كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

لمحة عن عصر المؤلف وحياته

إنه لا يغيب عن أحد أبدا ما وصلت إليه النهضة العلمية والفكرية والأدبية والفلسفية في العصر العباسي بالرغم من كثرة القلاقل وتزاحم الفتن وتعدد المذاهب والآراء ، أضف إلى ذلك المنزلة الواهية التي انحطت إليها الخلافة وينتج عن ذلك كثير من الدويلات كالحمدانية بالجزيرة والسامانية فيما وراء النهر ، ثم الفساد الإداري وجور الولاة والسلاطين مما أدى إلى اضطراب الحياة الاجتماعية في ذلك العصر.

بالرغم من كل هذا فإن الحقبة تلك كانت من أزهى حقبات الزمان وأغزرها فكرا وعلما وفنا ، حيث الأمراء والولاة يتنافسون على تشجيع العلماء والشعراء والنابغين في بلاد اجتمعت فيها ثقافات أمم مختلفة ـ العرب ، فارس ، الروم ، اليونان ، والهند ـ فتعددت بذلك المذاهب وانتشرت الآراء والأفكار ، وراح كل مذهب يحاول الظهور والانتصار على غيره من المذاهب فكان لا بدّ من بروز فكر جديد قائم على الإقناع والبرهان.

ومن هذه المذاهب التي انتشرت آنذاك المعتزلة الذين مجدوا العقل ، والشيعة الذين ينتظرون الإمام ، والرافضة الذين لا يتوانون أبدا للسيطرة على الحكم ، والفلاسفة الذين يحاولون بكل جهد أن يبثوا أفكارهم ، ثم الأشاعرة الذين انبروا لدحض كل باطل ونصر كل عقيدة سليمة قائمة على الكتاب والسنة. وكان من بين العلماء الذين تصدوا للدفاع عن العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السنة والجماعة مؤلف كتاب «الإرشاد».

المؤلف (١)

هو عبد الملك ابن الشيخ أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه ، أبو المعالي الجويني ـ وجوين من قرى نيسابور ـ الملقب بإمام الحرمين لمجاورته بمكة أربع

__________________

(١) من البداية والنهاية لابن كثير.

٣

سنين ، كان مولده في تسع عشرة وأربعمائة ، سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني ، وتفقه على القاضي حسين ، ودخل بغداد وتفقه بها. خرج إلى مكة أربع سنين ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ ، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه ، وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، عن سبع وخمسين سنة.

ونشأ أبو المعالي في بيت مشبع بالتقوى والورع وكان والده شديد الحرص على اجتناب الحرام حتى إنه أمر زوجته أن لا تدع أحدا يرضع ابنه غيرها ، فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة ، فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده على بطنه ووضع إصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة. يقول ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان : وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة فيقول : هذا من آثار تلك الرضعة.

ومن تصانيفه التي ألفها كما يذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية :

١ ـ الشامل في أصول الدين.

٢ ـ البرهان في أصول الفقه.

٣ ـ تلخيص التقريب.

٤ ـ الإرشاد.

٥ ـ العقيدة النظامية.

٦ ـ غياث الأمم.

وغير ذلك مما سماه ولم يتمه. وقد رثي حين وفاته بمراث كثيرة فمن ذلك قول بعضهم :

قلوب العالمين على المغالي

وأيام الورى شبه الليالي

أيثمر غصن أهل العلم يوما

وقد مات الإمام أو المعالي

٤

خطبة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله.

الحمد لله بارئ النسم ، ومحيي الرمم ؛ ومقدر القسم ، ومفرق الأمم إلى الهداية للطريق الأمم ، والخذلان باقتراف الزلل واللّمم ؛ موضع الحق بواضحات الدلائل ، ومزهق الكفر والباطل ، ومبتعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على حين ضلال من الخلق وفتور من الحق ، بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

هذا ، ولما رأينا أدلة التوحيد عصاما للتسديد ، ورباطا لأسباب التأييد ؛ وألفينا الكتب المبسوطة المحتوية على القواطع الساطعة ، والبراهين الصادعة ، لا تنهض لدركها همم أهل هذا الزمان ؛ وصادفنا المعتقدات عريّة عن قواطع البرهان ؛ رأينا أن نسلك مسلكا يشتمل على الأدلة القطعية ، والقضايا العقلية ، متعلّيا عن رتب المعتقدات ، منحطا عن جلّة المصنفات. والله وليّ الإعانة والتوفيق ، وهو بالفضل حقيق.

٥
٦

باب

في أحكام النظر

أول ما يجب على العاقل البالغ ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعا ، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدث العالم. والنظر في اصطلاح الموحدين ، هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن. ثم ينقسم النظر قسمين : إلى الصحيح ، وإلى الفاسد ؛ والصحيح منه كل ما يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل ؛ والفاسد ما عداه. ثم قد يفسد النظر بحيده عن سنن الدليل أصلا ، وقد يفسد مع استناده للسداد أولا لطروء قاطع.

فإن قيل : قد أنكرت طائفة من الأوائل إفضاء النظر إلى العلم ، وزعموا أن مدارك العلوم الحواس ، فكيف السبيل إلى مكالمتهم؟ قلنا : الوجه أن نقسم الكلام عليهم ، فنقول : هل تزعمون أنكم عالمون بفساد النظر ، أو تستريبون فيه؟ فإن قطعوا بفساد النظر ، فقد ناقضوا نص مذهبهم في حصر مدارك العلوم في الحواس ، إذ العلم بفساد النظر خارج عن قبيل المحسوسات.

ثم نقول : أعلمتم فساد النظر ضرورة ، أم علمتموه نظرا؟ فإن زعموا أنهم علموه ضرورة كانوا مباهتين ، ثم لا يسلمون عن مقابلة دعواهم بنقيضها. وإن زعموا أنهم أدركوا فساد النظر بالنظر ، فقد ناقضوا كلامهم ؛ حيث نفوا جملة النظر وقضوا بأنه لا يؤدي إلى العلم ، ثم تمسكوا بنوع من النظر ، واعترفوا بكونه مفضيا إلى العلم.

