كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

فإن قالوا : قد ذكرتم عند الكلام في إثبات العلم بكونه تعالى عالما ، أن ذلك إنما يعلم اضطرارا ولا يتوصل إليه نظرا واعتبارا ، فهذا ما ارتضيتموه. ثم هو مناقض لما استروحتم إليه الآن. من حيث قلتم : الفعل المحكم دال على كون مخترعه عالما به ؛ قلنا : هذا تلبيس منكم ، ولا تناقض في الجمع بين ما قدمناه وبين ما استدللنا به الآن ؛ فإنا ، وإن قلنا : نعلم أن المحكم لا يصدر إلا من عالم على الضرورة ، فحقيقة القول يؤول إلى أن المحكم دليل على كون فاعله عالما به ، من غير احتياج إلى نظر في كونه دليلا. وكأن الأدلة تنقسم : فمنها ما لا يعلم كونه دليلا إلا بالنظر ، ومنها ما يعلم كونه دليلا على الضرورة ؛ والذي نحن فيه من القسم الأخير ، ولا معنى لكون الشيء دليلا على مدلول إلا أن يكون بحيث يجب من العلم به العلم بمدلوله ، وهذا سبيل المحكم الدال على علم محكمه. وهذا الكلام في الضرب الأول.

فأما الضرب الثاني ، وهو التعرض لإلزامهم ، فإنه يشتمل على قواطع لا محيص عنها. فمن أقواها ، أن القدرة الحادثة على أصولهم تتعلق بالوجود دون غيره من الصفات ، ثم حقيقة الوجود لكل حادث لا تختلف ، واختلاف المختلفات يؤول إلى أحوالها الزائدة على وجودها ، وليست هي أثرا للقدرة. ومن أصول القوم أن القدرة المتعلقة بالشيء تتعلق بأمثاله وأضداده ، والموجودات مشتركة في حقيقة ما هو متعلق القدرة ، فيجب تعلق القدرة الحادثة بجميع الحوادث كالطعوم والألوان والجواهر. كما يجب عندهم تعلق القدرة على حركة بجميع ما يماثلها ، ولا محيص لهم عن ذلك.

فإن قالوا : ما ألزمتمونا في الاختراع ينقلب عليكم في تعلق القدرة كسبا ، وإذا تعلقت القدرة بنوع من الأعراض لزمكم ما ألزمتمونا تجويز تعلقها بجميع الحوادث ، وإن لم تلزموا ما عكس عليكم لم يستمر ما ألزمتموه ؛ قلنا : القدرة الحادثة لا تتعلق عندنا بمحض الوجود ، بل تتعلق بالذات وأحوالها ، والذوات مختلفة بأحوالها فلا يلزمنا من حكمنا بتعلق القدرة بشيء الحكم بجواز تعلقها بما يخالفه. وإنما عظم موقع هذا الكلام على المعتزلة من حيث قالوا : لا تتعلق القدرة إلا بالوجود ، ثم الوجود في حقيقته لا يختلف.

ومما يعظم موقعه عليهم ، أنهم قالوا : القدرة الحادثة لا يتأتى بها إعادة ما اخترع بها أولا ، ومعلوم أن الإعادة بمثابة النشأة الأولى. ولذلك استدل الإسلاميون على اقتدار الرب على الإعادة باقتداره على ابتداء الفطرة ، وقد نطق بذلك الكتاب ، واحتج الرب على منكري الإعادة بالنشأة الأولى.

فإذا اعترفت المعتزلة بأن القدرة الحادثة لا تصلح لإعادة ما يجوز في العقل إعادته على الجملة ، فكذلك ينبغي أن لا تصلح لابتداء الخلق. وإن ألزمونا تعلق القدرة الحادثة بالمعاد ، التزمناه ولم نبعده ؛ فإذا أعاد الله ما كان مقدورا للعبد ، فيجوز أن يعيد قدرته عليه.

٨١

ومما نلزمهم به أن نقول : قد وافقتمونا على أن ما عدا الوجود من صفات الأفعال لا يقع بالقدرة الحادثة ، مع أنها متجددة ، كما أن الوجود متجدد ، فما الفصل بين الوجود وبين الصفة الزائدة عليه؟

فإن قالوا : إذا ثبت وجود الحركة ، وجب عند ثبوت وجودها ثبوت أحكام لها ، والقدرة إنما تؤثر في الجائز دون الواجب ، والصفات التابعة للوجود واجبة ؛ فلم تؤثر القدرة فيها؟ قلنا : لا معنى لوجوبها ، إذ يجوز تقدير انتفائها أصلا إذا انتفى الوجود.

فإن قالوا : المعنى بوجوبها أنها إنما تجب عند ثبوت الوجود ، قلنا : وكذلك يجب الوجود عند ثبوتها ؛ فإنه كما يستحيل ثبوت الحدوث دون الصفات التابعة له ، فكذلك يستحيل ثبوت الصفات التابعة له دون الحدوث ، ولا محيص عن ذلك. فهذه إلزامات لا حيلة للخصوم في دفعها.

فأما الضرب الثالث من الكلام ، فالغرض منه التعلق بالأدلة السمعية ؛ وهي تنقسم إلى ما يتلقى من مواقع إجماع الأمة ، وإلى ما يستفاد من نصوص الكتاب.

فأما ما يتلقى من إطلاق الأمة فأوجه : منها أن الأمة مجمعة على الابتهال إلى الله تعالى وإبداء الرغبة إليه في أن يرزقهم الإيمان والإيقان ويجنبهم الكفر والفسوق والعصيان ، ولو كانت المعارف غير مقدورة للباري تعالى ، لكانت هذه الدعوة الشائعة والرغبة الذائعة ، متعلقة بسؤال ما لا يقدر الباري عليه.

فإن قالوا : هذه الرغبة محمولة على سؤال الإقدار على الإيمان والإعانة عليه بخلق القدرة ، قلنا : هذا غير سديد على أصولكم ؛ فإن كل مكلف قادر على الإيمان ، والرب تعالى لا يسلبه الاقتدار عليه ، فلا وجه لحمل الدعاء على ابتغاء موجود ، إذ الداعي يلتمس متوقعا مفقودا.

ثم السلف الصالحون كما سألوا الله تعالى الإيمان ، كذلك سألوه أن يجنبهم الكفر ، والقدرة على الإيمان قدرة على الكفر على أصول المعتزلة ؛ فلئن كان الرب معينا على الإيمان بخلق القدرة عليه ، فيجب أن يكون معينا على الكفر بخلق القدرة عليه. ويقوي موقع ذلك على الخصم ، إذا فرضنا الكلام فيمن علم الله منه أنه إذا أقدره كفر ؛ فإذا أقدره والحالة هذه ، فهو بالإعانة على الكفر أحق منه بالإعانة على الإيمان.

ومن دعوات النبيين في ذلك قول إبراهيم وابنه إسماعيل ، صلوات الله عليهما : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [سورة البقرة : ١٢٨] الآية. ومنها قول إبراهيم عليه‌السلام : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [سورة إبراهيم : ٣٥].

ومما نتمسك به ، تلقيا من إطلاق الأمة وإجماع الأئمة ، أن المسلمين قبل أن تنبغ القدرية كانوا مجمعين على أن الرب تعالى مالك كل مخلوق ، ورب كل محدث.

٨٢

ومن المستحيل أن يكون الباري تعالى مالكا ما لا يقدر عليه ، وإله ما لا يعد من مقدوراته ، ولا بد لكل مخلوق من رب ومالك وإذا كان العبد خالقا لأفعال نفسه لزم أن يكون ربها وإلهها ، من حيث استبد بالاقتدار عليها ، وهذه عظيمة في الدين ، لا يبوء بها موفّق. وقد دل عليه فحوى التنزيل ، فإنه عز من قائل قال : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة المؤمنون : ٩١].

ومما نتلقاه من هذه المآخذ أن نقول : خلق المعرفة والطاعات والقربات ، أحسن من خلق الأجسام وأعراضها التي ليست من قبيل الطاعات ، فلو اتصف العبد بخلق المعارف لكان أحسن خلقا من ربه ، ولكان أولى بإصلاح نفسه وإرشادها وإنقاذها من الغيّ والمعاطب من ربه. ومن زعم أن العبد أصلح لنفسه من ربه ، فقد راغم إجماع المسلمين وفارق الدين.

وإن قالوا : لو لا القدرة على الإيمان لما تمكن العبد من خلق الإيمان ، فالقدرة إذا أصلح وأحسن ؛ قلنا مضمون ذلك يلزم صاحب هذا المقال أن يجعل القدرة على الكفر شرا من الكفر ، حيث إنه لا يتمكن منه إلا بها ، والقدرة صالحة للضدين ، وليست بأحدهما أولى منها بالآخر ؛ فلئن كان الرب تعالى مصلحا عبده بالاقتدار على الإيمان ، فليكن مفسدا له بالتمكن من الكفر. وهذا القدر كاف في مقصودنا من مآخذ إطلاق الأمة.

