كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

فهذه حقيقة التوبة وصفتها ، وذكر ما يلازمها من الصفات عموما وما يلازمها في بعض الأحوال. فإن قيل : ما معنى قولكم : التوبة ندم لأجل ما وجب له؟ قلنا : هذا التقييد لا بد منه. فإن من قارف سيئة ، وندم عليها لإضرارها به ، وانتهاكها قواه ، فهو نادم غير تائب وإنما التوبة الشرعية الندم على ما فات من رعاية حقوق الله تعالى.

فصل

لا يجب على الله تعالى قبول التوبة عقلا ، وقد أطبقت المعتزلة على أن قبول التوبة حتم على الله ، تعالى عن قولهم ، وقد سبق الدليل العام في نفي الوجوب على الله تعالى. ثم لو رجعنا إلى الشاهد لم يشهد لوجوب قبول التوبة ؛ فإن من أساء مع غيره ، واهتضم حرمته وأبلغ في عداوته ، ثم جاء معتذرا ، فلا يتحتم في حكم العقل قبول توبته ، بل الخيرة إلى من اهتضم ولم يرع حقه ؛ فإن شاء صفح ، وإن شاء أضرب عنه ، ولا شك فيما قلناه.

والذي يشهد لذلك من السمع ، إجماع الأمة على الرغبة إلى الله تعالى في قبول التوبة ، والخضوع له في الابتهال إليه رجاء قبولها ؛ فلو كان قبول التوبة حتما ، لما كان للرغبات والإلحاح في الدعوات معنى.

فإن قيل : هذا قولكم في العقل وموجبه ، فما قولكم في قبول التوبة سمعا ، هل ثبت قطعا أم لا؟ قلنا : لم يثبت ذلك عندنا قطعا ؛ بل هو مرجوّ مظنون ؛ ولم يثبت ظن قاطع لا يقبل التأويل في ذلك ، فقطعنا بنفي وجوب القبول عقلا ، ولم نقطع بالقبول سمعا ووعدا ، بل نظنه ظنا. ويغلب ذلك على الظنون ، إذا توفرت على التوبة شرائطها.

فصل

التوبة واجبة على العبد ، ولا يدل على وجوبها عليه عقل ؛ إذ لا يثبت شيء من الأحكام الشرعية بالعقل. ولكن الدليل عليه إجماع المسلمين على وجوب ترك الزلات والندم على ما تقدم منها.

ثم التوبة تنقسم : فمنها ما يتعلق بحق الله تعالى على التمحض ، ومنها ما يتعلق بحقوق الآدميين.

فأما ما يتعلق بحق الله على التمحض ، فيصح دون مراعاة غيره ؛ وأما ما يتعلق بحقوق الآدميين فينقسم ؛ فمنه ما لا يصح دون الخروج عن حق الآدميين ، ومنه ما يصح دونه. فأما ما يصح دونه فهو كل ما يتصور فيه حقيقة الندم مع دوام وجوب حق الآدميين.

ونظير ذلك ، القتل الموجب للقود ، فيصح الندم عليه ، من غير تسليم القاتل نفسه ليستقاد منه. فإذا ندم صحت توبته في حق الله تعالى ، وكان منعه من القصاص من مستحقه معصية متجددة لا تقدح في التوبة ، بل تستدعي في نفسها خروجا عنها ، وتوبة منها. وربما تتعلق التوبة بحق الآدميين ،

١٦١

ولا تصح دون الخروج منها ، وذلك كاغتصاب شيء من مال الغير ، فلا يصح الندم عليه ، مع إدامة شدّ اليد عليه ، فلا تتمسكوا بالصور ، وارعوا الندم لحق الله تعالى نفيا وإثباتا.

فصل

من احتقب أوزارا وقارف ذنوبا صحت توبته عن بعضها ، مع الإصرار على بعضها ، وذهب أبو هاشم ومتبعوه إلى أن التوبة لا تصح دون الانكفاف عن جميع الذنوب. وهذا الذي ذكروه خروج عن المعقول وموجب الشرع المنقول. فإن من بدرت منه بوادر وصدرت منه عظائم ، فيصح في مجرى العادات منه التّنصّل عن جماهيرها ، والاعتذار عنها مع الإصرار على شيء منها.

وضرب الأئمة لذلك مثالا ، فقالوا : من غصب أموالا لرجل واستولى على جرائم ، وانتسب إلى انتهاك حرمات ، وكسر له في تضاعيف ما اجترمه قلما. ثم غرم له ما أتلف ، واستسلم لحكمه ، وأذعن لأمره ، ولكنه لم يعتذر عن كسر القلم ؛ فيصح اعتذاره عن العظائم التي ندم عليها ، وذلك غير مجحود عند ذوي العقول.

والذي يحقق ما قلناه ، إجماع الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره ، صحت توبته ، وإن استدام زلة واحدة. ومذهب أبي هاشم أنه لا تصح توبته ، وهو بعد إسلامه ، والتزام أحكامه ، ملتزم لوزر كفره ، وهذا خروج عن إجماع المسلمين. فإن قال من نصر مذهبه إنما يجب التوبة عن الذنب لقبحه ، وذلك يعمم كل ذنب ، فلا يصح ندم على قبيح مع الإصرار على قبيح ، وهذا الذي ذكروه يبطل من أوجه ، يطول تتبعها ، ولا يحتمل هذا المعتقد ذكرها.

