كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

ذاتا ، لكان ذلك تشبيها منهم له بالحوادث ، إذ هي ذوات موجودات. وسلكوا مسلك النفي فيما يسألون عنه من صفات الإثبات. فإذا قيل لهم الصانع موجود ، أبوا ذلك ، وقالوا : إنه ليس بمعدوم.

وهذا الذي قالوه لا تحقيق له. فإنا نقول : باضطراد نعلم أنه ليس بين الانتفاء والثبوت درجة ؛ وهؤلاء إن نفوا الصانع أقيمت عليهم الدلائل في إثبات العلم به ، وإن أثبتوه لزمهم من إثباته ما حاذروه ، إذا الحوادث ثابتة تتضمن إثباته. فإن زعموا أن الصانع ثابت ولكن لا نسميه ثابتا ، لم يغنهم ذلك ؛ فإن التماثل والاختلاف يتعلقان بما يثبت عقلا ، دون ما يطلق في اللغات والتسميات ثم يلزمهم أن يصفوا الرب تعالى بالوجود ، ويمتنعوا من وصف الحوادث به ، ففي ذلك حصول غرضهم ؛ فبطل ما قالوه من كل وجه.

فإن قيل : فهل تطلقون القول بأن الله تعالى يماثل الحوادث في الوجود ، أم تأبون ذلك؟ قلنا : هذا ما لا سبيل إلى إطلاقه ؛ فإن القائل إذا قال الرب تعالى يماثل الحوادث ، فقد وصف ذاته بالمماثلة ، وإنما يشارك القديم الحادث في حكم واحد ، فلا وجه لإطلاق التشبيه والتمثيل عموما ، ثم رده إلى خصوص ، بل الوجه أن يقال : حقيقة الوجود تثبت على وجه واحد شاهدا وغائبا ، فيقع التعرض لما فيه الاشتراك دون ما عداه.

فإن قيل : ألستم تطلقون كونه مخالفا لخلقه ، وإن كان مشاركا للحوادث في الوجود؟ قلنا : المخالفة بين الخلافين لا تجري مجرى المماثلة ؛ فإن المماثلة من حقيقتها تساوي المثلين الموصوفين بها في جميع صفات النفس ، والمخالفة لا تقتضي الاختلاف في جميع الصفات ؛ إذ لا تتحقق المخالفة إلا بين موجودين ، فمن ضرورة إطلاق المخالفة التعرض لاشتراك المختلفين في الوجود. فلما اقتضت المماثلة تعميم الاشتراك في صفات النفس لم نطلقها ، والاختلاف ليس من موضوعه التباين في كل الصفات.

فصل

فإن قال قائل : قد ذكرتم أنه لا يمتنع اشتراك القديم والحادث في بعض صفات الإثبات ، ففصّلوا ما يختص بالحوادث من الصفات ، وهي تستحيل في حكم الإله. قلنا : نذكر أولا ما يختص الجواهر به. فمما تختص الجواهر به التحيز ، ومذهب أهل الحق قاطبة أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات.

وذهبت الكرّامية (١) وبعض الحشوية (٢) إلى أن الباري ، تعالى عن قولهم ، متحيز مختص بجهة

__________________

(١) شيخهم هو أبو عبد الله محمد بن كرّام السجستاني. دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده وكان يقول بأن الله مماسّ لعرشه وأن العرش مكان له تعالى الله عما يقول. انظر الفرق بين الفرق.

(٢) أيضا دعوا إلى التجسيم حتى قالوا : إن لله تعالى جسما.

٢١

فوق ، تعالى الله عن قولهم. ومن الدليل على فساد ما انتحلوه أن المختص بالجهات يجوز عليه المحاذاة مع الأجسام ، وكل ما حازى الأجسام لم يخل من أن يكون مساويا لأقدارها ، أو لأقدار بعضها ، أو يحازيها منه بعضه ، وكل أصل قاد إلى تقدير الإله أو تبعيضه فهو كفر صراح. ثم ما يحازي الأجرام يجوز أن يماسها ، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها كان حادثا ، إذ سبيل الدليل على حدث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق. فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحدث ما أثبتوا متحيزا ؛ وإن نقضوا الدليل فيما ألزموه ، انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجواهر.

فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه : ٥] ، فالوجه معارضتهم بآي يساعدوننا على تأويلها ، منها قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد : ٤] ، وقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [سورة الرعد : ٣٣]. فنسائلهم عن معنى ذلك ؛ فإن حملوه على كونه معنى بالإحاطة والعلم ، لم يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة ، وذلك شائع في اللغة ، إذ العرب تقول استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب. وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية ، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه.

فإن قيل : الاستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة ، قلنا : هذا باطل ، إذ لو أنبأ الاستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر. ثم الاستواء بمعنى الاستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق ، والتزام ذلك كفر. ولا يبعد حمل الاستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش ، وهذا تأويل سفيان الثّوري رحمه‌الله واستشهد عليه بقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [سورة فصلت : ١١] ، معناه قصد إليها.

فإن قيل : هلا أجريتم الآية على ظاهرها من غير تعرض للتأويل ، مصيرا إلى أنها من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، قلنا : إن رام السائل إجراء الاستواء على ما ينبئ عنه في ظاهر اللسان ، وهو الاستقرار ، فهو التزام للتجسيم ؛ وإن تشكك في ذلك كان في حكم المصمم على اعتقاد التجسيم ، وإن قطع باستحالة الاستقرار ، فقد زال الظاهر ، والذي دعا إليه من إجراء الآية على ظاهرها لم يستقم له ، وإذا أزيل الظاهر قطعا فلا بد بعده في حمل الآية على محمل مستقيم في العقول مستقر في موجب الشرع. والإعراض عن التأويل حذرا من مواقعة محذور في الاعتقاد يجر إلى اللبس والإيهام ، واستزلال العوام ، وتطريق الشبهات إلى أصول الدين ، وتعريض بعض كتاب الله تعالى لرجم الظنون. والمعنيّ بقوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [سورة آل عمران : ٧] الآية. مراجعة منكري البعث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في استعجال الساعة ، والسؤال عن منتهاها وموقعها ومرساها. والمراد بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران : ٧] ، أي وما يعلم مآله إلا الله ، ويشهد

٢٢

لذلك قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) [سورة الأعراف : ٥٣] ، والتأويل فيها يحمل على الساعة في اتفاق الجماعة.

فصل

صرحت طوائف من الكرّامية بتسمية الرب تعالى عن قولهم جسما ، وسبيل مفاتحتهم بالكلام أن نقول : الجسم هو المؤلف ، في حقيقة اللغة ، ولذلك يقال في شخص فضل شخصا بالعبالة وكثرة تآلف الأجزاء إنه أجسم منه وإنه جسيم ، ولا وجه لحمل المبالغة إلا على تآلف الأجزاء. فإذا أنبأتنا المبالغة المأخوذة من الجسم على زيادة التأليف ، فاسم الجسم يجب أن يدل على أصل التأليف ؛ إذ الأعلم لمّا دل على مزية في العلم ، دل العالم على أصله.

ثم نقول : إن سميتم الباري تعالى جسما وأثبتم له حقائق الأجسام ، فقد تعرضتم لأمرين : إما نقض دلالة حدث الجواهر ، فإن مبناها على قبولها للتأليف والمماسة والمباينة ؛ وإما أن تطردوها وتقضوا بقيام دلالة الحدث في وجود الصانع. وكلاهما خروج عن الدين ، وانسلال عن ربقة المسلمين.

ومن زعم منهم أنه لا يثبت للباري تعالى أحكام الأجسام ، وإنما المعنى بتسميته جسما الدلالة على وجوده ؛ فإن قالوا ذلك قيل لهم : لم تحكمتم بتسمية ربكم باسم ينبئ عما يستحيل في صفته ، من غير أن يرد به شرع أو يستقر فيه سمع ، وما الفصل بينكم وبين من يسميه جسدا ، ثم يحمل الجسد على الوجود؟ فإن قيل : إذا لم يمتنع تسمية الإله نفسا ، كما دل عليه قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [سورة المائدة : ١١٦] ، فلا يمتنع أيضا تسميته جسما ؛ قلنا : لا يسوغ القياس في إثبات أسماء الرب سبحانه وتعالى ، إذ لو ساغ ذلك لساغ مثله في الجسد. على أن النفس يراد بها الوجود ؛ ولذلك يحسن قول القائل : نفس العرض والعرض نفسه ، ولا يصح أن يقال : جسم العرض ، ثم الأصل اتباع الشرع.