وإن قالوا : أنتم إذا أثبتم النظر وادعيتم أداءه إلى العلم ، أتسندون دعواكم إلى الضرورة ، أو تسندونها إلى النظر؟ فإن ادعيتم الضرورة لزمكم ما ألزمتمونا وانعكس عليكم مرامكم ؛ وإن حكمتم بصحة النظر بالنظر فقد أثبتم الشيء بنفسه ، وذلك مستحيل. قلنا : كلامكم هذا يفيدكم شيئا ، أو لا يفيدكم شيئا أصلا؟ فإن زعموا أنه لا يفيد علما ولا يجلب حكما ، فقد اعترفوا بكونه لغوا ، وكفونا مئونة الجواب.

وإن زعموا أنه يفيد العلم بفساد دليلنا ، فقد تمسكوا بضرب من النظر في سياق إنكار جميعه. وإن قالوا : غرضنا مقابلة الفاسد بالفاسد ، رددنا عليهم التقسيم ، وقلنا : معارضة الفاسد بالفاسد من وجوه النظر. ثم نقول : لا بعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره ، وهذا كالعلم يتعلق بالمعلومات ويتعلق بنفسه ؛ إذ بالعلم يعلم العلم ، كما به يعلم سائر المعلومات.

وإن قال السائل : لست قاطعا ببطلان النظر فيطرد عليّ تقسيمكم ، وإنما أنا مستريب مسترشد ؛ فالوجه أن يقال لمن رام إرشادا : سبيلك أن تنظر في الأدلة نظرا قويما ، وتنهج فيها نهجا مستقيما ؛

٧

فإذا صح منك النظر ، واستدّت (١) منك العبر ، أفضت بك إلى العلم. وإن نظر كما رسم له ، وأنكر أداء صحيح النظر إلى العلم ، فقد تبين عناده ، وسقط استرشاده.

فصل

النظر يضاد العلم بالمنظور فيه ، ويضاد الجهل به ، والشك فيه. فوجه مضادته للعلم أنه بحث عنه وابتغاء توصل إليه ، وذلك يناقض تحقق العلم ، إذ الحاصل لا يبتغى. وسبيل مضادته للجهل ، أن الجهل اعتقاد يتعلق بالمعتقد على خلاف ما هو به ، والموصوف به مصمم عليه ، وذلك يناقض التطلب والبحث. والتشكك تردد بين معتقدين ، والنظر بغية للحق. فهو إذا مضاد للعلم وجملة أضداده.

فصل

النظر الصحيح إذا تمّ على سداده ، ولم تعقبه آفة تنافي العلم ، حصل العلم بالمنظور فيه على الاتصال بتصرّم النظر. ولا يتأتى من الناظر جهل بالمدلول عقيب النظر مع ذكره له ، ولا يولّد النظر العلم ، «ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها». وزعمت المعتزلة (٢) أنه يولده. ووافقونا على أن تذاكر النظر لا يولد العلم ، وإن كان يتضمنه. وسيرد أصل التولد في موضعه إن شاء الله عزوجل.

فإن قالوا : إذا كان النظر لا يولد العلم ، ولا يوجبه إيجاب العلة معلولها ، فما معنى تضمنه له؟ قلنا : المراد بذلك أن النظر الصحيح إذا استبق ، وانتفت الآفاق بعده ، فيتيقن عقلا ثبوت العلم بالمنظور فيه ؛ فثبوتهما كذلك حتم من غير أن يوجب أحدهما الثاني أو يوجده أو يولده ، فسبيلهما كسبيل الإرادة لشيء مع العلم به ، إذ لا تتحقق إرادة الشيء من غير علم به. ثم تلازمهما لا يقضي بكون أحدهما موجدا ، أو موجبا ، أو مولدا.

فصل

النظر الصحيح يتضمن العلم كما سبق ، والنظر الفاسد لا يتضمن علما ، وكما لا يتضمنه فكذلك لا يتضمن جهلا ولا ضدا من أضداد العلم سواه ؛ فإن النظر الصحيح يطلع الناظر على وجه

__________________

(١) استدّ الشيء أي استقام.

(٢) رأسهم واصل بن عطاء الغزال ، أول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين ، فطرده الحسن البصري من مجلسه فاعتزل إلى سارية من سواري مسجد البصرة فقيل له ولأتباعه (معتزلة). ولد سنة ٨٠ ه‍ ـ وتوفي سنة ١٣١. انظر الفرق بين الفرق.

٨

الدليل المقتضي للعلم بالمدلول. وإذا فسد النظر بمصادفة الشبهة ، فليس للشبهة وجه متعلق باعتقاد على التحقيق ؛ إذ لو كان للشبهة وجه متعلق باعتقاد على التحقيق ، لكان دليلا ، ولكان الاعتقاد علما.

ومما يوضح ذلك ، أن الدليل لما دل بصفته النفسية ، دل كل من أحاط به علما على مدلوله ؛ فلو كان للشبهة وجه أيضا ، لقاد العالم بحقيقة الشبهة إلى الجهل ، وليس الأمر كذلك.

فصل

الأدلة هي التي يتوصل بصحيح النظر فيها إلى ما لا يعلم في مستقر العادة اضطرارا ، وهي تنقسم إلى العقلي والسمعي.

فأما العقلي من الأدلة ، فما دل بصفة لازمة هو في نفسه عليها ، ولا يتقرر في العقل تقدير وجوده غير دال على مدلوله ؛ كالحادث الدال بجواز وجوده على مقتض يخصصه بالوجود الجائز ، وكذلك الإتقان والتخصيص الدالان على علم المتقن وإرادة المخصص.

والسمعي ، هو الذي يستند إلى خبر صدق أو أمر يجب اتباعه.

فصل

النظر الموصل إلى المعارف واجب ، ومدرك وجوبه الشرع ، وجملة أحكام التكليف متلقاة من الأدلة السمعية والقضايا الشرعية.

