كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

وقد أكثروا في الجواب ، ونحن نجتزئ مما أورد الأئمة بأن نقول : هلا أماتهم؟ أو هلا قطع عذابهم وسلب عقولهم حتى لا يعصوه؟ إذ ليست تلك الدار دار تكليف ، فيجب فيها التعريض للتكليف. ثم إن لم يبعد المصير إلى أن الأصلح تكليف من علم الرب تعالى أنه يكفر ، فهلا قيل : الأصلح إنقاذ من علم الرب تعالى أنه يعود ، وهذا أقرب ؛ فإن الإنقاذ من العذاب روح ناجز ، والتكليف في حق من يكفر تنجيز مشقة من غير ارتقاب ثواب. وستكون لنا عودة إلى إلزام المعتزلة تأقيت الثواب والعقاب إن شاء الله عزوجل.

ومما نعتضد به أن نقول : إذا حكمتم ، بأن كل ما يفعله الرب تعالى لا يستوجب على شيء من أعماله شكرا وحمدا ، كما لا يستوجب بإيصال الثواب إلى مستحقه حمدا في الدار الآخرة. إذ العقل على قياسهم يقضي بأن من يؤدي واجبا لا يستحق عليه شكرا ، كالذي يردّ وديعة أو دينا لازما.

فإن قالوا : الثواب عوض ، وليس على العوض عوض ، وليس كذلك الابتداء بالنعمة. قلنا : إذا استويا في الوجوب والحتم ، لم يؤثر افتراقهما فيما ذكرتموه ، ثم شكر العبد عوض من النعم ، وهو مقابل للثواب ، فبطل التعويل على ما ذكروه من كل وجه.

ومما كثر فيه خبط البغداديين ، أن قيل لهم : قد أوجبتم على الله تعالى فعل الأصلح في الدنيا ، ومقدورات الباري تعالى لا تتناهى في اللذات ، فبأيّ قدر تضبطونه في الأصلح ، ولا حصر للذات ولا نهاية للمقدورات ، وكل مبلغ من الإحسان فعليه مزيد من الإمكان؟

فإن قالوا : يتقدر الأصلح في حق العبد بما علم الرب تعالى أن المزيد عليه يطغيه ، قلنا : اللذات منافع ناجزة ، ولا معوّل على العلم بأن العبد سيطغى ، فإن من علم الرب تعالى أنه إذا أقدره خيره ، فإنه يؤثر الفسوق والعصيان ، فتكليفه حتم على مذاهبكم ، لكونه تعريضا لمنفعته ، مع العلم بأن المكلف يعطب ويشفي على الردى ، فهلا طردتم ذلك في اللذات من غير تمسك بما يعلم في المآل! ولا جواب عن شيء من ذلك.

وفيما صار إليه هؤلاء خرق إجماع الأمة ومخالفة الأئمة ؛ فإنهم إذا أوجبوا فعل الاستصلاح فلا يبقى للإفضال مجال ، ويخرج الرب تعالى عن كونه متفضلا تعالى الله عن قول المبطلين. وقد علمنا على الضرورة أنباء فحوى خطاب الشرع عن كون الرب متفضلا ، على من يشاء ، كافا نعمه عمن يشاء. وليس لله عند المعتزلة خيرة في أفعاله وإفضاله ، وهذا قدح منهم في الإلهية ، ومراغمة الكتاب العزيز. قال الله تعالى ، في استيثاره واختياره وقهر عباده واقتداره : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [سورة القصص : ٦٨]. ونبذة مما ذكرناه تنقض دعائم المعتزلة وتفض شكائمهم.

فأما البصريون ، فإن ناجزناهم على الأصل الأول ، ومنعناهم تحسين العقل وتقبيحه ، وأوضحنا أن لا واجب على الله تعالى ، ففي ذلك صدهم عن مرامهم ، وإن نحن أضربنا عن ذلك ،

١٢١

وقدرنا تسليمه جدلا ، قلنا لهم بعده : قد أوجبتم بعد التكليف الأصلح في الدين ، فهلا أوجبتم الأصلح في أمر الدنيا! وأيّ فصل بينهما بعد الاختراع وخلق الملاذ والشهوات؟

ونطرد عليهم شبهة للبغداديين يصعب عليهم موقعها ، فنقول : مآخذكم العقول ، والرجوع إلى الشاهد. ومعلوم أن من كان يملك بحارا لا تنزف وأودية خرارة غزيرة لا تنقطع ، ولا حاجة به إليها ؛ وبمرأى منه إنسان يلهث عطشا ، وجرعة ترويه ، فلا يحسن أن يحال بينه وبين ما يسد رمقه ، ويقبح أن يجلي عن مشرع الماء ، وإن لم يقبح ذلك فلا قبيح في العقل.