فصل

مما يخالف الجوهر فيه حكم الإله قبول الأعراض وصحة الاتصاف بالحوادث ، والرب سبحانه وتعالى يتقدس عن قبول الحوادث. وذهبت الكرّامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب تعالى عن قولهم ؛ ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث ، وصار إلى جهالة لم يسبقوا إليها ، فقالوا : القول الحادث يقوم بذات الرب سبحانه وتعالى ، وهو غير قائل به ، وإنما هو قائل بالقائلية.

وحقيقة أصلهم أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد ، ولذلك وصفوه بكونه خالقا في الأزل ، ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به ، وتنكبوا عن إثبات وصف جديد له ذكرا وقولا.

٢٣

والدليل على بطلان ما قالوه ، أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها ، لما سبق تقريره في الجواهر ، حيث قضينا باستحالة تعرّيها عن الأعراض ، وما لم يخل من الحوادث لم يسبقها ، وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع.

ولا يستقيم هذا الدليل على أصول المعتزلة مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجواهر عن الأعراض ، على تفصيل لهم أشرنا إليه ، وإثباتهم أحكاما متجددة لذات الباري تعالى من الإرادات الحادثة القائمة ، لا بمحال على زعمهم. ويصدهم أيضا عن طرد دليلهم في هذه المسألة ، أنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث ، لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض على الذات.

ونقول للكرّامية : مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض ، إذ لو جاز قيام معنى بمحل غائبا من غير أن يتصف بحكمه ، لجاز شاهدا قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني ، وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات. ثم نقول لهم : إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته ، فما المانع من تجويز قيام ألوان حادثة بذاته على التعاقب ، وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به سبحانه من الحوادث ، ومما يلزمهم تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته ، على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثتين ، ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا منه فصلا.

ونقول أيضا : إذا وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزا ، وكل متحيز حجم وجرم ، فلا يتقرر في المعقول خلو الأجرام عن الألوان ، فما المانع من تجويز قيام الألوان بذات الرب. ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه.

فصل

في الدليل على استحالة كون الرب تعالى جوهرا

والتنصيص على نكت في الرد على النصارى

الجوهر في اصطلاح المتكلمين هو المتحيز ، وقد أوضحنا الدليل على استحالة كون الباري تعالى متحيزا. وقد يحد الجوهر بالقابل للأعراض ، وقد تبين استحالة قبول الباري سبحانه وتعالى للحوادث. ومن وصف الباري تعالى بكونه جوهرا ، قسم الكلام عليه ، وقيل له : إن أردت بتسميته جوهرا اتصافه بخصائص الجواهر ، فقد سبقت الأدلة على استحالة ذلك عليه. وإن أردت التسمية من غير وصفه بحقيقته وخاصيته ، فالتسميتان تتلقى من السمع ؛ إذ العقول لا تدل عليها ، وليس يشهد لهذه التسمية دلالة سمعية ، ولا يسوغ في شيء من الملل التحكم بتسمية الباري تلقينا.

٢٤

وذهبت النصارى إلى أن الباري ، سبحانه وتعالى عن قولهم ، جوهر ، وأنه ثالث ثلاثة ، وعنوا بكونه جوهرا أنه أصل للأقانيم. والأقانيم عندهم ثلاثة : الوجود ، والحياة ، والعلم. ثم يعبرون عن الوجود بالأب ، وعن العلم بالكلمة ، وقد يسمونه ابنا ، ويعبرون عن الحياة بروح القدس. ولا يعنون بالكلمة الكلام ، فإن الكلام مخلوق عندهم.

ثم هذه الأقانيم هي الجوهر عندهم بلا مزيد ، والجوهر واحد والأقانيم ثلاثة ، وليست الأقانيم عندهم موجودات بأنفسها ، بل هي للجوهر في حكم الأحوال عند مثبتيها من الإسلاميين. والحال مثل التحيز للجوهر ، وهو حال زائدة على وجود الجوهر. ولا تتصف الحال بالعدم ولا بالوجود ، ولكنها صفة وجود ، والأقانيم حالة محل الأحوال عند النصارى.

ثم زعموا أن الكلمة اتحدت بالمسيح ، وتدرعت بالناسوت منه ، واختلفت مذاهبهم في تدرع اللاهوت بالناسوت ؛ فزعم بعضهم أن المعنى به حلول الكلمة جسد المسيح ، كما يحل العرض محله ؛ وذهبت الروم إلى أن الكلمة مازجت جسد المسيح ، وخالطته مخالطة الخمر اللبن.

فهذه أصول مذاهبهم ، فنقول لهم : لا معنى لحصركم الأقانيم فيما ذكرتموه ، وبم تنكرون على من يرغم أن الأقانيم أربعة ، منها القدرة ، فليس إخراج القدرة من الأقانيم أولى من إخراج العلم. وكذلك إن ساغ المصير إلى أن الوجود أقنوم ، فلا يمتنع عدّ البقاء أقنوما ، ويلزمون السمع والبصر على نحو ما تقدم.

ونقول لهم : إذا زعمتم أن الكلمة تتدرع بالمسيح ، وفسرتموه بالحلول ، قيل لكم : العلم المسمى كلمة ، هل يفارق الجوهر أم لا ، فإن زعموا أنه يفارقه ، لزمهم فيه أن يقولوا : لم يكن للجوهر أقنوم العلم لما كان العلم متدرعا بالمسيح ، وهذا مما يأبونه.

فإن زعموا أن أقنوم العلم لم يفارق الجوهر ، استحال مع ذلك حلوله في جسد المسيح عيسى عليه‌السلام مع اختصاصه بالجوهر الأول ، فإنه يمتنع حلول عرض في جسم مع بقاء ذلك العرض في جسم آخر ؛ فإذا امتنع ذلك في العرض ، فلأن يمتنع ذلك في الخاصية التي تتنزل منزلة صفات النفس أولى. ولو جاز أن تتحد الكلمة بالمسيح ، لجاز أن يتحد الجوهر بالناسوت ، ولا فصل في ذلك ، وقد منعوا اتحاد الجوهر بالناسوت.

ويقال لهم : إذا اتحدت الكلمة بالمسيح ، فهلا اتحد به روح القدس ، وهو أقنوم الحياة ، فإن من حكم العلم أن لا يفارق الحياة؟ وكل ذلك يوضح خبط النصارى.

والرد على الروم في الاختلاط بمثابة الرد على أصحاب الحلول ؛ ويخصصون بأن الاختلاط إنما يتصف به الأجرام والأجسام ، فكيف وجهه في الأقنوم الذي هو خاصية!

ومما يصعب موقعه عليهم أن نقول : بم تنكرون على من يزعم أن الكلمة اتحدت بموسى

٢٥

صلوات الله عليه ، ولذلك كان يقلب العصا ثعبانا مبينا ، ويفلق البحر أفلاقا ، كالأطواد ، إلى غير ذلك من آياته عليه‌السلام؟

والذي انتحلوا فاسد معتقدهم من أجله ، ما ظهر على يد عيسى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله. فإذا عورضوا بآيات غيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، اضطربت مذاهبهم ، ولم يرجعوا إلى محصول ، إذ أصلهم أن الاتحاد لم يقع إلا بالمسيح عليه‌السلام.

ثم مذهبهم أن الأقانيم آلهة ، والنصارى مع اختلاف فرقها مجتمعون على التثليث ؛ فنقول لهم : كل أقنوم لا يتصف عندكم بالوجود على حياله ، فكيف يتصف بالإلهية ما لا يتصف بالوجود؟

وسنقيم واضح الأدلة على أن الإله يجب أن يكون حيا عالما قادرا ، فلو كان أقنوم العلم إلها لوجب أن يكون حيا قادرا. ثم يقال لهم : هلا جعلتم الآلهة أربعة : الجوهر ، والوجود ، والحياة ، والعلم؟ لو لا الركون إلى محض التحكم في الدين!.

ثم أطبقت النصارى على أن المسيح إله ، وأطبقوا على أنه ابن ، واتفقوا على أنه لاهوت وناسوت ، وهذه مناقضات ؛ فإن إطلاق اسم الإله يمحض حكم الإلهية ، وليس المسيح إلها محضا. ثم أطبقوا على أن المسيح صلب ، ولما روجعوا قالوا : المصلوب الناسوت ، والناسوت المحض ليس هو المسيح. ونعتضد الرد عليهم بإثبات الوحدانية ، وفيما قلناه أكمل مقنع.

