واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

السيد ثامر هاشم العميدي

واقع التقيّة عند المذاهب والفرق الإسلاميّة من غير الشيعة الإماميّة

المؤلف:

السيد ثامر هاشم العميدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: النهضة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠١

الأمران بحيث يتردّد فيهما ، وعند ذلك ، الميل إلى الصدق أولى ، لأنّ الكذب يباح لضرورة ، أو حاجة مهمّة» (١).

أقول : وليت من أنكر التقية يعلم أنّ الغزالي قد أباح الكذب لتحصيل الحاجات المهمّة. مع أن من يتّقي بضغط الإكراه هو خارج عن حكم الافتراء بنصّ القرآن الكريم كما تقدّم.

٧٨ ـ ابن قدامة الحنبلي (ت / ٦٢٠ ه‍) :

صرّح ابن قدامة الحنبلي بعدم جواز الصلاة خلف المبتدع والفاسق إلا إذا خاف ممّا يلحقه من ضرر إن ترك الصلاة خلفه ، ففي هذه الحالة يمكنه أن يصلّي خلفه تقية ثمّ يعيد الصلاة ، واحتج عليه بما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ت / ٧٨ ه‍) انّه قال : سمعت النبيّ (ص) على منبره يقول : «لا تؤمّنّ امرأة رجلاً ، ولا يؤمّ أعرابي مهاجراً ، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسلطان ، أو يخاف سوطه ، أو سيفه» (٢).

٧٩ ـ ابن أبي الحديد المعتزلي (ت / ٦٥٦ ه‍) :

ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في شرح النهج ما دار بينه وبين أبي جعفر بن أبي زيد الحسني نقيب البصرة من كلام في شأن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وذلك في شرح فقرة من فقرات النهج ، وهي من قول الإمام عليّ عليه‌السلام : «والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ... إلخ» (٣) ، وذلك تحت

__________________

(١) إحياء علوم الدين / الغزالي ١٣٨ : ٣.

(٢) المغني / ابن قدامة ١٨٦ : ٢ و ١٩٢.

(٣) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢٢٣ : ١٠ رقم ١٩٣.

١٨١

عنوان : «كلام أبي جعفر الحسني في الأسباب التي أوجبت محبّة الناس لعلّي».

فقال : «وكان أبو جعفر رحمه‌الله لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون.

قلت له مرّة : ما سبب حبّ الناس لعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وعشقهم له ، وتهالكهم في هواه؟ ودعني في الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التي رزقه الله سبحانه الكثير الطيّب منها!

فضحك ، وقال لي : كم تجمع جراميزك عليَّ؟

وبعد كلام طويل في غاية الدقّة قال : فقلت له : إنّه لم يثبت النصّ عندنا بطريق يوجب العلم ، وما تذكرونه أنتم صريحاً فأنتم تنفردون بنقله ، وما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها ، فلها تأويلات معلومة.

فقال لي وهو ضجر : يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن يتناول قولنا : (لا إله إلا الله ، محمّد رسول الله) ، دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب والنفوس انّها غير مُرادة ، وانّ المتكلّمين تكلّفوها وتعسّفوها ، فإنّما أنا وأنت في الدار ولا ثالث لنا ، فيستحي أحدنا أو يخافه.

قال ابن أبي الحديد : فلمّا بلغنا هذا الموضع ، دخل قوم ممّن كان يخشاه ، فتركنا ذلك الاسلوب من الحديث ، وخضنا في غيره» (١).

ويستفاد ممّا تقدّم جملة امور :

منها : ان ابن أبي الحديد لم يكن شيعيّاً قط راجع كلامه وتدبّر ما فيه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢٢٧ : ١٠.

١٨٢

وإنّما كان عالماً منصفاً لا تخشى بوادره.

ومنها : انّه كان يرى التقيّة ، لأنّه شارك السيّد الحسني في ترك هذا الاسلوب من الحديث ، والخوض في غيره ، لا سيّما وأنّه قال : (فتركنا) و (وخضنا).