فأما نصوص الكتاب ، فمنها قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الأنعام : ١٠٢] الآية. والآية تقتضي تفرد الباري تعالى بخلق كل مخلوق ، والاستدلال بها يعتضد بأنّا نعلم أن فحواها يتضمن التمدح بالاختراع والإبداع ، والتفرد بخلق كل شيء ؛ فلو كان غيره خالقا مبدعا لانتفى التمدح بالخلق المحمول على الخصوص ، ولساغ للعبد أن يتمدح بأنه خالق كل شيء ، ومراده أنه خالق لبعض المخلوقات.

فإن قالوا : هذا الذي تمسكتم به عموم ، وللعلماء في الصيغ العامة مذهبان : أحدهما جحد اقتضاء الألفاظ للعموم ، والثاني القول بالعموم مع المصير إلى تعرضه للتأويل ، وكل ظاهر متعرض لجهات الاحتمالات ، فلا يسوغ التمسك به في القطعيات. قلنا : لم نتمسك بمحض الصيغة حتى أوضحنا اقترانها بإرادة التمدح ، وبينا أن ذلك التمدح مفهوم من مقتضى الآية على قطع ، ولا يستمر حمل الآية على الخصوص مع ما استيقناه من التمدح ، والمفهوم وإن لم يستفد من مجرد الصيغ فهو متلقى من القرائن.

وعلى هذا الوجه يستدل بقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ، قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة الرعد : ١٦] الآية. وهذه الآية نص في محل النزاع. فإن قالوا : هي متروكة الظاهر ، وكذلك التي استدللتم بها قبل ، فإن الظاهر في الآيتين يقتضي كون الرب تعالى خالق كل شيء ، واسم الشيء يطلق على القديم والحادث. قلنا : المخاطب المتكلم في هذه المواضع لا يدخل تحت قضية الخطاب ، ونظير ذلك قول القائل : «لا يلقاني خصم منطيق ولا جدل

٨٣

ذو تحقيق إلا أفحمته» ، فلا يتوهم عاقل دخول هذا المخبر عن نفسه تحت موجب كلامه ، حتى يقدر كونه مفحما نفسه. ولا تندرئ قواطع النصوص بالروغان والحيل.

ونستدل بكل آية في كتاب الله دالة على تمدح الباري تعالى بكونه قادرا على كل شيء ، ولا معنى لذلك عند المعتزلة ، فإن المعنى بقوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [سورة البقرة : ٢٨٤] ، أنه قادر على أفعال نفسه وليس بمقتدر على أفعال غيره. وإذا كان الأمر كذلك ، فالعبد أيضا قادر على كل شيء على هذا التأويل ، ويبطل تمدح الباري تعالى عند التحصيل.

ومما يستدل به أيضا قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [سورة الصافات : ٩٦]. وسنعقد فصلا في معنى الهدى والضلال ، والختم والطبع وشرح الصدور ونعتصم فيه بالقواطع من نصوص الكتاب وفحوى الخطاب.

وقد حان أن نذكر عصم المعتزلة وشبههم وهي تنقسم عندهم إلى مدارك العقول ومآخذ السمع.

فمما تمسكوا به في مدارك العقول ، أن قالوا : العاقل يميز بين مقدوره ، وبين ما ليس بمقدوره ؛ ويدرك تفرقة بين حركاته الإرادية ، وألوانه التي لا اقتدار له عليها. ووجه الفصل بين القبيلين أنه يصادف مقدوره واقعا به على حسب قصوده ودواعيه ، ولا يقع منه ما لا يقع على حسب انكفافه وانصرافه. فإذا صادف الشيء واقعا على حسب المقصود والداعية ، لم يسترب في وقوعه به ، ثم لا يقع به إلا الحدوث ، فليكن العبد محدثا لفعله. ولو كان فعله غير واقع به ، لكان بمثابة لونه وسائر صفاته الخارجة عن مقدوراته.

قلنا : هذا الذي عولتم عليه ، دعاوى غير مقرونة بأدلة. فأما قولكم : إن المقدور يقع على حسب الداعية والقصد ، فباطل من أوجه ، منها : أن ذلك لا يعم الأحوال ولا يشمل الأفعال ، بل الأمر على الانقسام ؛ فرب فعل يقع على حسب القصد ، وربما لا يقع على حسبه ، فإن أفعال العاقل الذاهل غير واقعة على حسب قصده ودواعيه ، وكذلك كل ما يصدر من النائم والمغمى عليه من الأفعال.

فإذا لم يطرد ما قالوه في جميع الأفعال ، فوقوع بعضها على حسب الداعية لا يدل على كونه واقعا بالعبد من فعله. فإنه قد يقع الشبع عند الأكل ، والري عند الشرب ، واكتساب الثوب ألوانا مقصودة عند الصبغ ، وفهم المخاطب عند الإفهام ، وخجله ووجله عند التخجيل والتهويل ؛ فهذه الأفعال ، مع وقوعها على حسب المقصود ، ليست أفعالا لذي الدواعي والقصود.

ثم نقول : من اعتقد أن لا خالق إلا الله فلا تدعوه داعية إلى الخلق ، ولا يصح مع هذا الاعتقاد منه القصد إلى الإحداث. وأفعال معظم الخليقة غير واقعة على حسب القصد ، فإن المقصود الواقع بالعبد عند الخصوم الحدوث. فإذا وضح أنه غير مقصود من الذين ذكرناهم ، بطل استرواحهم إلى الدواعي ، وفسد ما عولوا عليه من الدعاوى.

ثم نقول : لا يبعد عندكم أن يخلق الباري تعالى في العبد أكوانا ضرورية ، ويخلق فيه الدواعي ضرورية إليها على الاطراد ، ولو كان الأمر كذلك لكانت الأكوان واقعة على حسب الدواعي. ثم لا

٨٤

نقضي ، والحال هذه ، بكون الأكوان الضرورية الواقعة على حسب الدواعي أفعالا لذي الدواعي ، فبطل ما عولوا عليه من كل وجه.

وما ذكروه من إدراك التفرقة بين المقدور وغيره صحيح ، ولكن التفرقة آيلة إلى إدراك تعلق القدرة بأحدهما دون الثاني ، وهو كالفرق بين المعلوم والمظنون ، مع العلم بأن العلم والظن لا يؤثران في متعلقهما.

فصل

ومما تمسكوا به ، وهو من أعظم تخيلاتهم ، أن قالوا : العبد مطالب من ربه تعالى بالطاعة ، ويستحيل في العقول أن يطالب العبد بما لا يقع منه. قالوا : المقدور عندكم بمثابة القدرة في أن كل واحد منهما واقع بقدرة الله تعالى ، وليس للعبد من إيقاع المقدور شيء ، فما المطلوب؟ وما معنى الطلب؟ وما الفرق بين مطالبة العبد بألوانه وأجسامه ، وبين مطالبته بأفعاله؟

وربما قرروا هذه الشبهة ، وقالوا : لسنا نلزمكم الآن أمرا يتعلق بتقبيح العمل وتحسينه ، ولكن أهل الملل متفقون على أن ما يؤدي إلى حمل كلام الرب تعالى على التناقض والخروج عن الإفادة فهو باطل. ومن لغو الكلام أن يقول القائل لمن يخاطبه : افعل ما أنا فاعله ، وابدع ما أنا مبدعه.

وسبيلنا أن نفاتح المعتزلة بعكس هذه الشبهة عليهم من أوجه ، منها أن نقول : من أصلكم أن المعدوم شيء وذات على خصائص الصفات ، فما معنى المطالبة بإثبات ما هو ثابت؟ إذ لا معنى لكون المعلوم موجودا ، إلا أنه ثابت ذات لها خصائص صفات. وهذا الذي ألزمناهم يبطل عليهم معنى الخلق في حكم الله سبحانه وتعالى.

فأما من أنكر الأحوال من المعتزلة ، فلا مطمع له في الانفصال عما ذكرناه. ومن قال بالأحوال من المنتمين إلى الاعتزال ، فربما يقولون : المطلوب هو الوجود ، وهو حال متجددة للذات ، وذلك محال. فإن الحال لو كانت تنفرد بالإثبات عن الانتفاء ، لكانت ذاتا ؛ إذ كل ما يتخيل منتفيا ، ثم يعتقد تجدده على ذات واقعا بالقدرة على حياله وانفراده فهو ذات. ولو ساغ صرف أثر القدرة إلى الحال ، لجاز أن يقال ، إذا سكن الجوهر عن تحرك ، فكونه ساكنا حال ثابتة بالقدرة ، من غير احتياج إلى تقدير سكون هو عرض زائد عن الذات ، وذلك يقضي بإنكار الأعراض ، ولا محيص لهم عن ذلك.