باب

العلم بالوحدانية

الباري سبحانه وتعالى واحد ، والواحد في اصطلاح الأصوليين الشيء الذي لا ينقسم ، ولو قيل الواحد هو الشيء لوقع الاكتفاء بذلك. والرب سبحانه وتعالى موجود فرد ، متقدس عن قبول التبعيض والانقسام. وقد يراد بتسميته واحدا أنه لا مثل له ولا نظير. ويترتب على اعتقاد حقيقة الوحدانية. إيضاح الدليل على أن الإله ليس بمؤلف ؛ إذ لو كان كذلك ، تعالى الله عنه وتقدس ، لكان كل بعض قائما بنفسه عالما حيا قادرا ، وذلك تصريح بإثبات إلهين.

والغرض من ذلك يبتنى على أن حكم العلم يختص بما قام به ، وكذلك القول في جملة المعاني الموجبة أحكامها لما قامت به. ولو قدر بعضين ، وحكم بقيام العلم والقدرة والحياة بأحدهما ، فهو الإله ، والزائد عليه قديم على هذا التقدير غير متصف بأوصاف الألوهية ، وذلك ما نوضح بطلانه في آخر هذا الباب. فإذا ، اتضح المراد من حقيقة الوحدانية على الجملة.

٢٦

فالمقصود من عقد هذا الباب إيضاح الدليل على أن الإله واحد ويستحيل تقدير إلهين. والدليل عليه ، أنّا لو قدرنا إلهين ، وفرضنا الكلام في جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ومن الثاني إرادة تسكينه ، فتتصدى لنا وجوه كلها مستحيلة. وذلك أنّا لو فرضنا نفوذ إرادتيهما ووقع مراديهما ، لأفضى ذلك إلى اجتماع الحركة والسكون في المحل الواحد ، والدلالة منصوبة على اتحاد الوقت والمحل. ويستحيل أيضا أن لا تنفذ إرادتيهما ، فإن ذلك يؤدي إلى خلو المحل القابل للحركة والسكون عنهما ، ثم مآله إثبات إلهين عاجزين قاصرين عن تنفيذ المراد. ويستحيل أيضا الحكم بنفوذ إرادة أحدهما دون الثاني ، إذ في ذلك تعجيز من لم تنفذ إرادته ، وسندل على استحالة ثبوت قديم عاجز.

فإن قيل : رتبتم هذه الدلالة على اختلاف إرادتي القديمين ، فبم تنكرون على من يعتقد قديمين يريد كل واحد منهما ما يريده الآخر؟ قلنا هذه الدلالة تطرد على تقدير الاختلاف كما قررناه ، وهي مطردة أيضا على تقدير الاتفاق ؛ فإن إرادة تحريك الجسم من أحدهما مع إرادة الثاني تسكينه ممكنة غير مستحيلة ، وكل ما دل وقوعه على العجز والاتصاف ببعض القصور دل جوازه على مثله. والدليل عليه أن من اعتقد جواز قيام الحوادث بالقديم ، ملتزما ما يفضي إلى الحكم بحدثه ، نازل منزلة من يعتقد قيام الحوادث به وقوعا وتحققا. والجاري من أحد المحدثين في تنفيذ إرادته المتصدي لأن يمنع عرضة للنقص ، كالمصدود عما يريده حقا بتسوية بين من يجوز ضده وبين من اتفق رده.

فإن قيل : بم تنكرون على من يزعم أن اختلاف القديمين في الإرادة غير جائز ولا واقع؟ قلنا : لو قدرنا انفراد أحدهما لما امتنع في قضية العقل إرادته تحريك الجسم في الوقت المفروض ، ولو قدرنا انفراد الثاني لم تمتنع إرادته تسكينه. ولا توجب ذات لا اختصاص لها بأخرى تغيير أحكام صفاتهما ؛ فليجز من كل واحد منهما عند تقدير الاجتماع ، ما يجوز عند تقدير الانفراد.

وقال بعض الحذاق : غايتنا في دلالة التمانع ، امتناع وقوع مرادين ؛ وإثبات قديمين على قضية هذا السؤال يفضي إلى منع ، ما يجوز لكل قديم لو قدرنا انفراده ، وذلك أحق بالدلالة على التعجيز والتنقيص.

ولا تستمر هذه الدلالة على أصول المعتزلة ، مع مصيرهم إلى أنه يقع من العباد ما لا يريده الرب ، تعالى عن قولهم ، ولا يتضمن ذلك عندهم الحكم بقصوره. فإن قالوا : الرب تعالى قادر على إلجاء الخلق إلى ما يريده ، قيل : مراده عندكم أن يؤمن العباد على الاختيار إيمانا مثابا عليه ، ولا يريد منهم إيمانا وهم إليه ملجئون وعليه مكرهون ؛ فالذي يريده لا يقدر على إيقاعه ، والذي يقدر عليه لا يريده.

وقد أضرب شيوخ المعتزلة عن دلالة التمانع لما ذكرناه ، وهي المنصوصة في نص قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [سورة الأنبياء : ٢٢].

٢٧

فإن قيل : قد أسندتم الدليل على الوحدانية إلى استحالة ثبوت قديم عاجز ، وأنتم بالدليل على ذلك مطالبون ؛ قلنا : لو قدرنا قديما عاجزا ، لكان عاجزا بعجز قديم قائم به ، والعقل يقضي باستحالة العجز القديم ، لأن من حكم العجز أن يمتنع به إيقاع الفعل الممكن في نفسه. ولو أثبتنا عجزا قديما ، لجرّنا ذلك إلى الحكم بإمكان الفعل أزلا ، ثم القضاء بأن العجز مانع منه ، وباضطرار نعلم استحالة الفعل أزلا ، وهذا بمثابة قطعنا باستحالة تقدير حركة قديمة ؛ إذ الحركة لا بد أن تكون مسبوقة بكون في مكان ، ثم تكون الحركة انتقالا منه.

فإن قيل : ما ذكرتموه ينعكس عليكم في إثبات القدرة القديمة ؛ إذ القدرة القديمة تقتضي تمكنا من الفعل ، فالتزموا من إثبات القدرة الأزلية الحكم بإمكان فعل أزلي ؛ قلنا : ليس من حكم القدرة التمكن بها ناجزا ، إذ لو قدرنا شاهدا قدرة باقية ، واعتقدنا ذلك مثلا ، فلا يمتنع تقدمها على المقدور ، ولا يمتنع منع القادر عن مقدوره مع استمرار قدرته ؛ فوضح بذلك أنا لا نشترط مقارنة إمكان وقوع المقدور للقدرة ، ويستحيل من كل وجه التمكن من الفعل مع العجز عنه.

فإن قيل : بم تنكرون على من يزعم أن مقدورات القديم متناهية ، والكلام في إثبات الوحدانية يتشبث بنفي النهاية عن مقدورات الإله؟ قلنا : إن خصص السائل السؤال بتقدير قديم واحد ، فالجواب أن المقدورات لو تناهت مع أن العقل يقضي بجواز وقوع أمثال ما وقع ، والجائز وقوعه لا يقع بنفسه من غير مقتض ، وفي قصر القدرة على ما يتناهى إخراج أمثاله عن إمكان الوقوع ، إذ لا يقع حادث إلا بالقدرة ، ومساق ذلك يجر إلى جمع الاستحالة والإمكان فيما علم فيه الإمكان.

وإن فرض السائل السؤال عن قديمين ، فزعم أن أحدهما يقدر على قبيل من المقدورات ، والثاني يقدر على قبيل آخر ، وهذا من أغمض ما يسأل عنه ؛ فنقول : نحن نصور جسما ونتعرض لتقسيم الدليل لتحريكه وتسكينه. فإن زعم السائل أنهما جميعا خارجان عن مقدوريهما ، كان محالا مؤديا إلى خلو الجسم عن الحركة والسكون ؛ وإن قدر السكون مقدورا لأحدهما ، والحركة مقدورة للثاني ، فمآل هذا التقدير التمانع كما قررناه.

