢ ه‍) : «ومن هذه الآية : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني» (٣).

٩ ـ وقال الشيخ المراغي المصري (ت / ١٣٦٤ ه‍) : «وقد استنبط العلماء من هذه الآية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) / جواز التقية» (٤) ، ولم يذكر مخالفاً لهم في ذلك.

١٠ ـ وقال عيسى شقرة : «وانعقد إجماع العلماء على جواز إظهار الكفر لمن اكره عليه ... إبقاءً لنفسه بشرط اطمئنان القلب» (٥).

١١ ـ وقال الدكتور عبد الكريم زيدان : «فإذا أخذ المضطرّ بالرخصة ونطق

__________________

(١) فتح الباري / ابن حجر العسقلاني ٢٦٤ : ١٢.

(٢) فتح القدير / الشوكاني ١٩٧ : ٣.

(٣) محاسن التأويل / القاسمي ١٩٧ : ٤.

(٤) تفسير المراغي ١٣٦ : ٣.

(٥) الإكراه وأثره في التصرّفات / عيسى شقرة : ١١٤ نقلاً عن كتاب : التقية في إطارها الفقهي للُاستاذ علي الشملاوي : ١٣١.

٩٥

بالكفر ، فلا إثم عليه بإجماع الفقهاء ، لأنّ الآية صريحة بذلك ، وجاءت السُّنّة النبويّة وأكّدت ما نطقت به الآية الكريمة» (١).

__________________

(١) مجموعة بحوث فقهية / د. عبد الكريم زيدان : ٢٠٨ نقلاً عن كتاب الاستاذ الشملاوي المتقدّم : ١٣٢.

٩٦

الفصل الثاني :

موقف الصحابة والتابعين وغيرهم من التقيّة

موقف الصحابة من التقيّة

موقف التابعين من التقيّة

موقف تابعي التابعين وغيرهم من التقيّة

الإشارة إلى من صرّح بالتقيّة إجمالاً

٩٧
٩٨

موقف الصحابة من التقية

ليس من العجب أن يجد الباحث الكثير من الصحابة الذين استعملوا التقية في حياتهم لا بقيد الإكراه المتلف للنفس ، أو الوعيد بانتهاك الأعراض وسلب الأموال فحسب وإنّما لمجرّد احتمال الخوف من ذلك ، أو احتمال التعرّض للإهانة والضرب ولو بسوط واحد أو سوطين. ولكن العجب أن يدّعى بأنّ التقية من النفاق بعد أن استعملها من قولهم حجّة باتّفاق علماء أهل السُّنّة أنفسهم.

نعم ، لقد وقفت على الكثير من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن جاء بعدهم إلى يومنا هذا ممّن استعمل التقية وصرّح بها علناً ، وفيما يأتي جملة من أسماء الصحابة الذين استعملوا التقية ، وسنذكرهم بحسب تاريخ الوفاة ، وهم :

١ ـ ياسر بن عامر الكناني المذحجي أبو عمار (ت / ٧ ق. ه) ، قال الزركلي (ت / ١٩٧٦ م) في الأعلام : «وفي أيامه بدأت الدعوة إلى الإسلام سرّاً» (١).

٢ ـ سميّة بنت خباط ، زوج ياسر وامّ عمار قتلها أبو جهل في السنة

__________________

(١) الأعلام / الزركلي ١٢٨ : ٨.

٩٩

السابعة قبل الهجرة ، ومات زوجها في هذه السنة أيضاً تحت التعذيب ، وهما أوّل من استُشهد في الإسلام رضي الله عنهما.

وقد مرّت تقيتهما في تفسير الآية الثانية ، في الفصل الأوّل.

٣ ـ الصحابي الذي شهد تقية لمسيلمة الكذّاب (ت / ١٢ ه‍) بأنّه رسول الله ، وقد مرّ كلام المفسّرين في ذلك كالحسن البصري (ت / ١١٠ ه‍) ، والزمخشري (ت / ٥٣٨ ه‍) ، والرازي (ت / ٦٠٦ ه‍) ، والبيضاوي (ت / ٦٨٥ ه‍) ، وغيرهم ، وذلك في الدليل القرآني الثاني على مشروعية التقية في الإسلام.

٤ ـ معاذ بن جبل (ت / ١٨ ه‍) :

أخرج القاسم بن سلام عن سعيد بن المسيب قال : «إنّ عمر بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب ، أو على بني سعد بن ذبيان ، فقسّم فيهم حتى لم يدع شيئاً ، حتى جاء مجلسه الذي خرج به على رقيته ، فقالت امرأته : أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة أهليهم (١)؟ فقال : كان معي ضاغط ، فقالت : قد كنت أميناً عند رسول الله (ص) ، وعند أبي بكر ، أفبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها واشتكت عمر ، فبلغ ذلك عمر ، فدعا معاذاً فقال : أنا بعثت معك ضاغطاً؟ فقال : لم أجد شيئاً اعتذر به اليها إلا ذلك. قال : فضحك عمر وأعطاه شيئاً وقال : أرضِها به» (٢).

ولا شكّ أن قول معاذ ليس فيه تقيّة وإنّما جاء على سبيل التورية ، لأنّ للضاغط معنيين :

__________________

(١) العراضة : الهدية ، يهديها الرجل إذا قدم من سفر. لسان العرب ١٤٥ : ٩ عرَضَ.

(٢) كتاب الأموال / أبو عبيد القاسم بن سلام : ٥٨٩ / ١٩١٣.

١٠٠