ومنها : تخوّف العلماء من الحديث عن علي عليه‌السلام ، حتّى في أواخر الدولة العباسيّة ، وما يستتبع خوفهم هذا من التقية.

على أنّ ما جرى لابن أبي الحديد والسيّد الحسني مرّة واحدة ، يجري كل يوم مرات ، ولو راجع الإنسان نفسه لوجد انّه قد طبّق هذا الموقف في حياته ، أو أدركه من غيره ، وما أكثر الكلام الذي تغيّر مجراه التقية ، أو تحوّله إلى همس فجأة!

٨٠ ـ يحيى بن شرف النووي الشافعي (ت / ٦٧٦ ه‍) :

بين النووي في شرح حديث صحيح مسلم الخاص بذكر الدجّال وفتنته الدلائل التي يعجز عنها الدجّال على الرغم ممّا يظهر على يديه من المخاريق ، ثمّ قال : «ولهذه الدلائل وغيرها لا يغترّ به إلا رعاع الناس لسدّ الحاجة والفاقة ، رغبة في سدّ الرمق ، أو تقيّة وخوفاً من أذاه ، لأنّ فتنته عظيمة جدّاً ، تدهش العقول ، وتحيِّر الألباب ...» (١).

أقول : إنّ اغترار الرعاع من الناس بالدجّال ممكن ، والتعليل بسدّ الحاجة والفاقة ممكن أيضاً ، أمّا من يتّقيه فلا يمكن أن يغترّ به ، وإن حصلت تقية

__________________

(١) صحيح مسلم بشرح النووي ٥٩ : ١٨ باب ذكر الدجّال.

١٨٣

هناك ، فلا تكون إلا ممّن عرف حقيقة الدجّال وكذبه ، والمهم هنا هو تصريح النووي بالتقية.

٨١ ـ الشوكاني الزيدي (ت / ١٢٥٠ ه‍) :

ردّ الشوكاني على من زعم انّ التقيّة تجوز في القول دون الفعل ، بظاهر قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ،) فقال : «ويدفعه ظاهر الآية ، فإنّها عامّة فيمن اكرِه من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول» (١).

٨٢ ـ الآلوسي الحنبلي (ت / ١٢٧٠ ه‍) :

قال عن آية التقيّة : «وفي هذه الآية دليل على مشروعيّة التقية» ثمّ نقل تعريف التقية عند أهل السُنّة كما مرّ في الفصل الأوّل.

٨٣ ـ جمال الدين القاسمي (ت / ١٣٣٢ ه‍) :

قال : «ومن هذه الآية : (إِلا أن تتّقُوا مِنهم تُقاةً) استنبط الأئمّة مشروعية التقية عند الخوف ، وقد نقل الإجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه إيثار الحقّ على الخلق ، فقال ما نصّه :

وزاد الحلف غموضاً وخفاءً أمران :

أحدهما : خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء ، وسلاطين الجور ، وشياطين الخلق ، مع جواز التقية عند ذلك بنصّ القرآن ، وإجماع أهل الإسلام.

وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحقّ ، ولا برح المحقّ عدوّاً لأكثر الخلق ،

__________________

(١) فتح القدير / الشوكاني ١٩٧ : ٣.

١٨٤

وقد صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّه قال في ذلك العصر الأوّل : حفظت من رسول الله (ص) وعاءين ، فأمّا أحدهما فبثثته في الناس ، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ...» (١).

٨٤ ـ المراغي (ت / ١٣٦٤ ه‍) :

عمّم الشيخ محمّد مصطفى المراغي العمل بالتقية قولاً وفعلاً ولم يقيّدها بالإكراه على تلفّظ كلمة الكفر ، بل أخرجها إن صحّ التعبير عن دائرة الإكراه الفردي ، وأباحها للدول الإسلامية عند تعاملها مع الدول الاخرى ، كما لم يقيّد التقيّة بحالات الخوف أو الضعف عند الإكراه عليها ، بل أطلق استعمالها في جميع ما يعود بالنفع للدول الإسلامية ، ومصالح المسلمين ، وفي كل آن وزمان ، وفي الشدّة والرخاء.

