كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

والطريقة الثالثة ، وهي عمدة شيخنا رضي الله عنه ، أن نقول : العلم المتعلق بالمعلوم علم. فإذا زعمتم أن الباري تعالى علم بالمعلوم ، والمعلوم في حقه محاط به ، فلا يتقرر معلوم محاط به لا يتعلق به متعلق. ثم المتعلق بالمحاط به يستحيل أن يكون خارجا من قبيل العلوم ، ولا معنى لتعلق العلم بالمعلوم إلا كون المعلوم محاطا به.

وهذا آكد على أصول المعتزلة ؛ فإنهم قالوا : تعلق العلمين بالمعلوم الواحد يوجب تماثلهما ، وبنوا على ذلك مماثلة العلم القديم ـ لو ثبت ـ للعلم الحادث. وذلك قاطع إذا تأملته ، وبالله التوفيق.

ومعوّل نفاة الصفات على طرق :

منها ، ادّعاؤهم منع تعليل الواجب كما قدمناه ، وقد سبق الاعتراض عليه بما فيه مقنع.

ومما يتمسكون به أيضا ، أن قالوا : لو أثبتنا صفات قديمة لكانت مشاركة للباري تعالى في القدم ، وهو أخص صفات الذات ، والاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك فيما عداه من الصفات ، ومساق ذلك يقضي بكون الصفات آلهة.

وهذا الذي ذكروه تعرض للدعاوى من غير برهان. فأما قولهم الاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك فيما عداه ، فهم فيه منازعون ؛ ثم لو سلم ذلك لهم جدلا ، نوزعوا في كون القدم أخص أوصاف الباري تعالى ، ولا يجدون إلى إثبات سبيلا.

ثم يقال لهم : الإرادة التي أثبتموها للباري تعالى حادثة قائمة ، لا بمحل ، مثل على زعمكم للإرادة الثابتة للعبد القائمة به إذا تعلقتا بمتعلق واحد ، وهما مشتركتان في الأخص ، ويثبت لأحدهما وجوب القيام بالمحل ، ويستحيل ذلك على الثانية ، وهذا ينقض ما حاولوه من وجوب اشتراك المشتركين في الأخص في جميع الصفات.

على أنا نقول لهم : منعكم تعليل الواجب يناقض مصيركم إلى أن الاجتماع في الأخص يوجب الاجتماع فيما عداه ؛ فإن تماثل المثلين واجب ، وتعرضكم لتعليله تصريح بتعليل الواجب.

ومما يتمسكون به أن قالوا : علم الباري تعالى على زعمكم يتعلق بما لا يتناهى من المعلومات على التفصيل ، وهو في حكم العلوم المختلفة الحادثة ، إذ لا يتعلق العلم الحادث بالسواد والبياض ؛ فإذا تعلق علم الباري بالمعلومات المختلفة كان في حكم العلوم الحادثة ، وإذا لم يبعد ذلك لم يبعد أيضا كونه في حكم القدرة ، وإن كانت القدرة والعلم مختلفين شاهدا ، ويلزم من مفاد ذلك الاجتزاء بصفة واحدة ، تكون في حكم العلوم والحياة والقدرة.

وهذا الذي ذكروه مما لا يلزم الجواب عنه نظرا ، فإنه كلام منهم في تفصيل الصفات مع مصيرهم إلى نفي أصلها ، ثم إذا أوضحنا فيه معتقدنا وإن لم يكن يلزمنا في طرق الحجاج ، قلنا :

٤١

القضية العقلية تدل على إثبات الصفة على الجملة ، فأما كون العلم زائدا على القدرة فمما لا يتوصل القطع إليه عقلا. والسبيل فيه التمسك بأدلة السمع ، فإن المتكلمين في الصفات بالنفي والإثبات مجمعون على نفي صفة في حكم العلم والقدرة ، فمن رام إثبات صفة في حكمها كان خارقا للإجماع.

فإن قيل : إذا لم يبعد ثبوت علم في حكم علوم ، فما المانع من مصيرنا إلى أن الباري تعالى عالم بالمعلومات لنفسه ، قادر عليها لنفسه ، وتكون نفسه في حكم العلم والقدرة ، وذلك يفضي إلى الاستغناء بالذات عن الصفات؟ قلنا : هذا ليس بالاستدلال ، فإنكم بنيتم قولكم هذا على أصل تعتقدون فساده ؛ إذ العلم الذي اعتقدناه غير ثابت عندكم ، فكيف تبنون مذهبكم على ما تعتقدون بطلانه؟

ثم مضمون ما عولتم عليه يقضي بما توافقوننا على بطلانه ؛ وذلك أن ذات الباري تعالى لو كان في حكم العلوم لكانت علما ، وهذا ما لا ينتحله أحد من أهل الملة. وقد قال أبو الهذيل (١) : الباري تعالى عالم بعلم ، وعلمه نفسه ، ونفسه ليست بعلم ، وعدّ هذا من فضائحه ومناقضاته. وهو مع مفارقة ما أنكره سائر المعتزلة ، ينكر كون ذات الباري تعالى علما وقدرة. وأحق الناس بالتزام ذلك المعتزلة ؛ فإنهم قالوا : لو ثبت للباري تعالى علم متعلق بمعلوم علمنا ، لكن مثلا لعلمنا ؛ فلو قضوا بكون ذاته في حكم العلوم ، لألزموا كون ذاته علما ، وهو مما يأبونه أصلا.

فإن قيل : إن كان ما ذكرتموه دفعا لكلام الخصم ، فبم تدفعون ذلك عن أنفسكم ، وقد زعمتم أن العقل يقضي بإثبات الصفة على الجملة ، والكلام في التفاصيل موقوف على الأدلة السمعية؟ قلنا : هذا مما لا يحتمل هذا المعتقد بسطه ، ولكن القدر اللائق به أن العقل يدل على إثبات العلم ، ثم المصير إلى أن العلم زائد على النفس مدركه السمع ، فإذا دل العقل على إثبات العلم ، وانعقد الإجماع على أن وجود الباري تعالى ليس بعلم ، فيحصل من مدلول السمع والعقل إثبات علم زائد على الوجود ، وبالله التوفيق.

فصل

قد ذكرنا الدليل على إثبات كون الباري تعالى مريدا عند تعرضنا لإثبات العلم بأحكام الصفات. ثم مذهب أهل الحق أن الباري تعالى مريد بإرادة قديمة. وقد زعمت المعتزلة البصريون أنه مريد بإرادة حادثة لا في محل ، وذلك باطل من أوجه :

منها ، إن إرادته لو كانت حادثة لا فتقرت إلى تعلق إرادة بها ؛ فإن كل فعل ينشئه الفاعل ، وهو عالم به وبإيقاعه على صفة مخصوصة في وقت مخصوص ، فلا بد أن يكون قاصدا إلى إيقاعه ؛ ونفي

__________________

(١) هو محمد بن الهذيل المعروف بالعلاف ، شيخ المعتزلة والذاب عنهم ، أخذ الاعتزال عن واصل بن عطاء وعثمان بن خالد الطويل ، كان يقول بفناء مقدورات الله عزوجل. مات عام ٢٢٦ وقيل ٢٣٥. انظر شذرات الذهب ٢ / ٨٥. والفرق بين الفرق.

٤٢

القصد إلى إيقاع فعل ، مع العلم به ، يلزم صاحبه نفي المقصود إلى إيقاع جميع الأفعال.

فإذا قالوا : الإرادة يراد بها وهي لا تراد في نفسها ، لم يكترث بقولهم ، وألزموا ما ذكرناه من استحالة إنشاء فعل مع العلم به من غير قصد إليه.

وقد ادعى بعض المحققين في ذلك الضرورة ، وهو غير مبعد في دعواه.

ولو ساغ للبصريين ما قالوه ، لساغ لجهم أن يقول : الباري تعالى يخلق لنفسه علوما حادثة بالحوادث يجب أن يعلم الحوادث بها ، ولا يجب أن يعلم العلوم بأنفسها بعلوم أخرى ، وهذا مما لا فصل فيه.

ثم نقول : قد وافقتمونا على أن المتماثلين يجب اشتراكها في الواجبات والجائزات وما يستحيل ، ثم أوجبتم لإرادتنا القيام بالمحال ؛ فالتزموا ذلك في إرادة الباري تعالى.