ومما انعكس به شبههم أن نقول : العبد عندكم مطالب بالنظر ابتداء ، ولما يعتقد بعد أمرا مطالبا ، فكيف التوصل إلى العلم بالطلب قبل استيقان الطالب الأمر؟

وما عولوا عليه من إلزامنا تناقض الطلب قولا ، ينعكس عليهم بما لا يجدون عنه محيصا ، وذلك أنّا نقول : من أصلكم أن الرب تعلى مصلح عباده بما كلفهم من طاعته ، فإذا فرضنا الكلام عليكم فيمن علم الله تعالى أنه لو اخترمه ولم يكمل عقله لنجا من العذاب. ولو أكمل عقله وأقدره

٨٥

لكفر وطغى ، فمن هذه حاله ، فصلاحه على الضرورة في أن يخترم. ومن أبدى في ذلك مراء سقطت مكالمته ودحضت حجته. وكل كلام في اقتضاء تكليف فهو مقيد بقصد الإصلاح.

ولا مزيد في التناقض على أن يقول القائل : آمرك وقصدي بأمرك إصلاحك ، مع علمي بأنك لا تصلح ، ولو لم آمرك لنجوت من موبقات العواقب ومرديات العواطب. فهذا ، وقيتم البدع ، غاية في التناقض لا يخفى مدركها على عاقل.

ومما يعارضون به ، أن أوامر الشرع وزواجره قد تتعلق بالأحوال المعللة بعللها ، وذلك مثل تقدير الشرع بأمر مكلف بكونه قائما عالما ، ولا سبيل إلى جحد ذلك من موارد الشرع وموجبات السمع. ثم كون العالم عالما ، وإن حسن تقدير الطلب فيه ، فليس هو واقعا بالمطالب به على أصول المخالفين ، فإنه لا يقع بالقدرة إلا حدوث ذات. والأحوال توجبها العلل ، وتثبت واجبة تابعة للحدوث ؛ فإذا لم يبعد تقدير الطلب بما لا يقع بالمطالب ، لم يبعد ما ألزمونا.

ثم نقول : ما أسندتم إليه تخييلكم محض تهويل. فإنا نقول قد سبقت معرفتكم بأن خصومكم لا يعتقدون كون العبد المأمور والمنهي موقعا لفعله ، ثم علمتم اتفاق أهل الملل على توجه الأوامر على المكلفين ، ثم ادعيتم بعد هذين الأصلين استحالة الطلب فيما لا يوقعه المطالب.

وسبيل إيجاز الكلام أن نقول : ما ادعيتم استحالته ، لا تخلون فيه من أمرين : إما أن تسندوا دعواكم إلى الضرورة ، وإما أن تسندوها إلى دليل على زعمكم. وإن ادعيتم العلم الضروري ، كنتم مباهتين في ادعاء الضرورة بإزاء مخالفة أكثر الأمة ، ثم لا تسلمون من معارضة دعواكم بمثلها. وإن أسندتم تصحيح دعواكم إلى نظر ، فأبدوه نتكلم عليه ، ولا تقتصروا على الدعوى العرية.

وقد سلك بعض أئمتنا طريقا في الكسب تدرأ هذه الشبهة ، على ما سنعقد في حقيقة الكسب فصلا ، وذلك أنه قال : القدرة الحادثة تتضمن إثبات حال للمقدور بها ، وتلك الحال متعلق الطلب. والخلق على أصول المعتزلة لا يتضمن إثبات ذات ، إذ الذوات عندهم ثابتة عدما ووجودا على صفات أنفسها. وإنما يتضمن الاختراع وجود الذات ، وهو حال عند محققيهم.

شبهة أخرى لهم ، وهي أنهم قالوا : إذا حكمتم بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في متعلقها ، فسبيلها سبيل العلم المتعلق بالمعلوم ، ويلزم على مقتضى ذلك تجويز تعلق القدرة الحادثة بالألوان والأجسام والقديم وجميع الحوادث قياسا لها على المعلوم. وهذا الذي موهوا به دعوى ، وهم بإثباتها مطالبون ، وكل مشبه شيئا بشيء مطالب بالدليل على إثبات تشابههما في الوجه الذي يبغيه المشبه.

فإن قالوا : الجامع بين القدر والعلوم استواؤهما في انتقاء تأثيرهما في متعلقاتهما ، قلنا : لم قلتم إن العلوم عم تعلقها لأنه لا أثر لها؟ ولا يتخلصون من المطالبة أو يوردوا دليلا ، ولا يكادون يهتدون إليه سبيلا. ثم الرؤية لا تؤثر في المرئي ، ولا تتعلق بجميع الموجودات على مذهب الخصم. والعلم بسواد معين لا يتعلق بغيره ، وإن لم يكن له أثر في المعلوم به ، فبطل ما عولوا عليه.

٨٦

ثم ما ذكروه ينعكس عليهم بما لا محيص لهم عنه. وذلك أن حقيقة الحدوث لا تختلف ، وهي أثر القدرة عند الخصم ، والصفات التي تختلف بها الحوادث ليست من آثار القدرة. فهلا قضوا بتعلق القدرة الحادثة بكل حادث ، من حيث لا يختلف متعلق القدرة الحادثة وأثرها في جميعها!

شبهة أخرى لهم ، وذلك أنهم قالوا : العبد مثاب على فعله معاقب ملوم محمود ، وكل ذلك دال على أن فعله واقع منه ، إذ لا يحسن توبيخه والثناء عليه بما لا يقع منه كألوانه وأجسامه. وهذا الذي ذكروه لا محصول له ؛ فإن الثواب والعقاب وتوابعهما من الذم والمدح لا يوجبها فعل المكلف عندنا. ولو ابتدأ الرب تعالى عبده بنعيم مقيم أو بعذاب أليم ، لكان ذلك ممكنا غير مستحيل. وإنما أفعال العباد في أحكام الشرائع أعلام وآيات لأحكام الله تعالى ، ولا بعد في نصب علم ليس هو واقعا بمن نصب العلم له. وسنقرر ذلك في باب الثواب والعقاب إن شاء الله عزوجل.

فصل

فإن قيل : إنما يتكلم على المذهب ردا وقبولا إذا كان معقولا ، وما اعتقدتموه من كون العبد مكتسبا غير معقول ؛ فإن القدرة إذا لم تؤثر في مقدورها ، ولم يقع المقدور بها ، فلا معنى لتعلق القدرة. قلنا : قد اختلف أئمتنا في وجه تعلق القدرة الحادثة بمقدورها.

فصار صائرون إلى أن القدرة الحادثة تؤثر في إثبات حال للمقدور يتميز بها المكتسب عن الضروري. فإذا فرضنا حركة ضرورية إلى جهة ، وقدرنا أخرى كسبية إلى تلك الجهة ، فالكسبية على حالة زائدة هي من أثر تعلق القدرة الحادثة بها ، والكسبية تتميز بها عن الضرورية. وأما الحدوث ، وإثبات الذوات ، فالرب تعالى مستأثر بها.

وهذه الطريقة غير مرضية ، ولا جريان لها على قواعد أهل الحق ، وفي المصير إليها افتتاح وجوه من الفساد يجب تنكّبها.

منها ، أن العبد يستحيل أن ينفرد بمقدور دون الرب تعالى ؛ فإن فرضنا للقدرة الحادثة أثرا ، وحكمنا بثبوته للعبد ، فقد حرمنا اعتقاد وجوب كون الرب قادرا على كل شيء مقدور. ويستحيل المصير إلى أن الحالة المفروضة تقع بالقدرة القديمة والحادثة ، فإن ذلك مستحيل ، ولو ساغ فرضه لساغ تقدير خلق بين خالقين.

على أن صاحب هذه الطريقة يحيل معتقده على ادعاء حالة مجهولة لا يمكنه الإفصاح بها ، مع قطعنا بأن الحركة الكسبية مماثلة للضرورية. وتقدير أحوال مجهولة حيد عن السداد ، وتطريق لدواعي الفساد إلى أصول الاعتقاد.

فالوجه ، القطع بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا وليس من شرط تعلق الصفة أن تؤثر في متعلقها ؛ إذ العلم معقول تعلقه بالمعلوم مع أنه لا يؤثر فيه ، وكذلك الإرادة المتعلقة بفعل

٨٧

العبد لا تؤثر في متعلقها. فإن استبعد الخصوم ذلك ، ورجعوا إلى كون العبد مطالبا ، فقد قدمنا ما فيه إقناع في الانفصال.

فصل

اعلم ، وفقك الله تعالى لمرضاته ، أن كتاب الله العزيز اشتمل على آي دالة على تفرد الرب تعالى بهداية الخلق وإضلالهم ، والطبع على قلوب الكفرة منهم ، وهي نصوص لإبطال مذاهب مخالفي أهل الحق. ونحن نذكر غرضنا من آيات الهدى والضلال ، ثم نتبعها بالآي المحتوية على ذكر الختم والطبع.