وذهبت المعتزلة إلى أن العقل يتوصل به إلى درك واجبات ، ومن جملتها النظر ، فيعلم وجوبه عندهم عقلا ، وستأتي المسألة إن شاء الله عزوجل ، ولكنا نذكر منها طرفا يختص بالنظر.

فإن قالوا : إذا نفيتم مدرك وجوب النظر عقلا ، ففي مصيركم إلى ذلك إبطال تحدي الأنبياء عليهم‌السلام ، وانحسام سبيل الاحتجاج ؛ فإنهم إذا دعوا الخلق إلى ما ظهر من أمرهم ، واستدعوا منهم النظر فيما أبدوه من المعجزات ، وخصّصوا به من الآيات ، فيقال لهم : لا يجب النظر إلا بشرع مستقر ، وتكليف ثابت مستمر ، ولم يثبت بعد عندنا شرع تتلقى منه الواجبات ؛ فيحملهم هذا الاعتقاد على الإضراب عن الرشاد ، والتمادي في الجحد والعناد.

قلنا : هذا الرأي الذي ألزمتمونا في الشرع المنقول ينعكس عليكم في قضايا العقول ؛ فإن الموصل إلى العلم بوجوب النظر من مجاري العبر ، وعندكم أن العاقل يخطر له تجويز صانع يطلب منه معرفته وشكره على نعمه ، ولو عرفه لنجا ورجا الثواب الجزيل ، ولو كفر واستكبر لتصدى لاستحقاق العقاب الوبيل.

٩

فإذا تقابل عنده الجائزان ، وتعارض لديه الاحتمالان ، وهو يتوقع في التمسك بأحدهما التعرض للنعيم المقيم ، ويرقب في ملابسة الثاني استيجاب العذاب الأليم ، فالعقل يقضي باختيار سبيل النجاة ، وإيثار تجنب المهلكات. فإذا كان السبيل المفضي إلى العلم بوجوب النظر اختلاج الخواطر في النفس ، وتعارض الجائزات في الحدس ، فمن ذهل عن هذه الخواطر ، وغفل عن هذه الضمائر ، فلا يكون عالما بوجوب النظر.

ويلزم الخصوم في مدارك العقول ، عند الغفلة والذهول ، ما ألزمونا في مقتضى الشرع المنقول. وما ألزمناهم من فرض الكلام عند عدم الخاطرين يناظر ادعاء النبوة مع عدم المعجزة ، فلزمهم العكس ولم يلزمنا ما قالوه فإن المعجزة إذا ظهرت وتمكن العاقل من دركها ، كانت بمثابة جريان الخاطرين على زعم الخصم ؛ فإذا جريا ، فإمكان النظر في اختيار أحدهما كإمكان النظر في المعجزة عند ظهورها.

ثم نقول : شرط الوجوب عندنا ، ثبوت السمع الدال عليه ، مع تمكن المكلف من الوصول إليه. فإذا ظهرت المعجزات ، ودلت على صدق الرسل الدلالات ، فقد تقرر الشرع واستمر السمع المنبئ عن وجوب الواجبات وحظر المحظورات. ولا يتوقف وجوب الشيء على علم المكلف به ، ولكن الشرط تمكن المخاطب من تحصيل العلم به.

فإن قيل : ما الدال على وجوب النظر والاستدلال من جهة الشرع؟ قلنا : أجمعت الأمة على وجوب معرفة الباري تعالى ، واستبان بالعقل أنه لا يتأتى الوصول إلى اكتساب المعارف إلا بالنظر ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

باب

حقيقة العلم

العلم معرفة المعلوم على ما هو به ، وهذا أولى في روم تحديد العلم من ألفاظ مأثورة عن بعض أصحابنا في حد العلم ؛ منها قول بعضهم : العلم تبين المعلوم على ما هو به ؛ ومنها قول شيخنا رحمه‌الله : العلم ما أوجب كون محله عالما ؛ ومنها قول طائفة : العلم ما يصح ممن اتصف به إحكام الفعل وإتقانه.

فأما قول من قال : هو تبين المعلوم على ما هو به ، فمرغوب عنه ، إذ التبين ينبئ عن الإحاطة بالمعلوم عن جهل أو غفلة ، إذ يقول من علم ما لم يكن عالما به : قد تبينته ، وغرضنا من الحد ذكر ما يشتمل على العلم القديم والحادث.

١٠

ولا نرتضي أيضا حد العلم بأنه الذي أوجب لمحله كونه عالما فإن الغرض من الحدود تبيين المقصود ، وهذا فيه إجمال ، إذ قد يجري عروضه ومثله في كل معنى يسأل المرء عن حده.

ولا يصح أيضا تحديد العلم بما يصح من الموصوف به الإحكام ، فإن العلم بالمستحيلات والقديم والموجودات الباقية ، لا يصح من الموصوف بها الإحكام ، وإنما يندرج تحت ما قاله هذا القائل ضرب واحد من العلوم ، وهو العلم بالإتقان والإحكام.

وأما أوائل المعتزلة فقد قالوا في حد العلم : هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع توطين النفس. فأبطل عليهم حدهم باعتقاد المقلد ثبوت الصانع ؛ فإنه اعتقاد المعتقد على ما هو به مع سكون النفس إلى المعتقد ، ثم هو ليس بعلم. فزاد المتأخرون فقالوا : هو اعتقاد الشيء على ما هو به ، مع توطين النفس إلى المعتقد إذا وقع ضرورة أو نظرا. وهذا يبطل بالعلم بأن لا شريك لله تعالى ، والعلم بالمستحيلات ، كاجتماع المتضادات ونحوها ، فهذه ونحوها علوم ، وليست علوما بأشياء. إذ الشيء هو الموجود عندنا ، وهو الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده عندهم فقد شذت علوم عن الحد.

فصل

العلم ينقسم إلى القديم والحادث. فالعلم القديم صفة الباري تعالى القائم بذاته ، المتعلق بالمعلومات غير المتناهية ، الموجب للرب سبحانه وتعالى حكم الإحاطة المتقدس عن كونه ضروريا أو كسبيا.