ولكن مما يقرب في إبطال ما قال ، أن الطاعة تثبت لحسنها ، فينبغي أن لا تصح طاعة مع ترك طاعة ؛ وليس الأمر كذلك عنده ، وكذلك القبيح يترك لقبحه ، فينبغي أن لا يتصور ترك قبيح مع مقارفة قبيح ومثابرته. فبطل ما قالوه من كل وجه. ثم التوبة ندم ، ويتصور الندم على ضرب ، مع غلبة الهوي على ضرب.

فصل

من ندم على سيئة ووقع الندم توبة على شرائطها ؛ ثم ذكر السيئة ، فقد قال القاضي رضي الله عنه يجب عليه تجديد الندم عليها ، كلما ذكرها. إذ لو لم يندم عليها ، لكان مستهينا بها أو فرحا ، وذلك يرده إلى إصراره ويحل عروة الندم.

وهذا ما قاله ، ولي فيه نظر. إذ لا يبعد أن يندم ، ثم إذا ذكر أضرب عنه ولم يفرح به مبتهجا ولم يجدد عليه ندما ؛ ولا خلاف أنه لا يجب عليه استدامة الندم ، واستصحاب ذكره دهره جهده ؛ وهذا مما نستخير الله فيه.

١٦٢

فإن قيل : لو أطاع العبد ثم ندم على الطاعة ، فما قولكم فيه؟ قلنا : لا يتصور من العارف بالله تعالى أن يندم على طاعته ؛ فإن ندم على أمر يرجع إلى نفسه من مضرة لحقته فلا بعد فيه ؛ وإنما الذي قلناه الندم على الطاعة من حيث كانت طاعة.

وغرضنا بهذه المقدمة أن القاضي رحمه‌الله أوجب تجديد الندم كما تقدم. ثم قال : إن لم يجدد ندما ، كان ذلك معصية جديدة ؛ والتوبة الأولى مضت على صحتها ، إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد تصرمها. ثم قال : يجب تجديد ندم على تلك السيئة ، ويجب ندم على ترك الندم وقت حكمنا بوجوبه ، فهذا قوله.

وعندي أن ذلك من مسائل الاحتمال ، والتوبة من العبادات. ولا يجب أن يكون جميع الكلام فيه قطعيا ، بل لا يبعد أن يقع فيه مجتهد فيه.

فصل

الكافر إذا آمن بالله تعالى ، فليس إيمانه توبة عن كفره ، وإنما ندم على كفره. فإن قيل : فلو آمن ولم يندم على كفره؟ قلنا : ذلك عندنا غير ممكن ، بل يجب مقارنة الإيمان الندم على الكفر. ثم وزر الكفر ينحط بالإيمان والندم على الكفر إجماعا ، وهذا موضع قطع ؛ وما عداه ، من ضروب التوبة ، فقبوله مظنون غير مقطوع به كما ذكرناه.

فصل

من تاب وصحت توبته ، ثم عاود الذنب فالتوبة الماضية صحيحة ، والغرض مما ذكرناه أن تعلموا أن التوبة عبادة من العبادات يقضى بصحتها وفسادها. فإذا سيقت على شرائطها ، لم يقدح في صحتها ما يقع بعد مضيّها ، وعلى معاود الذنب تجديد التوبة ؛ ثم هذه التوبة عبادة أخرى سوى التي ذكرناها. فهذه أصول التوبة ذكرناها ولا يشذ منها مقصد يليق بالمعتقدات.

القول

في الإمامة

الكلام في هذا الباب ليس من أصول الاعتقاد ، والخطر على من يزل فيه يربى على الخطر على من يجهل أصله ويعتوره نوعان محظوران عند ذوي الحجاج ، أحدهما ميل كل فئة إلى التعصب وتعدي حد الحق ، والثاني من المجتهدات المحتملات التي لا مجال للقطعيات فيها. وقد صنف القاضي وغيره من أئمتنا ، رضي الله عنه وعنهم ، كتبا مبسوطة في الإمامة ، وفيها مقنع للمستبصر ، وإرشاد بالغ لمن يروم الغاية ودرك النهاية.

وغرضنا في هذا المعتقد ، أن ننص على أصول الباب ، فنذكر القواطع منها ، ونميز

١٦٣

المجتهدات عن القطعيات ، مستعينين بالله تعالى. والترتيب يقضي تقديم طرف من الكلام في الأخبار ومنازلها ، فإنها مبنى الإمامة.

باب

في تفاصيل الأخبار

فإن قيل : اذكروا حقيقة الخبر أولا ، ثم فصّلوه. قلنا : الخبر ما يوصف بالصدق أو الكذب ، وهذا يميزه مما عداه من الكلام ، ويميزه عن أقسام الكلام أيضا. فإن الأمر ، والنهي ، والتلهف ، والاستخبار ونحوها ، لا يوصف شيء منها بالصدق ولا بالكذب.