ثم يلزمهم قيام إرادة الباري تعالى عن زعمهم ، بالجماد. فإن حاولوا دفع ذلك ، وقالوا الإرادة تستدعي محلا مخصوصا وبنية مخصوصة وحياة ، قيل لهم : إثباتكم إرادة لا في محل ، نفي للمحل والبنية والصفة التي أشرتم إليها ؛ فإذا ساغ نفي أصل المحل ، لم يبعد نفي شرط المحل.

فصل

ذهب جهم (١) إلى إثبات علوم حادثة للرب ، تعالى عن قول المبطلين. وزعم أن المعلومات إذا تجددت أحدث الباري سبحانه وتعالى علوما متجددة ، بها يعلم المعلومات الحادثة ، ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها.

والذي ذكره خروج عن الدين ومخالفة لإجماع المسلمين ، وإضراب عن قضية العقول. وسبيل الرد عليه في مدارك العقل يداني سبيل الرد على البصريين ، في اعتقادهم الإرادات الحادثة الثابتة على زعمهم لله تعالى في غير محالّ.

فنقول لجهم : إن افتقرت الإرادات إلى علوم متعلقة بها ، فلتفتقر العلوم الحادثة إلى علوم أخر متعلقة بها ، بأنها مشاكة للمعلومات في كونها أفعالا حوادث ؛ وذلك إن التزمه تجر إلى إثبات علوم لا نهاية لها ، وهي متعاقبة حادثة ، ومفاده تسويغ حوادث لا أول لها. وإن لم يلتزم ذلك ، لزمه من استغناء العلوم عن علوم حدوثها ، استغناء جملة الحوادث عن تعلق العلوم بها.

ثم العلوم الحادثة عند جهم لا تخلو : إما أن تكون ثابتة في غير محل ، أو قائمة بأجسام ، أو

__________________

(١) هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ رقم (١٥٨٤) : «الضال المبتدع ، رأس الجهمية». زعم أن الجنة والنار تبيدان وزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط انظر الفرق بين الفرق.

٤٣

قائمة بذات الباري تعالى ؛ فإن زعم أنها ثابتة في غير محل ، ردّ عليه بما رد على مثبتي الإرادات الحادثة في غير محل وإن زعم أنها تقوم بذات الرب ، كان الرد عليه كالرد على الكرامية الصائرين إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب سبحانه وتعالى عن قولهم وإن زعم أنها تقوم بأجسام ، لزم أن يجوّز قيام علم بجسم والمتصف بحكمه جسم آخر ، طردا لما يجوزه من قيام العلم بجسم مع رجوع حكمه إلى الله تعالى. فإذا بطلت الأقسام ، ولا مزيد عليها ، أذن بطلانها بفساد المذهب المنقسم إليها.

فإن قيل : الباري سبحانه كان عالما في أزله بأن العالم سيقع ، فلما وقع فيما لا يزال كان ذلك معلوما متجددا ، ويتصف الباري تعالى عند وقوع العالم بكونه عالما بوقوعه ؛ وإذا تجدد له حكم واتصاف اقتضى ذلك تجدد موجب للحكم ومقتض له ، وذلك يقضي بالعلوم المتجددة.

قلنا لا يتجدد للباري سبحانه وتعالى حكم لم يكن ، ولا تتعاقب عليه الأحوال ، إذ يلزم من تعاقبها ما يلزم من تعاقب الحوادث على الجواهر ؛ بل الباري تعالى متصف بعلم واحد ، متعلق بما لم يزل ، ولا يزال ، وهو يوجب له حكم الإحاطة بالمعلومات على تفاصيلها ، ولا يتعدد علمه بتعدد المعلومات ، وإن كانت العلوم الحادثة تتعدد بتعدد المعلومات.

ثم كما لا يتعدد إذا تعددت المعلومات ، فكذلك لا يتجدد إذا تجددت.

والذي يوضح الحق في ذلك ؛ أن من اعتقد بقاء العلم الحادث ، ثم صور علما متعلقا بأن سيقدم زيد غدا ، وقرر استمرار العلم بتوقع قدومه إلى قدومه ، فإذا قدم لم يفتقر إلى علم متجدد بوقوع قدومه ، إذ قد سبق له العلم بقدومه في الوقت المعين.

وآية ذلك أنا لو قدرنا اعتقاد دوام العلم كما صورناه ، ولم نفرض عند وقوع القدوم علما آخر سوى ما قدمنا دوامه ، وقلنا لا يتعلق العلم السابق بالوقوع ، للزم كونه جاهلا بالوقوع في وقته أو غافلا عنه مع تقدير دوام العلم بالقدوم المرقوب في الوقت المعين ، وذلك باطل على الضرورة.

وليس من معتقدنا المصير إلى بقاء العلوم الحادثة ، ولكن الأدلة العقلية تبني على الحقائق مرة ، وعلى تقدير اعتقادات أخرى ، فإذا لم يلزم شاهدا تجدد علوم عند تجدد المعلومات في حق من سبق له العلم بوقوعها في الاستقبال ، فلأن لا يلزم ذلك في حق الباري تعالى أولى فافهم.

فصل

الباري سبحانه وتعالى متكلم ، آمر ، ناه مخبر ، واعد ، متواعد. وقد قدمنا في خلال إثبات أحكام الصفات المعنوية ، الطريق إلى إثبات العلم بكون الرب تعالى متكلم عند إسنادنا نفي النقائص إلى السمع ، وتوجيهنا على أنفسنا السؤال عما يثبت للسمع.

فإذا وضح كون الباري تعالى متكلما ، فقد آن أن نتكلم في صفة كلامه.

٤٤

فاعلموا وقيتم البدع ، أن من مذهب أهل الحق : أن الباري سبحانه وتعالى متكلم بكلام أزلي ، لا مفتتح لوجوده.

وأطبق المنتمون إلى الإسلام على إثبات الكلام ، ولم يصر صائر إلى نفيه ، ولم ينتحل أحد في كونه متكلما نحلة نفاة الصفات في كونه عالما قادرا حيّا.

ثم ذهبت المعتزلة ، والخوارج (١) ، والزيدية (٢) ، والإمامية (٣) ، ومن عداهم من أهل الأهواء ، إلى أن كلام الباري ، تعالى عن قول الزائغين ، حادث مفتتح الوجود.

وصار صائرون من هؤلاء إلى الامتناع من تسميته مخلوقا مع القطع بحدثه ، لما في لفظ المخلوق من إيهام الخلق ، إذ الكلام المخلوق هو الذي يبديه المتكلم تخرصا من غير أصل.

وأطلق معظم المعتزلة لفظ المخلوق على كلام الله تعالى ، وذهبت الكرامية إلى أن كلام الله قديم ، والقول حادث غير محدث ، والقرآن قول الله ، وليس بكلام الله ؛ وكلام الله عندهم القدرة على الكلام ، وقوله حادث قائم بذاته ، تعالى عن قول المبطلين ؛ وهو غير قائل بالقول القائم به ، بل قائل بالقائلية ، وكل مفتتح وجوده قائم بالذات ، فهو حادث بالقدرة غير محدث ؛ وكل مفتتح مباين للذات ، فهو محدث بقوله : «كن» لا بالقدرة ، في هذيان طويل ، لا يسع هذا المعتقد استقصاؤه.

وغرضنا من إيضاح الحق والرد على متنكبيه لا يتبين إلا بعد عقد فصول في ماهية الكلام وحقيقته شاهدا ، حتى إذا وضحت الأغراض منها انعطفنا بعدها إلى مقصدنا. وقد التزمنا التمسك بالقواطع في هذا المعتقد على صغر حجمه ، وآثرنا إجراءه على خلاف ما صادفنا من معتقدات الأئمة ؛ وهذا الشرط يلزمنا طرقا من البسط في مسألة الكلام ، وها نحن خائضون فيه.

فصل

اعلم ، أرشدك الله تعالى ، أن المعتزلة ومخالفي أهل الحق قد تخبطوا في حقيقة الكلام.

وها نحن نومئ إلى جمل من ألفاظهم ، ثم نتعقبها بالنقض.

ومما ذكره قدماؤهم : أن الكلام حروف منتظمة ، وأصوات منقطعة ، دالة على أغراض

__________________

(١) اختلفت الخوارج حتى صارت عشرين فرقة ، خرجوا على الإمام علي وقالوا بتكفيره وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ، ونادوا بالخروج على الإمام الجائر.

(٢) هي فرقة من الشيعة تدعي بأنها من اتباع زيد بن علي زين العابدين عليهما‌السلام مع أنه لم يرفض الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهم.