والغرض من مساق هذا الكلام أن الأصلح في الدنيا بالإضافة إلى مقدور الله تعالى ، أقل من غرفة ماء بالإضافة إلى البحار ، فإنها متناهية ومقدورات الله تعالى لا تتناهى ، والواحد منا لا يتضرر بالبذل ، وإن قلّ وغمض مدرك ما يخصه من الضرر ، والرب تعالى منزه عن قبول الضرر.

وهذا يلزم المعتزلة إذا حسّنوا بالعقول وقبحوا ، وإن ألزمنا ما قالوه نقضناه على الفور بعقاب أهل النار ، وقلنا : إذا أساء العبد شاهدا حسن العفو عنه في مكارم الأخلاق ، مع تعريض السيد لضرر المغايظ عند ترك الانتقام والتشفي ، فما بال العصاة مخلدون في الأنكال والأغلال ، وقد ندموا على ما قدموا ، والرب تعالى أرحم الراحمين؟

ومما يخص به البصريون فيه إيضاح باب يمكن إفراده. وهو أن نقول : قد أوجبتم بعد التكليف الأصلح في الدين ، وحسّنتم التكليف لتعريضه المكلف للثواب الدائم ، فإذا علم الرب تعالى أنه لو اخترم عبده قبل أن يناهز حلمه لكان ناجيا ، ولو أمهله وأرخى طوله ، وأقدره ، وسهل له النظر ويسره لعند وجحد ، فكيف يستقيم أن يقال أراد الرب الخير لمن علم ذلك منه؟ أم كيف يستجيز لبيب أن يقال الأصلح تكليفه ، ولو اخترم لكان قد فاز؟ وعند ذلك تحق الحقائق ، وتضغطهم المضايق.

وها نحن نوضح الحق في هذا المجال بضرب مثال ، فنقول : إذا علم الأب الشفيق أن ولده لو أمدّه بالأموال لطغى وآثر الفساد وتنكب الرشاد ، ولو أقتر عليه لصلح ؛ فلو أراد استصلاح ولده ، فأمده بالمال ، مع علمه بأنه يطغيه أو يرديه ، فباضطرار نعلم أن التقتير أصلح له من السعة. ولو قال الوالد ، وقد أمد ولده ، وهيأ له عدده ، وأحسن صفده : إنما قصدت أن أقيم أوده ، مع علمي بخلاف ذلك ، فلا خفاء بخروجه عن موجب العقل.

فإن قالوا : إنما لا يكون الأب ناظرا له ، لأنه لا يحيط بمبلغ ما يعرضه له من الخير لو رشد في المآل ، والرب تعالى عالم بمبلغ ما يستوجبه المكلف من الثواب لو آمن. وهذا تلاعب بالدين ؛ فإن العلم بمبلغ الثواب لا حكم له مع العلم بأنه لا يناله ، فما يغني العبد علم الرب بمبلغ ثواب لا يناله. والذي يوضح الحق في ذلك ، أنه يحسن من النبي عليه الصلاة والسلام الدأب على دعاء من أعلمه الرب تعالى أنه لا يؤمن ، وإن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذاهلا عن مبلغ الثواب الذي يتعرض المكلف له.

والذي يعضد ما قلناه ، أن التكليف في حق من علم الرب تعالى أنه يكفر لو كان خيرا ، لحسن ممن لم يبلغ مبلغ التكليف ، وعلم أنه لو بلغه لكفر ، أن يرغب إلى الله تعالى في أن يبقيه حتى يكفر ،

١٢٢

إذ حق العبد أن يرغب إلى الله تعالى فيما هو الأصلح له ، وعند ذلك يبطل القدر رأسا على أصول المعتزلة.