ثم الخبر ينقسم : فمنه ما يعلم صدقه قطعا ، ومنه ما يعلم كونه كذبا قطعا ، ومنه ما يجوز فيه تقدير الصدق أو الكذب ، فأما الخبر الصدق قطعا ، فما وافق مخبره المعلوم قطعا ، بضرورة أو دليل قاطع ، كالخبر عن المحسوسات على ما هي عليه ، والخبر عن كل ما يعلم ضرورة. ويتصل بذلك الخبر عما يعلم نظرا إذا وافق مخبره المعلوم. وما علم كونه كذبا قطعا فهو ما يخالف مخبره المعلوم ضرورة ونظرا فهو كالإخبار عن المحسوسات على خلاف حكم تعلق الحواس بها ، وكالإخبار عن قدم العالم مع قيام الأدلة القاطعة على حدثه. وما يتردد من الأخبار ، فهو ما يتعلق بجائز لا يستحيل فيه تقدير النفي ولا تقدير الإثبات.

ثم ينقسم الخبر بعد ذلك انقساما هو غرضنا ، فمنه ما لا يترتب عليه العلم بالمخبر عنه ، ومنه ما يترتب عليه العلم بالمخبر عنه. فأما ما يعقب علما بمخبره ، فهو الخبر المتواتر ؛ فإذا توافرت شرائطه وتكاملت صفاته ، استعقب العلم بالمخبر عنه على الضرورة. وبه نعلم البلاد النائية التي لم نشهدها ، والوقائع والدول التي لم تقع في عصرنا ، وبه تتميز في حق الإنسان والدته عن غيرها من النساء. وجاحد العلم بذلك جاحد للضرورة ومتشكك في المعلوم على البديهة.

ثم الخبر المتواتر لا يوجب العلم بالمخبر عنه لعينه ، وإنما سبيل إفضائه إلى العلم بالمخبر عنه استمرار العادات. ومن جائزات العقول أن يخرق الله العادة ، فلا يخلق العلم بالمخبر عنه ، وإن تواترت الأخبار عنه ، وكذلك يجوز على خلاف العوائد أن يخلق العلم الضروري على أثر إخبار الواحد ، ولكن العادات مستمرة على حسب ما ذكرناه.

فإن رام متعسّف قدحا ، وقال : كل واحد من المخبرين ، لو انفرد بإخباره لم يفد علما ، وانضمام خبر غيره إلى خبره لا يحيل حكم خبره ؛ فيلزم أن لا يفيد مجموع الإخبار ما لم يفده الخبر الواحد. وهذا الذي ذكروه لا تحصيل له ؛ فإنا أوضحنا أن الخبر المتواتر لا يوجب العلم بالمخبر عنه ، وإنما يعقبه العلم مع استمرار العادة ما ثبتت مستمرة ، وإنما استمرت العادة ، كما ذكرناه عند إخبار عدد التواتر. ونظير ذلك من مستمر العادة أنه لا يبعد قيام شخص واحد في وقت معين ؛ ولو قيل قام في هذا الوقت عدد كثير

١٦٤

وجم غفير لا يحصون من غير تواطؤ منهم ، ولا مسّتهم حاجة ، ودعتهم داعية إلى القيام عامة ؛ فيعلم أن هذا الخبر خلف ؛ فإنه على خلاف العادة ، وهو بمثابة الخبر عن انقلاب الجبال ذهبا إلى غير ذلك.

ثم إنما يثبت التواتر بشرائط. فمنها أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا عنه على الضرورة ؛ مثل أن يخبروا عن محسوس أو معلوم بديهة بجهة أخرى ، سوى درك الحواس. ولو أخبروا عما علموه ، نظرا واستدلالا ، لم توجب أخبارهم علما ؛ فإن المخبرين عن حدث العالم زائدون عن عدد التواتر ، وليس يوجب خبرهم علما ، والمخبرون تواترا عن بلدة لم نرها مصدقون على الضرورة ، وليس ذلك مما نحاول فيه تعليلا ، أو نظرا ، أو فرقا ، أو دليلا ، ولكنا بينا أن مأخذ العلم بالمخبر عنه استمرار العادة. وقد رأينا العادة مستمرة على ما ذكرناه في المخبر عنه على الضرورة ، دون المخبر عنه نظرا ، فجرينا على موجب العادة في النفي والإثبات.

والشرط الثاني للخبر المتواتر أن يصدر عن أقوام يزيد عددهم على مبلغ يتوقع منه التواطؤ في العرف المستمر ، ولو تواطأ ومثلا لظهر على طول الدهر تواطؤهم. ولسنا نضبط في ذلك عددا هو الأقل ، ولكنا نعلم أن كل عدد شرط في شهادة شرعية ، فعدد التواتر يربى عليه. ونهاية العدد في الشهادة الشرعية أربعة ، فنعلم قطعا أن إخبار الأربعة. لا يعقب العلم الضروري بالمخبر عنه ، إذ لو كان يعقبه ، لكان يضطر الحاكم عند شهادة الشهود إلى العلم بصدقهم ، وليس الأمر كذلك.

ثم الذي أرتضيه أنه لا يحصل العلم بإخبار خمسة أيضا ، فإن الشهود في مجلس القاضي لو استظهروا بشهادة خامس ، أو سادس ، لم يحصل العلم الضروري بما أخبروا عنه. ولسنا نحدّ حدّا في الأقل ؛ إذ الشرع ، كما ورد بتحديد الشهود ؛ فكذلك ورد بالاستكثار من زيادة الشهود.