(٣) خالفوا الزيدية وهم خمس عشرة فرقة كما في كتاب «الفرق بين الفرق» منها : الكاملية نسبة إلى أبي كامل الذي كفّر الصحابة لتركهم بيعة علي ، وكفر عليا لتركه قتالهم. والمحمدية الذين ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

٤٥

صحيحة ، وهذا باطل ؛ إذ الحدّ ما يحوي آحاد محدود ، والحرف الواحد قد يكون كلاما مفيدا ، فإنك إذا أمرت من «وقى» و «وشى» قلت «ق» و «ش» ، وهذا كلام وليس بحروف وأصوات.

فإن قيل : الحرف الواحد لا ينطق به ، بل إن جرّد الأمر من هذه الأدوات وصل بهاء الاستراحة ، فقيل «قه» و «شه» ، فلم يستقلّ الحرف الواحد بنفسه ، وهذا لا ينجيهم عما أريد بهم ، فإن «ق» في درج الكلام ، ووصله كلام ، وهو حرف واحد ، وإنما غرضنا إيضاح ذلك.

ثم لا معنى للتقييد بالإفادة ، فإن من لفظ بكلمات لا تفيد ، يقال : تكلم ولم يفد ، فلا معنى للتقييد بالإفادة.

ثم نقول : الحروف أنفس الأصوات ، فلا معنى لتكررها ، والحدود يتوقى فيها التكرير الذي لا يفيد.

فإذا قالوا : الكلام أصوات مقطعة ، وحروف منتظمة ، فتقديره الكلام أصوات وأصوات ، وإذا حذفوا الحروف ، قيل لهم : الأصوات المقطعة لا تفيد لأنفسها ما لم يصطلح على نصبها أدلة ، فإن ارتضيتم ذلك واكتفيتم به لزمكم على مساقه تسمية نقرات على أوتار مصطلح عليها كلاما ، وهذا القدر كاف في تتبع حدهم.

فإن قال قائل : ما حد الكلام عندكم؟ قلنا : من أئمتنا من يمتنع من تحديد الكلام ، ونبينه بالتفصيل كما سنوضحه عند ذكرنا ماهية الكلام.

وجملة المعلومات لا تضبطها الحدود ؛ بل منها ما يحد ، ومنها ما لا يحد ؛ كما أن منها ما يعلل ، ومنها ما لا يعلل.

وقال شيخنا رحمه‌الله : الكلام ما أوجب لمحله كونه متكلما وهذا فيه نظر عندنا.

والأولى ، أن نقول : الكلام هو القول القائم بالنفس ، وإن رمنا تفصيلا ، فهو القول القائم بالنفس ، الذي تدل عليه العبارات وما يصطلح عليه من الإشارات.

فصل

قد أنكرت المعتزلة الكلام القائم بالنفس ، وزعموا أن الكلام : هو الأصوات المتقطعة ، والحروف المنتظمة ، ونصوا كلاما قائما بالنفس سوى العبارات الآئلة إلى الحروف والأصوات.

وربما يثبت ابن الجبائي كلام النفس ، ويسميه الخواطر ، ويزعم أن تلك الخواطر يسمعها ويدركها بحاسة السمع. وذهب الجبائي إلى أن الأصوات المتقطعة على مخارج الحروف ليست بكلام ، وإنما الكلام الحروف المقارنة للأصوات ، وهي ليست بأصوات ولكنها تسمع إذا سمعت الأصوات.

٤٦

وذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس ، وهو الفكر الذي يدور في الخلد ، وتدل عليه العبارات تارة وما يصطلح عليه من الإشارات ونحوها أخرى.

والدليل على إثبات الكلام القائم بالنفس : أن العاقل إذا أمر عبده بأمر ، وجد في نفسه اقتضاء الطاعة منه وجدانا ضروريا.

ثم إنه يدل على ما يجده ببعض اللغات وبضروب من الإشارات أو برقوم تسمى الكتبة.

فإن زعموا أن ما ذكرنا من الأمر إنما هو إرادة الآمر امتثال المأمور لأمره ، فذلك باطل ، فإن الآمر قد يأمر بما لا يريد أن يمتثل المخاطب فيه أمره ، وإن كان يجد في هواجس النفس الاقتضاء منه الذي هو مدلول العبارة. وسندل من بعد على أن الآمر الموجب لا يجب كونه مريدا للفعل المأمور به.

فإن قالوا : الذي يجده في نفسه إرادة تجعل اللفظ الصادر منه أمر على جهة ندب أو إيجاب ، وهذا باطل من أوجه ؛ أحدها أن اللفظة تتصرم مع استمرار وجدان الاقتضاء في النفس ، والماضي لا يراد بل يتلهف عليه ، وعلى اضطرار نعلم أن ما نجده بعد انقضاء اللفظ ليس تلهفا على منقض. ومما يوضح ذلك أن اللفظة ترجمة عما في الضمير وهذا مما تقضي به العقول ، وليست اللفظة ترجمة عن إرادة جعلها على صفة ، بل هي ترجمة اقتضاء وإيجاب ، ولا يجحد ذلك محصل.

فإن قيل : الاقتضاء ضرب من الاعتقاد ، كان محالا ؛ فإن الاعتقاد إما أن يكون ظنا أو علما أو جهلا ، إلى غير ذلك من صنوف الاعتقادات ، والذي يجد من نفسه الاقتضاء يقطع بأنه ليس بعلم ولا ظن ولا جهل ولا حدس ولا تخمين. والذي يحقق ذلك أن ما ألزمونا من جعل الاقتضاء إرادة واعتقادا ، يلزمهم القول به في النظر ، فلو قال قائل : النظر إرادة علم بالمنظور فيه أو هو من ضروب الاعتقادات ، فلا ينفصلون عن ذلك بما يوضح كون النظر زائدا على الإرادات والاعتقادات إلا وسبيلهم يطرد لنا في إثبات غرضنا.

ومن الدليل على إثبات كلام النفس أن قول القائل : «افعل» قد يتضمن استحبابا وقد يتضمن إيجابا ، وقد يقتضي إباحة ، وقد يرد مورد النهي. فإذا دل على إيجاب يستحيل أن يكون هو الإيجاب بنفسه ، فإن صورة اللفظ في إرادة الإيجاب كصورة اللفظ في إرادة الاستحباب ، إذ هو أصوات متقطعة ضربا من التقطع ، والأصوات لا تختلف في انقسام جهات الاحتمالات على قطع. فيلزم المصير إلى أن الإيجاب معنى في النفس ، ثم تعتور عليه الدلالات بالعبارات وغيرها من الأمارات.

فإن قيل : ما ألزمتمونا في مرامكم ينعكس عليكم في كون اللفظ دليلا على ما في النفس ، فإن الدليل على الإيجاب يجب أن يتميز عن الدليل على الاستحباب ، قلنا : ليس يرجع تمييز الدليلين إلى أنفس الأصوات ، ولكن إذا اقترنت القرائن بالألفاظ وشهدت الأحوال ، اضطر المخاطب إلى درك مقصوط اللافظ. وما ذكرناه من قرائن الأحوال ليست من الكلام عند المخالفين ، فهذا القدر مغن في مدارك العقل.

٤٧

وإن رددنا إلى إطلاق أهل اللسان ، عرفنا قطعا أن العرب تطلق كلام النفس والقول الدائر في الخلد ، وتقول : كان في نفسي كلام ، وزورت في نفسي قولا ، واشتهار ذلك يغني عن الاستشهاد عليه بنثر لناثر أو شعر لشاعر ، وقد قال الأخطل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فإن قال المخالف : الألفاظ المفيدة يسميها العقلاء كلاما على الإطلاق ، ويقولون سمعنا كلاما ومرامهم ما أدركوه من العبارات قلنا : الطريقة المرضية عندنا أن العبارات تسمى كلاما على الحقيقة ، والكلام القائم بالنفس كلام ، وفي الجمع بينهما ما يدرأ تشغيب المخالفين.

ومن أصحابنا من قال الكلام الحقيقي هو القائم بالنفس ، والعبارات تسمى كلاما تجوزا كما تسمى علوما تجوزا ؛ إذ قد يقول القائل سمعت علما وأدركت علوما ، وإنما يريد إدراك العبارات الدالة على العلوم ، ورب مجاز يشتهر اشتهار الحقائق.