فإن قيل : الحركة والسكون وقبيل الأكوان مقدور أحدهما وليس مقدورا للثاني ، فنفرض الدليل في الألوان. فإن عورضنا فيها تعديناها إلى قبيل آخر من الأعراض ، ولا نزال كذلك حتى ينساق الدليل إلى أحد أمرين ؛ إما أن يشتركا في الاقتدار على قبيل من الأعراض ، ويترتب عليه التمانع ، إذ كل قبيل من الأعراض يشتمل على المتضادات. وإن عورضنا فرضنا الدليل في المثلين من كل قبيل ليستقر فيه الدليل ، فإن المثلين يتضادان ، كما سنذكر في درج الكلام إن شاء الله عزوجل ؛ فهذا أحد مآلي الممانعة التي قدرناها.

ولو قال السائل : إن أحد القديمين ينفرد بالاقتدار على خلق جميع أجناس الأعراض ؛ قيل : هل يتصف الثاني بالاقتدار على خلق الجواهر أم لا؟ فإن قال السائل : إنه لا يقتدر عليه ، فقد أخرجه

٢٨

عن كونه قادرا أصلا ، وإثبات قديم غير قادر على مقدور ولا عالم بمعلوم ولا حي بحياة تحكم بادعاء ما لا دليل عليه. وليس غرضنا في هذا المعتقد الدليل على نفيه ، ومقصودنا التعرض لنفي قديمين يقدر لكل واحد منهما حكم الإلهية.

على أن القديم واجب وجوده ، إذ لو قدر انتفاؤه لما وقع ممكن ، إذ الممكن لا يقع بنفسه ؛ وفي العلم البديهي بجواز وقوع الممكنات ما يقتضي القطع بوجوب وجود القديم ، وفي الحكم بجوازه انقلاب الواجب جائزا. فلو أثبتنا قديما غير مؤثر ، لكان لا يجب وجوده ، إذ لا يتعلق بوجوده جواز جائز من الأفعال. فإذا كان جائزا امتنع كونه قديما إذ القديم يجب وجوده ، والجائز يفتقر وقوعه إلى مقتض ، والحكم بالجواز والقدم متناقض.

وإن قال السائل : خلق الجواهر مقدور للذي لم نصفه بالاقتدار على الأعراض ؛ فنقول : الجوهر الفرد العري عن الأعراض غير ممكن ، ولا يتعلق الاقتدار إلا بممكن ، وحق المقتدر على الاختراع أن يتمكن من إيقاع مقدوره ؛ وهذا القدر كاف فافهمه.

وهذه جمل كافية في إثبات العلم بالصفات الواجبة النفسية ، وقد ضمّنّاها وأدرجنا فيها ما يستحيل على الباري تعالى ، حيث نفينا عنه خصائص الجواهر والأعراض ، ونصبنا الأدلة على تقدسه عن أحكام الأجسام. وما ذكرناه يغني عن التعرض لكثير مما يرسمه المتكلمون فيما يستحيل على الباري تعالى.

وإذا سئل العاقل عما يستحيل على ربه ، فالعبارة الوجيزة في الجواب أن يقول : يستحيل عليه كل ما يدل على حدثه ؛ ويندرج تحت ذلك استحالة تميزه ، وقبوله للحوادث ، وافتقاره إلى محل يحله.

وكل ما ذكرناه أحد قسمي الصفات الواجبة ، وهي النفسية منها ، فأما المعنوية فها نحن نبتديها.

باب

إثبات العلم بالصفات المعنوية

اعلموا أرشدكم الله تعالى أن الكلام في هذا الباب يتشعب ، وهو عمدة أهل التوحيد. وغرضنا على مقدار قصدنا ضبط ركنين : أحدهما إثبات العلم بأحكام الصفات ، والثاني إثبات العلم بالصفات الموجبة لأحكامها.

فأما الأحكام ، فمما نصدر الباب به أن نوضح كون صانع العالم قادرا عالما ، ولا حاجة بنا بعد

٢٩

سبق المقدمات التي ذكرناها إلى نظر واعتبار في القطع بكون الصانع عالما قادرا. فإذا تقرر أن الباري تعالى صانع العالم ، واستبان للعاقل لطائف الصنع ، وأحاط بما تتصف به السموات والأرض وما بينهما من الاتساق والانتظام والإتقان والإحكام ، فيضطر إلى العلم بأنها لم تحدث إلا من عالم بها قادر عليها ، ولا يستريب اللبيب في امتناع الاختراع من الجهلة والموتى والجمادات والعجزة. وكذلك يعلم كل عاقل على البديهة ، أن الفعل الرصين المحكم المتين يستحيل صدوره من الجاهل به. ومن جوّز ، وقد لاحت له سطور منظومة وخطوط متسقة مرقومة ، صدورها من جاهل بالخط كان عن المعقول خارجا ، وفي تيه الجهل والجا.

وقد حاول بعض المتكلمين سبر النظر وطرق العبر في ذلك ، ومسلكهم ما نومئ إليه. وذلك أنهم قالوا : ألفينا الأفعال تمتنع على بعض الموجودات ولا تمتنع على بعضها. ثم إذا نظرنا في الموانع جرّنا السّبر والتقسيم إلى أن الذي لا يمتنع عليه الفعل القادر العالم ، ومآل ذلك يستند إلى دعوى الضرورة ؛ إذ لو قال قائل : لا يمتنع الفعل على موجود ، لكان الوجه في الرد عليه نسبته إلى جحد الضرورة. فإذا اضطرنا إلى ذلك انتهاء ، كان الأحرى أن نتمسك به ابتداء.

فإن قيل : قد أطلق العقلاء القول بدلالة المحكم على علم المحكم ، والذي ذكرتموه خروج على قولهم ؛ قلنا : المرضي عندنا في ذلك أن الحادث يدل على القدرة أو على كون القادر قادرا ، والمحكم يدل على كون المحكم عالما ؛ ولكن يدرك كون ما ذكرناه دليلا ضرورة من غير احتياج إلى مباحثة ونظر يفضي إذا صح إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل ، فاعلم ذلك.

فإذا اتضح كون الباري سبحانه عالما قادرا ، فباضطرار تعلم كونه حيا. ولو نظر العاقل بدءا في الفعل واعتقد أن له صانعا ، فيضطر منه إلى العلم بكون صانعه حيا ، إذا درأ عن معتقداته وساوس الطبائعيين ، كما سبقت الإشارة إليها. فهذا القدر كاف في هذا المعتقد.

فصل

صانع العالم مريد على الحقيقة ، وذهب أبو القاسم الكعبي إلى أن الباري تعالى لا يتصف بكونه مريدا على الحقيقة ؛ وإن وصف بذلك شرعا في أفعاله ، فالمراد بكونه مريدا لها أنه خالقها ومنشئها. وإذا وصف بكونه مريدا لبعض أفعال ، فالمراد بوصفه أنه أمر بها. وذهب النجار (١) إلى أن الباري تعالى مريد لنفسه. ثم قال عند المراجعة : المعنى بكونه مريدا ، أنه غير مستكره ولا مغلوب.

وذهب بعض معتزلة البصرة إلى أن الباري تعالى مريد للحوادث بإرادة حادثة ثابتة لا في محل ،

__________________

(١) هو أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله النجار ، من متكلمي المجبرة وله مع النظام مجالس ومناظرات مات عقب إحداها. انظر الفهرست لابن النديم. وافق أصحابنا في أصول ، ووافق القدرية في أصول ، وانفرد بأصول. انظر الفرق بين الفرق.

٣٠

وزعموا أن كل حادث من أفعاله مراد له بإرادة حادثة ، وكل مأمور به من أفعال العباد مراد له ، ولا تتعلق إرادة واحدة بمرادين عندهم ، ثم الإرادات تقع حادثة غير مرادة.

وأما وجه الرد على الكعبي ومتبعيه ، فهو أن نقول : قد سلمتم لنا أن اختصاص أفعال العباد بالوقوع في بعض الأوقات على خصائص من الصفات ، يقتضي القصد إلى تخصيصها بأوقاتها وخصائص صفاتها ، كما أن الاتساق والانتظام والإتقان والإحكام تدل على كون المتقن عالما ، فكذلك الاختصاص يدل على كونه قاصدا إلى التخصيص ، والأدلة العقلية المفضية إلى القطع يلزم اطرادها. ولو تخيل العاقل ثبوت الدلالة غير دالة ، لكان ذلك موجبا لخروجها عن قضية الأدلة على العموم.

فنقول للكعبي ، بعد تقرير ذلك : كل وجه يدل العقل شاهدا من أجله على كونه مرادا مقصودا ، فهو مقرر في فعل الله تعالى بتلازم دلالة فعله على ما دل عليه الفعل شاهدا. ولو ساغ التعرض لنقض الدلالة وعدم طردها ، لساغ أن يدل الإحكام شاهدا على كون المحكم عالما ، من غير أن يدل الإحكام في فعل الله تعالى على كونه عالما.