والعلم الحادث ينقسم إلى الضروري ، والبديهي ، والكسبي. فالضروري هو العلم الحادث غير المقدور للعبد مع الاقتران بضرر أو حاجة ، والبديهي كالضروري غير أنه لا يقترن بضرر ولا حاجة ، وقد يسمى كل واحد من هذين القسمين باسم الثاني. ومن حكم الضروري في مستقر العادة أن يتوالى فلا يتأتى الانفكاك عنه والتشكك فيه ؛ وذلك كالعلم بالمدركات ، وعلم المرء بنفسه ، والعلم باستحالة اجتماع المتضادات ونحوها. والعلم الكسبي هو العلم الحادث المقدور بالقدرة الحادثة. ثم كل علم كسبي نظري ، وهو الذي يتضمنه النظر الصحيح في الدليل.

هذا ، ما استمرت به العادة ، وفي المقدور إحداث علم وإحداث القدرة عليه من غير تقديم نظر ، ولكن العادة مستمرة على أن كل علم كسبي نظري.

فصل

للعلوم أضداد تخصها ، وأضداد تضادها وتضاد غيرها. فأما الأضداد الخاصة ، فمنها الجهل ، وهو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو به ؛ ومنها الشك ، وهو الاسترابة في معتقدين فصاعدا من غير

١١

ترجيح أحدهما على الثاني ؛ ومنها الظن ، وهو كالشك في التردد ، إلا أنه يترجح أحد المعتقدين في حكمه. والأضداد العامة كالموت ، والنوم ، والغفلة ، والغشية ؛ فهذه المعاني تضاد العلوم ، وتضاد الإرادة ، وتضاد أضدادها.

فصل

العقل علوم ضرورية. والدليل على أنه من العلوم الضرورية ، استحالة الاتصاف به مع تقدير الخلو عن جميع العلوم.

فإن قيل : المانع من كون العقل خاليا عن العلوم كونه مشروطا ثبوته بثبوت ضروب منها ، كالإرادة المشروطة بالعلم بالمراد قلنا : غرضنا أن نتعرض للعقل المشروط في التكليف ، إذ العاري منه لا يحيط علما بما يكلف. فإذا افتقر التكليف إلى إحاطة المكلف بما كلف ، ولا يحيط بذلك إلا بعد حصول علوم بمعلومات هي أصول النظر ، ولا يتقدم الوصول إلى العلم بالتكليف دونها ، فقصدنا ضبط تلك العلوم التي نشترط تقديمها على ابتداء النظر ، وسمينا عقلا ؛ وتبيين الغرض من العقل يدرأ السؤال. ولسنا ننكر كون العقل من الألفاظ المشتركة المنقسمة إلى معان ، وغرضنا منه ما ذكرناه.

وليس العقل من العلوم النظرية ، إذ شرط ابتداء النظر تقدم العقل ؛ وليس العقل جملة العلوم الضرورية ، فإن الضرير ومن لا يدرك يتصف بالعقل مع انتفاء علوم ضرورية عنه. فاستبان بذلك أن العقل بعض من العلوم الضرورية ، وليس كلها.

وسبيل تعيينه والتنصيص عليه أن يقال : كل علم لا يخلو العاقل منه عند الذكر فيه ، ولا يشاركه فيه من ليس بعاقل ، فهو العقل. ويخرج من مقتضى السبر أن العقل علوم ضرورية بتجويز الجائزات واستحالة المستحيلات ؛ كالعلم باستحالة اجتماع المتضادات ، والعلم بأن المعلوم لا يخلو عن النفي أو الإثبات ، والعلم بأن الموجود لا يخلو عن الحدوث أو القدم.

باب

القول في حدث العالم

اعلموا أرشدكم الله أن الموحدين تواطئوا على عبارات في أغراضهم ، ابتغاء منهم لجمع المعاني الكثيرة في العبارات الوجيزة.

فمما يستعملونه ، وهو منطوق به لغة وشرعا ، العالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى وصفة ذاته. ثم العالم جواهر وأعراض ، فالجوهر هو المتحيز وكل ذي حجم متحيز ؛ والعرض هو المعنى

١٢

القائم بالجوهر ، كالألوان والطعوم والروائح ، والحياة والموت ، والعلوم والإرادات والقدر ، القائمة بالجواهر.

ومما يطلقونه الأكوان ؛ وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ويجمعها ما يخصص الجوهر بمكان أو تقدير مكان.

والجسم في اصطلاح الموحدين المتألف ؛ فإذا تألف جوهران كانا جسما ، إذ كل واحد مؤتلف مع الثاني.

ثم حدث الجواهر يبنى على أصول ؛ منها إثبات الأعراض ؛ ومنها إثبات حدثها ، ومنها إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض ، ومنها إثبات استحالة حوادث لا أول لها. فإذا ثبتت هذه الأصول ، ترتب عليها أن الجواهر لا تسبق الحوادث ، وما لا يسبق الحادث حادث.

فأما الأصل الأول ، فقد أنكرته طوائف من الملحدة ، وهو إثبات الأعراض ، وزعموا أن لا موجود إلا الجواهر. والدليل على إثبات الأعراض أنا إذا رأينا جوهرا ساكنا ، ثم رأيناه متحركا مختصا بالجهة التي انتقل إليها ، مفارقا للتي انتقل عنها ، فعلى اضطرار نعلم أن اختصاصه بجهته من الممكنات وليس من الواجبات ، إذ لا يستحيل تقدير بقاء الجوهر في الجهة الأولى. والحكم الجائز ثبوته والجائز انتفاؤه ، إذا تخصص بالثبوت بدلا عن الانتفاء المجوّز ، افتقر إلى مقتض يقتضي له الاختصاص بالثبوت ، وذلك معلوم أيضا على البديهة.