فصل

المتكلم عند أهل الحق من قام به الكلام. والكلام عند مثبتي الأحوال منهم يوجب لمحله حالا وهي كونه متكلما ، وينزل الكلام في ذلك منزلة العلوم والقدر ونحوها من الصفات الموجبة لمحالها الأحكام.

وذهبت المعتزلة ، وكل قائل بأن كلام الله تعالى حادث ، إلى أن كون المتكلم متكلما من صفات الأفعال ، والمتكلم عندهم من فعل الكلام. ثم ليس للفاعل من فعله حكم يرجع إلى ذاته ، إذ المعنى بكون الفاعل فاعلا عندهم وقوع الفعل منه ، وعلى موجب ذلك لم يشترطوا قيام الكلام بالمتكلم ، كما لا يجب قيام الفعل بالفاعل ، وهو من أهم ما يعتني به في هذا الفصل.

فنقول : لو كان المتكلم من فعل الكلام ، لكان لا يعلم المتكلم متكلما من يعلمه فاعلا للكلام ، وليس الأمر كذلك. فإن من سمع كلاما صادرا من متكلم استيقن كونه متكلما ، من غير أن يخطر بباله كونه فاعلا لكلامه أو مضطرا إليه ، فإذا اعتقد كونه متكلما مع الإضراب عن هذه الجهالات ، تقرر بذلك أن كون المتكلم متكلما ليس معناه كونه فاعلا للكلام. والذي يوضح ذلك أنا نعتقد أن لا فاعل على الحقيقة إلا الله تعالى ، ونصمم على هذا الاعتقاد ، ولا يزعنا عن العلم الضروري بكون المتكلم متكلما.

ومما يقوي التمسك به أن نقول : الكلام عندكم أصوات متقطعة وحروف منتظمة ضربا من الانتظام ؛ فإذا قال القائل منا : قد قمت اليوم إلى زيد ، فهذا الصادر منه كلامه وهو المتكلم به. فلو خلق الله تعالى هذه الأصوات على انتظامها في العبد ضرورة فلا يخلو المخالف ، وقد فرضنا الكلام في ذلك ؛ إما أن يقضي بكون محل الكلام متكلما ، وإما أن لا يقضي به. فإن زعم أن المحل هو

٤٨

المتكلم فقد نقض المصير إلى أن المتكلم من فعل الكلام ، فإن الكلام من فعل الله في الصورة المفروضة ؛ وإن زعم أن محل الكلام أو الجملة التي محل الكلام منها ليست بمتكلمة ، فقد عاند وجحد ما يداني البداية ؛ فإنا نسمع من قام به الكلام يقول : قد قمت اليوم إلى زيد ، كما كنا نسمعه يقول ذلك ، إذ هو مختار.

ولو بنينا غرضنا من هذا الفصل على أصلنا في استبداد الرب سبحانه بالخلق ، واستحالة كون غيره موجدا ؛ فيتضح على هذا الأصل بطلان المصير إلى أن الباري تعالى إنما كان متكلما من حيث كان فاعلا للكلام ، إذ هو فاعل كلام المحدثين وليس متكلما به.

ويتضح الإلزام على البخارية : فإنهم يوافقون أهل الحق في أن الرب تعالى خالق أعمال العباد ، فلا يستمر لهم ، وهذا معتقدهم ، القول بأن المتكلم من فعل الكلام. ثم الكلام على مذهب المخالفين أصوات ، فلئن كان المتكلم من فعل الكلام ، فليكن المصوت من فعل الصوت. ويلزم من سياق ذلك كون الباري تعالى عن قول الزائغين ، مصوتا من حيث كان فاعلا للصوت.

وإذا بطل بهذه القواطع مذهب من يقول المتكلم من فعل الكلام فلا بد من اختصاص الكلام بالمتكلم على وجه من الوجوه. فإذا انتقض وجه الفعل فلا يبقى على السبر والتقسيم ، بعد بطلان ما ذكرناه إلا ما ارتضيناه من أن المتكلم من قام به الكلام. ثم ثبوت هذا الأصل يفضي إلى أن الكلام يوجب حكما لمحله وهو كونه متكلما ؛ فإن كل صفة قامت بمحل أوجبت له حكما.

فهذه مقدمات كافية لغرضنا في الرد على المخالفين : ثم نوجه عليهم طلبات قبل الخوض في مقصود المسألة ، تقول : الكلام في تفاصيل «الكلام» فرع لثبوت كون الباري تعالى متكلما ، فبم ينكرون على من يزعم أنه ليس بمتكلم أصلا؟.

فإن زعموا أن المتكلم : من فعل الكلام ، والباري سبحانه وتعالى مقتدر على خلق الكلام وإبداعه.

قلنا : قد أبطلنا عليكم ذهابكم إلى أن المتكلم : من فعل الكلام بالطرق المتقدمة ؛ ثم ما ذكرتموه اكتفاء منكم بأن الكلام مقدور للباري ، فلم زعمتم أن مقدوره قد وقع ، وليس كل ما يقضي العقل بكونه مقدرا للباري تعالى يجب كونه واقعا ، إذ ذاك يؤدي إلى وقوع ما لا يتناهى من الحوادث من حيث كانت المقدورات غير متناهية؟

فإن قالوا : إنما عرفنا وقوع الكلام ، واتصافه تعالى بكونه متكلما ، بالمعجزات ، والآيات الخارقة للعادات ، الدالة على صدق مدعي النبوّات ؛ ثم الأنبياء أخبروا عن كلام الله تعالى ووقوعه ، وهم : المصدقون والمؤيدون بالآيات المحققة ، والبراهين المصدقة ؛ وعضدوا كلامهم هذا بأن قالوا : قد أسندتم العلم بنفي النقائص إلى السمع ، ثم بنيتم إثبات كلام الله تعالى على المعجزات ، فبم تنكرون على من يسلك مسلككم في ذلك؟ قلنا : خصومنا من المعتزلة ، ومن انتحى نحوهم ،

٤٩

مصدودون أولا عن إثبات المعجزات ، والتوصل إلى العلم بوجوهها ، الدالة على صدق المتحدين بها ، على ما سنذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى في المعجزات.

ثم نقول : لا يستمرّ لكم ما استمرّ لنا ؛ فإذا قلنا عند محاولة إثبات ما رمناه من تصديق الملك ، وتصدره بمنصبه في موعد معلوم ، وقد احتفّ به المختصون بخدمته ، من حاشيته ، ثم ادّعى من جملة الحاضرين مدّع أنه رسول الملك إلى من شهد وغاب ، وذلك بمرأى من الملك ومسمع ، واستشهد في هذه الحالة على إثبات الرسالة ، بأمر يصدر من الملك ، خارق للمألوف من عادته ، فأجابه الملك إلى مناه ووافق دعواه ، فيدل ذلك على تصديق الملك إياه بقوله في نفسه ، والفعل الظاهر مترجم عنه ، نازل منزلة العبارات المصطلح عليها في إفهام المعاني.

فهذه سبيلنا ، ولا يستتب ذلك للمعتزلة ، فإن المعنى بكون الباري تعالى متكلما عندهم ، أنه فاعل الكلام. وليس في ظهور الآيات ما يدلّ على أنّ الباري تعالى خلق أصواتا متقطعة في بعض الأجسام ، وهي الكلام ، وإنما ترتبط المعجزات بتصديق مظهرها ، إذا كان التصديق صفته ، وكان المصدّق متصفا به على التحقيق ، وليس ترجع من الفعل صفة حقيقية إلى الفاعل ، فلا تكون المعجزات دالة على ثبوت الكلام.

والذي يوضح غرضنا في ذلك ، أنا بينا بالبراهين أن المصدق لا يكون مصدقا لفعله التصديق ، إذ التصديق من أقسام الكلام.

وقد ذكرنا عموما بطلان مذهب من يقول : المتكلم من فعل الكلام ، وذلك يحتوي على التصديق ، فإنه من الكلام.

فإذا بطل كون الباري تعالى مصدقا للرسل بقول على مذاهب المعتزلة ، ووجه دلالة المعجزة على صدق الأنبياء ونزولها منزلة التصديق بالقول فعند ذلك يتضح بطلان وجه دلالة المعجزات على فساد عقائدهم ومتناقض قواعدهم ، وفي بطلان المعجزات انحسام السبيل المفضية بسالكها إلى إثبات القول ، وكذلك يفعل الله بكل جاحد مرتاب ، فهذه طلبة عليهم قبل الخوض في مقصود المسألة.