فمما يعظم موقعه عليهم ، قوله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة يونس : ٢٥] ؛ وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة القصص : ٥٦] ؛ وقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام : ١٢٥] ؛ وقال عزوجل : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [سورة الأعراف : ١٧٨].

واعلم أن الهدى في هذه الآية لا يتجه حمله إلا على خلق الإيمان ، وكذلك لا يتجه حمل الإضلال على غير خلق الضلال. ولسنا ننكر ورود الهداية في كتاب الله عزوجل على غير المعنى الذي رمناه ، فقد يرد والمراد به الدعوة ؛ قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة الشورى : ٥٢] ، معناه وإنك لتدعو.

وقد ترد الهداية ويراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها يوم القيامة ، قال الله تعالى : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [سورة محمد : ٤ ـ ٥] ؛ فذكر الله تعالى المجاهدين في سبيله وعنى بهم المهاجرين والأنصار ، ثم قال : (سَيَهْدِيهِمْ) ، فينبغي حمل الآية على ما ذكرناه. وقال الله تعالى في الكفار : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [سورة الصافات : ٢٣] ، معناه اسلكوا بهم إليها ، والمعنى بقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [سورة فصلت : ١٧] ، الدعوة ؛ ومعنى الآية ، أنا دعوناهم فاستحبوا العمى على ما دعوا إليه من الهدى.

وإنما أشرنا إلى انقسام معنى الهدى والضلال ، لتحيطوا علما بأننا لا ننكر ورود الهدى والضلال على غير معنى الخلق ، ولكنا خصصنا استدلالنا بالآي التي صدرنا الفصل بها. ولا سبيل إلى حملها على الدعوة ، فإنه تعالى فصل بين الدعوى والهداية ، فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [سورة يونس ؛ ٢٥] ، فخصص الهداية وعمم الدعوة ، وهذا مقتضى ما استدللنا به من الآيات. ولا وجه لحملها على الإرشاد إلى طريق الجنان ، فإن الله تعالى علق الهداية على مشيئته وإرادته واختياره. وكل مستوجب الجنان ، فحتم على الله عند المعتزلة أن يدخله الجنة. وقوله

٨٨

تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [سورة الأنعام : ١٢٥] ، فصرح بأحكام الدنيا. وشرح الصدر وحرجه ، وذكر الإسلام من أصدق الآيات على ما قلناه.

وإن استشهد المعتزلة في روم حمل الهداية على الدعوة أو غيرها مما يطابق معتقدهم بالآيات التي تلوناها ، فالوجه أن نقول : لا بعد في حمل ما استشهدتم به على ما ذكرتموه ، وإنما استدللنا بالآيات المفصلة المخصصة للهدى بقوم والضلالة بآخرين ، مع التنصيص على ذكر الإسلام وشرح الصدور وحرجه له. ولا مجال لتأويلاتهم المزخرفة في النصوص التي استدللنا بها.

وأما آيات الطبع والختم ، فمنها قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [سورة البقرة : ٧] ؛ وقوله تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [سورة النساء : ١٥٥] ؛ وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الأنعام : ٢٥] ؛ وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) [سورة المائدة : ١٣].

وقد حارت المعتزلة في هذه الآيات ، واضطربت لها آراؤهم ، فذهبت طائفة من البصريين إلى حملها على تسمية الرب تعالى الكفرة بنبذ الكفر والضلال ؛ قالوا : فهذا معنى الطبع.

ولا خفاء بسقوط هذا الكلام ، فإن الرب تعالى تمدح بهذه الآيات وأنبأ بها عن اقتهاره واقتداره على ضمائر العباد وإسرارهم. وبين أن القلوب بحكمه يقلبها كيف يشاء ، وصرح بذلك في قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [سورة الأنعام : ١١٠] الآية. فكيف يستجاز حمل هذه الآيات على تسمية وتلقيب؟ وكيف يسوغ ذلك للبيب؟ والواحد منا لا يعجز عن التسميات والتلقيبات ، فما وجه استيثار الرب بسلطانه؟

وحمل الجبائي وابنه هذه الآيات على محمل بشيع مؤذن بقلة اكتراثهما بالدين ، وذلك أنهما قالا : من كفر وسم الله قلبه سمة يعلمها الملائكة ، فإذا ختموا على القلوب تميزت لهم قلوب الكفار من أفئدة الأبرار. فهذا معنى الختم عندهما ، وما ذكراه مخالفة لنص الكتاب وفحوى الخطاب ؛ فإن الآيات نصوص في أن الله تعالى يصرف بالطبع والختم عن سنن الرشاد من أراد صرفه من العباد ؛ قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [سورة الأنعام : ٢٥] ، فاقتضت الآيات كون الأكنة مانعة من إدراك الإيمان. والسمة التي اخترعوا القول بها ، لا تمنع من الإدراك.

وإلى متى نتعدى غرضنا في الاختصار ، وقد وضح الحق وحصحص ، واستبان عناد المخالفين في تأويلاتهم! والله الموفق للصواب.

باب

القول في الاستطاعة وحكمها

العبد قادر على كسبه ، وقدرته ثابتة عليه. وذهبت الجبرية إلى نفي القدرة ، وزعموا أن ما

٨٩

يسمى كسبا للعبد أو فعلا له ، فهو على سبيل التوسع والتجوز في الإطلاق ، والحركات الاختيارية والإرادية بمثابة الرعدة والرعشة.

والدليل على إثبات القدرة ، أن العبد إذا ارتعدت يده ، ثم إنه حركها قصدا ، فإنه يفرق بين حالته في الحركة الضرورية وبين الحالة التي اختارها واكتسبها ، والتفرقة بين حالتي الاضطرار والاختيار معلومة على الضرورة. ويستحيل رجوعها إلى اختلاف الحركتين ، فإن الضرورة مماثلة للاختيارية قطعا ؛ فكل واحدة من الحركتين ذهاب في الجهة الواحدة وانتقال إليها ، ولا وجه لادّعاء افتراقهما بصفة مجهولة تدّعى ، فإن ذلك يحسم طريق العلم بتماثل كل مثلين ؛ فإذا لم ترجع التفرقة إلى الحركتين ، تعين صرفها إلى صفة المتحرك.

ثم نسلك بعد ذلك سبيل السبر والتقسيم في إثبات القدرة ، على ما سبق التنبيه عليه عند محاولة الدليل على إثبات الأعراض ، فنقول : يستحيل رجوع التفرقة إلى نفس الفاعل من غير مزيد ، فإن الأمر لو كان كذلك لاستمرت صفة النفس ما دامت النفس.

فإذا رجعت التفرقة إلى زائد على النفس ولم يخل ذلك الزائد : إما أن يكون حالا ، أو عرضا. وباطل أن يكون حالا ، فإن الحال المجردة لا تطرأ على الجواهر ، بل تتبع موجودا طارئا كما قدمناه ؛ وإن كان ذلك الزائد عرضا ، يتعين كونه قدرة ، فإنه ما من صفة من صفات المكتسب غير القدرة إلا ويتصور ثبوتها مع انتفاء الاقتدار ، وتنتفي معظم الصفات المغايرة للقدرة ، مع ثبوت القدرة. ولسنا نستوعب الأقسام في مقدم الكلام ، بل نجتزئ بالتنبيه عليه.

فإن قيل : بم تنكرون على من يصرف التفرقة إلى ثبوت الإرادة والكراهية؟ قلنا : العاقل يفرق بين تحريكه يده وبين ارتعاده وإن لم يكن له إرادة في حالتي غفلته وذهوله.

فإن قيل : بم تردون على من يصرف التفرقة إلى صحة في الجارحة وبنية مخصوصة ، وإلى انتفائها؟ قلنا : هذا باطل من أوجه ، أقربها إلى غرضنا : أن الأيّد الصحيح البنية يفرق بين أن يحرك يد نفسه قصدا ، وبين أن يحرك الغير يده ، وإن كانت بنية يده في الحالتين على صفة واحدة. فإذا بطلت هذه الأقسام ، تعين التنصيص على القدرة ، وهذا سبيلنا في تعيين كل غرض ينازع فيه.

فصل

القدرة الحادثة عرض من الأعراض عندنا ، وهي غير باقية ، وهذا حكم جميع الأعراض عندنا ، وأطبقت المعتزلة على بقاء القدرة والدليل على استحالة بقاء جميع الأعراض أنها لو بقيت لاستحال عدمها.

ونفرض هذا الدليل في القدرة ثم نستبين اطراده فيما عداها ، فنقول : لو بقيت القدرة ثم قدّر عدمها لم يخل القول في ذلك : إما أن يقدر انتفاؤها بطريان ضد ، وهو مذهب المخالفين ؛ وإما أن

٩٠

يقدر انتفاؤها بانتفاء شرط لها. وباطل تقدير عدمها بطريان ضد ، فإنه ليس الضد الطارئ بنفي القدرة أولى من درء القدرة الضد ومنعها إياه من الطريان. ثم إذا تعاقب ضدان ، فالثاني يوجد في حال عدم الأول ، فإذا تحقق عدمه فلا حاجة إلى الضد ، وقد تصرم ما قبله.