قال : «فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود على الاولى ، إمّا بدفع ضرر ، أو جلب منفعة ، وليس لها أن تواليها في شيء يضرّ بالمسلمين ، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف ، بل هي جائزة في كل وقت ، وقد استنبط العلماء من هذه الآية (٢٨ : ٣) جواز التقية بأن يقول الإنسان ، أو يفعل ما يخالف الحقّ ، لأجل التوقي من ضرر الأعداء ، يعود إلى النفس ، أو العِرض ، أو المال ...

ويدخل في التقية مداراة الكفرة ، والظلمة ، والفسقة ، وإلانة الكلام لهم ، والتبسّم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم ، وصيانة العِرض منهم ، ولا يعدّ هذا من الموالاة المنهيّ عنها ، بل هو مشروع.

__________________

(١) تفسير القاسمي (محاسن التأويل) ٨٢ : ٤.

١٨٥

فقد أخرج الطبراني قوله (ص) : ما وقى به المؤمن عِرضه فهو صدقه» (١).

٨٥ ـ تقيّة رجال المذهب الوهابي :

إنّ المذهب الوهابي هو فرع المذهب الحنبلي ، لأنّ مؤسّسه وهو الشيخ محمّد عبد الوهاب (ت ١٢٠٦ ه‍ / ١٧٩١ م) كان حنبلياً ، ودعوته وإن اتّسمت باللامذهبية ، وذلك بإنشاء مذهب جديد في بعض اصوله ، إلا انّ فروع هذا المذهب لم تزل حنبلية ، ولم يطرأ عليها تبديل أو تعديل.

ورجال المذهب لا ينكرون التقية ، بل عملوا بها علناً بمرأى ومسمع جميع المسلمين ، ويدلّ عليه موقفهم المعلن إزاء الأضرحة ، والمشاهد المقدّسة ، وقبور الأولياء والصالحين ، التي تحوّلت في أرض الحجاز إلى أطلال «تلُوحُ كباقي الوشمِ في ظاهِرِ اليدِ»!

ولكنّهم تركوا قبر النبيّ (ص) ، وقبري أبي بكر وعمر على حالها ، مداراة منهم لمشاعر الملايين من المسلمين ، واتّقاء من غضبهم ، ولا يوجد تفسير لذلك غير التقية.

٨٦ ـ موسى جار الله التركماني (ت / ١٣٦٩ ه‍) :

ونختم هذه المواقف بموقف صاحب الوشيعة الذي نعى على الشيعة الإمامية قولهم بالتقية وسفه عقولهم!!

__________________

(١) تفسير المراغي ١٣٦ : ٣ ١٣٧ ، وحديث الطبراني أخرجه الحاكم في المستدرك ٥٠ : ٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٢٤٢ : ١٠ وشعب الإيمان ٢٦٤ : ٣ / ٣٤٩٥ ، والبغوي في معالم التنزيل ٢٩٤ : ٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٣٦ : ٣ ، وابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٤٤٧ : ١٠ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ٢٣٩ : ٥ ، وإسماعيل بن محمّد العجلوني في كشف الخفاء ٤١٨ : ١.

١٨٦

قال في الوشيعة : «التقية في سبيل حفظ حياته ، وشرفه ، وحفظ ماله ، وفي حمايته حقّ من حقوقه واجبة على كلّ أحد ، إماماً كان أو غيره» (١).

وقال أيضاً : «والتقية ، هي : وقاية النفس من اللائمة والعقوبة ، وهي بهذا المعنى من الدين ، جائزة في كلّ شيء» (٢).

وقال أيضاً : «والتقية واجبة إن كان في تركها ضرر لنفسه ، أو غيره ، حرام عند أمن الضرر ، مكروهة حيث يخاف الناس الالتباس على العوام» (٣).

قلت : إنّ الشيعة الإمامية قسموا التقيّة بموجب الأحكام التكليفية الخمسة (٤).