وإن رام ذو تحصيل في ذلك ضبطا ، فليفرض خبر واحد عن محسوس ، ثم خبر اثنين ، ثم كذلك ، فزائدا صاعدا ؛ وهو في ذلك كله يعلم ما بطرقه من الرّيب وغلبات الظنون حتى ينتهي الأمر إلى العلم الضروري. فإذا أدركه ، وانتفى عنه كل ريب ، ضبط العدة في المخبرين ، وقدر أقل عدد التواتر ، ثم نفرض ما ذكرناه في صادقين مخبرين عما علموه ضرورة ؛ فإن اتفق مثل هذا العدد غير موجب للعلم ، فذلك لتخلل كاذبين يحط أقل عدد التواتر ، وفي ذلك مجال رحب للكلام لا سبيل للخوض فيه هاهنا.

ثم إن كان المخبرون أنبئوا عما شاهدوه وعلموه ضرورة من غير واسطة ، فالكلام كما ذكرناه ، وإن نقلوا ما أنبئوا عنه عن آخرين ونقل أولئك عن متقدمين ، وتناسخت الأعصار ، وتواترت الأخبار ؛ فلا يحصل العلم الضروري بالمقصود من الخبر إلا عند استواء طرفي المخبرين وواسطتهم ، والمعنيّ بذلك : أن يكون المخبرون عن المقصود أولا على عدد التواتر ، وكذلك المخبرون عنهم ، إلى أن يتصل الخبر بنا ، فلو انخرم شرط من شرائط التواتر في الأول ، أو في الآخر ؛ أو في الوسائط ، لم يحصل العلم بالمخبر عنه المقصود بالخبر.

ولا يشترط عدالة المخبرين على التواتر ، ولا إيمانهم. فإن الأخبار إذا تواترت من الكفار في

١٦٥

بلدهم بأن ملكهم قد قتل فنضطر إلى صدقهم وإذا أخبروا عن ذلك في أقاصي ديارهم ، علمنا صدقهم عند شرائط التواتر ولا يشترط أن يكون المخبرون على تنائي الديار. فإن أهل البلدة الواحدة إذا أخبرونا. وهم الجم الغفير ، علمنا صدقهم ، وإن كانت البلدة جامعة لهم. وبمثل ذلك لا يشترط أن يشتمل المخبرون على أهل الملل فإن أهل بغداد مثلا لو أخرجوا من بين أظهرهم كل ذمي ، ثم أخبروا عن واقعة جرت ، فإنا نصدقهم مع تمسكهم بالملة الواحدة ، وبمثل ذلك يعلم أن المخبرين يجوز أن يكونوا تحت ذمة.

وقصدنا بما أشرنا إليه من نفي هذه الشرائط ، الرد على اليهود ، فإنهم ربما يشترطون هذه الشروط ، ويحاولون بها القدح فيما نروم إثباته من معجزات رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا القدر غرضنا من خبر التواتر.

وكل خبر لم يبلغ مبلغ التواتر فلا يفيد علما بنفسه ، إلا أن يقترن به ما يوجب تصديقه مثل أن يوافق دليلا عقليا ، أو تؤيده معجزة ، أو قول مؤيد بمعجزة تصدقه. وكذلك إذا تلقت الأمة خبرا بالقبول ، وأجمعوا على صدقه. فنعلم صدقه. فإن فقد ما ذكرناه ، ولم يكن الخبر متواترا ، فهو المسمي ، خبر الواحد في اصطلاح المتكلمين ؛ وإن نقله جمع.

ومما تترتب عليه الإمامة القطع بصحة الإجماع ؛ وهذا ما لا مطمع في تقريره هاهنا ، وقد ذكرناه في كتاب التلخيص في أصول الفقه ما يدل على صحة الإجماع ؛ ولكنا نعضد هذا المعتقد بقاطع في صحة إثبات الإجماع ، جريا على ما التزمناه من إيراد القواطع ، في كل ركن فنقول :

إذا أجمع علماء الأمصار على حكم شرعي ، وقطعوا به ، فلا يخلو ذلك الحكم إما أن يكون مظنونا لا يتوصل إلى العلم به ، وإما أن يكون مقطوعا به ؛ فإن كان مقطوعا به على حسب اتفاقهم ، فهو المقصود ؛ وإن كان مظنونا لا سبيل إلى العلم به ، فيستحيل في مستقر العادة أن يحسب العلماء بطرق الظنون والعلوم الظن علما مطبقين عليه ، من غير أن يختلج لطائفة شك أو يخامرهم ريب ، وتقدير ذلك خرق للعادة.

فإن قيل : إذا تحزب العلماء حزبين ، فحلل حزب وحرم حزب ، وكل حزب زائدون على عدد التواتر ، وهم مصممون على اعتقادهم. قلنا : إذا كانت المسألة مختلفا فيها ، فكل حزب معترفون بأن معتقدهم مظنون ، وإنما كلامنا في إجماع العلماء على قطع في مظنون ، وهذا خرق للعادة لا شك فيه.