فإذا تقرر ذلك لم يخل المقتضي من أن يكون نفس الجوهر ، إذ لو كان كذلك لاختص بالجهة التي فرضنا الكلام فيها ما دامت نفسه ، ولاستحال عليه الزوال عنها والانتقال إلى غيرها ، فثبت أن المقتضي زائد على الجوهر. ثم الزائد عليه يستحيل أن يكون عدما ، إذ لا فرق بين نفي المقتضي وبين تقدير مقتض منفي. فإذا صح كون المقتضي ثابتا زائدا على الجوهر ، لم يخل من أن يكون مثلا له أو خلافا. ويبطل أن يكون مثلا له فإن مثل الجوهر جوهر ، ولو اقتضى جوهر اختصاصا لجوهر غيره بجهة لاستحال اختصاصه بتلك الجهة ، مع تقدير انتفاء الجوهر الذي قدر مقتضيا ، وليس الأمر كذلك. ثم ليس أحد الجوهرين بأن يكون مقتضيا اختصاصا أولى من الثاني.

فإذا ثبت المقتضي الزائد على الجوهر ، وتقرر أنه خلافه ، لم يخل من أن يكون فاعلا مختارا ، أو معنى موجبا ، فإن كان معنى موجبا ، تعين قيامه بالجوهر المختص بجهته ، إذ لو لم يكن له به اختصاص لما كان بإيجابه الحكم له أولى من إيجابه لغيره. والذي وصفناه هو الغرض الذي ابتغيناه.

وإن قدّر مقدّر المخصص فاعلا ، والكلام في جوهر مستمر الوجود ، كان ذلك محالا ؛ إذ الباقي لا يفعل ، ولا بد للفاعل من فعل. فخرج من مضمون ذلك ثبوت الأعراض ؛ وهو من أهم الأغراض في إثبات حدث العالم.

والأصل الثاني ، إثبات حدث الأعراض ، والغرض من ذلك يترتب على أصول. منها إيضاح

١٣

استحالة عدم القديم ، ومنها استحالة عدم قيام الأعراض بأنفسها واستحالة انتقالها ، ومنها الرد على القائلين بالكمون والظهور. والأولى أن نطرد دلالة في حدث الأعراض.

ونورد هذه الأصول في معرض الأسئلة ، ونثبت المقاصد منها في معرض الأجوبة ، فنقول :

الجوهر الساكن إذا تحرك فقد طرأت عليه الحركة ، ودل طروءها على حدوثها ، وانتفاء السكون بطروئها يقتضي بحدث السكون إذ لو ثبت قدمه لاستحال عدمه.

فإن قيل : بم تنكرون على من يزعم أن الحركة كانت كامنة في الجوهر ، ثم ظهرت وانكمن لظهورها السكون؟ قلنا : لو كان كذلك لاجتمع الضدان في المحل الواحد ، وكما نعلم استحالة كون الشيء متحركا ساكنا ، فكذلك نعلم استحالة اجتماع الحركة والسكون.

ثم لو ظهرت الحركة والسكون مرّة واستكنّت أخرى ، لكان ذلك اعتوار حكمين عليه ، وذلك يتضمن ثبوت معنيين ، يقتضي أحدهما كون الحركة بادية ، ويقضي الآخر كونها مستكنة خافية ، فإن الدال على إثبات الأعراض تناوب الأحكام وتعاقبها على الجواهر.

ثم يلزم لو قدرنا الظهور والكمون معنيين ، ظهورهما عند ظهور أثرهما ، ككمونهما عند كمون أثرهما ، ويتسلسل القول في ذلك. ثم الحركة توجب كون محلها متحركا لعينها ، فلو جاز ثبوتها من غير أن توجب حكمها للزم تجويز ذلك أبدا فيها ، وذلك يقلب جنسها ، ويحيل حقيقة نفسها.

فصل

فإن قيل : ما الدليل على استحالة عدم القديم؟ قلنا : الدليل عليه أن عدمه في وقت مفروض يستحيل أن يكون واجبا ، حتى يمتنع تقدير استمرار الوجود الأزلي فيه ، وهذا معلوم بطلانه ببديهة العقل. فلو قدّر في وقت مفروض عدم جائز ، مع تجويز استمرار الوجود بدلا عنه من غير مقتض ، كان ذلك محالا ؛ إذ الجائز يفتقر إلى مقتض ، والعدم نفي محض يستحيل تعليقه بفاعل مخصص.

ويستحيل أيضا حمل العدم على طريان ضد ، فإن الطارئ ليس هو بمضادة القديم أولى من القديم بمنع ما قدّر ضدّا له من الطروء.

ولا يجوز استناد عدم القديم إلى انتفاء شرط من شرائط استمرار وجود القديم ، إذ لو قدّر لوجود القديم شرط لكان قديما مفتقرا عدمه لو قدّر إلى مقتض ، ثم يتسلسل القول.

فإن قيل : أحد أركان الدليل على حدث الأعراض مبني على منع انتقالها ، فما الدليل على منع انتقالها؟ إذ للقائل أن يقول : الحركة الطارئة على جوهر منتقلة إليه من جوهر آخر. فالجواب أن الحركة حقيقتها الانتقال ، فينبغي أن تقتضي ما وجدت انتقال جوهر بها ، ولو انتقلت من جوهر إلى آخر للزم طريان حالة عليها لا تكون فيها انتقالا ، وذلك قلب لجنسها ، وانقلاب الأجناس محال ؛ ولو

١٤

انتقل الانتقال ، وذلك يفضي إلى ما لا يتناهى ، فقد ثبت بمجموع ما ذكرناه حدث الأعراض والأصول المرتبطة به.

وأما الأصل الثالث ، فهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض ، فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده ، إن كانت له أضداد ، وإن كان له ضد واحد ، لم يخل الجوهر عن أحد الضدين ، فإن قدّر عرض لا ضدّ له ، لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه.