وبهذا يتّضح أنّ الشيعة الإماميّة لا تختلف عن سائر المذاهب والفرق الإسلاميّة في شيء من التقية ، إلا ما كان من تعرّض الشيعة الإماميّة في تاريخها الطويل إلى الظلم والاضطهاد والجور والتعسّف أكثر من اخوانهم المسلمين.

على أنّ هذا لا يعني أنّ الشيعة قد لازمت التقية في طيلة تلك العهود الظالم أهلها ، بل على العكس من ذلك حيث كانت تنتفض بين حين وآخر معبرة عن رفضها للظلم والاضطهاد ، مقدّمة في ذلك آلاف الشهداء كما تشهد بذلك

__________________

(١) الوشيعة في نقد عقائد الشيعة / موسى جار الله : ٣٧.

(٢) م. ن : ٧٢.

(٣) م. ن : ٨٥.

(٤) التقية / الشيخ مرتضى الأنصاري : ٣٩ ٤٠.

١٨٧

ثوراتهم وانتفاضاتهم عبر التاريخ.

الإشارة إلى من صرّح بالتقية من غير هؤلاء إجمالاً

وقبل الانتقال إلى الفصل الثالث نشير إجمالاً إلى ما لم نذكره في هذه المواقف من أسماء العلماء الذي استعملوا التقية أو صرّحوا بها إذ مرّ ذكرهم في الفصل الأوّل ، وهم :

٨٧ ـ ابن ماجة صاحب السنن (ت / ٢٧٤ ه‍).

٨٨ ـ الطبري (ت / ٣١٠ ه‍).

٨٩ ـ الجصاص الحنفي (ت / ٣٧٠ ه‍).

٩٠ ـ الماوردي الشافعي (ت / ٤٥٠ ه‍).

٩١ ـ الواحدي الشافعي (ت / ٤٦٨ ه‍).

٩٢ ـ الكيا الهراسي الشافعي (ت / ٥٠٤ ه‍).

٩٣ ـ الزمخشري المعتزلي (ت / ٥٣٨ ه‍).

٩٤ ـ ابن عطية المالكي (ت / ٥٤١ ه‍).

٩٥ ـ ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ ه‍).

٩٦ ـ ابن الجوزي الحنبلي (ت / ٥٩٧ ه‍).

٩٧ ـ الرازي الشافعي (ت / ٦٠٦ ه‍).

٩٨ ـ القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍).

٩٩ ـ البيضاوي الشافعي (ت / ٦٨٥ ه‍).

١٠٠ ـ الخازن الشافعي (ت / ٧٤١ ه‍).

١٠١ ـ ابن جزي الكلبي المالكي (ت / ٧٤١ ه‍).

١٠٢ ـ تاج الدين الحنفي (ت / ٧٤٩ ه‍).

١٠٣ ـ أبو حيان الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ ه‍).

١٨٨

١٠٤ ـ ابن كثير الشافعي (ت / ٧٧٤ ه‍).

١٠٥ ـ ابن نجيم الحنفي (ت / ٧٩٠ ه‍).

١٠٦ ـ النيسابوري السنّي (ت / ٨٥٠ ه‍).

١٠٧ ـ ابن حجر العسقلاني الشافعي (ت / ٨٥٢ ه‍).

١٠٨ ـ الشربيني الشافعي (ت / ٩٧٧ ه‍).

١٠٩ ـ البرسوي الحنفي (ت / ١١٣٧ ه‍).

١١٠ ـ النووي الشافعي (ت / ١٣١٦ ه‍).

١١١ ـ ابن اطفيش الإباضي الخارجي (ت / ١٣٣٢ ه‍).

١١٢ ـ المعاصر الصابوني الوهابي.

إلى غيرهم ممّا سيأتي من الفقهاء في الفصل الذي عقدناه للحديث عن التقية في فقه المذاهب والفرق الإسلامية من غير الشيعة الإمامية ، بما لا يقلّ عددهم عن عدد المفسّرين.