فإن قيل : فاجعلوا إجماع العقلاء دليلا على صدقهم بمثل ما ذكرتموه. قلنا قد كلفنا في الشرع أن نسند العقود إلى الأدلة العقلية ، والإجماع وإن قدر مؤديا إلى العلم بمسلك العادات واستقرارها ، فهي متعرضة للانخراق في مجوزات العقول ، فلزم التزام ما كلفناه من المباحثة على الأدلة العقلية. ثم هي شتى لا يضبط مأخذها إلا حبر مبرز وتعارضها شبه كثيرة مخيلة لا ينفصل عنها إلا موفق والقاطع السمعي لا تتعدد جهاته ، وإنما هو نص ثبت أصله وفحواه قطعا ، ولا يتلقى القطع من غيره. فإذا صادفناهم مجمعين على القطع ، مع اتحاد وجه القطع ، قطعنا بصدقهم.

١٦٦

والذي عندي أن إجماع علماء سائر الأمم في الأحكام على موجب ما طردناه يوجب العلم جريا على مستقر العادة وهذا أحسن بالغ ، وسنبسطه في كتاب الشامل إن شاء الله تعالى ، ونذكر طرقا مستحسنة في الإجماع إن شاء الله عزوجل ، وقد حان أن نخوض في الإمامة.

باب

في إبطال النص وإثبات الاختيار

ذهبت الإمامية إلى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على تولية علي عليه‌السلام على الإمامة بعده ، وأن من تولاها ظالمه وكان مستأثرا بحقه.

فنقول لهؤلاء : أتعلمون أن النص عليه ثابت ، أم تجوزونه؟ فإن علمتموه فما الطريق إليه؟ والعقل لا يقضي تنصيصا على شخص معين. فإن ردوا ما ادعوه من العلم إلى الخبر ، قيل لهم : الخبر ينقسم إلى ما يتواتر ، وإلى ما يعد من الآحاد ؛ وليس معكم نص منقول على التواتر ، وخبر الواحد لا يعقب العلم. فمن أي وجه ادعيتم العلم بالنص؟ وقد أطبقت الإمامية على أن أخبار الآحاد لا توجب العمل ، فضلا عن العلم.

فإن تعسف متعسف ، وادعى التواتر والعلم الضروري بالنص على عليّ رضي الله عنه ، فذلك بهت ، وهو دأب الروافض. فيجب أن يقابلوا على الفور بنقيض دعواهم في النص على أبي بكر رضي الله عنه. ثم لا شك في تصميم من عدا الإمامية على نفي النص ، والعلم الضروري لا يجمع على نفيه من ينحط عن معشار أعداد مخالفي الإمامية. ولو جاز رد الضروري في ذلك ، لجاز أن ينكر طائفة بغداد والبصرة والصين الأقصى وغيرها ، وذلك يغني بوضوحه عن كشفه.

فإن قيل : قد أبديتم قاطعا في منع الإمامية من ادعاء النص ، فهل تعلمون عدم النص على عليّ عليه‌السلام ؛ أم تستريبون فيه؟ قلنا : إن ادعى الإمامية نصا جليا على عليّ عليه‌السلام في مشهد من الصاحبة ومحفل عظيم ، فنعلم قطعا بطلان هذه الدعوى. فإن مثل هذا الأمر العظيم لا ينكتم في مستقرّ العادة ، كما لم ينكتم تولية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا اليمن ، وزيدا وأسامة بن زيد ، وعقد الولاية لهم ، وتفويض الجيوش إليهم ، واجتباء الأخرجة إلى بعضهم. وكما لم يخف تولية أبي بكر عمر ، وجعل عمر الأمر شورى بينهم ، ولو جوزنا انكتام هذه الأمور الظاهرة ، لم نأمن من أن يكون القرآن عورض ثم كتمت معارضته ، وكل أصل في الإمامة يكر على إبطال النبوءة فهو حري بالإبطال.

فهذا إن ادعوا نصا شائعا لا اعتلال فيه ، فيضطر إلى استحالة كتمانه وترك اللهج به ، سيما في عصر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرب العهد بالنص المدعى ، والاختلاف في عين الإمام يوم السقيفة.

وإن ادعوا نصا خفيا غير مظهر ، فنعلم أنه لا سبيل إلى علمه ، ثم نعلم بطلانه بالإجماع على خلافه ؛ مع ثبوت الإجماع مقطوعا به ، وبذلك ندرأ سؤال من قال : خبر الواحد إن لم يوجب العلم فهو موجب للعمل ، فاعملوا بما نقلناه. قلنا : ما نقلتموه لا نستجيز قبوله ، وأحسن أحوالكم عندنا

١٦٧

الضلالة ، ومعظمكم مكفرون ، فكيف تسوموننا قبول أخباركم ؛ ولا نستريب في أنكم لا تقبلون خبرنا! ثم الإجماع أحق أن يعمل به ، وقد انعقد على خلاف ما ادعيتم في عصر أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومن الإمامية من استشعر الخزي وأيس من ادعاء النص القاطع الذي لا يحتمل التأويل ، وتشبث بأخبار نقلها آحاد غير إثبات منها ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ومن كنت مولاه فعلي مولاه» (١). قلنا : هذا من أخبار الآحاد ، ثم هو منكر للاحتمالات ؛ إذ المولى من الأسماء المشتركة ، فقد يراد به الوليّ ، وقد يراد به الناصر ، وهو أظهر معانيه. وقد يراد به المعتق. والمعني بالحديث من كنت ناصره فعليّ ناصره. والدليل عليه أنه لم يخصص ذلك بما بعد وفاته ؛ بل قضى بما قاله ناجزا ؛ ولا شك أنه لم يكن والي الأمر في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد كثر كلام الناس على هذا الحديث ، ومعظمه حشو ، وفيما ذكرناه مقنع.