فإن قيل : إنما يدل الفعل شاهدا على القصد من حيث لا يحيط الفاعل بالمغيب عنه ، فإذا لم يتصف بكونه عالما بوقت وقوع الفعل وما يختص به لم يكن بدّ من تخصيص قصد ؛ والباري تعالى عالم بالغيوب على حقائقها ، فوقع الاجتزاء بكونه عالما عن تقدير كونه مريدا.

وهذا باطل من أوجه ؛ أقربها أن ما ذكروه يجر عليهم أن يحكموا بأن الباري تعالى غير قادر اكتفاء بكونه عالما ، وفرق في ذلك بين الشاهد والغائب. ثم نفرض عليهم فاعلا شاهدا مطلعا على ما سيكون من فعله ، بإنباء صادق أتاه ، أو إعلام الله إياه. ولو كان الأمر كذلك لافتقر الفعل مع ذلك إلى القصد إليه ، فبطل التعويل على صرف وجه الدليل إلى ذهول الفاعل عما لم يقع من فعله.

ثم الناظر في الأفعال المقدورة للعباد يستدل على قصدهم بأفعالهم ، وإن لم يخطر له ذهولهم وانطواء الغيوب عنهم ؛ فلو كان الفعل يدل على القصد شاهدا من حيث لم يعلم الفاعل مآل الأفعال ، لتوقف الاستدلال للناظر على أن يخطر ذلك بالبال ، فإن انخرام ركن من الاستدلال يمنع العثور على العلم في ثاني الحال.

وإن تعسّف من متبعي الكعبي متعسّف ، وزعم أن الفعل شاهدا غير دال على قصد الفاعل إليه ، وإن ثبت القصد فهو غير مدلول بالفعل ؛ فيقال له : هذا جحد للضرورة ، وتعرض لالتزام جهالات. وأقرب ما يعارض هذا القائل ، أن يقال له : لا يدل المحكم على علم المحكم ، وإن ثبت العلم فبدلالة أخرى.

وهذه الطريقة لا تستمر على أصول المعتزلة من البصريين على الكعبي ، فإنهم قد نقضوا الدلالة في قواعد من العقائد.

٣١

ونحن نورد الآن وجها واحدا منها ، وهو أن الإحكام في فعل الباري تعالى دلالة على كونه عالما عندهم ، وأثبتوا أفعالا محكمة شاهدا مخترعة للعبد على زعمهم ، وهي صادرة منه مع غفلته عنها لذهوله عن معظم صفاتها ، فإذا ساغ لهم نقد دلالة الأحكام لم تستمر لهم مطالبة الكعبي ، لما مهدناه من السبيل في لزوم طرد الدليل ، وهذا القدر كاف في الرد على الكعبي.

وأما وجه الرد على النجار وأتباعه ، فهو أن نقول : قولكم إن الباري سبحانه مريد لنفسه ، منقسم عليكم ؛ فإن أردتم بذلك كونه مريدا قاصدا على التحقيق ، كما نعتّموه بكونه عالما لنفسه ، فسيأتي الرد عليكم وعلى إخوانكم ، إذا نجز غرضنا من إثبات العلم بأحكام الصفات.

ولا وجه في الرد عليهم إن سلكوا هذا المسلك ، إلا التمسك بالطرق الدالة على العلم ، والقدرة ، والحياة.

وقد حاولت المعتزلة طرقا في منع كون الباري تعالى مريدا لنفسه كلها باطلة ، وسنشير إلى الغرض منها عند ردنا على البصريين.

فإن زعمت النجارية أن المعنى بكون مريدا لنفسه أنه غير مغلوب ولا مستكره ، فيقال لهم : قد فسرتم الإثبات بالنفي ، فإن نفي الغلبة والاستكراه يتضمن إثبات حكم صفة. ثم هم مساعدون على نفي الغلبة والاستكراه ، ومطالبون بعد هذه الموافقة بأن يثبتوا كون الإله قاصدا إلى فعله ؛ فإن تمنعوا من ذلك ألزموا ما ألزم الكعبي على ما قدمناه حرفا حرفا ، ومآل هذا المذهب يرجع إلى نفي حكم الإرادة.

وقد ألزم النجارية على أصلهم مناقضات. فقيل لهم : إن كان المريد هو الذي لا يغلب ولا يستكره ، فليكن الباري مريدا لنفسه من حيث إنه غير مغلوب فيها ولا مستكره عليها.

وأما البصريون ، فالكلام عليهم في فصلين : أحدهما في وصفهم الباري تعالى بكونه مريدا ، والثاني في حكمهم بحدوث إرادته.

فنقول أولا : ما دليلكم على كون الباري تعالى مريدا؟ فإن زعموا أن الدليل على ذلك اختصاص الحوادث بأوقاتها وصفاتها ، بطل عليهم دليلهم بالإرادات الحادثة التي أثبتوها ، وزعموا أنها غير مرادة ، فإنها حادثة مختصة بأوقاتها ، وهي غير مرادة. فإن قالوا : الإرادة يراد بها ولا تراد هي في نفسها ، وربما يضربون أمثالا يموهون بها ؛ ويقولون : بعض المحسوسات يشتهى ، والشهوة لا تشتهى ؛ والأمر المطلوب يتمنى ، والتمني لا يتمنى ؛ وكذلك الإرادة لا تراد ويراد بها ، وهذا الذي ذكروه دعوى عرية عن البرهان ؛ فإن من جمع بين مختلف فيه ومتفق عليه ، احتاج إلى نصب دليل قاطع على وجوب الجمع بينهما ، ثم لا يسلم ما قالوه من معارضة تخالفه.

فلو قال قائل : العلم يعلم به ولا يعلم في نفسه ، جريا على ما مهدوه ، وقياسا على الشهوة والتمني ، لكان الكلام عليه كالكلام عليهم.

٣٢

ثم نقول : من فعل فعلا ، وكان عالما بإنشائه إياه في وقت مخصوص ، فلا بدّ أن يكون مؤثرا وقوعه في ذلك الوقت مع اقتداره عليه وعلمه به ، ووضح ذلك يداني مدارك الضرورات.

ثم العقل يقضي باستواء الإرادة الموقعة في وقت وغيرها من الحوادث. فبطل تعويلهم على أن الإرادة لا تراد ، ثم لا يغنيهم خبطهم في الإرادة ، وقد نقضت دليلهم ؛ فإن ما عولوا عليه من دلالة الاختصاص على الإرادة يبطل عليهم بالإرادة ، وكلامهم بعد ذلك تعليل للنقض ، فقد انسدّ عليهم طريق الاستدلال ، على كون الباري تعالى مريدا.

ومما يطالبون به ، أن يقال لهم : بم تنكرون على من يزعم أن الباري سبحانه وتعالى مريد لنفسه ، كما أن حيّ قادر عالم بنفسه عندكم؟

فإن قالوا : إنما يمتنع ذلك لأن الحكم الثابت للنفس إذا كان يقتضي تعلقا ، يجب أن يعم تعلقه جملة المتعلقات ، ولذلك وجب كونه عالما بكل معلوم ، لما كان عالما لنفسه ؛ إذ لا اختصاص للنفس ببعض المتعلقات دون بعض ، ومساق ذلك يوجب كونه مريدا لكل مراد لو كان مريدا لنفسه.

وهذا الذي ذكروه من تحكماتهم الباطلة. ويقال لهم : بأي دليل أنكرتم تعلق الحكم النفسي ببعض المتعلقات دون بعض؟ وبم تردون على من يقول من النجّارية : إنه مريد لبعض المرادات لنفسه ، وهذا بمثابة اختصاص العلم الحادث يتعلق بمتعلقه لعينه ؛ وليس لقائل أن يقول : لا اختصاص للعلم بالسواد ، وإضافته إلى السواد بمثابة إضافته إلى غيره.