١٨٩
١٩٠

الفصل الثالث :

التقيّة في فقه المذاهب والفرق الإسلامية

التقيّة في الفقه المالكي

التقيّة في الفقه الحنفي

التقيّة في الفقه الشافعي

التقيّة في الفقه الحنبلي

التقيّة في الفقه الزيدي

التقيّة في الفقه الطبري

التقيّة في الفقه الظاهري

التقيّة في فقه الخوارج الإباضية

التقيّة عند المعتزلة

١٩١
١٩٢

تمهيد :

مر في الفصل الأوّل أنّ التقيّة لا تجوز اختياراً من غير اكراه من ظالم عليها ، ولم أقف على من صرّح من علماء الإسلام بشتّى مذاهبهم وفرقهم من أباحها اختياراً ، وإنمّا اتّفقوا جميعاً على تقييدها بحالات الإكراه.

ولهذا نجد الفقهاء قد خصّصوا في كتبهم الفقهيّة كتاباً بعنوان «الإكراه» تناولوا فيه جميع ما يتعلّق بالتقية من امور ومسائل ، بيدَ أنّ بعضاً منهم لم يفرد للاكراه كتاباً خاصّاً ، وإنّما وزع مسائله على كتب الفقه من عبادات ، ومعاملات ، وعقود ، وايقاعات ، وذلك بحسب مسائل الإكراه المتعلّقة بهذه الكتب ، كالإمام مالك بن أنس (ت / ١٧٩ ه‍) في المدونة الكبرى ، حيث لم يجمع مسائل الإكراه تحت عنوان واحد ، وهذا ما يتطلّب من الباحث المزيد من الجهد والوقت لتتبّع هذه المسائل لمعرفة الرأي الفقهي فيها ، هذا فضلاً عن ضخامة كتب الإكراه نفسها في الدورات الفقهيّة المعروفة لدى المذاهب الإسلامية ، كالمبسوط للسرخسي الحنفي (ت / ٤٩٠ ه‍) حيث خصّص معظم الجزء الرابع والعشرين للاكراه ، وقد تعرّض لموضوع التقية وأحكامها وتفصيلاتها بشكل مستوعب ومطوّل ، وهكذا فعل غيره من فقهاء المذاهب الاخرى ، بما لا يمكن معه استيعاب ما ذكروه جميعاً في هذا الفصل ، إذ

١٩٣

يحتاج إلى دراسة مستقلّة واسعة ، ولهذا سنذكر في هذا الفصل بعض النماذج الفقهية التي اطّردت على ألسن الفقهاء والمفسّرين لكلّ مذهب ، وعلى النحو الآتي :

١٩٤

التقية في الفقه المالكي

ذكر الإمام مالك بن أنس (ت / ٢٧٩ ه‍) في المدوّنة الكبرى عدم وقوع طلاق المكره على نحو التقية ، محتجّاً بذلك بقول الصحابي ابن مسعود : «ما من كلام يدرأ عنّي سوطين من سلطان إلا كنت متكلّماً به» (١).

ولا شكّ أنّ الاحتجاج بهذا القول يعني جواز إظهار خلاف الواقع في القول عند الإكراه ، ولو تمّ بسوطين.

كما أفتى ابن عبد البرّ النمري القرطبي المالكي (ت / ٤٦٣ ه‍) بعدم وقوع عتق وطلاق المكره (٢) ولو كانت التقية لا تجوز في العتق والطلاق عند الإكراه من ظالم عليهما لقال بوقوعهما.

كما ذهب علماء المالكية إلى جواز التلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه تقية على النفس من التلف ، مع وجوب اطمئنان القلب بالإيمان.

فقد ذكر ابن العربي المالكي (ت / ٥٤٣ ه‍) انّ من يكفر تقية وقلبه مطمئن

__________________

(١) المدونة الكبرى / مالك بن أنس ٢٩ : ٣ كتاب الإيمان بالطلاق وطلاق المريض ، تحت عنوان : (ما جاء في طلاق النصرانية والمكره والسكران).

(٢) الكافي في فقه أهل المدينة المالكي / ابن عبد البر : ٥٠٣.