وربما يستروحون إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال لعليّ : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» (٢). ولا حجة لهم في ذلك ؛ فإنه وارد على سبب مخصوص ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نهض لغزوة تبوك ، استخلف عليا رضي الله عنه على المدينة ، وشقّ عليه تخلفه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقال له الرسول ما قال ، وأنزله منزلة هارون من موسى في الاستخلاف إذ مرّ موسى لميقاته ثم لم يل هارون أمرا بعد وفاة موسى بل مات قبله في التّيه.

ثم نعارض ما ذكروه بأخبار تداني النصوص في حق أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ؛ منها أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة ، ثم قال : «يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» قاله ثلاثا ؛ وقال : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (٣). وليس من غرضنا نقل الأحاديث ، فستلقونها في الكتب.

ثم إذا بطل النص لم يبق إلا الاختيار ، والدليل عليه الإجماع ، فإن الاختيار جري في أعصار ، ولم يبد نكير من عالم على أصل الاختيار.

باب

في الاختيار وصفته وذكر ما تنعقد الإمامة به

اعلموا أنه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع ، بل تنعقد الإمامة وإن لم تجمع الأمة على

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ١٩. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١١ أحمد في مسنده (١ / ٨٤ ، ١١٨) (٥ / ٣٤٧ ، ٣٦٦).

(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب ٩. الترمذي في كتاب المناقب باب ٢٠. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (١ / ١٧٠ ، ١٧٧) (٣ / ٣٢).

(٣) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ١٦ ، ٣٧. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٥).

١٦٨

عقدها. والدليل عليه أن الإمامة لما عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار ، ولم ينكر عليه منكر ، ولم يحمله على التريث حامل. فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة ، لم يثبت عدد معدود ، ولا حدّ محدود ، فالوجه الحكم بأن الإمامة تنعقد بعقد واحد ، من أهل الحلّ والعقد.

ثم قال بعض أصحابنا : لا بد من جريان العقد بمشهد من الشهود ؛ فإنه لو لم يشترط ذلك ، لم نأمن أن يدعي مدع عقدا سرا متقدما على الحق المظهر المعلن. وليست الإمامة أحط رتبة من النكاح ، وقد شرط فيه الإعلان ، ولا يبلغ القطع ، إذ ليس يشهد له عقل ، ولا يدل عليه قاطع سمعي ، وسبيله سبيل سائر المجتهدات.

فصل

ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم. ثم قالوا : لو اتفق عقد عاقدي الإمامة لشخصين لنزل ذلك منزلة تزويج وليين امرأة من زوجين ، من غير أن يشعر أحد بعقد الآخر. ثم التفصيل فيه من فن الفقه. والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخالف غير جائز ، وقد حصل الإجماع عليه. وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال ، وهو خارج عن القواطع.

فصل

من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت ، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر ، وهذا مجمع عليه. فأما إذا فسق وفجر ، وخرج عن سمت الإمامة بفسقه ، فانخلاعه من غير خلع ممكن ، وإن لم يحكم بانخلاعه ، وجواز خلعه ، وامتناع ذلك ، وتقويم أوده ممكن ما وجدنا إلى التقويم سبيلا ، وكل ذلك من المجتهدات عندنا فاعلموه.

وخلع الإمام نفسه من غير سبب محتمل أيضا. وما روي من خلع الحسن عليه‌السلام نفسه فذلك ممكن حمله على استشعاره عجزا من نفسه ، ويمكن حمله على غير ذلك.

فصل

في شرائط الإمامة

من شرائط الإمام أن يكون من أهل الاجتهاد ، بحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث وهذا متفق عليه. ومن شرائط الإمامة أيضا أن يكون الإمام متصديا إلى مصالح الأمور وضبطها ، ذا نجدة في تجهيز الجيوش وسد الثغور ، وذا رأي حصيف في النظر للمسلمين. لا ترعه هوادة نفس

١٦٩

وخور طبيعة عن ضرب الرقاب والتنكيل بمستوجبي الحدود. ويجمع ما ذكرناه الكفاية ، وهي مشروطة إجماعا.

ومن شرائطها عند أصحابنا ، أن يكون الإمام من قريش إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأئمة من قريش» (١) ، وقال : «قدموا قريشا ولا تقدموها». وهذا مما يخالف فيه بعض الناس ، وللاحتمال فيه عندي مجال ، والله أعلم بالصواب.

ولا خفاء باشتراط حرية الإمام وإسلامه. وأجمعوا أن المرأة لا يجوز أن تكون إماما ، وإن اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه.