فإن قالوا : قد استشهدنا بكونه عالما بكل معلوم ، قلنا : تحكمتم في الاستدلال وضرب الأمثال. فلم زعمتم أنه إنما يجب كون الباري تعالى عالما بكل معلوم من حيث كان عالما لنفسه؟ وقد علمتم أن مذهب خصومكم اعتقاد ثبوت الصفات ، والمصير إلى أن الباري تعالى عالم بعلم. ثم ما ذكروه تولوا نقضه حينما قالوا : الباري قادر لنفسه ، ولا يتصف بكونه قادرا على كل مقدور ، فإن مقدورات العباد غير مقدورات له. وقد أثبت المتأخرون منهم أجناسا مقدورة للعباد ، ومنعوا كونها مقدورة للرب تعالى ، سواء كانت مقدورة للعبد أم لم تخلق له القدرة عليها ، منها الجهل.

فإن قالوا : مقدورات العباد لم تتعلق بها قدرة القديم ، من حيث استحال مقدور بين قادرين ، والمستحيل لا يعد من قبيل المقدورات ؛ قلنا : لا ينجيكم روغانكم عما ألزمتموه ؛ فإن ما سيقدر عليه عبد في معلوم الله تعالى غير مقدور لله تعالى قبل أن يقدر عليه عبده عندكم ، وهو إذ ذاك غير مقدور للعبد. ولا يحتمل هذا المعتقد أكثر مما ذكرناه.

ومما نلزمهم أن نقول : إذا حكمتم بأن الباري تعالى يتجدد عليه أحكام الإرادة فيما لا يزال ، فما المانع من قيام موجباتها به؟ فإن قالوا : لو قامت به لم يخل عنها أو عن ضدها ثم ينساق ذلك إلى الدليل على حدثه ؛ قلنا : إنه جاز أن يتصف بأحكام الحوادث من غير أن كان متصفا بنقائضها قبل الاتصاف بها ، فما المانع من أن تقوم به الحوادث فيما لا يزال مع خلوه عن أضدادها قبلها؟ ثم أصلكم أن الحي يجوز أن يعري عن الإرادة وأضدادها ، وهذا مذهب الدهماء منهم.

٣٣

وكل ما ذكرناه كلام في أحد القسمين الموعودين في صدر الكلام على البصريين ، وهو التعرض لكون الباري تعالى مريدا. فأما الرد عليهم في إثبات الإرادة الحادثة ، فسنذكره عند خوضنا في إثبات الصفات إن شاء الله ، فإنا بعد في إثبات العلم بأحكامها.

فصل

الباري تعالى سميع بصير عند أهل العقل ، واختلفت مذاهب أهل البدع والأهواء.

فذهب الكعبي وأتباعه من البغداديين إلى أن الباري تعالى إذا سمي سميعا بصيرا ، فالمعنى بالاسمين كونه عالما بالمعلومات على حقائقها ، وإلى ذلك ذهبت طوائف من النجارية.

وذهب المتقدمون من معتزلة البصرة إلى أن الباري تعالى سميع بصير على الحقيقة ، كما أنه عالم على الحقيقة ، وزعموا أنه سميع بصير لنفسه.

وذهب الجبائي وابنه إلى أن المعنى بكونه سميعا بصيرا ، أنه حي لا آفة به. ومن أصلهما أن حقيقة السميع والبصير شاهدا يضاهي حقيقتهما غائبا.

والدليل على أن الباري تعالى سميع بصير على الحقيقة ، أن الأفعال دالة على كونه حيا كما سبق تقريره ، والحي يجوز أن يتصف بكونه سميعا بصيرا ، وإذا خرج عن كونه سميعا بصيرا لزم اتصافه بكونه مئوفا ، إذ كل قابل لنقيضين على البدل لا واسطة بينهما يستحيل خلوه عنهما ، فإذا تقرر استحالة كونه مئوفا ، تقرر اتصافه بكونه سميعا بصيرا ؛ فهذا تحرير الدلالة ، والغرض منها يتبين بأسئلة وانفصالات عنها.

فإن قال قائل : قد بنيتم كلامكم هذا على قبول الباري تعالى الاتصاف بكونه سميعا بصيرا ، فبم تنكرون على من يأبى ذلك وينكره ، ويزعم أن الباري تعالى يستحيل عليه قبول السمع والبصر وأضدادهما ، كما يستحيل عليه قبول الألوان؟ قلنا : قد وضح أن الحي شاهدا قابل للاتصاف بالسمع والبصر ، فإذا اتصف بالحياة تهيأ لقبول السمع والبصر إن لم تقم به آفات ؛ ثم إذا سبرنا صفات الحي ؛ روما للعثور على ما يصحح قبوله للسمع والبصر ، لم يصح على السبر إلا كونه حيا ، إذ لو قدرنا مصححا آخر سوى ذلك لبطل التقدير ؛ فإذا وضح أن الحي باين الجماد في صحة قبول السمع والبصر لكونه حيا ، لزم من ذلك القضاء بمثله في كون الباري تعالى حيا.

وليس منكر صحة قبول السمع والبصر وحكمهما ، بأسعد حالا ممن يزعم أن الباري تعالى لا يتصف بالعلم وأضداده ، مصيرا إلى أنه يستحيل أن يتصف بأحكامها ؛ فهذا القدر كاف في غرضنا.

فإن قيل : ما الدليل على امتناع عروّ الشيء عن أحكام الأضداد مع جواز قبوله للآحاد؟ قلنا : كل ما يدل على استحالة عرو الجواهر عن المتضادات فهو دليل على ذلك ، وقد سبق الإيماء إلى ذلك في أول المعتقد.

٣٤

فإن قيل : من أركان دليلكم استحالة اتصاف الباري تعالى بالآفات المضادة للسمع والبصر ، فما الدليل على ذلك؟ قلنا : هذا مما كثر فيه كلام المتكلمين ، ولا نرتضي مما ذكروه في هذا المدخل إلا الالتجاء إلى السمع ، إذ قد أجمعت الأئمة وكل من آمن بالله تعالى على تقدس الباري تعالى عن الآفات والنقائص.

فإن قيل : الإجماع لا يدل عقلا ، وإنما دل السمع على كونه دليلا ؛ والسمع وإن تشعبت طرقه فمآله كلام الله تعالى ، وهو الصدق وقوله الحق ؛ والأفعال لا تدل على ثبوت الكلام ، بل سبيل إثباته كسبيل إثبات السمع والبصر ، كما سنذكره. فلو وقعت الطّلبة في الكلام نفسه ، وأسندنا إثباته إلى نفي الآفة ، ثم رجعنا في نفي الآفة إلى الإجماع الذي لا يثبت إلا بالكلام ، لكنا محاولين إثبات الكلام بما لا يثبت إلا بعد تقدم العلم بالكلام عليه ، وذلك نهاية العجز ؛ قلنا : هذا السؤال عظيم الوقع ، يتعين الاعتناء بالانفصال عنه ، ويتجه عندنا في درء السؤال أن نقول : المعجزات إذا دلت على صدق الرسل عليهم‌السلام ، وأخبروا بعد ثبوت صدقهم عن الكلام الثابت لله تعالى على الجملة ، ثم أخبروا عن تفاصيل متعلقاته ، فيعلم على القطع ما نرومه.

فإن قيل : المعجزات لا تدل على صدق الأنبياء لأعيانها دلالة الأدلة العقلية ، وإنما تدل من حيث تنزّل منزلة التصديق بالقول على ما سنذكره في باب المعجزات ؛ فإذا كان المعجز يدل من هذا الوجه لأنه يحل محل قول مصدق ، فكيف تدل المعجزة على قول ، ووجه دليله نزوله منزلة قول؟ قلنا : هذا مخيل ملبس ، ولكن الحق يتبين عند التحصيل ؛ فإن من ادعى في محفل أنه رسول ملك ، وقام على رءوس الأشهاد وادعى أنه رسول الملك على من شهد وغاب ، وذلك بمرأى من الملك ومسمع ، ثم قال : آية رسالتي أني إذا اقترحت على الملك أن يقوم ويقعد فعل على خلاف المعتاد منه ، ثم عقب على ما قال بالاقتراح ، فوافقه الملك ؛ فيضطر أهل المجلس إلى العلم بكونه رسولا مصدقا من المرسل. وقد لا يخطر لبعضهم كون المرسل متكلما ، وقد يحضر المجلس من ينفي كلام النفس ويعتقد ألا كلام إلا العبارات ، ثم يستوي الحاضرون في درك العلم بكونه رسولا ، مع اختلافهم في الذهول عن كلامه إذ ذاك والعلم به ؛ فاعلم ذلك ترشد.

وهذا الفصل لا يليق بمقدار هذا المعتقد ، ولكنا ألفينا فصلا تقدر لدى الإملاء ، فضمناه هذا المعتقد ، وبالله التوفيق.