ومما يطالبون به أن نقول : بم تنكرون على من يزعم أنه تعالى متكلم لنفسه ، كما أنه عندكم حيّ ، عالم ، قادر لنفسه ، ويلزمون ذلك في كونه تعالى مريدا لنفسه؟ فإن قالوا : يمتنع كونه تعالى مريدا ، متكلما لنفسه ، من حيث أن الصفة الثابتة للنفس يجب أن يعم تعلقها إذا كانت متعلقة بسائر المتعلقات ، ولذلك وجب كونه عالما بكل المعلومات ، إذ كان عالما لنفسه ، وهذا الذي ذكروه دعوى عريّة. وللمطالب أن يقول : إن الرّبّ تعالى مريد لنفسه لبعض المرادات دون بعض ، وهذا بمثابة الاختصاص للإرادة الحادثة بمتعلقها.

فلو قال قائل : لم اختصت الإرادة بمتعلقها ، وهلا تعدته إلى ما عداه؟ فمن جواب المحققين

٥٠

أن كل متعلق بمتعلق مختص به ، لا يعلل اختصاصه ، وإنما اختص لنفسه كما تعلق لنفسه ، وليس يسلم لهم أن الدالّ على كون الإله عالما بكل معلوم ، كونه عالما لنفسه ، وإنما الدال عليه وجه آخر.

ولا محيص من هذه الطّلبة. على أنهم نقضوا ما أسّسوا ، حيث قالوا : الباري تعالى قادر لنفسه ، ثم زعموا أن كونه قادرا لا يتعلق بجميع المقدورات ، فإن مقدورات العباد ليست مقدورة للباري عندهم ، تعالى الله عن قولهم ؛ فهذه صفة نفسية على زعمهم خصّصوها.

فإن قالوا : الكلام حروف منتظمة ، وأصوات متقطعة ، فلا وجه لثبوت التكلم ، صادرا عن النفس ؛ وهذا الذي ذكروه تعويل منهم على ما تقرر الفراغ من إبطاله ، إذ قد أثبتنا كلاما قائما بالنفس ، ليس من قبيل الحروف والأصوات والألحان والنغمات. فهذا القدر مقصدنا من تقديم هذه الطّلبات.

واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة ، وسائر المخالفين في هذه المسألة ، يتعلق بالنفي والإثبات ، فإن ما أثبتوه وقدروه كلاما ، فهو في نفسه ثابت ، وقولهم : إنه كلام الله تعالى ، إذ ردّ إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والتسميات ؛ فإن معنى قولهم : «هذه العبارات كلام الله» أنها خلقه ، ونحن لا ننكر أنها خلق الله ، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلما به ؛ فقد أطبقنا على المعنى ، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته.

والكلام الذي يقضي أهل الحق بقدمه ، هو الكلام القائم بالنفس ، والمخالفون ينكرون أصله ولا يثبتونه ، فتنازعوا بعد إثباته في حدثه أو قدمه. فإذا تعرّضنا للحجاج ، كان مساقه إثبات موجود نفوا أصله ، فنقول : قد ثبت كون الباري تعالى متكلما بكلام ، والعقول تقضي باختصاص كلامه به من وجه من الوجوه. ولا حاجة لتكلف إثبات ذلك بالدليل.

ثم لا يخلو الاختصاص المتفق عليه مذهبا المقضى به عقلا : إما أن يكون من حيث كان فعلا للباري ، وإما أن يكون من حيث يختص بصفة أخرى من صفاته النفسية ، أو المعنوية. وقد بطل المصير إلى أن الاختصاص وقوع الكلام فعلا لله تعالى ؛ فإنا قد أوضحنا بما قدمناه وجه الرّدّ على القائلين بأنّ المتكلم من فعل الكلام.

ويبطل تغيير الاختصاص بكون الكلام متعلقا بعلم الله وإرادته أو سمعه ، أو بصره ، فإن هذه الوجوه تتحقق في كلام العباد ، مع اختصاصهم بالاتصاف به.

ولا يستقيم أن يقال : إن الكلام مختص على وجه بصفة نفسية للباري تعالى ، فإن ذلك إجمال ، لا ادّعاء الاختصاص ، ونحن في محاولة إيضاحه على التفصيل ، فقول القائل : الكلام مختص به ، أو بصفة من صفات نفسه على الإجمال ، من غير تعرض ، لتبيين وجه الاختصاص ، لا يتحصّل.

فإذا بطل صرف الاختصاص إلى الجهات المذكورة ، لم يبق بعدها إلا القطع بأن كلام الباري سبحانه وتعالى يختص به اختصاص القيام ، وإذا تقرر ذلك ترتبت عليه استحالة كونه حادثا بقيام

٥١

الدليل على استحالة قبوله للحوادث ، ولا يبقى بعد بطلان هذه الأقسام إلا مذهب أهل الحق في وصف الباري تعالى بكونه متكلما بكلام قديم أزلي. وفي طرق الحجاج العقلية متسع ، وفيما ذكرناه مقنع.

فصل

فمما عولوا عليه أن قالوا : إذا أثبتم كلاما أزليّا ، لم يخل بعد ذلك من أمرين ؛ إما أن تقضوا بكون الكلام الأزلي أمرا ، نهيا ، إخبارا ؛ وإما ألا تقضوا بذلك.

فإن زعمتم أنه كان في الأزل أمرا ، نهيا ، إخبارا ، فقد أحلتم ؛ فإن من حكم الأمر والنهي ، أن يصادفا مأمورا ومنهيا ، ولم يكن في الأزل مخاطب متعرض ، لأن يحثّ على أمر ، ويزجر عن آخر ، وليس يعقل أمر لا مأمور له ، ويستحيل كون المستحيل مأمورا.

وإن زعمتم أن الكلام في الأزل لم يكن موصوفا بأحكام أوصاف الكلام ، فقد ذهبتم إلى ما لا يعقل. والكلام على المذهب ، ردّا أو قبولا ، فرع لكونه معقولا. قلنا : قد ذهب عبد الله بن سعيد بن كلّاب رحمه‌الله (١) من أصحابنا إلى أن الكلام الأزلي لا يتصف بكونه أمرا ، نهيا ، خبرا ، إلا عند وجود المخاطبين واستجماعهم شرائط المأمورين المنهيين.

فإذا أبدع الله العباد ، وأفهمهم كلامه على قضية أمر ، أو موجب زجر ، أو مقتضى خبر ، اتصف عند ذلك الكلام بهذه الأحكام ، وهي من صفات الأفعال عنده ، بمثابة اتصاف الباري تعالى فيما لا يزال بكونه خالقا رازقا محسنا متفضلا.

وهذه الطريقة وإن درأت تشغيبا فهي غير مرضية. والصحيح ما ارتضاه شيخنا رضي الله عنه من أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ، والمعدوم على أصله ، مأمور بالأمر الأزلي على تقدير الوجود ، والأمر القديم في نفسه على صفة الاقتضاء ، ممن سيكون إذا كانوا. والذي استنكروه من استحالة كون المعدوم مأمورا لا تحصيل له.

والوجه أولا معارضتهم بأصل لهم يصدهم عن هذا الإلزام. وذلك أن مذهبهم أن المأمور به معدوم ، وإذا توجه الأمر على العبد بفعل ، فالفعل قبل وجوده مأمور به. وإذا وجد ، خرج عن كونه مأمورا به في حال حدوثه ، كما خرج إذ ذاك عن كونه مقدورا على أصلهم ، وليس بين النفي والإثبات رتبة. فإذا لم يكن الفعل الثابت مأمورا به ، كان النفي مأمورا به متعلقا بالأمر ؛ فإذا لم يبعدوا مأمورا به معدوما ، لم يستقم منهم استبعاد مأمور معدوم.

وما ذكروه أبعد ؛ فإنا نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود ، وإذا وجد تحقق كونه

__________________

(١) هو ابن سعيد أو ابن محمد كما في طبقات الشافعية (٢ / ٥١) ابن كلاب أحد أئمة المتكلمين من أهل السنة. وتوفي بعد عام ٢٤٠ ه‍ بقليل.

٥٢

مأمورا ، ونمنع تقدير معدومه علم الباري تعالى أنه لا يوجد مأمورا ويستحيل وجوده مأمورا ، فما كان كذلك لم يتعلق به أمر التكليف. والمعتزلة قضوا بأن المعدوم مأمور به ، وهو يخرج عند الوجود عن كونه مأمورا به. وهذا تمحيص منهم لتعلق العلم بالعدم.