وباطل أن يقال تنتفي القدرة بانتفاء شرط لها فإن شرطها لا يخلو : إما أن يكون عرضا ، وإما أن يكون جوهرا ، فإن كان عرضا : فالكلام في بقائه وانتفائه كالكلام في القدرة ، وإن كان جوهرا فلا يتصور مع القول ببقاء الأعراض انتفاء الجواهر ، فإن سبيل انتفائها قطع الأعراض عنها فإذا قضى ببقاء الأعراض لم يتصور عدمها ؛ فإذا امتنع تقدير عدمها امتنع عدم الجواهر ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في الصفات.

ويبطل المصير إلى أن القدرة تعدم بإعدام الله إياها فإن الإعدام هو العدم ، والعدم نفي محض ؛ ويستحيل أن يكون المقدور نفيا ؛ إذ لا فرق بين أن يقال : لا مقدور للقدرة ، وبين أن يقال مقدورها منتف.

فصل

إذا ثبت استحالة بقاء القدرة الحادثة فإنها تفارق حدوث المقدور بها ، ولا تتقدم عليه ، ولو قدرنا سبق الاعتقاد إلى بقاء القدرة الحادثة لما استحال تقدمها على وقوع مقدورها ، ولذلك يجب القطع بتقدم القدرة الأزلية على وقوع المقدورات بها. فلما ثبت أن القدرة الحادثة لا تبقى ، ترتب على ذلك استحالة تقدمها على المقدور ، فإنها لو تقدمت عليه لوقع المقدور مع انتفاء القدرة ، وذلك مستحيل لما سنذكره إن شاء الله عزوجل.

فصل

الحادث في حال حدوثه مقدور بالقدرة القديمة ، وإن كان متعلقا للقدرة الحادثة فهو مقدور بها. وإذا بقي مقدور من مقدورات الباري تعالى ، وهو الجوهر ، لا يبقى غيره من الحوادث ، فلا يتصف في حال بقائه واستمرار وجوده بكونه مقدورا إجماعا.

وذهبت المعتزلة إلى أن الحادث في حال حدوثه ، يستحيل أن يكون مقدورا للقديم والحادث ، وهو بمثابة الباقي المستمر ، وإنما تتعلق القدرة بالمقدور في حالة عدمه. وقالوا على طرد ذلك : يجب تقديم الاستطاعة على المقدور ، ويجوز مقارنة ذات القدرة حدوث المقدور من غير أن تكون متعلقة به حال وقوعه.

والدليل على أن الحادث مقدور ، وأن الاستطاعة تقارن الفعل ، أن نقول : القدرة من الصفات

٩١

المتعلقة ، ويستحيل تقديرها دون متعلق لها ، فإن فرضنا قدرة متقدمة ، وفرضنا مقدورا بعدها في حالتين متعاقبتين فلا يتقرر على أصول المعتزلة تعلق القدرة بالمقدور. فإنا إذا نظرنا إلى الحالة الأولى ، فلا يتصور فيها وقوع المقدور ، وإن نظرنا إلى الحالة الثانية فلا تعلق للقدرة فيها. فإذا لم يتحقق في الحالة الأولى إمكان ، ولم يتقرر في الحالة الثانية اقتدار ، فلا يبقى لتعلق القدرة معنى.

ونعتضد بعد ذلك بوجهين ، أحدهما أن المقدور لا يخلو : إما أن يكون عدما ، وإما أن يكون وجودا ؛ ويستحيل كونه عدما فإنه نفي محض ، والموجود عند المخالفين غير مقدور. والوجه الثاني أنهم زعموا أن الحادث بمثابة الباقي في استحالة كونه مقدورا. ثم الإمكان في الحالة الأولى من وجود القدرة ، والحالة المتوقعة بعدها ليست حالة تعلق القدرة ؛ فإن ساغ ذلك فليكن الباقي مقدورا في الحالة الأولى من القدرة ، كما أن الحادث مقدور قبل وقوعه في الحالة الأولى من القدرة ، ولا محيص لهم عن ذلك.

فإن قالوا : الحادث واقع كائن ، والحاجة تمس إلى القدرة للإيقاع بها ؛ وإذا تحقق وقوع الحادث بها انتفت الحاجة إلى القدرة ، وينزل الحادث منزلة الباقي المستمر. قلنا : هذا الذي ذكرتموه يبطل بالحكم المعلل بالعلة الموجبة له ، فإن الحكم في حال ثبوته تقارنه العلة ، وليس لقائل أن يقول : إذا ثبت الحكم لم يحتج مع ثبوته إلى تقدير علة مقارنة له. وكذلك السبب المولّد ، قد يقارن وقوع المسبب ويجب ذلك فيه ، كما نذكره بعد الاستطاعة إن شاء الله عزوجل.

ثم حق العاقل أن يفرض في تصوره ثلاثة أحوال : حالة عدم ، وحالة حدوث بعدها ، وحالة بقاء بعد الحدوث. فأما حالة العدم فجارية على استمرار الانتفاء ؛ وأما الحالة الثانية فلو كانت لا تتعلق بالقدرة فيها لاستمر العدم ، فلما تعلقت القدرة كان الوجود بدلا من العدم المجوز استمراره ؛ وأما الحالة الثالثة ، فقد استمر الوجود فيها ، فلا حاجة إلى تقدير تعلق القدرة.

ثم ، قد التزمت المعتزلة أمرا لا خفاء ببطلانه ، فقالوا : إذا تقدمت القدرة على المقدور بحالة واحدة ، فيجوز أن يقع في الحالة الثانية عجز مضاد للقدرة. ثم العجز يظهر أثره في الحالة الثالثة من وجود القدرة ، وهي الحالة الثانية من وجود العجز ، فيجوز عندهم وقوع المقدور في الحالة الثانية ، مع العجز. وكذلك لو مات القادر في الحالة الثانية ، تصور وقوع المقدور مع الموت ، إذ لم يكن الفعل المقدور مشروطا بالحياة. ولا يرتضي عاقل ركوب هذه الجهالة.

فإن قيل : كل صفتين متعلقتين متضادتين ، فإنهما يثبتان على قضية واحدة مع التناقض في التعلق. فإذا حكمتم بأن القدرة الحادثة تقارن المقدور ، فيلزمكم أن تحكموا بمقارنة العجز المعجوز عنه ، وذلك مستحيل ، فإن المرء يعجز عما يتوقعه في المآل. وقد جبن بعض أصحابنا وحكم بأن العجز يتقدم على المعجوز عنه ، بخلاف القدرة ، وذلك باطل : فإن العجز ينبغي أن يتعلق على حسب تعلق القدرة ، مع التناقض المعتقد بين الضدين ، ولذلك لا يتصور العجز عما لا يتصور الاقتدار عليه.

٩٢

فاعلم ذلك ، واقطع بأن من قال : العبد عاجز عن الأجسام والألوان ، فهو متجوز. والمراد بالعجز المتجوز به انتفاء القدرة ، وهذا كما أن الجهل ضرب من الاعتقاد. وقد يسمى الغافل عن الشيء جاهلا به ، وإن لم يكن معتقدا شيئا ؛ فيخرج من ذلك أن المضطر إلى رعدته عاجز عنها معها ، كما أن المتحرك على اختيار قادر على حركته مع حركته.

فصل

القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بمقدور واحد ، وقد ذهبت المعتزلة إلى أن القدرة تتعلق بالمضادات ، وذهب الأكثرون منهم إلى تعلقها بالمختلفات التي لا تتضاد. ثم أصلهم أن القدرة الحادثة تتعلق بما لا نهاية له من المقدورات على تعاقب الأوقات. وهم متفقون على أن القدرة الواحدة لا يتأتى بها إيقاع مثلين ، في محل واحد جميعا في وقت واحد وإنما يقع مثلان كذلك بالقدرتين. فإن كثرت أعداد الأمثال ، مع اتحاد المحل والوقت ، كثرت القدر على عدتها.

والأولى بنا بناء هذه المسألة على التي قبلها ، فنقول في منع تعلق القدرة الحادثة بالضدين : لو تعلقت بهما لقارنتهما ، ومن ضرورة ذلك اقترانهما ، وهو باطل على الضرورة. فإن استحالة اجتماع الضدين مدركة بالبداية ، وإن فرضنا الكلام في المختلفات التي لا تتضاد قلنا : لو تعلقت قدرة واحدة بكل ما يصح أن يكون مقدورا للعبد ، لوجب أن تكون القدرة القادرة على الدبيب قادرة على اكتساب جميع العلوم والإرادات ونحوها من المقدورات. وهذا مما يعلم بطلانه ، ويستغني فيه عن سبر نظر وتقسيم فكر. ثم البناء على المسألة المتقدمة يطرد في هذا الطرف.