باب

القول في إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي

رضي الله عنهم أجمعين

أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه ، واستوى في ذلك من يعتزي الروافض إلى التكذب عليه وغيرهم ؛ فإن أبا ذرّ ، وعمارا ، وصهيبا ، وغيرهم ، من الذين كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ، اندرجوا تحت الطاعة على بكرة أبيهم. وكان علي رضي الله عنه مطيعا له ، سامعا لأمره ، ناهضا إلى غزوة بني حنيفة ، متسرّيا بالجارية المغنومة من مغنمهم.

وما تخرص به الروافض ، من إبداء على شراسا وشماسا في عقد البيعة له ، كذب صريح. نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة ؛ وكان مستخليا بنفسه ، قد استفزه الحزن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم دخل فيما دخل الناس فيه ، وبايع أبا بكر على ملأ من الإشهاد.

فإن قيل : دلّوا على كونه مستجمعا لشرائط الإمامة. قلنا : في ذلك مسلكان : أحدهما الاجتزاء بالإجماع على إمامته ، ولو لم يكن صالحا لها ، لما أجمعوا على اتصافه بها ؛ ثم إن فصلنا ، وهي الطريقة الثانية ، قلنا : من شرائط الإمامة عند أقوام كون الإمام من قريش. وقد كان رضي الله عنه من صميمها. ومن شرائطها العلم ونحن على اضطرار نعلم أنه كان من أحبار الصحابة ومفتيهم ، لا ينكر عليه أحد في تصديه للتحليل والتحريم. وأما الورع فنقطع به في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعلم دوامه ، إذ لم يثبت قادح فيه مقطوع به ، وإجماع الصحابة على إمامته مع تشميرهم للبحث عن الدين أصدق آية على ورعه ؛ وورعه نقل إلينا نقل جود حاتم ، وشجاعة عمرو بن معدي كرب ، وغيرهما ، فلا معنى للمماراة فيه ؛ وأما شهامته وكفايته ، فقد شهدت بها عليه أثاره ، ودلت عليها سيرته.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ١٢٩ ، ١٨٣) (٤ / ٤٢١).

١٧٠

وأما عمر وعثمان وعليّ ، رضوان الله عليهم ؛ فسبيل إثبات إمامتهم واستجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر ، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع ؛ وغرضنا الآن الإيجاز ، ولو تدبر العاقل لاكتفى بما ذكرناه ، واستيقن أن فيه أكمل غنية.

وتولية أبي بكر عمر رضي الله عنهما ، وجعله إياه وليّ عهده ، وجعل عمر الأمر بينهم شورى من غير إنكار عليهما ، إجماع على تصحيح ذلك في سائر الأعصار ، ولا اكتراث بقول من يقول لم يحصل إجماع على إمامة عليّ رضي الله عنه ، فإن الإمامة لم تجحد له ، وإنما هاجت الفتن لأمور أخر.

فصل

فإن قيل : هل تفضلون بعض الصحابة على بعض ، أم تضربون عن التفضيل؟ قلنا : الغرض من ذلك ينبني على منع إمامة المفضول. والذي صار إليه معظم أهل السنة أنه يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا أن يكون في نصبه هرج وهيجان فتن ، فيجوز نصب المفضول إذ ذاك إذا كان مستحقا للإمامة ، وهذه المسألة لا أراها قطعية ، ولا معتصم لمن يمنع إمامة المفضول إلا أخبار آحاد في غير الإمامة التي نتكلم فيها ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤمكم أقرؤكم». ولا يفضي هذا وأمثاله إلى القطع ، كيف ولو تقدم المفضول في إمامة الصلاة لصحت الإمامة وإن ترك الأولى! فهذا قولنا في إمامة المفضول.

ثم لم يقم عندنا دليل قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض ، إذ العقل لا يشهد على ذلك ، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة لا يمكن تلقي التفضيل من منع إمامة المفضول. ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الخلائق بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عمر بعده أفضلهم ، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي ، وقد روي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : خير الناس بعد نبيهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم الله أعلم بخيرهم بعدهما. فهذا هو قوله أبديناه مجانبا للتقليد ، جاريا على الحق الواضح.

فصل

قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلما ، إذ كان إماما ، وموجبات القتل مضبوطة عند العلماء ، ولم يجر عليه منها ما يوجب قتله. ثم تولى قتله ، همج ، ورعاع ، وأشابة من كل أوب ، وأخياف من سفلة الأطراف كالتجيبي (١) ، والأشتر النخعي (٢) ، وأراذلة من خزاعة ، ومن يستحق القتل ، فليس إلى هؤلاء قتله ، فلا يشك فيه أنه قتل مظلوما.

__________________

(١) هو كنانة بن بشر التجيبي قاتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. ذكره الفيروزآبادي في القاموس المحيط في مادة (تجيب).

(٢) هو مالك بن الحارث توفي عام ٣٧ ه‍ / ٦٥٧ م. أمير شاعر أبرز أنصار علي بن أبي طالب وقائد جيوشه ولاه على مصر فمات مسموما قبل دخولها. انظر المنجد في اللغة والأعلام.