ثم نقول : قد اتفق المسلمون قاطبة على أننا في وقتنا مأمورون بأمر الله ، ومذهب جماهير المعتزلة أنه ليس للرب تعالى في وقتنا كلام ، وأن ما وجد من كلامه ، قد عدم ؛ فإذا لم يستبعدوا كوننا مأمورين ، ولا أمر ، لم يبق لهم مضطرب فيما ذكروه.

ثم الرب سبحانه في أزله كان قادرا ، ومن حكم كون القادر قادرا أن يكون له مقدور ، والمقدور هو الجائز الممكن ، وإيقاع الأفعال في الأزل مستحيل متناقض. فإذا لم يبعد كونه قادرا أزلا ، مع اختصاص وقوع المقدور بما لا يزال ، لم يبعد أن يتصف بكلام هو اقتضاء ممن سيكون.

ومما يستروحون إليه أن قالوا : قد أجمع المسلمون قبل ظهور هذا الخلاف على أن القرآن كلام الله سبحانه ، واتفقوا على أنه سور وآيات وحروف منتظمة وكلمات ، وهي مسموعة على التحقيق ولها مفتتح ومختتم. وهي معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية على صدقه ، والمعجزة لا تكون إلا فعلا خارقا للعادة ، واقعا على حسب تحدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويستحيل أن يكون القديم معجزا ، إذ لا اختصاص للصفة الأزلية ببعض المتحدين دون بعض ؛ ولو جاز تقدير كلام قديم قائم بالنفس أزلي معجزا ، لجاز تقدير العلم القديم عند مثبتيه معجزا.

وهذا الذي ذكروه تخيلات لا تحصيل لها. فأما تشغيبهم بأن القرآن في إجماع المسلمين سور وآيات ، ولها أوائل وفواصل ومطالع ومقاطع ؛ فنقول لهم : أولا ، مذهب جماهيركم أنه كلام الله تعالى إذ خلقه كان أصواتا ، ثم تصرمت وانقضت ، والمتلوّ المحفوظ المكتوب ليس بكلام الله ، وهذا مذهب كل من يتحذق من متأخريهم. والمصير إلى نفي كلام الله تعالى ، أبشع وأشنع من المماراة في صفة الكلام.

ولما استشعر الجبائي ذلك ، وأيقن أنه يلزم لو قال بهذا المذهب خرق إجماع الأمة ، أبدع مذهبا خرق به حجاب الهيبة وركب جحد الضرورات ، وقال كلام الله تعالى يوجد مع قراءة كل قارئ. ثم الكلام عنده حروف تقارن الأصوات المتقطعة على مخارج الحروف ، وليست هي أصواتا ، وزعم أنها توجد عند الكتابة ؛ فإذا اتسقت الحروف المنظومة ، والرسوم المرقومة ، وجدت حروف قائمة بالمصحف ليست الأشكال البادية والأسطر الظاهرة. ثم زعم أن الحروف تسمع عند القراءة وإن لم تكن أصواتا ، ولا ترى عند ثبوت الأسطر.

وقال أيضا : من قرأ كلام الله تعالى تثبت مع لهواته حروف هي قراءته ، وهي مغايرة للأصوات ، وحروف هي كلام الله وهي مغايرة للقراءة والأصوات ، وإذا أضرب القارئ عن القراءة عدم عنه كلام الله تعالى وهو بعينه موجود قائم بغيره.

٥٣

ومن شنيع مذهبه أنه قال : إذا اجتمع طائفة من القراء على تلاوة آية فيوجد بكل واحد منهم كلام الله ، والموجود بالكل كلام واحد. ونفس نقل هذا المذهب يغني اللبيب عن تكلف الرد عليهم.

وأما تحكمه بإثبات حروف مغايرة للأصوات ، فخروج عن قضية العقل وإبداع مذهب لا شاهد له ، والحروف في تعارف العقلاء أنفس الأصوات المتقطعة. ثم إذا ساغ ادعاء إدراك ما ليس بصوت عند صوت ، فما المانع من ادعاء رؤية الحروف عند انتظام الرسوم واتساق الرقوم في الأسطر المثبتة؟

وأما المصير إلى قيام الكلام الواحد بمحال فجحد للضرورة ، ولا يستريب فيه محصل ، وهذا المعتقد لا يسع استقصاء الرد عليه.

ومن فضائح مذهبه ، مصيره إلى أن العبد يلجئ الرب إلى خلق الكلام عند إيثاره اختراع الأصوات والنغمات. وهذه فضائح بادية لا يبوح بها عاقل.

ثم نقول بعد معارضتهم : قد زعمتم أن القرآن كلام الله ، وإذا روجعتم في معنى إضافة الكلام إلى الباري تعالى لم تبدوا وجها في الاختصاص سوى كونه فعلا له ، والذي زعمتم أنه فعله فأنتم مساعدون عليه من مذهبنا ، وهو أقصى غرضكم بإضافة الكلام إلى الله تعالى. فقد تساوت الأقدام في إضافة الكلام إلى الله تعالى وبقي تنازع في تسميات وإطلاقات ، وليس من البعيد عندنا إضافة فعل الله تعالى إليه إذا استقر الشرع على الإذن فيه ، وهذا يدرأ عنا جميع ما شغبوا به.

ثم ، القرآن قد يحمل على القراءة ، ويقدّر مصدرا لقرأ ، ويشهد لذلك قول القائل ، وهو حسان بن ثابت يمدح عثمان رضي الله عنه :

ضحوا بأشمط عنوان السجود به

يقطع الليل تسبيحا وقرآنا

معناه يقطع الليل تسبيحا وقراءة. وقد سمى الرب تعالى الصلاة قرآنا لاشتمالها على القراءة ، فقال عزا اسمه : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [سورة الإسراء : ٧٨]. ومعناه أن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار صاعدين وهابطين. وفي مأثور الأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن» معناه حسن الترنم بالقراءة.

وأما ما ذكروه من إجماع المسلمين على كون القرآن معجزة للرسول ، مع القطع بانحصار المعجزات في الأفعال الخارقة للعادة ، فنقول لهم : أولا ، من أصلكم أن ما تحدى به النبي عليه‌السلام العرب ، وهم اللّسن الفصحاء واللّدّ البلغاء ، لم يكن كلام الله تعالى ، وما خلقه الرب تعالى لنفسه كان إذ ذاك منقضيا ، وإنما تحدى الرسول عليه‌السلام بمثله ، فأنتم أحق بمراغمة الإطباق من خصومكم من هذا الوجه ، ومن تصريحكم بأن كل قارئ آت بمثل كلام الله تعالى ؛ فالرب عز اسمه قال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [سورة الإسراء : ٨٨].

ثم ما يدلون به هم عليه مساعدون ومساهمون ؛ فإنهم زعموا أن كلام الله معجزة للرسول عليه

٥٤

السلام ، وعنوا بكلام الله كلاما فعله ؛ ونحن نقول : الكلام الذي فعله معجزة للرسول عليه‌السلام ؛ فلم يبق لهم اختصاص في المعنى ، واضمحلّ جميع ما موهوا به.

ومما يشغبون به ويستذلّون به العوام ، أن قالوا قوله تعالى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [سورة طه : ١٢] كلام الله تعالى ، وتقدير الاتصاف به في الأزل قبل خلق موسى عليه‌السلام هجر وخلف من الكلام. والوجه إذا تمسكوا بذلك ، أن يقال لهم : «اخلع نعليك» في إجماع المسلمين كلام الله تعالى في دهرنا ، وموسى غير مخاطب الآن ، فإن لم يبعد ذلك متأخرا لم يبعد متقدما.

ثم التحقيق في ذلك أن المخالفين قدروا الكلام حروفا وأصواتا ، وبنوا على ما اعتقدوه استحالة مخاطبة المعدوم بحروف تتوالى ، وليس الأمر على ما قدروه. فإن الكلام عند أهل الحق معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت ، والكلام الأزلي يتعلق بجميع متعلقات الكلام على اتحاده ، وهو أمر بالمأمورات ، نهى عن المنهيات ، خبر عن المخبرات ، ثم يتعلق بالمتعلقات المتجددات ولا يتجدد في نفسه.