فنقول : للمخالفين إذا حكمتم بأن القدرة الواحدة تتعلق بالضدين ، فلم يختص أحد الضدين بالوقوع بالقدرة بدلا عن الثاني؟ فإن قالوا : إنما يقع من الضدين ما تجرد القصد إليه ، ولذلك يختص بالوقوع ، فهذا باطل من وجهين : أحدهما أن الغافل والنائم قد يقع منهما أحد الضدين من غير إرادة ، وصلاح القدرة للواقع كصلاحها للذي لم يقع : والوجه الثاني ، أن نقول : إذا وقعت الإرادة مقدورة ، والكراهية التي هي ضد لها مقدورة أيضا ، فما بال الإرادة اختصت بالوقوع ، والإرادة لا تراد عند كم؟ ولا مخلص للمعتزلة من هذا المضيق والواقع عندنا مقدور ، ولذلك وقع بخلق القدرة عليه ، مع القطع بأنها لا تصلح لغير ما وقع.

ومما ألزم المعتزلة في ذلك ، أن يقال لهم : الغفلة تضاد العلم ؛ ولذلك يعدم العلم عندكم بطريان الغفلة كما يعدم السواد بطريان البياض ، فيجب أن يكون القادر على العلم بالشيء قادرا على الغفلة عنه ، ومعلوم قطعا أن الغفلة غير مقدورة. وللمعتزلة في ذلك خبط لا يحتمل هذا المعتقد ذكره.

فإن قالوا : سبيل القادر أن يتخير بين الإقدام على الشيء والانفكاك عنه ، وإنما يتحقق ذلك

٩٣

عند التمكن من الضدين. ولو كانت القدرة لا تتعلق إلا بمقدور واحد ، لكان العبد ملجأ إليه غير واجد عنه محيصا. وهذا الذي ذكروه دعوى محضة ، واقتصار على ذلك المذهب. فليس من شرط القدرة على شيء القدرة على تركه ، وسبيل تعلق القدرة الحادثة بمقدورها كسبيل تعلق العلم بالمعلوم ، وليس من شرط تعلق العلم بالمعلوم أن يتعلق بضد له.

ثم ما ذكروه لا يستقيم منهم ، مع مصيرهم إلى أن الممنوع قادر على ما منع منه. وأصلهم أن المقيد المربوط قادر على المشي والتصعد في الهواء. فإذا ساغ لهم الحكم بإثبات القدرة مع امتناع وقوع المقدور ، لم يبعد منا إثبات القدرة على الشيء من غير اقتدار على ضده.

فصل

فإن قيل : قد شاع من مذهب شيخكم تجويز تكليف ما لا يطاق ، فأوضحوا ما ترتضونه منه ، وأيدوه بالدليل بعد تصوير المسألة. قلنا : تكليف ما لا يطاق تكثر صوره. فمن صوره تكليف جمع الضدين ، وإيقاع ما يخرج عن قبيل المقدورات. والصحيح عندنا أن ذلك جائز عقلا غير مستحيل. واختلف جواب شيخنا رضي الله عنه في جواز تكليف من لا يعلم ، كالمغشيّ عليه والميت.

والدليل على جواز تكليف المحال ، الاتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعدا حالة توجه الأمر عليه ، وقد أقمنا الدليل القاطع على أن القاعد غير قادر على القيام. فإذا جاز كون القيام مأمورا به قبل القدرة عليه ، وإن كان ذلك غير ممكن ، فلا يبقى لاستحالة تكليف المستحيل وجه.

فإن قيل : القيام ممكن على الجملة ، بخلاف جمع الضدين ؛ قيل : وقوع القيام مقدورا من غير قدرة عليه مستحيل كجمع الضدين ، وإنما المأمور به قيام مقدور عليه.

فإن قيل : المأمور بالقيام منهي عن تركه ؛ فلئن كان القاعد ، في حال قعوده ، غير قادر على القيام المأمور به ، فهو قادر على القعود المنهي عنه ، وهو متعلّق التكليف. وهذا أقرب وجه ذكر في ذلك ، وهو على التحصيل باطل من وجهين : أحدهما أن الأمر بالترقي في السماء من تكليف المحال عند نفاته ، وإن كان الاستقرار على الأرض مقدورا ممكنا ، وهو ضد للترقي والتحليق في جو السماء. والوجه الآخر أن القعود وإن كان منهيا عنه ، فليس المقصود القعود ، بل المقصود بالطلب ما لا قدرة عليه وهو التحلّق في جو السماء.

فإن قالوا : الأمر بالضدين ينبئ عن طلب جمعهما ، وطلب الجمع يتطلب إرادة ، وإرادة جمع الضدين مستحيلة ؛ قلنا : هذا مبنيّ على أن المأمور به يجب أن يكون مرادا للآمر ، وليس الأمر كذلك عندنا. فإن الرب تعالى يأمر الكافر بالإيمان ، وإذا كان شقيا في حكمه لا يريد منه وقوع الإيمان.

فإن قيل : ما جوزتموه عقلا ، هل اتفق وقوعه شرعا؟ قلنا : قال شيخنا ذلك واقع شرعا ، فإن الله تعالى أمر أبا لهب أن يصدق النبي ويؤمن به في جميع ما يخبر به ، ومما أخبر به أنه لا يؤمن

٩٤

به ؛ فقد أمره أن يصدقه بأنه لا يصدقه ، وذلك جمع نقيضين. وقد نطقت آي من كتاب الله تعالى بالاستعاذة من تكليف ما لا طاقة به ، فقال تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) [سورة البقرة : ٢٨٦] ؛ فلو لم يكن ذلك ممكنا ، لما ساغت الاستعاذة منه.

فصل

فإن قيل : بم علمتم خروج الألوان والطعوم ونحوها عن كونها مقدورة للعباد؟ قلنا : لو كانت مقدورة لهم على الجملة لاتصفوا بالعجز عنها إذا لم يقدروا عليها ، إذ المحل لا يخلو عن الشيء وضده. فإن قيل : ما يؤمنكم أنهم عاجزون عنها؟ قلنا : لو عجزوا عنها لأحسوا عجزهم ، إذ العجز مما يحس كالعلوم والإرادات ونحوها. والدليل عليه أن العجز عما يجوز أن يكون مقدورا ، يجب أن يكون مدركا عند انتفاء الآفات المانعة من العلوم. ثم لا يجب إدراكه لكونه عرضا ، ولا لصفة أخرى سوى كونه عجزا ، فيلزم إدراك كل عجز لذلك. فإذا لم يدرك عجزا عن الألوان ولا اقتدارا عليها ، قطعنا بخروجها عن قبيل المقدورات. والله الموفق للصواب.

فصل

ما علم الباري سبحانه أنه لا يقع من الحوادث ، فإيقاعه مقدور له. ويتبين ذلك بالمثال أن إقامة الساعة مقدورة لله في وقتنا ، وإن علم أنها لا تقع ناجزة ، وقد اضطرب المتكلمون في هذا الفصل ، ولا محصول للاختلاف فيه عندي.

فإن المعنى بكون المعلوم الذي لا يقع مقدورا لله تعالى أنه في نفسه ممكن ، وأن القدرة عليه في نفسها صالحة له ، لا يقصر تعلقها عنه حسب قصور تعلق القدرة الحادثة عن الألوان ؛ فهذا المعنى بكونه مقدورا ، ثم ما علم الله أنه لا يقع ، فإنه لا يقع قطعا.

فصل

القدرة الحادثة لا تتعلق إلا بقائم بمحلها ، وما يقع مباينا لمحل القدرة فلا يكون مقدورا بها ، بل يقع فعلا للباري تعالى من غير اقتدار العبد عليه. فإذا اندفع حجر عند اعتماد العبد عليه ، فاندفاعه غير مقدور للعبد عند أهل الحق.

وذهبت المعتزلة إلى أن ما يقع مباينا لمحل القدرة ، أو للجملة التي محل القدرة منها ، فيجوز وقوعه متولدا عن سبب مقدور مباشر بالقدرة. فإذا اندفع الحجر عند الاعتماد عليه ، فاندفاعه متولد عن الاعتماد القائم بمحل القدرة.

٩٥

ثم المتولد عندهم فعل لفاعل السبب ، وهو مقدور له بتوسط السبب. ومن المتولدات ما يقدم بمحل القدرة كالعلم النظري المتولد عن النظر القائم بمحل القدرة ، في خبط وتفصيل طويل واختلاف فيما يولد وفيما لا يولد ؛ وليس غرضنا التعرض لتفاصيل مذهبهم.