وجوزت الملحدة خلو الجواهر عن جميع الأعراض. والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والأعراض تسمى الصورة. وجوز الصالحي (١) الخلو عن جملة الأعراض ابتداء. ومنع البصريون من المعتزلة العروّ عن الأكوان ، وجوزوا الخلو عن ما عداها ، وقال الكعبي (٢) ومتبعوه :

يجوز الخلو عن الأكوان ويمتنع العروّ عن الألوان. وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العروّ عن الأعراض ، بعد قبول الجواهر لها. فيفرض الكلام مع الملحدة في الأكوان ، فإن القول فيها يستند إلى الضرورة ، فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة.

ومما يوضح ذلك ، أنها إذا اجتمعت فيما لم يزل فلا يتقرر في العقل اجتماعها إلا عن افتراق سابق ، إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع ؛ وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها ، اضطررنا إلى العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع.

وغرضنا في روم إثبات حدث العالم يتضح بثبوت الأكوان. فإن حاولنا ردا على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين : إحداهما الاستشهاد بالإجماع على امتناع العروّ عن الأعراض بعد الاتصاف بها.

فنقول : كل عرض باق ، فإنه ينتفي عن محله بطريان ضد فيه. ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به على زعمهم ، فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون ، إن كان يجوز تقدير الخلو من الألوان ابتداء ، ونطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض.

ونقول أيضا : الدال على استحالة قيام الحوادث بذات الرّب سبحانه وتعالى ، أنه لو قامت به لم يخل عنها ، وذلك يفضي لحدثه ، فإذا جوز الخصم عروّ الجوهر عن الحوادث ، مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث.

والأصل الرابع ، يشتمل على إيضاح استحالة حوادث لا أول لها. والاعتناء بهذا الركن حتم ، فإن إثبات الغرض منه يزعزع جملة مذاهب الملحدة. فأصل معظمهم أن العالم لم يزل على ما هو

__________________

(١) هو صالح بن مسرّح التميمي ، كان خارجيا ومن مشاهير المعتزلة ، قتل عام ٧٦ ه‍. انظر الفرق بين الفرق.

(٢) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، شيخ من شيوخ المعتزلة ، كان رأسا لطائفة منهم سموها «الكعبية» نسبة إليه. توفي عام ٣١٩ ه‍. انظر شذرات الذهب ٢ / ٢٨١.

١٥

عليه ، ولم تزل دورة للفلك قبل دورة إلى غير أول ، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب كذلك إلى غير مفتتح ، فكل ذلك مسبوق بمثله ، وكل ولد مسبوق بوالد ، وكل زرع مسبوق ببذر ، وكل بيضة مسبوقة بدجاجة.

فنقول : موجب أصلكم يقضي بدخول حوادث لا نهاية لأعدادها ، ولا غاية لآحادها ، على التعاقب في الوجود ، وذلك معلوم بطلانه بأوائل العقول ، فإنا نفرض القول في الدورة التي نحن فيها.

ونقول : من أصل الملحدة ، أنه انقضى قبل الدورة التي نحن فيها دورات لا نهاية لها ، وما انتفت عنه النهاية يستحيل أن يتصرم بالواحد على إثر الواحد ؛ فإذا انصرمت الدورة التي قبل هذه الدورات ، أذن انقضاؤها وانتهاؤها بتناهيها ، وهذا القدر كاف في غرضنا.

فإن قيل : مقام أهل الجنان مؤبد مسرمد ، فإذا لم يبعد إثبات حوادث لا آخر لها ، لم يبعد إثبات حوادث لا أول لها ، قلنا : المستحيل أن يدخل في الوجود ما لا يتناهى آحادا على التوالي ، وليس في توقع الوجود في الاستقبال والمآل قضاء بوجود ما لا يتناهى ، ويستحيل أن يدخل في الوجود من مقدورات الباري تعالى ما لا يحصره عدد ولا يحصيه أمد. والذي يحقق ذلك أن حقيقة الحادث ما له أول ، وإثبات الحوادث مع نفي الأولية تناقض ، وليس من حقيقة الحادث أن يكون له آخر.

وضرب المحصلون مثالين في الوجهين ، فقالوا : مثال إثبات حوادث لا أول لها ، قول القائل لمن يخاطبه : لا أعطيك درهما إلا وأعطيك قبله دينارا ، ولا أعطيك دينارا إلا وأعطيك قبله درهما ، فلا يتصور أن يعطي على حكم شرطه دينارا ولا درهما.

ومثال ما ألزمونا ، أن يقول القائل : لا أعطيك دينارا إلا وأعطيك بعده درهما ، ولا أعطيك درهما إلا وأعطيك بعده دينارا ، فيتصور منه أن يجري على حكم الشرط.

فإذا ثبت بما ذكرناه ، الأعراض وحدوثها ، واستحالة تعرّي الجواهر عنها ، واستنادها إلى أول ، فيخرج من مضمون هذه الأصول أن الجواهر لا تسبقها ، وما لا يسبق الحوادث حادث على الاضطرار من غير حاجة إلى نظر واعتبار.

وهذه اللمع كافية في إثبات حدث الجواهر والأعراض ، ونحن بعد ذلك نوضح الطريق الموصل إلى العلم بالصانع ، وبالله التوفيق.

باب

القول في إثبات العلم بالصانع

إذا ثبت حدث العالم ، وتبين أنه مفتتح الوجود ، فالحادث جائز وجوده وانتفاؤه ، وكل وقت صادفه وقوعه كان من المجوزات تقدمه عليه بأوقات ، ومن الممكنات استئخار وجوده عن وقته

١٦

بساعات. فإذا وقع الوجود الجائز بدلا عن استمرار العدم المجوز ، قضت العقول ببداهتها بافتقاره إلى مخصص خصصه بالوقوع. وذلك أرشدكم الله مستبين على الضرورة ، ولا حاجة فيه إلى سبر العبر والتمسك بسبيل النظر.

ثم إذا وضح افتقار الحادث إلى مخصص على الجملة ، فلا يخلو ذلك المخصص من أن يكون موجبا لوقوع الحدوث بمثابة العلة الموجبة معلولها ، وإما أن يكون طبيعة كما صار إليه الطبائعيون ، وإما أن يكون فاعلا مختارا.