ومما نخاطب به البصريين أن نقول : الرب تعالى قادر على التفضل بمثل الثواب ، فأي غرض في تعريض العباد للبلوى والمشاق والبلاء؟ فإن قالوا : لا يتصف الرب تعالى بالاقتدار على ذلك ، فإنا لو قدرنا ذلك لكان الرب تعالى متفضلا به ، واستيفاء الحق المستحق أولى من قبول الفضل. قلنا : هذا قول من لم يقدر الله حق قدره ، وما ذكرتموه إنما يؤول إلى نفي قبول المنن ، وذلك بين الأكفاء والأضراب ، ومن الذي يستكبر ، وهو عبد مربوب ، من قبول فضل الله؟

والدليل عليه أن الرب تعالى متفضل ، بابتداء التكليف عندكم معاشر البصريين ، فالثواب مترتب على ما الله تعالى متفضل بأصله. ثم نقول : نسيتم أصولكم في الرجوع إلى الشاهد. ومعلوم أن ملكا في زماننا لو تفضل على واحد ، وأكرم مثواه ، وأجزل جائزته ، وأعلى رتبته ، واستأجر أجيرا ثم وافاه أجره بعد عرق الجبين وكدّ اليمين ، فالمتفضل عليه أحق بكونه محظوظا مرعيا ملحوظا ؛ وسنعود إلى ذلك إن شاء الله عزوجل.

ثم نقول : العجب كل العجب ممن يقول تعريض من يكفر للهلاك أصلح له من التفضل عليه! ولا مزيد على ذلك في عمى البصائر ، وقانا الله البدع.

فصل

اللطف عند المعتزلة ، هو الفعل الذي علم الرب تعالى أن العبد يطيعه عنده ، ولا يتخصص ذلك بجنس ، ورب شيء هو لطف في إيمان زيد ، وليس بلطف في إيمان عمرو.

وقد يطلق اللطف مضافا إلى الكفر ، فيسمى ما يقع الكفر عنده لطفا في الكفر. ثم من أصل المعتزلة أنه يجب على الله تعالى أقصى اللطف بالمكلفين ، وقالوا على منهاج ذلك : ليس في مقدور الله تعالى لطف لو فعله بالكفرة لآمنوا ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وأما أهل الحق ، فاللطف عندهم خلق قدرة على الطاعة ، وذلك مقدور لله تعالى أبدا. فنقول للمعتزلة : لم أوجبتم اللطف في الدين؟ وهلا قلتم إنه يقطع اللطف تعظيما للمحنة ، وتعريضا للمكلفين لعظم المشقات ، وقطع الألطاف تعريض للثواب الأجزل؟

فإن قالوا : الغرض أن يؤمنوا ، قلنا : فأي غرض في تكليف من لا يؤمن؟ وإذا حكمنا العقول فاخترام من هذه سبيله هو اللطف به ، دون تعريضه للتكليف ، مع العلم بأنه لا لطف في المعلوم يؤمن المكلف عنده ؛ فهذا مبلغ غرضنا في الصلاح والأصلح واللطف.

باب

القول في إثبات النبوءات

إثبات النبوءات من أعظم أركان الدين ، والمقصود منه في المعتقد يحصره خمسة أبواب :

١٢٣

أحدها إثبات جواز انبعاث الرسل ردا على البراهمة ؛ والثاني المعجزات وشرائطها ، وفيه تبيين تمييزها من الكرامات والسحر ، وما يتميز به مدعي النبوءة ؛ والثالث في إيضاح وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول ؛ والرابع في تخصيص نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات ، والرد على منكريها من أهل الملل ؛ والخامس الكلام في أحكام الأنبياء. وما يجب لهم وما يجوز عليهم.

فصل

قد أنكرت البراهمة النبوءات ، وجحدوها عقلا ، وأحالوا ابتعاث بشر رسولا. ونحن نذكر ما يعتقدونه من شبههم ، ونتفصى عنها أولا. فمما يسترحون إليه أن قالوا : لو قدرنا ورود نبي لم يخل ما جاء به من أن يكون مستدركا بقضية العقل ، أو لا يكون مستدركا بها. فإن كان ما جاء به مما يوصل العقل إليه ، فلا فائدة في ابتعاثه ، وما يخلو عن غرض صحيح عبث وسفه ، وإن كان ما جاء به مما لا يدل عليه العقول ، فلا يتلقى بالقبول ، فإنما المقبول مدلول العقول.