والدليل على صحة ما صار إليه أهل الحق أن الذي وصفوه بكونه متولدا لا يخلو ؛ إما أن يكون مقدورا ، أو غير مقدور. فإن كان مقدورا ، كان ذلك باطلا من وجهين : أحدهما أن السبب على أصولهم موجب للمسبب عند تقدير ارتفاع الموانع ، فإذا كان المسبب واجبا عند وجود السبب أو بعده فينبغي أن يستقل بوجوبه ، ويستغني عن تأثير القدرة فيه. ولو تخيلنا اعتقاد مذهب المتولد ، وخطر لنا وجود السبب وارتفاع الموانع ، واعتقدنا مع ذلك انتفاء القدرة أصلا ، فيوجد المسبب بوجود السبب جريا على ما قدمناه من الاعتقادات. والوجه الثاني أن المسبب لو كان مقدورا لتصور وقوعه دون توسط السبب ؛ والدليل عليه أنه لما وقع مقدورا للباري تعالى إذا لم يتسبب العبد إليه ، فإنه يقع مقدورا له تعالى من غير افتقار إلى توسط سبب.

فإن قالوا : الباري سبحانه وتعالى قادر بنفسه ، والعبد قادر بالقدرة ، والقادر بالنفس يخالف القادر بالقدرة ، ولذلك يتصف بالاقتدار على أجناس لا يقدر عليها العباد بالقدرة ؛ قلنا : هذا لا تحصيل له ، فإن القدرة عندكم لا تؤثر في إيقاع المقدور شاهدا ، وإنما الموقع للفعل كون القادر قادرا. ثم هذا الحكم شاهدا يعلل بالقدرة ، وهو غائب غير معلل لوجوبه وامتناع تعليل الواجب عندكم. ولذلك زعمتم أن أثر كون القادر قادرا شاهدا وغائبا الاختراع ، وقضيتم باختصاص العبد بمقدورات لا تتناهى ، ولا يغنيكم بعد ذلك مناقضتكم أصلكم في الحكم بخروج بعض الأجناس عن مقدورات العباد. وأنتم مطالبون في ذلك بما أنكرتموه ؛ فلم ينفعكم الاسترواح إلى القواعد الفاسدة والطلبة عليكم متوجهة في التسوية بين الشاهد والغائب في حكم المقدورات.

فإذا بطل بما ذكرناه كون المتولد مقدورا للعبد ، وهو القسم الذي اعتنينا بإبطاله ، وهذا يبطل مذهب كافة المعتزلة ، فلا يبقى بعد ذلك إلا الحكم بكون المتولد غير مقدور ؛ فإن قضى بذلك قاض كان مصرحا بأنه ليس فعلا لفاعل السبب. فإن شرط الفعل كونه مقدورا للفاعل. وإذا جاز ثبوت فعل لا فاعل له ، جاز أيضا المصير إلى أن ما نعلمه من جواهر العالم وأعراضه ليست فعلا لله ، ولكنها واقعة عن سبب مقدور موجب لما عداه ، وذلك خروج عن الدين وانسلال من مذهب المسلمين.

ثم المصير إلى التولد ، يجر على معتقده فضائح تأباها العقول ، ويدرك فسادها بالبداية. وذلك أن من رمى سهما ، ثم اخترمته المنية قبل اتصال السهم بالرمية ، ثم اتصل بها وصادف حيا ، ولم يزل الجرح ساريا إلى الإفضاء إلى زهوق الروح في سنين وأعوام ، وكل ذلك بعد موت الرامي ، فهذه السرايات والآلام أفعال للرامي وكل ذلك بعد موت الرامي وقد رمت عظامه ، ولا مزيد في الفساد على نسبة قتل إلى الميت.

٩٦

وكل ما دللنا به على تفرد الباري سبحانه بخلق كل حادث ، فهو جار في هذا الفصل ردا على من يزعم المتولدات مخترعة لفاعل الأسباب.

فإن قالوا : وجدنا المسببات واقعة على حسب القصود والدواعي ومبالغ الأسباب ، كما أن المقدورات المباشرة بالقدرة القائمة بمحالها تقع على حسب الدواعي والقصود ؛ فهذا الذي ذكروه مما نقضناه في خلق الأعمال ، وأوضحنا بطلان التعويل عليه.

ثم إن ما ذكروه يبطل بما يساعدوننا على كونه غير متولد ، كالشبع والري والسقم والبرء والموت عند معظم المعتزلة ، والحرارة عند احتكاك جسم بجسم مع تحامل واعتماد ، وسقط الزناد عند الاقتداح ، وفهم المخاطب وخجله ووجله عند الأفهام والتخجيل والتخويف ؛ فكل ذلك ، وما جرى مجراه ، غير متولد عند الخصوم. وإن كان ما طردوه عند الوقوع على حسب القصود ، مطردا فيها. فإن قالوا : ما استشهدتم به يختلف الأمر فيه ، ولا يطرد على وتيرة واحدة ، قلنا : فكذلك سبيل الرمي والجرح ورفع الثقيل وشيله وكل ما يتنازع فيه.

فصل

ذهبت الفلاسفة إلى أن الكون والفساد ، المعبر بهما عن تركيب العناصر الأربعة وانحلالها بعد التركيب ، من آثار الطبائع والقوى ؛ وما يجري في العالم المنحط عن فلك القمر ومداره ، من الاستحالات الضرورية ، فكلها آثار طبيعية ؛ وما يجري به في العالم العلوي العري عن النار والهواء والماء والأرض ، فهو من آثار نفوس الأفلاك وعقولها ، ثم تلك الآثار مستندة عندهم إلى الروحاني الأول ، وهو يستند إلى الموجود الأول ، وهو الباري على زعمهم ، وهو سبب الأسباب وموجبها.

وليس من مقتضى أصلهم أن الموجود الأول يخترع شيئا على اختيار في إيقاعه ، بل هو موجب للروحاني الأول ، ثم الروحاني الأول موجب للفلك ونفسه وعقله ؛ وكذلك القول في الفلك الأعلى مع الذي يليه إلى الانتهاء إلى فلك القمر ، والآثار العلوية متناسبة لا اختلاف فيها ولا يعتورها قبول اختلاف الأشكال ، والشمس لا يتصور تقديرها على هيئة أخرى غير الهيئة التي هي عليها ؛ وإنما يتعرض لقبول الأشكال المختلفة ، هيولى عالم الكون والفساد ويعبرون في هذه المواضع بالهيولى عن الجواهر ، ويعبرون عن أعراضها بالصورة.

ثم حقيقة أصلهم أن العالم العلوي ، وعالم الكون والفساد ، لا مفتتح لهما ، وهما مع الموجود الأول كالمعلول مع العلة. والأولى أن نقيم الدلالة القاطعة على حدث العالم ، وكل متعرض لاعتوار الأكوان عليه ، وفي إثبات ذلك نقض أصلهم.

ثم كل ما ذكروه تحكم لا محصول له. ولا يزال لهم في هذه المواقف ، التي يسمونها الإلهيات ، اصطبار على اعتبار النظار وامتحانهم إياهم بمسالك الحجاج. وهم يعترفون بذلك ،

٩٧

ويزعمون أن الإلهيات إنما يتوصل إليها بتهذيب القريحة ، والرياضيات التي هي خواص الأعداد والهندسة والطبائع وعلم الألحان. ومن تهذب بها قبل الإلهيات من غير حجاج.

ومن عجيب أمرهم ، أنهم يزرون على قواطع المتكلمين ، ويزعمون أنها مغالطات وأحسن رتبها الجدليات ، وليس منها الأقيسة البرهانية ؛ ثم يجتزون فيما هو المقصود بقبول الطبع له من غير حجاج ، مع أنه عندهم من أخفى الخفيات. فيقال لهم : هلا اكتفيتم بالموجود الأول في إيجاب كل ما عداه؟ وما الذي دلكم على إيجاب الروحاني الأول ثم إيجاب الروحاني ما دونه؟ وهل هذا إلا تحكم محض لا محصول له؟ ولا يحتمل هذا المعتقد أكثر من ذلك.

وأما ما سموه طبائع فيما دون فلك القمر ، فلا محصول له ، فإنهم عنوا بكل ما أشاروا إليه اجتماع العناصر على أقدار ؛ فإن عنوا باجتماعها يداخلها فذلك محال ، لأن المتحيز لا يقوم بحيث متحيز. ولو جاز قيام متحيز بحيث متحيز لجاز رجوع العالم إلى حيز خردلة ، من غير تقدير عدم شيء منها ، وهذا معلوم بطلانه على الضرورة ، ولو تداخلت العناصر اجتمعت في الحيز الواحد الحرارة التي هي صورة النار ، والرطوبة التي هي صورة الهواء ، والبرودة التي هي صورة الماء ، واليبوسة التي هي صورة الأرض ، وذلك معلوم بطلانه بضرورة العقل. فإن زعموا أن العناصر تتجاوز ، وكل عنصر مختص بحيزه منفرد بصورته ؛ فينبغي أن تبقى بسائط على صورها في مراكزها ، والعناصر متحيزة فإنها شواغل أحياز ذوات أشكال ، وهي أجزاء هيولانية على صور. فاكتفوا بذلك في هذا المعتقد.