وسبيله فيما قررناه سبيل العلم الأزلي ، فإنه كان في الأزل متعلقا بالقديم وصفاته وعدم العالم وأنه سيكون فيما لا يزال ، ولما حدث العالم تعلق العلم الأزلي بوقوع حدوثه ولم يتجدد في نفسه.

وكذلك الكلام الأزلي كان على تقدير خطاب موسى إذا وجد ، فلما وجد كان خطابا له تحقيقا ، والمتجدد موسى دون الكلام.

وربما يقولون : إنما يتكلم بالرد والقبول على المذهب المعقول ، والذي أثبتموه قائما بالنفس غير معقول فنتكلم عليه. والوجه إذا سلكوا هذا المسلك ، أن نقول : من أمر عبده وجد في نفسه اقتضاء الطاعة منه ودعاءه إلى الامتثال ، ومنكر ذلك جاحد للضرورة ؛ فهذا الذي قضت به العقول هو الكلام القائم بالنفس عندنا ، وهو مفهوم معلوم. فإن هم صرفوا الاقتضاء إلى مصرف آخر سوى ما ادعيناه ، كان ذلك خبطا منهم في الجدال ، وقد قدمنا في أدلتنا ما يوضح صرف الاقتضاء إلى ما رمينا إليه. وفيما أبديناه الآن ردع لتشغيبهم بدعوى الجهالة.

فصل

ذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله تعالى قديم أزلي ، ثم زعموا أنه حروف وأصوات ، وقطعوا بأن المسموع من أصوات القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى ، وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله تعالى ، وهذا قياس جهالاتهم.

ثم قالوا : إذا كتب كلام الله تعالى بجسم من الأجسام ، وانتظمت تلك الأجسام رسوما ورقوما ، وأسطرا وكلاما ، فهي بأعيانها كلام الله تعالى القديم ، وقد كان إذ ذاك جسما حادثا ، ثم انقلب قديما.

وقضوا بأن المرئي من الأسطر الكلام القديم ، الذي هو حرف وصوت.

٥٥

وأصلهم أن الأصوات ، على تقطّعها وتواليها ، كانت ثابتة في الأزل ، قائمة بذات الباري ، تعالى الله عن قولهم علوّا كبيرا. وقواعد مذهبهم مبنية على جحد الضرورات ؛ فإنهم أثبتوا للكلام القديم على زعمهم ابتداء وانتهاء ، وجعلوا منه سابقا ومسبوقا ، فإن الحرف الثاني من كل كلمة مسبوق بالمتقدم عليه ، وكل مسبوق مبتدأ وجوده ، وباضطرار نعلم كون المفتتح وجوده حادثا.

ولا خفاء بمراغمتهم لبديهة العقول في حكمهم ، بانقلاب الحادث قديما.

ومما يقرر افتضاحهم في مناكرة الحقائق ، أن الحروف لو مثّلت من بعض الجواهر فهي عين كلام الله تعالى عندهم ، والحديد الذي صيغت منه الحروف خارج عن كونه حديدا ، ونحن ندرك زبر الحديد متآلفة جسما ، فكيف تسوغ محاجة قوم هذه غايتهم؟!

ثم جهلتهم يصممون على أن اسم الله إذا كتب ، فالرقم المرئي في الكتابة هو الإله بعينه ، وهو المعبود الذي يصمد إليه.

ثم أصلهم أن الكلام القديم يحل الأجسام ولا يفارق الذات ، وهذا تلاعب بالدين ، وانسلال عن ربقة المسلمين ، ومضاهاة لنصّ مذهب النصارى في مصيرهم إلى قيام الكلمة بالمسيح ، وتدرّعها بالناسوت. ولو لا اغترار كثير من العوام بالاعتزاء إلى هؤلاء ، لاقتضى الحال الإضراب عن التعرض لهذه العورات البادية ، والفضائح المتمادية.

فصل

القراءة عند أهل الحق أصوات القراء ونغماتهم ، وهي أكسابهم التي يؤمرون بها في حال إيجابا في بعض العبادات ، وندبا في كثير من الأوقات ؛ ويزجرون عنها إذا أجنبوا ، ويثابون عليها ويعاقبون على تركها ، وهذا مما أجمع عليه المسلمون ، ونطقت به الآثار ، ودل عليه المستفيض من الأخبار. ولا يتعلق الثواب والعقاب ، إلا بما هو من اكتساب العباد. ويستحيل ارتباط التكليف والترغيب والتعنيف بصفة أزلية ، خارجة عن الممكنات وقبيل المقدورات.

والقراءة هي التي تستطاب من قارئ ، وتستبشع من آخر ، وهي الملحونة ، والقويمة المستقيمة ، وتتنزه عن كل ما ذكرناه الصفة القديمة ؛ ولا يخطر لمن لازم الإنصاف أن الأصوات التي يبح لها حلقه ، وتنتفخ على مستقرّ العادة منها أوداجه ، ويقع على حسب الإيثار والاختيار ، محرفا ، وقويما ، وجهوريا ، وخفيا نفس كلام الله تعالى ، فهذا القول في القراءة.

فصل

فأما المقروء بالقراءة فهو المفهوم منها المعلوم ، وهو الكلام القديم الذي تدل عليه العبارات ، وليس منها.

٥٦

ثم المقروء لا يحل القارى ولا يقوم به ، وسبيل القراءة والمقروء كسبيل الذكر والمذكور.

والذكر يرجع إلى أقوال الذاكرين ، والرّبّ المذكور المسبّح الممجّد ، غير الذكر والتسبيح والتمجيد.

والعرب وضعت أنواع الدلالات على المدلولات بالعبارات ؛ فسمت الإنباء عن الشعر إنشادا ، والإنباء عن الغائبات التي ليست من قبيل الكلام ذكرا ، وسمت الدلالة على كلام الله تعالى بالأصوات قراءة.

فصل

كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف ، محفوظ في الصدور ، وليس حالّا في مصحف ، ولا قائما بقلب. والكتابة قد يعبر بها عن حركات الكاتب ، وقد يعبر بها عن الحروف المرسومة ، والأسطر المرقومة ، وكلها حوادث.

ومدلول الخطوط ، والمفهوم منها الكلام القديم ، وهذا بمثابة إطلاق القول بأن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف ، وليس المعنيّ بذلك اتصاله بالأجسام وقيامه بالأجرام.

ولم يصر أحد من المنتمين إلى التحقيق إلى قيام الكلام بمحل الأسطر ، إلا الجبائي فيما حكينا من هذيانه. ويؤثر عن النجار أن الرقوم هي أجسام كلام الله تعالى ، والكلام أصوات عند القراءة ، وأجسام عند الكتابة. وكل ذلك خبط وتخليط في بغية الحق ، وتفريط في درك الصدق.

فصل

كلام الله تعالى مسموع في إطلاق المسلمين ، والشاهد لذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [سورة التوبة : ٦].

ثم السماع لفظة محتملة ، لا يتحد معناها ، ولا ينفرد مقتضاها ؛ فقد يراد بها الإدراك ، وقد يراد بها الفهم والإحاطة ، وقد يراد بها الطاعة والانقياد ، وقد يراد بها الإجابة.

فأما السمع بمعنى الإدراك فمشهور لا خفاء به ؛ وأما السمع بمعنى الفهم والعلم فشائع مذكور غير منكور.

ووصف الله تعالى المعاندين من الكفرة بكونهم صما ؛ وليس المراد اختلال حواسهم ، ولكن المراد إعراضهم عن درك المعاني ، والإحاطة بما أنذروا به ، وتدبر آيات الله تعالى.

وإذا حكى الحاكي كلام غيره على وجهه ، فقد يقول السامع لأصوات المبلغ : قد سمعت كلام فلان ، وهو يعني الغائب الذي أنهى إليه معنى كلامه.

٥٧

والذي يجب القطع به ، أن المسموع المدرك في وقتنا الأصوات ؛ فإذا سمي كلام الله تعالى مسموعا ، فالمعنيّ به كونه مفهوما معلوما ، عن أصوات مدركة ومسموعة. والشاهد لذلك من القضايا الشرعية إجماع الأمة على أن الربّ تعالى خصص موسى ، وغيره من المصطفين من الإنس والملائكة ، بأن أسمعهم كلامه العزيز من غير واسطة.

فلو كان السامع لقراءة القارئ مدركا لنفس كلام الله تعالى ، لما كان موسى صلوات الله عليه مخصصا بالتكليم ، وإدراك كلام الله من غير تبليغ مبلغ وإنهاء مرسل.