وشبه البراهمة مبنية على تحسين العقول وتقبيحها ، ولو نازعناهم في ذلك لم تستمر لهم شبهة ولكنا نسلم لهم جدلا يقتضيه العقل ، وأن لا يكون مستدركا هذا الأصل ، ونبين بطلان ما يعولون عليه مع تسليمه ، فنقول :

لا يمتنع تأكيد أدلة العقول بما جاء به الرسول ، وهذا بمثابة قيام أدلة عقلية على مدلول واحد ، وإن كان الاكتفاء يقع بدلالة واحدة فلا نجعل ما عداها عبثا. ثم لا يمتنع أن يقع في معلوم الله تعالى أن الرسول إذا ابتعث كان ابتعاثه لطفا في الأحكام العقلية ، وينتدب العقلاء لها عند إرسال الرسول ، فإذا لم يمتنع ما قلناه بطل ادعاؤهم بخلو الابتعاث عن غرض.

ثم نقول : لم زعمتم أن ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لم يكن مدلول العقل كان باطلا؟ وبم تنكرون على من يزعم أن ذلك يجري مجرى ما لو تقدم عليل إلى طبيب يسائله عما يصلح له ، فهو على الجملة يعلم أن المبتغى ما يشفيه ، ولكن لا يتعين له ما فيه شفاؤه ، والطبيب ينص له على ما يشفيه.

وكذلك المبعوث إليهم لا يتعين لهم قبل البعثة ما يصلحهم مما يبتعث الرسول فيه ، فإذا أرسل نص على المراشد وأوضح مناهج المقاصد.

ويقال لهم : لم زعمتم أن العقول تغني عن ابتعاث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فهلا جوزتم إرسال الرسل لتبيين الأغذية والأدوية ، وتمييزها عن السموم المؤذية والأنبتة المضرّة ، وشيء من ذلك لا يستدرك عقلا؟ فإن قالوا : أطول التجارب يرشد إلى هذه المذاهب ، قلنا : عدم التجارب إلى استقرارها يفضي إلى المعاطب واقتحام المضار. ولو ثبت الإرشاد أولا ، لما مست الحاجة إلى معاطات السموم وتمييزها عما عداها.

١٢٤

ومما تمسكوا به أن قالوا : ألفينا الشرع عندكم مشتملا على أمور مستقبحة عقلا ، مع علمنا بأن الحكيم لا يأمر بالفواحش ، ولا يندب إلى القبائح ، قالوا : فمما تشتمل عليه الشرائع ذبح البهائم واستسخارها ، والعقل قاض بقبح ذلك ؛ قلنا : ما ذكرتموه ينعكس عليكم بإيلام الله تعالى البهائم والأطفال الذين لم يقترفوا ذنبا ولم يحتقبوا وزرا. فإن قالوا : ذلك عن الله حكمة ، قلنا : فما كان حكمة من فعله ، لم يبعد كون الأمر به أيضا حكمة ، وهذا القدر مغن في غرضنا.

وربما يشيرون إلى تخيلات لا يتشاغل بأمثالها لبيب ، فيقولون : في الشرائع ما تردع منه العقول ، كالانحناء في الركوع ، والانكباب على الوجه في السجود ، والتحسير ، والتعري ، والهرولة ، والتردد بين جبلين ، ورمي الجمار من غير مرميّ إليه ، إلى غير ذلك مما يهزءون به.

والوجه معارضتهم بما لا يجدون منه مخلصا ، فنقول : الرب تعالى قد يضطر عبده ويفقره ويعريه ، ويتركه كلحم على وضم والسوءة منه بادية ، ولو عرى واحد منا عبده مع تمكنه من ستره ومواراة سوأته لكان ملوما ، والرب تعالى يفعل من ذلك ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. وهو الذي يسلب العقول ، ويضطر المجانين إلى ما يتعاطونه مما تبقى مضرته ، مع القدرة على أن يكمل عقولهم. فإذا لم يبعد ما ضربنا فيه الأمثلة ، أن يكون فعلا لله تعالى ، لم يبعد أيضا وقوعه مأمورا به.

فإن قالوا : إذا وقع ما ذكرتموه في أفعال الله تعالى ، ففيه مصالح خفية هو المستأثر بعلمها ، قلنا : فالتزموا مثل ذلك في الأمر بما استبعدتموه.