فصل

لما رأينا هذا الفصل متعلقا بأحكام الإرادة ، وخلق الأعمال ، ومتعلقات القدر ، رأينا تقديم هذه الأصول. وقد حان أن نذكر مذهب أهل الحق في إرادة الكائنات ، والرد على مخالفيهم.

فمذهبنا أن كل حادث مراد الله تعالى حدوثه ، ولا يختص تعلق مشيئة الباري بصنف من الحوادث دون صنف ، بل هو تعالى مريد لوقوع جميع الحوادث : خيرها وشرها ، نفعها وضرها.

ومن أئمتنا من يطلق ذلك عاما ، ولا يطلقه تفصيلا. وإذا سئل عن كون الكفر مرادا لله تعالى ، لم يخصص في الجواب ذكر تعلق الإرادة به ، وإن كان يعتقده ، ولكنه يجتنب إطلاقه لما فيه من إيهام الزلل ، إذ قد يتوهم كثير من الناس أن ما يريده الله تعالى يأمر به ويحرض عليه ؛ ورب لفظ يطلق عاما ولا يفصل. فإنك تقول : العالم بما فيه لله تعالى ؛ وإن فرض سؤال في ولد أو زوجة ، لم تقل الزوجة والولد لله تعالى ؛ ومن حقق من أئمتنا ، أضاف تعلق الإرادة إلى كل حادث : معمما ومخصصا ، مجملا ومفصلا.

ومما اختلف أهل الحق في إطلاقه ، ومنع إطلاقه ، المحبة والرضا فإذا قال القائل : هل يحب الله تعالى كفر الكفار ويرضاه؟ فمن أئمتنا من لا يطلق ذلك ويأباه. ثم هؤلاء تحزبوا حزبين :

٩٨

فقال بعضهم : المحبة والرضا يعبر بهما عن إنعام الله تعالى وإفضاله ، وهما من صفات أفعاله ، وإذا قيل «أحب الله تعالى عبدا» ، فليس المراد به تحننا عليه وميلا إليه ، بل المراد إنعامه على عبده. ومحبة العبد لربه تعالى إذعانه له وانقياده لطاعته ، فإنه تعالى يتقدس عن أن يميل أو يمال إليه.

ومن هؤلاء من يحمل المحبة والرضا على الإرادة ، ولكنه يقول : إذا تعلقت الإرادة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضا ، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا. ومن حمل المحبة على صفات الأفعال ، حمل السخط أيضا عليها.

ومن حقق من أئمتنا لم يكع عن تهويل المعتزلة ، وقال المحبة بمعنى الإرادة وكذلك الرضا ، والرب تعالى يحب الكفر ، ويرضاه كفرا معاقبا عليه. فإذا ثبت أن المحبة هي الإرادة ، فيترتب على ذلك أمر معترض في الفصل ليس من مقصوده.

وهو أن تعلم أن الرب تعالى لا تتعلق به المحبة على الحقيقة ، فإن الإرادة لا تتعلق إلا بمتجدد ، والرب تعالى أزلي لا أول له ؛ وإنما يريد المريد أن يكون ما ليس بكائن ويجوز كونه ، وإن يعدم ما يجوز عدمه ، وما ثبت قدمه واستحال عدمه ، لم تتعلق به الإرادة.

والذي يكشف الحق في ذلك ، أن اجتماع الضدين لما كان مستحيلا ، وكانت استحالة واجبة ، يمتنع أن يريد المريد استحالة اجتماع الضدين. وكذلك من اعتقد أن كون السواد سوادا واجب ، فيستحيل منه أن يريد أن يكون السواد سوادا ، مع اعتقاده وجوبه وتقديره استمرار الوجود له. ثم يرجع بنا الكلام إلى غرض الفصل.

قالت المعتزلة : الرب تعالى مريد لأفعاله سوى الإرادة والكراهة وهو مريد لما هو طاعة وقربة من أفعال العباد ، كاره للمحظورات من أفعالهم. وأما المباح منها ، وما لا يدخل تحت التكليف من مقدورات البهائم والأطفال ، فالرب عندهم لا يريدها ولا يكرهها.

ولنا في سبر ذلك مسلكان في العقل : أحدهما البناء على خلق الأفعال ، وقد بينا أن كل خلق فالله عزوجل ربه وخالقه. ثم يجب من ذلك كونه تعالى مريدا لكل حادث ، قاصدا إلى إيقاعه واختراعه. والثاني أن نخصص العقل بطرق مغنية عن البناء ، مشوبة بالسمع ، وموجب الشرع.

فمما يستدل به أن نقول : اتفق مثبتو الصانع تعالى على تعاليه وتقدسه عن سمات النقص ووضر القصور ؛ ثم اتفق أرباب الألباب على أن نفوذ المشيئة أصدق آيات السلطان وأحق دلالات الكمال ، ونقيض ذلك دليل نقيضه. فإذا زعمت المعتزلة أن معظم ما يجري من العباد ، فالرب سبحانه وتعالى كاره له وهو واقع على كراهته ، فقد قضوا بالقصور ؛ وقالوا : أراد الرب ما لم يكن ، وكان ما لم يرد ، ولم تنفذ إرادته في خليقته ، ولم تجر مشيئته في مملكته ، ووقع كثير من الحوادث كما أراد إبليس وجنوده.

وللمعتزلة مراوغات في محاولة دفع ذلك ، يهون مدرك جميعها والتّفصّي عنها. ونحن نذكر ما يخيلون به ، ويستذلون به الطعام والعوام.

٩٩

فمما ذكروه أن قالوا : الرب تعالى قادر على إلجاء الخلق واضطرارهم إلى الإيمان ، بأن يظهر آية تظل لها أعناق الجبابرة خاضعة. وإنما كان يلزم وصفه بالقصور لو لم يكن مقتدرا على سوق الخلق اقتهارا وإقسارا إلى ما أراد.

وهذا الذي ذكروه تلبيس لا تحصيل له. فإنهم مطبقون على أن الرب لا يخلق إيمان المؤمنين وطاعة المطيعين ، وإنما المعنيّ بالإلجاء عندهم إظهار آيات هائلة يؤمن عندها الكفار. والذي ذكروه لا تحصيل له ؛ فإنه ربما يقع في المعلوم أن طوائف من الكفرة يصرون على كفرهم ولا يذعنون للحق ، وإن عظمت الآيات ، وهذا غير بعيد في جائزات العقول. والذي يقرره أن المعتزلة قالوا : رب عبد يعلم الرب تعالى أنه ليس في المقدور لطف يفعله الباري تعالى به فيؤمن عنده ، فإذا لم يكن ذلك بعيدا في اللطف ، لم يبعد في الآيات المخوفة.

والذي يقطع هذا التشغيب أن نقول : لو ألجئوا لما كان إيمانهم مثابا عليه عندكم ، ولو قدر ذلك لكان قبيحا ، والرب سبحانه لا يريد القبائح على زعمكم ، وإنما يريد الإيمان المثاب عليه. ومن ضرورة الاختيار انتفاء الإلجاء والاضطرار ، فالذي أراده لا يقدر على تحصيله ، والذي يقدر عليه يستحيل أن يريده ؛ تعالى الله عن قول الزائفين.

فإن قالوا : إذا جاز أن يكون ما نهى عنه ولا يكون ما أمر به ، فلا يمتنع أيضا أن يقع ما يكره ولا يقع ما يريد. وهذا ساقط من الكلام ؛ فإن ما لم يقع مما أمر به ، إنما لم يقع لأنه لم يرد أن يقع ، فلم يأت عدم الوقوع من صفة غيره فيلزم قصوره ؛ وإذا لم يقع ما أراد ، فقد أتى قصوره الإرادة من جهة غيره. فشتان بين ما ألزمونا به ، وبين ما ألزموه.

ومما يقوي التمسك به إجماع السلف الصالحين ، قبل ظهور الأهواء واضطراب الآراء ، على كلمة متلقاة بالقبول غير معدودة من المجملات المتأولات ، وهي قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

ومما يطيش عقولهم ، اتفاق العلماء قاطبة على أن المديون القادر على إبراء ذمته ، إذا قال : والله لأقضين حق غريمي غدا إن شاء الله عزوجل ، فإذا انصرم الأجل المضروب والأمد المرقوب ولم يقضه ، فلم يحنث الحالف لاستثنائه بمشيئة الله ، وينزل ذلك منزلة ما لو قال : لأقضين حقه غدا إن شاء زيد ، ثم استبهمت مشيئته ولم يحط بها. فلو كان الرب تعالى مريدا لقضاء الدين لا محالة ، لتنزل ذلك منزلة ما لو قال : لأقضين حق غريمي غدا إن شاء زيد ، ثم شاء زيد ولم يقضه فيحنث لا محالة.

ومما يقوي إلزامه ، أن نقول : الرب تعالى عندكم يريد إيمان الكافرين ، وذلك واجب في

١٠٠