وباطل أن يكون جاريا مجرى العلل ، فإن العلة توجب معلولها على الاقتران. فلو قدر المخصص علة لم يخل من أن تكون قديمة أو حادثة ؛ فإن كانت قديمة فيجب أن توجب وجود العالم أزلا ، وذلك يفضي إلى القول بقدم العالم ، وقد أقمنا الأدلة على حدثه ؛ وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ، ثم يتسلسل القول في مقتضى المقتضي.

ومن زعم أن المخصص طبيعة فقد أحال فيما قال. فإن الطبيعة عند مثبتها توجب آثارها إذا ارتفعت الموانع ، فإن كانت الطبيعة قديمة ، فلتقض بقدم العالم ، وإن كانت حادثة ، فلتكن مفتقرة إلى مخصص. وهذا القدر كاف في الرد على هؤلاء ، ولعلنا نرد على الطبائعيين بعد ذلك إن شاء الله عزوجل.

فإن بطل أن يكون مخصص الحادث علة توجبه ، أو طبيعة توجده بنفسها لا على الاختيار ، فيتعين بعد ذلك القطع بأن مخصص الحوادث فاعل لها على الاختيار ، مخصص إيقاعها ببعض الصفات والأوقات.

وإذا أحاط العاقل بحدث العالم ، واستبان أن له صانعا ، فيتعين عليه بعد ذلك النظر في ثلاثة أصول ، يحتوي أحدها على ذكر ما يجب لله تعالى من الصفات ، والثاني يشتمل على ذكر ما يستحيل عليه ، والثالث ينطوي على ذكر ما يجوز من أحكامه. وتنصرم بذكر هذه الأصول قواعد العقائد إن شاء الله.

باب

القول فيما يجب لله تعالى من الصفات

اعلم أن صفاته سبحانه ؛ منها نفسية ، ومنها معنوية. وحقيقة صفة النفس ، كل صفة إثبات لنفس ، لازمة ما بقيت النفس ، غير معللة بعلل قائمة بالموصوف.

والصفات المعنوية : هي الأحكام الثابتة للموصوف بها ، معللة بعلل قائمة بالموصوف.

وتبيين القسمين بالمثال أن كون الجوهر متحيزا هو : صفة إثبات لازمة للجوهر ما استمرت

١٧

نفسه ، وهي غير معللة بزائد على الجوهر ، فكانت من صفات النفس ؛ وكون العالم عالما ، معلل بالعلم القائم بالعالم ، فكانت هذه الصفة وما يضاهيها في غرضنا من الصفات المعنوية.

وسبيلنا أن نتعرض في هذا المعتقد لإثبات العلم بالصفات النفسية الثابتة للباري تعالى ، ونفتتحها بالنظر في ثبوت وجوده.

فإن قال قائل : قد دللتم فيما قدمتم على العلم بالصانع ، فبم تنكرون على من يقدر الصانع عدما؟ قلنا : العدم عندنا نفي محض وليس المعدوم على صفة من صفات الإثبات ، ولا فرق بين صانع منفي ، وبين تقدير الصانع منفيا من كل وجه ؛ بل نفي الصانع وإن كان باطلا بالدليل القاطع ، فالقول به متناقض في نفسه ، والمصير إلى إثبات صانع منفي متناقض. وإنما يلزم القول بالصانع المعدوم المعتزلة ، من حيث أثبتوا للمعدوم صفات الإثبات ، وقضوا بأن المعدوم على خصائص الأجناس.

والوجه المرضي أن لا يعد الوجود من الصفات ، فإن الوجود نفس الذات ، وليس بمثابة التحيز للجوهر ، فإن التحيز صفة زائدة على ذات الجوهر ، ووجود الجوهر عندنا نفسه من غير تقدير مزيد. والأئمة رضي الله عنهم متوسعون في عد الوجود من الصفات ، والعلم به علم بالذات.

فصل

الدليل على قدم الباري تعالى

فإن قيل : ما الدليل على قدم الباري تعالى بعد ثبوت العلم بوجوده ، وما حقيقة القدم أولا؟ قلنا : ذهب بعض الأئمة إلى أن القديم هو الذي لا أول لوجوده.

وقال شيخنا (١) رحمة الله عليه : كل موجود استمر وجوده وتقادم زمنا متطاولا ، فإنه يسمى قديما في إطلاق اللسان ، قال الله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس : ٣٩].

وغرضنا نصيب الدليل على أن وجود القديم غير مفتتح ، والدليل عليه أنه لو كان حادثا لا فتقر إلى محدث ، وكذلك القول في محدثه ، وينساق ذلك إلى إثبات حوادث لا أول لها ، وقد سبق إيضاح بطلان ذلك.

فإن قيل : في إثبات موجود لا أول له إثبات أوقات متعاقبة لا نهاية لها ، إذ لا يعقل استمرار وجود إلا في أوقات ، وذلك يؤدي إلى إثبات حوادث لا أول لها ؛ قلنا : هذا زلل ممن ظنه ، فإن الأوقات يعبر بها عن موجودات تقارن موجودا ، وكل موجود أضيف إلى مقارنة موجود به فهو وقته ، والمستمر في العادات التعبير بالأوقات عن حركات الفلك ، وتعاقب الجديدين.

__________________

(١) هو أبو القاسم عبد الجبار بن علي الأسفرايني تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأسفرايني ، الذي تخرج على أبي الحسن الباهلي تلميذ أبي الحسن الأشعري. انظر مقدمة الشيخ الكوثري للعقيدة النظامية ط القاهرة عام ١٩٤٨ ص ٦.

١٨

فإذا تبين ذلك في معنى الوقت ، فليس من شرط وجود الشيء أن يقارنه موجود آخر ، إذا لم بتعلق أحدهما بالثاني في قضية عقلية ، ولو افتقر كل موجود إلى وقت ، وقدرت الأوقات موجودة ، لافتقرت إلى أوقات ، وذلك يجر إلى جهالات لا ينتحلها عاقل ، والباري سبحانه قبل حدوث الحوادث منفرد بوجوده وصفاته ، لا يقارنه حادث.