١٩٥

بالإيمان ، لا تجري عليه أحكام المرتد ، لعذره في الدنيا ، مع المغفرة في الآخرة ، ثمّ صرّح بعدم الخلاف في ذلك.

ومن الامور التي تصحّ فيها التقيّة عند الإكراه : الزنا ، فيجوز الاقدام عليه ولا حدّ على من اكرِه عليه.

كما صرّح بأنّ الإكراه إذا وقع على فروع الشريعة لا يؤاخذ المكره بشيء ، محتجّاً بالحديث المشهور : «رفع عن امّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، ويستثنى من ذلك ما خرج بدليل معتبر ، كالإكراه على القتل. فإذا اكره المرء على القتل فقتل ، يُقتل.

ثمّ ذكر اختلاف المالكية في الإكراه على اليمين ، هل تصحّ التقية فيه؟ أو لا تصحّ ، واختار الأوّل (١).

وذكر ابن جزي المالكي (ت / ٧٤١ ه‍) جواز التلفّظ بكلمة الكفر عند الإكراه عليها.

امّا السجود للصنم ، فقد صرّح بجوازه عند الجمهور ، قال : ومنعه بعضهم.

ثمّ قال : «قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتق ، ولا شيء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد ، أو أخذ ماله» (٢).

وهذا القول يعني انّ الإمام مالكاً كان يرى التقية في جميع العبادات لأنّها

__________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ١١٧٧ : ٣ / ١١٨٢.

(٢) تفسير ابن جزي : ٣٦٦.

١٩٦

ممّا بين الله تعالى والعبد ، وأمّا غير ذلك فلا يعني عدم جواز التقية فيه مع الخوف من القتل ، كما يفهم من عبارة ابن العربي المالكي ، قال في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) (١) ، هذا : «دليل على نسبة الفعل الموجود من المُلجإ المكرَه إلى الذي ألجأه واكرهه ، ويترتّب عليه حكم فعله ، ولذلك قال علماؤنا : إنّ المكرِه على اتلاف المال يلزمه الغرم ، وكذلك المكرِه على قتل الغير يلزمه القتل» (٢).

بمعنى أنّ التقيّة في إتلاف المال جائزة ، ولكن الغرم يكون على من أكره على الاتلاف.

امّا القتل فلا يجوز تقية ، ويقتل القاتل كما صرّح به آنفاً ولكن القصاص يسري إلى المكرِه فيُقتل أيضاً.

أمّا أبو حيّان الأندلسي المالكي (ت / ٧٥٤ ه‍) فيرى صحّة التقية من كل غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك الكفّار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر. كما تصحّ التقية عنده في حالة الخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة ، وانّها تكون بالكفر فما دونه ، من بيع وهبة ونحو ذلك (٣).

وقد فصّل القرطبي المالكي (ت / ٦٧١ ه‍) القول فيما تصحّ فيه التقيّة ، وسنذكر مع الاختصار بعض ما ذكره ، على النحو الآتي :

١ ـ تجوز التقية في تلفّظ كلمة الكفر ولا شيء على المكره مع اطمئنان القلب

__________________

(١) أحكام القرآن / ابن العربي ١٢٩٨ : ٣.

(٢) م. ن ١٢٩٨ : ٣.

(٣) البحر المحيط / أبو حيان ٤٢٤ : ٢.

١٩٧

بالإيمان ، وقد حكى الإجماع على ذلك.

٢ ـ التقية رخصة ، تجوز في القول والفعل على حدّ سواء ، قال : «روي ذلك عن عمر بن الخطّاب ومكحول ، وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق. روى ابن القاسم ، عن مالك أنّ من اكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع».

٣ ـ السجود للصنم تقية جائز.

٤ ـ يجوز الاقدام على الزنا عند الإكراه ويسقط الحدّ.

٥ ـ اختلاف العلماء في طلاق المكره وعتاقه واختار جواز التقية فيه ولا يلزمه شيء من ذلك. ونسبه إلى أكثر العلماء.