١٧١

فصل

قد كثرت المطاعن على أئمة الصحابة ، وعظم افتراء الرافضة ، وتخرصهم. والذي يجب على المعتقد أن يلتزمه ، أن يعلم أن جلة الصحابة كانوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمحل المغبوط والمكان المحوط. وما منهم إلا وهو منه ملحوظ محظوظ. وقد شهدت نصوص الكتاب على عدالتهم والرضا عن جملتهم بالبيعة بيعة الرضوان ونص القرائن على حسن الثناء على المهاجرين والأنصار.

فحقيق على المتدين ، أن يستصحب لهم ما كانوا عليه في دهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن نقلت هناة فليتدبر النقل وطريقه ، فإن ضعف رده ؛ وإن ظهر وكان آحادا ، لم يقدح فيما علم تواترا منه وشهدت له النصوص. ثم ينبغي أن لا يألوا جهدا في حمل كل ما ينقل على وجه الخبر ، ولا يكاد ذو دين يعدم ذلك. فهذا هو الأصل المغني عن التفصيل والتطويل.

فصل

عليّ بن أبي طالب كان إماما حقا في توليته ، ومقاتلوه بغاة ، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظن بهم قصد الخير وإن أخطئوه. وعائشة رضي الله عنها قصدت بالمسير إلى البصرة تسكين الثائرة وتطفئة نار الفتن ، وقد اشرأبت للاضطرام ، فكان من الأمر ما كان.

ولا يعصم واحد من الصحابة عن زلل ، والله وليّ التجاوز بمنه وفضله. وكيف يشترط العصمة لآحاد الناس ، وهي غير مشروطة لإمام! ولا يكترث بقول من يشترط العصمة للأئمة من الإمامية ، فإن العقل لا يقضي باشتراطها. وكل ما يحاولون به إثبات عصمة الإمام يلزمهم عصمة ولاته وقضاته وجباته للأخرجة.

فهذه رحمكم الله وأصلح بالكم ، قواطع في قواعد العقائد ، يستقل بها المبتدي ، ويتشوق بها المنتهي إلى جلة المصنفات. وقد تصرمت بعون الله وتأييده والحمد لله المشكور على إفضاله ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المرسلين وعلى آله الطيبين وصحبه الأكرمين وسلم تسليما.

تمّ بحمد الله تعالى كتاب الإرشاد ، إلى قواطع الأدلة ، في أصول الاعتقاد ، إملاء الشيخ الإمام ركن الإسلام : «أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني» رضي الله عنه.

١٧٢

الفهرس

المقدمة.......................................................................... ٣

لمحة عن عصر المؤلف وحياته....................................................... ٣

المؤلف.......................................................................... ٣

خطبة المؤلف.................................................................... ٥

باب في أحكام النظر............................................................. ٧

باب في حقيقة العلم............................................................ ١٠

باب القول في حدث العالم....................................................... ١٢

باب القول في إثبات العلم بالصانع............................................... ١٦

باب القول فيما يجب لله تعالى من الصفات........................................ ١٧

فصل الدليل على قدم الباري تعالى............................................. ١٨

فصل في الدليل على استحالة كون الرب تعالى جوهرا والتنصيص على نكت في الرد على النصارى          ٢٤

باب العلم بالواحدانية........................................................... ٢٦

باب إثبات العلم بالصفات المعنوية................................................ ٢٩

باب القول في إثبات العلم بالصفات.............................................. ٣٦

القول في معاني أسماء الله تعالى.................................................... ٦٠

باب القول فيما يجوز على الله تعالى............................................... ٧١

باب إثبات جواز الرؤية على الله تعالى............................................. ٧١

باب القول في خلق الأعمال..................................................... ٧٩

باب القول في الاستطاعة وحكمها................................................ ٨٩

باب في التعديل والتجوير...................................................... ١٠٦

باب القول في إثبات النبوءات.................................................. ١٢٣

فصل في إثبات الكرامات وتمييزها من المعجزات................................. ١٢٩

باب القول في الوجه الذي منه تدل المعجزة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم................. ١٣٢

القول في إثبات نبوءة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم............................................ ١٣٧

باب القول في أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين............................ ١٤٣

١٧٣

باب أصول العقائد وأقسامها................................................... ١٤٤

باب الآجال.................................................................. ١٤٥

باب الرزق................................................................... ١٤٦

باب في الأسعار.............................................................. ١٤٧

باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر........................................ ١٤٧

باب الإعادة................................................................. ١٤٨

باب جمل من أحكام الآخرة المتعلّقة بالسمع...................................... ١٥٠

فصل في الجنّة والنار........................................................ ١٥١

فصل في الصراط........................................................... ١٥١

باب في الثواب والعقاب وإحباط الأعمال والرد على المعتزلة والخوارج والمرجئة في الوعد والوعيد ١٥٢

فصل الفرق بين الصغيرة والكبيرة................................................ ١٥٦

باب في الأسماء والأحكام...................................................... ١٥٨

باب التوبة................................................................... ١٦٠

القول في الإمامة.............................................................. ١٦٣

باب في تفاصيل الأخبار....................................................... ١٦٤

باب في إبطال النص وإثبات الاختيار............................................ ١٦٧

باب في الاختيار وصفته وذكر ما تنعقد الإمامة به................................. ١٦٨

فصل في شرائط الإمامة..................................................... ١٦٩

باب القول في إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين....... ١٧٠

الفهرس...................................................................... ١٧٣

١٧٤