فصل

الباري سبحانه وتعالى قائم بنفسه ، متعال عن الافتقار إلى محل يحله أو مكان يقله. واختلفت عبارات الأئمة رحمهم‌الله تعالى ، في معنى القائم بالنفس ؛ فمنهم من قال : هو الموجود المستغني عن المحل ، والجوهر على ذلك قائم بنفسه ؛ وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق رحمه‌الله (١) : القائم بالنفس هو الموجود المستغني عن المحل والمخصص ؛ وذلك يختص عنده بالباري تعالى ، إذ الجوهر ، وإن لم يفتقر إلى محل يحله ، فقد افتقر وجوده ابتداء إلى مخصص قادر.

والغرض المعنيّ من هذا الفصل ، هو إقامة الدليل على تقدس الرب تبارك وتعالى عن الحاجة إلى محل. والدليل عليه أنه لو حل محلا ، وافتقر وجوده إليه ، لكان المحل قديما ولكان هو صفة له ، إذ كل محل موصوف بما قام به ، والصفة يستحيل أن تتصف بالأحكام التي توجبها المعاني. وسنبين وجوب اتصاف الباري بكونه حيا عالما قادرا.

فصل

من صفات نفس القديم تعالى مخالفته للحوادث ، فالرب تعالى لا يشبه شيئا من الحوادث ، ولا يشبهه شيء منها.

ولا بد في صدر هذا الفصل من التنبيه على حقيقة المثلين والخلافين. فالمثلان كل موجودين سدّ أحدهما مسدّ الآخر ، وربما قيل في أحدهما : هما الموجودان اللذان يستويان فيما يجب ويجوز ويستحيل ، والأولى العبارة الأولى. والمختلفان كل موجودين ثبت لأحدهما من صفات النفس ما لم يثبت للثاني.

وذهب ابن الجبائي (٢) ومتأخرو المعتزلة إلى أن المثلين هما الشيئان المشتركان في أخص الصفات. ثم قالوا : الاشتراك في الأخص يوجب الاشتراك فيما عداه من الصفات غير المعللة ؛

__________________

(١) هو الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الأسفرايني الملقب بركن الدين ، له كتاب جليل وقيم هو «جامع الحاوي في أصول الدين والرد على الملحدين» توفي عام ٤١٨. انظر ابن خلكان.

(٢) هو أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي وأتباعه البهشميون مات ببغداد عام ٣٢١. انظر طبقات المعتزلة ص ٩٤ ـ ٩٦.

١٩

وعلى هذا المذهب بنوا كثيرا من الأهواء ، وهو باطل. فإن الأخص لو أوجب الاشتراك فيه الاشتراك في سائر الصفات النفسية ، لامتنع مشاركة الشيء خلافه في صفات العموم ، إذ هما غير مشتركين في الأخص ، فإذا فقدت العلة لزم انتفاء المعلول. وقد علمنا أن السواد المخالف للحركة بالأخص مشارك لها في الحدث والوجود والعرضية وغيرها ، فيبطل تعليل التماثل في الصفات بالاشتراك في الأخص. ومما يبطل ذلك ، أن الشيء عندهم يماثل مثله بما يخالف به خلافه. ثم العلم مخالف للقدرة في كونه علما على الضرورة ، ومنكر ذلك جاحد لها ، وذلك يبطل المصير إلى أن المخالفة والمماثلة تقعان بالأخص.

فالوجه بعد بطلان اعتبار الأخص تعليلا به ، أن نقول : لا بدّ من رعاية جمع صفات النفس في تبيين المماثلة ، وقد بطل التعليل بشيء منها ، فلا وجه إلا ذكر جميعها. وقد نقضت المعتزلة أصلها ، حيث أثبتوا للباري سبحانه وتعالى إرادة حادثة ، يستحيل عليها القيام بالمحال ، وقضوا بأنها مثل لإرادتنا القائمة بالمحل ، وهذا اعتراف بالاشتراك في الأخص من غير وجوب الاشتراك في سائر الصفات.

فصل

فإن قيل : هل يجوز أن يستبد أحد المثلين بحكم عن مماثله؟ أم هل يجوز أن يشارك أحد الخلافين في حكم ما يخالفه؟ قلنا : هذا السؤال يشتمل على مسألتين.

فأما الأولى ، فالجواب عنها أن الشيء لا يستبد بصفة نفس عن مثله ، ويجوز أن ينفرد بصفة معنى وقوعا يجوز مثلها على مماثله.

وبيان ذلك بالمثال أن الجواهر متماثلة لاستوائها في صفات الأنفس ، إذ لا يستبدّ جوهر عن جوهر بالتميز وقبول الأعراض ، إلى غير ذلك من صفات الأنفس ، وقد يختص بعض الجواهر بضروب من الأعراض يجوز أمثالها في سائر الجواهر. فخرج من ذلك أن اختصاص الشيء ببعض الصفات الجائزة على مماثله لا يقدح في مماثلته له ، فإن الشيء يماثل ما يماثله لنفسه ، فيراعى في حكم المماثلة صفات الأنفس. فالطواري الجائزة لا تحيل صفات الأنفس.

وأما المسألة الثانية التي تضمنها السؤال ، فالوجه فيها أن لا يمتنع مشاركة الشيء لما يخالفه في بعض صفات العموم ؛ فالسواد وإن خالف البياض فإنه يشاركه في الوجود ، وكونهما عرضين لونين ، إلى غير ذلك.

وغرضنا من التعرض لهذه المسألة الرد على طوائف من الباطنية (١) ، حيث قالوا : لا يثبت للباري ، تعالى عن قولهم ، صفة من صفات الإثبات. وزعموا أنهم لو وصفوا القديم بكونه موجودا

__________________

(١) ظهرت دعوة الباطنية في أيام المأمون من حمدان قرمط ، ومن عبد الله بن ميمون القدّاح وليست الباطنية من فرق الإسلام بل من فرق المجوس. انظر الفرق بين الفرق.

٢٠