٦ ـ نقل إجماع المالكية على أنّ بيع المكره على الظلم والجور لا يجوز ونسبه إلى الأبهري. ومثله نكاح المكره.

٧ ـ إذا استُكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها.

٨ ـ إذا اكره الإنسان على تسليم أهله لما لم يحلّ أسلمها ، ولم يقتل نفسه دونها ولا احتمل أذيّة في تخليصها!!

٩ ـ يمين المُكرَه غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور وأكثر العلماء ، قال ابن الماجشون : «وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا اكرِه على اليمين».

١٠ ـ لا يقع الحنث عند الإكراه.

١١ ـ الاتّفاق على صحّة توكيل الإنسان حال تقيّته (١).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٨٠ : ١٠ ١٩١ في تفسير الآية (١٠٦) من سورة النحل.

١٩٨

امّا التقيّة عند ابن عطيّة الأندلسي المالكي (ت / ٥٤١ ه‍) فتجوز في تلفّظ كلمة الكفر ، وحكى جواز السجود إلى الصنم عند الإكراه ، كما تصحّ في البيع ، والايمان ، والطلاق ، والعتق ، والإفطار في شهر رمضان ، وشرب الخمر ، ونحو ذلك من المعاصي ، ثمّ أكّد أنّ هذا هو المروي عن مالك بن أنس من طريق مطرف ، وابن عبد الحكم ، وأصبغ ، وانّه لا يشترط في التقية تحقّق الإكراه المفضي إلى القتل ، وإنّما يكفي في ذلك أن يكون الإكراه قيداً ، أو سجناً ، أو وعيداً مخوّفاً ، وإن لم يقع ما يوعد به (١).

وقد سُئل ابن أبي عليش المالكي (ت / ١٢٩٩ ه‍) : «ما قولكم فيمن اكرِه على شرب الخمر ، أو سائر النجاسات ، فهل يجوز له ذلك لخوف ضرب مؤلم؟ أم كيف الحال؟».

فقال في جواب هذا السؤال : «فأجبت بما نصّه : الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد رسول الله. قال الثنائي ، عن سحنون : ولو اكره على أكل الميتة ، ولحم الخنزير ، وشرب الخمر ، لم يجز إلا لخوف القتل ، انتهى.

وهو مبني على أنّ الإكراه لا يتعلّق بالفعل ، والمذهب تعلّقه به ، فيكون بما مرّ من خوف مؤلم ... إلخ ، وهو قول لسحنون أيضاً ، وهو المعتمد لا ما ذكره ...» (٢).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٣٧٦ : ١٠ ٣٧٧ المسألة السادسة من مسائل الآية (١٩) من سورة الكهف.

(٢) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك / أبو عبد الله محمّد بن أحمد عليش ١٩١ : ١.

١٩٩

التقيّة في الفقه الحنفي

أمّا عن التقيّة في الفقه الحنفي ، فهي واسعة جدّاً ، وقد جوّزها فقهاء الأحناف في امور هي في غاية الدقّة والخطورة ، ونظراً لاتّساع مسائل التقيّة في الفقه الحنفي لذا سنعتمد في دراستنا للتقيّة عندهم على بعض كتبهم المهمّة فقهيّا ومن ثمّ الإشارة السريعة إلى ما ورد من تلكم المسائل في مصادرهم الاخرى ، مراعين بذلك الاختصار ، فنقول :

جاءت في كتاب فتاوى قاضيخان للفرغاني الحنفي (ت / ٢٩٥ ه‍) ، امور كثيرة ، جوّز فيها التقية ، نذكر منها :

١ ـ إذا اكرِه الرجل بقتل ، أو إتلاف عضو من أعضائه على أن يقتل رجلاً مسلماً فقتله ، فهل يصحّ مثل هذا الإكراه؟ وهل يحكم على القاتل بالقصاص ، أو لا؟

قال أبو حنيفة ومحمّد : يصحّ الإكراه ، ويجب القصاص على المكره ، دون المأمور.

وقال أبو يوسف : يصحّ الإكراه ، ولا يجب القصاص على أحد!! وكان

٢٠٠