فصل

كلام الله تعالى منزّل على الأنبياء ، وقد دلّ على ذلك ، آي كثيرة من الكتاب الله تعالى.

ثم ليس المعنى بالإنزال حط شيء من علوّ إلى سفل ؛ فإن الإنزال بمعنى الانتقال ، يتخصص بالأجسام والأجرام.

ومن اعتقد قدم كلام الله تعالى ، وقيامه بنفس الباري سبحانه وتعالى ، واستحالة مزايلته للموصوف به ، فلا يستريب في إحالة الانتقال عليه.

ومن اعتقد حدث الكلام ، وصار إلى أنه عرض من الأعراض ، فلا يسوغ على معتقده أيضا تقدير الانتقال ، إذ العرض لا يزول ولا ينتقل.

فالمعنيّ بالإنزال ، أن جبريل صلوات الله عليه أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سماوات ، ثم نزل إلى الأرض ، فأفهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام.

وإذا قال القائل : نزلت رسالة الملك إلى القصر ، لم يرد بذلك انتقال أصواته ، أو انتقال كلامه القائم بنفسه.

فصل

كلام الله تعالى واحد ، وهو متعلق بجميع متعلقاته ، وكذلك القول في سائر صفاته. وهو العالم بجميع المعلومات بعلم واحد ، والقادر على جميع المقدورات بقدرة واحدة. وكذلك القول في الحياة والسمع والبصر والإرادة.

والقضاء باتحاد الصفات ليس من مدارك العقول ، بل هو مسند إلى قضية الشرع وموجب السمع. وذلك أن إثبات العلم واحد مختلف فيه ، وإنما يتوصل إلى إثباته على منكريه بالأدلة العقلية ، وهذا في العلم الواحد. فأما تقدير علم ثان ، فلم يثبته أحد من أهل الكلام المنتمين إلى الإسلام ، فنفيه مجمع عليه مع اتصافه بالقدم.

٥٨

فإن قال القائل : لئن استمر لكم ما ذكرتموه في العلم والقدرة ، فما وجه تقريره في الإرادة والكلام؟ قلنا : الغرض أن نوضح انعقاد الإجماع الواجب الاتباع على نفي كلام ثان قديم ، وذلك مقرر على ما ذكرناه لا خفاء به.

فإن قيل : ما الذي صرفكم عن مدارك العقول في هذه الفصول؟ قلنا : قد ألفينا العلم القديم متعلقا بالمعلومات ، قائما مقام علوم مختلفة شاهدا ، وليس في العقل ما يفضي إلى القطع باستحالة قيام العلم القديم مقام القدرة ، وليس فيه أيضا ما يؤدي إلى وجوب تعلق العلم الواحد بجميع المعلومات ، وكل ما يحاول به إثبات ذلك من قضيات العقول باطل. وهذا المعتقد لا يحتمل استقصاء ما قيل فيه والرد عليه.

فصل

قد امتنع مثبتو الصفات من تسميتها مغايرة للذات ، وغرضنا من هذا الفصل يستدعي تقديم حقيقة الغيرين.

والذي ارتضاه المتأخرون من أئمتنا في حقيقة الغيرين ، أنهما الموجودان اللذان يجوز مفارقة أحدهما الثاني بزمان ، أو مكان ، أو وجود ، أو عدم. وهذا أمثل من قول من قال : الغيران كل شيئين يجوز وجود أحدهما مع عدم الثاني ؛ فإن معتقد قدم الجواهر واستحالة عدمها ، يقطع بتغاير جسمين مع ذهوله عن تجويز عدم أحدهما ، ولا يتحقق العلم بالمحقق دون درك الحقيقة.

والقول في إيضاح معنى الغيرين ، ليس من القواطع عندي ؛ إذ لا تدل عليه قضية عقلية ، ولا دلالة قاطعة سمعية ، ولسنا نقطع بإبطال قول من قال من المعتزلة : كل شيئين غيران. والأمر يؤول إلى إطلاق ترجيح وتلويح متلقّى من ألفاظ محتملة.

فإن قيل : إذا لم تقطعوا بما ذكره أئمتكم في حقيقة الغيرين ، فهل تقطعون بالمنع من إطلاق الغيرية في صفات الباري تعالى وذاته؟ قلنا : هذا مما نمنع منه قطعا ، لاتفاق الأمة على منع إطلاقه. وكما لا توصف الصفات بأنها أغيار للذات ، فلا يقال إنها هي. ولا نتحاشى من إطلاق القول بأن الصفات موجودات ، والعلم مع الذات موجودان ، وكذلك القول في جميع الصفات. وامتنع الأئمة من تسمية الصفات مختلفة ، وأطلق الإمام القاضي أبو بكر رضي الله عنه (١) القول بأنها مختلفة.

فصل

ذهب العلماء من أئمتنا إلى أن البقاء صفة الباقي زائدة على وجوده بمثابة العلم في حق العالم.

__________________

(١) الإمام الأشعري القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني ، توفي عام ٤٠٣ ه‍. راجع المقدمة.

٥٩

والذي نرتضيه أن البقاء يرجع إلى نفس الوجود المستمر من غير مزيد ؛ ولو لم نسلك هذا المسلك للزمنا أن نصف الصفات الأزلية بكونها باقية ، ثم نثبت لها بقاء ، ويجر سياق هذا القول إلى قيام المعنى بالمعنى. ثم لو قدرنا بقاء قديما ، للزمنا أن نصفه ببقاء ، ثم يتسلسل القول.

فإن قيل : الدليل على ثبوت المعاني تجدد أحكامها على محالها ؛ فإذا وجدنا جوهرا غير متحرك ، ثم اتصف بالتحرك ، كان ذلك دالا على تجدد المعنى ، وهذا بعينه متحقق في البقاء ؛ فإن الجوهر في حال حدوثه لا يتصف بكونه باقيا ، وإذا استمر له الوجود اتصف بكونه باقيا. قلنا : الاتصاف بالبقاء راجع إلى استمرار الوجود ، وهو بمثابة القدم ؛ فما وجد وكان حديث عهد بالحدوث لم يسمّ قديما ، فإذا عتق وتقادم سمي في الإطلاق قديما ، ولا يدل ذلك على أن القدم معنى.

فإن قيل : إذا صرفتم البقاء إلى نفس الباقي ، فما الذي تنكرون من قول من يقول ببقاء الأعراض؟ قلنا : الأعراض يستحيل بقاؤها ، فإنها لو بقيت لاستحال عدمها ؛ فإنا إذا قدرنا بقاء بياض ودوام وجوده ، لم يتصور انتفاؤه فيعقبه سواد ؛ إذ ليس السواد بنفي البياض ، ومضاداته أولى من البياض ، بدفع السواد ، ومنعه من الطروّ.

ولا معنى لما يتخيله بعض الناس من أن الباقي يعدم بإعدام الله ؛ فإن الإعدام هو العدم ، والعدم نفي محض ، ولا معنى لتعلق القدرة بالنفي المحض. وتحصيل قول القائل : يقدر الباري على إعدام الموجود يؤول إلى أنه يقدر على أن لا يكون الموجود.

فإن قيل : فما معنى عدم الجواهر؟ قلنا : الأعراض غير باقية ، فإذا أراد الله عدم جوهر اقتطع عنه الأعراض بأن لا يخلقها فينعدم الجوهر إذ ذاك ، إذ يستحيل وجود جوهر بلا عرض.

والمعتزلة نفوا البقاء ، وزعموا أن معظم الأعراض باقية ، وما يعدم من الباقيات ، فإنما يعدم بضدّ يطرأ عليه ، ووافقونا في استحالة بقاء الأصوات والإرادات في خبط طويل. وزعموا أن الجواهر تعدم ، بأن يخلق الله تعالى فناء في غير محل يضاد الجوهر ، وهو في نفسه عرض قائم بنفسه ، ثم يستحيل عندهم فناء بعض الجواهر وبقاء بعضها.

القول في معاني أسماء الله تعالى

التسمية ترجع عند أهل الحق إلى لفظ المسمى الدال على الاسم ، والاسم لا يرجع إلى لفظه ، بل هو مدلول التسمية.

فإذا قال القائل : زيد ، كان قوله تسمية ، وكان المفهوم منه اسما ، والاسم هو المسمى في هذه الحالة ، والوصف والصفة بمثابة التسمية والاسم ؛ فالوصف قول الواصف ، والصفة مدلول الوصف.

٦٠