وسبيل إثبات العلم بكون الباري تعالى متكلما ، كسبيل إثبات العلم بكونه سميعا بصيرا ، ولكن المقصد منه لا يتضح قبل أن نثبت كلام النفس ونرد على منكريه.

فصل

فإن قيل : قد وصفتم الباري تعالى بكونه سمعيا بصيرا ، والسمع والبصر إدراكان ، ثم تثبت شاهدا إدراكات سواهما : إدراك يتعلق بقبيل الطعوم ، وإدراك يتعلق بقبيل الروائح ، وإدراك يتعلق

٣٥

بالحرارة والبرودة واللين والخشونة ؛ فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات ، أم تقتصرون على وصفه بكونه سميعا بصيرا؟ قلنا : الصحيح المقطوع به عندنا وجوب وصفه بأحكام الإدراكات ، إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة ، فما دل على وجوب وصفه بأحكام السمع والبصر فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراكات.

ثم يتقدس الرب سبحانه وتعالى عن كونه شامّا ذائقا لامسا ، فإن هذه الصفات منبئة على ضروب من الاتصالات ، والرب يتعالى عنها. ثم هي لا تنبئ عن حقائق الإدراكات ؛ فإن الإنسان يقول شممت تفاحة فلم أدرك ريحها ؛ ولو كان الشم دالّا على الإدراك ، لكان ذلك بمثابة قول القائل : أدركت ريحها ولم أدركه ، وكذلك القول في الذوق واللمس.

فصل

الرّب سبحانه وتعالى باق مستمرّ الوجود ، وكان الترتيب الذي بنينا عليه الكلام في الصفات يقتضي أن تعدّ هذه الصفة في الأبواب المشتملة على ذكر صفات النفس ؛ فإن الذي نرتضيه ، أن الباقي باق لنفسه ، وليس كونه باقيا من الأحكام التي توجبها المعاني ، وسنوضح ذلك من بعد إن شاء الله عزوجل.

وكلّ ما دلّ على قدم الباري تعالى ، واستحالة عدمه ، ووجوب وجوده ، فهو دال على كونه تعالى باقيا.

والذي ذكرناه لمع مغنية في إثبات العلوم بأحكام الصفات الموجبة.

ونحن الآن نخوض في إثبات العلم بالصفات الموجبة للذات أحكامها ، مستعينين بالله تعالى.

باب

القول في إثبات العلم بالصفات

مذهب أهل الحق أن الباري سبحانه وتعالى حيّ ، عالم ، قادر ؛ له الحياة القديمة ، والعلم القديم ، والقدرة القديمة ، والإرادة القديمة.

واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الأهواء على نفي الصفات ، ثم اختلفت آراؤهم في التعبير عن وصفه بأحكام الصفات ؛ فقال قائلون : إنه حيّ ، عالم قادر لنفسه.

واختار آخرون عبارة أخرى ، فقالوا : هذه الأحكام ثابتة للذات لكونه على حالة هي أخص صفاته ، وتلك الحالة توجب له كونه حيّا عالما قادرا.

٣٦

وذهب ذاهبون من نفاة الصفات إلى أن الباري ، تعالى عن قولهم ، حيّ ، عالم ، قادر ، لا لعلل ولا لنفسه.

ونحن نرى أن نقدّم على الخوض في الحجاج فصلين ؛ يشتمل أحدهما على إثبات الأحوال ، والردّ على منكريها ؛ ويشتمل الثاني على جواز تعليل الواجب من الأحكام. فإذا نجزا. خضنا بعدهما في الحجاج.

فصل

الحال صفة لموجود ، غير متصفة بالوجود ولا بالعدم.

ثم من الأحوال ما يثبت للذوات معلّلا ، ومنها ما يثبت غير معلّل. فأما المعلل منها ، فكل حكم ثابت للذات عن معنى قائم بها ؛ نحو كون الحيّ حيّا ، وكون القادر قادرا. وكل معنى قام بمحل ، فهو عندنا يوجب له حالا ، ولا يختص إيجاب الأحوال بالمعاني التي تشترط في ثبوتها الحياة.

وأما الحال التي لا تعلّل ، فكل صفة إثبات لذات من غير علة زائدة على الذات ، وذلك كتحيز الجوهر فإنه زائد على وجوده. وكل صفة لوجود لا تنفرد بالوجود ، ولا تعلل بموجود ، فهي من هذا القسم ؛ ويندرج تحته كون الموجود عرضا ، لونا ، سوادا ، كونا ، علما ، إلى غير ذلك.

وأنكر معظم المتكلمين الأحوال ، وزعموا أن كون الجوهر متحيزا عين وجوده ، وكذلك قولهم في كل ما حكمنا بكونه حالا لموجود زائدا على وجوده.

والدليل على إثبات الأحوال ، أن من علم بوجود الجوهر ولم يحط علما بتحيزه ، ثم استبان تحيزه فقد استجد علما متعلقا بمعلوم ، ويسوغ تقدير العلم بالوجود دون العلم بالتحيز. وإذا تقرر تغاير العلمين ، فلا يخلو معلوم العلم الثاني من أمرين : إما أن يكون هو المعلوم بالعلم الأول ، وإما أن يكون زائدا عليه ، وباطل أن يكون المعلوم بالعلم الثاني هو المعلوم بالعلم الأول لأوجه :

منها ، أن العاقل يقطع عند الاتصاف بالعلم الثاني ، أنه أحاط بما لم يحط به قبل ، واستدرك ما لم يستدركه أولا ، ويجوز تقدير الجهل بالتحيز مع العلم بالوجود ؛ فلو كان تحيز الجوهر وجوده ، لاستحال ذلك ما يستحيل أن يعلم الموجود من يجهله في حالة واحدة.

ومن الدليل على ذلك ، أنه إذا اتحد معلوم العلمين الحادثين ، لم يتقرر القضاء باختلافهما قياسا على العلمين بوجود الجوهر وتحيزه. وربما يطلق نفاة الأحوال ، أن الشيء يعلم من وجه ويجهل من وجه ، والتعرض للوجوه إثبات الأحوال.

ولا يستغني خائض في هذا الفنّ عن التعرّض للأحوال ؛ إما بتسميتها أحوالا ، أو وجوها ، أو صفات نفس.

٣٧

ولا ينبغي أن يكيع ذو التحصيل من تهويل نفاة الأحوال ، بأن الحال لا يتصف بالوجود ولا بالعدم ، فإن قصارى ما يذكرونه استبعاد وادّعاء لا يمكن استناده إلى دعوى ضرورة وتمسك بدليل.

ومذهبنا أن المعلومات تنقسم إلى وجود ، وعدم ، وصفة وجود لا تتصف بالوجود والعدم.

فإذا وضح ما قلنا ، فاعلم أن إثبات العلم بالصفة الأزلية لا يتلقى إلا من اعتبار الغائب بالشاهد ، والتحكم بذلك من غير جمع يجر إلى الدهر والكفر ، وكل جهالة تأباها العقول ؛ فإن من قال يقضى على الغائب بحكم الشاهد من غير جمع ، لزمه أن يحكم بكون الباري تعالى جسما محدودا من حيث لم يشاهد فاعلا إلا كذلك ، ويلزم منه القضاء بتعاقب الحوادث إلى غير أول من حيث لم يشاهدها إلا متعاقبة ، إلى غير ذلك من الجهالات.

فإذا لم يكن من جامع بدّ ، فالجامع بين الشاهد والغائب أربعة :

أحدها العلة ؛ فإذا ثبت كون حكم معلولا بعلة شاهدا وقامت الدلالة عليه ، لزم القضاء بارتباط العلة بالمعلول شاهدا وغائبا ، حتى يتلازما وينتفي كل واحد منهما عند انتفاء الثاني ، وهذا نحو ما حكمنا بأن كون العالم عالما شاهدا ، معلل بالعلم. وسنوضح ذلك على قدر الكتاب ، إذا خضنا في الحجاج.

الطريقة الثانية في الجمع الشرط ؛ فإذا تبين كون الحكم مشروطا بشرط شاهدا ، ثم يثبت مثل ذلك الحكم غائبا ، فيجب القضاء بكونه مشروطا بذلك الشرط اعتبارا بالشاهد ؛ وهذا نحو حكمنا بأن كون العالم عالما مشروط بكونه حيّا ، فلما تقرر ذلك شاهدا اطرد غائبا.

والطريقة الثالثة الحقيقة ؛ فمهما تقررت حقيقة شاهدا في محقق اطردت في مثله غائبا ، وذلك نحو حكمنا بأن حقيقة العالم ، من قام به العلم.

والطريقة الرابعة في الجمع الدليل ؛ فإذا دلّ على مدلول عقلا لم يوجد الدليل غير دال شاهدا وغائبا ، وهذا كدلالة الأحداث على المحدث. فهذا أحد الفصلين الموعودين.

فصل

فأما الفصل الثاني ، فهو يشتمل على تعليل الواجب والرّد على منكريه. والذي تبني المعتزلة فاسد معتقدهم في نفي الصفات عليه ، مصيرهم إلى أن كون الباري تعالى عالما واجب ، والواجب يستقل بوجوبه عن مقتض يقتضيه ؛ وليس كذلك كون العالم عالما شاهدا ، فإنه جائز ممكن ، فإذا ثبت افتقر إلى مخصص أو مقتض.

وشبهوا الحكم الواجب والجائز ، بالوجود الواجب والجائز. والقديم سبحانه وتعالى لما كان واجب الوجود ، لم يتعلق وجوده بمقتض ؛ والحادث لما كان جائز الوجود ، افتقر وقوعه إلى مقتض.

٣٨

وهذا الذي ذكروه دعوى عريّة ، فيقال لهم : بم تنكرون على من يزعم أن الحكم الواجب يتعلق بموجب واجب؟ والحكم الجائز يتعلق بعلة جائزة؟

وأما استشهادهم بالوجود ، فلا محصول له ؛ فإنا لم نحكم بما قالوه لوجوب وجود القديم سبحانه وتعالى ، بل قضينا به من حيث انتفت الأولية عن وجود الباري سبحانه ، وما لا أول له يستحيل أن يتعلق بفاعل ، فإن لكل فعل مبتدأ ؛ فاستحال لذلك تعلقه بفاعل ، واستحال أيضا تعلقه بعلة ، فإن الوجود لا يعلل شاهدا وغائبا.

ثم نقول لهم : قد عولتم فيما يعلل على الجوار ، وقضيتم بأن الحكم إنما يعلل بجوازه ، ثم عكستم الجواز وزعمتم أن الواجب لا يعلل ، وما ذكرتموه يبطل في الطرد والعكس.

فأما تعليل الجائز ، فباطل بالوجود ؛ فإنه جائز للحوادث ، وهو غير معلل.

فإن قالوا : وجود الحوادث وإن لم يعلل فهو متعلق بالفاعل ، ومن حكم الجائز ، أن يتعلق بمقتض ، ثم قد يكون المقتضى علة ، وقد يكون فاعلا؟ قلنا : الوجود عندنا حال للجوهر ، والجوهر كان في عدمه جوهرا ، ثم طرأ عليه حال الوجود ؛ فهلا زعمتم أن كون العالم عالما شاهدا حال يطرأ على الذات الموصوفة بخصائص الصفات ، وجودا وعدما؟ وذلك يقضي إلى نفي العلل شاهدا ، ولا محيص عن ذلك.

وقولهم يستقل الواجب بوجوبه ، يبطل عليهم بأشياء :

منها ، أن كون العالم عالما شاهدا إذا ثبت فقد التحق بالواجبات ، من حيث لا ينتفي ما وقع حتى يصير كأنه لم يقع ، فيجب أن لا يكون الحال الواقع معللا.

والدليل على ذلك أصلان من مذاهب المعتزلة : أحدهما ، أنهم قالوا : الحادث غير مقدور في حال حدوثه ، وإنما تتعلق القدرة به قبل الحدوث ؛ فكما استقل الحادث بالوقوع عن تعلق القدرة ، فليستقل الحال عند الوقوع عن إيجاب العلة.

والأصل الثاني ، أنهم أثبتوا صفات سموها تابعة للحدوث ، وزعموا أنها لا تقع بالقدرة لوجوبها ، وعدّوا من ذلك تحيز الجوهر ، وقيام العرض بالمحل.

ومنها ، كون العالم عالما المعلل بالعلم ؛ فإذا ألحقوا الحال الذي فيه نزاعنا بالصفات الواجبة التابعة للحدوث ، وأخرجوه عن كونه مقدورا ولم يخرجوه عن كونه معلولا ، فدل مجموع ذلك على أن الوجوب لا ينافي التعليل.

ومما يبطل ما قالوه ، أنهم طردوا الشرط شاهدا وغائبا ، وحكموا بأن كون العالم عالما مشروط بكونه حيّا ، ثم قضوا بذلك في كون الباري تعالى عالما قادرا ؛ فإذا لم يفصلوا بين الواجب والجائز في حكم الشرط ، لم يسغ لهم الفصل في حكم العلة. وهذا القدر كاف فيما نبغيه.

٣٩

فإذا ثبت مضمون الفصلين خضنا بعدهما في الحجاج. ونحن الآن نقيم على الخصوم ثلاثة أدلة ، يفضي كل واحد منها إلى القطع ، والله المستعان.

فالطريقة الأولى ، أن نقول : قد سلمتم لنا أن كون العالم عالما حكم ثابت للذات ، كما أن كون المريد مريدا حكم ثابت للذات ، ثم منعتم كون الباري تعالى مريدا لنفسه ؛ وكل ما صدّكم عن ذلك في كونه مريدا فهو متقرر في كونه عالما ، ويتضح الجمع بالسبر والتقسيم.

فنقول : امتناع كون الباري سبحانه وتعالى مريدا لنفسه لا يخلو ؛ إما أن يستند إلى وجوب تعليل هذا الحكم غائبا ، كما ثبت تعليله شاهدا ؛ فإن كان الأمر كذلك ، فيجيء من مضمونه تعليل كونه تعالى عالما طردا للعلة المقررة شاهدا ، وإن كان ما ذكرناه في حكم الإرادة يستند إلى ما هذوا به ، من أنه لو كان مريدا لنفسه لكان مريدا لكل المرادات ، وقد أوضحنا إبطال ذلك عليهم عند كلامنا في حكم الإرادة.

فإذا بطل معلولهم في منع كون الباري تعالى مريدا لنفسه ، فلا يبقى بعده إلا ما ذكرناه. وليس يجري كون المريد مريدا مجرى كون الفاعل فاعلا ، فإن للمريد بكونه مريدا حكما وحالا على التحقيق ، وليس للفاعل بكونه فاعلا حال ؛ فهذه طريقة قاطعة فيما نلتمسه.

والطريقة الثانية أن نقول : قد ثبت أن كون العالم عالما شاهدا معلل بالعلم ، والعلة العقلية مع معلولها يتلازمان ، ولا يجوز تقدير واحد منهما دون الثاني ؛ فلو جاز تقدير كون العالم عالما دون العلم ، لجاز تقدير العلم من غير أن يتصف محله بكونه عالما ، ولا معنى لإيجاب العلم حكمه ، إلا أنه يلازمه ، فإنه لا يثبته إثبات القدرة مقدورها ؛ فلو جاز ثبوت الحكم دون العلة لوجوبه ، لجاز وجود العلة دون حكمها لوجوبها.

والعبارات المتداولة بين الأصوليين ، أن تسمية العالم عالما تقتضي علة موجبة ، موضوعة للتفاهم والميز بين ذات وذات ، فإذا ثبت ذلك شاهدا وجب القضاء به غائبا.

وإن قالوا : كون العالم عالما شاهدا إنما يعلل لجوازه ، فقد قدمنا ما يبطل ذلك في النفي والإثبات.

فإن قالوا : كون العالم عالما غائبا على خلاف كون العالم عالما شاهدا ، وإذا ثبت حكم معلل بعلة ، فإنما يلزم تعليل مثل ذلك الحكم بالعلة طردا ، قلنا : الوجه الذي يقتضي العلم شاهدا حكما ، يقتضيه غائبا. وإذا اختلف العلمان فلا يثبت حكم الاختلاف لحكميهما من الوجه الذي يقتضي العلة معلولها لأجله ؛ فإن العلم شاهدا يخالف العلم القديم عندنا ، بكونه حادثا عرضا مختصا بمتعلق واحد إلى غير ذلك. والعلم بهذه الوجوه لا يوجب كون العالم عالما ، وإنما يوجبه من حيث يكون علما ، وذلك ثابت شاهدا وغائبا. ثم ما ألزمونا في تباين الحكمين في حكم العلة ، يلزمهم في تباينهما في حكم الشرط.

٤٠