وللقوم شبه تتعلق بالمطاعن في المعجزات ، ونحن نذكر عمدهم منها في تضاعيف الكلام إن شاء الله عزوجل.

والدليل على جواز إرسال الله الرسل وشرع الملل ، أن ذلك ليس من المستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها ، كاجتماع الضدين ، وانقلاب الأجناس ونحوها ، إذ ليس في أن يأمر الرب تعالى عبدا بأن يشرع الأحكام ، ما يمتنع من جهة التحسين والتقبيح.

فإذا تبين ذلك ؛ قلنا : بعده مسلكان ؛ أحدهما أن ننفي أصل التقبيح والتحسين عقلا ، فلا يبقى بعده إلا القطع بالجواز ؛ والثاني أن نسلم التقبيح جدلا ، ونقول : الإرسال ليس مما يقبح لعينه ، بخلاف الظلم ، والضرر المحض ، ونحوهما ، ولا يتلقى قبحه بأمر يتعلق بغيره ؛ فإنه لا يمتنع أن يقع في المعلوم كون الانبعاث لطفا ، يؤمن عنده العقلاء ويلتزمون قضيات العقول ، ولولاه لجحدوا وعندوا. فهذا قاطع في إثبات جواز النبوءات.

ومن القواطع في ذلك إثبات المعجزات كما نصفها ، ودلالتها على صدق المتحدي. وإذا أوضحنا كونها أدلة على صدق مدعي النبوءة ، ففي ذلك أبين رد على منكري النبوءة.

١٢٥

فصل

اعلموا أولا أن المعجزة مأخوذة لفظا من العجز ، وهي عبارة شائعة على التوسع والاستعارة والتجوز ؛ فإن المعجز على التحقيق خالق العجز ، والذين يتعلق التحدي بهم لا يعجزون عن معارضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن المعجزة إن كانت خارجة من قبيل مقدورات البشر ، فلا يتصور أيضا عجز المتحدين بالمعجزات ، فإن المعجز يقارن المعجوز عنه. فلو عجزوا عن معارضة ، لوجدت المعارضة ضرورة ، والعجز مقترن بها على ما تقصيناه في كتاب القدر. فالمعنى بالإعجاز الإنباء عن امتناع المعارضة من غير تعرض لوجود العجز الذي هو ضد القدرة.

وقد يتجوز بإطلاق العجز على انتفاء القدرة ، كما يتجوز بإطلاق الجهل على انتفاء العلم. ثم في تسمية الآية معجزة تجوز آخر أيضا ، وهو إسناد الإعجاز إليها ، والرب تعالى هو معجز الخلائق بها ، ولكنها سميت معجزة لكونها سببا في امتناع ظهور المعارضة على الخلائق.

ثم اعلموا أن المعجزة لها أوصاف تتعين الإحاطة بها. منها أن تكون فعلا لله تعالى ، فلا يجوز أن تكون المعجزة صفة قديمة ، إذ لا اختصاص للصفة القديمة ببعض المتحدّين دون بعض. ولو كانت الصفة القديمة معجزة ، لكان وجود الباري تعالى معجزا. وإنما المعجز فعل من أفعال الله تعالى نازل منزلة قوله لمدعي النبوءة : صدقت ، على ما سنوضح وجه دلالة المعجزة على صدق الرسول ، والذي ذكرنا جار فيما لا يقع مقدورا للبشر.

فإن قيل : هل يجوز أن يكون المشي على الماء ، والتصعد في الهواء ، والترقي في جو السماء معجزة؟ قلنا : لا يبعد تقرير ذلك معجزة إذا تكاملت صفات المعجزات ، والحركات في الجهات من قبيل مقدورات البشر. وأما نفس الحركات ، فمن اعتقد كونها من فعل الله تعالى ، لم يبعد أن يعتقد كونها معجزة من حيث كانت فعلا لله تعالى ، لا من حيث كانت كسبا للعباد ، فتكون القدرة على هذا التقدير والحركات معجزات.

فإن قيل : لو ادعى نبي النبوءة ، وقال : آيتي أن يمتنع على أهل هذا الإقليم القيام مدة ضربها ، فذلك من الآيات الظاهرة ، وليست هي فعلا ، بل هي انتفاء فعل ؛ وقد قال شيخنا رحمه‌الله : المعجزة فعل لله تعالى يقصد بمثله التصديق ، أو قائم مقام الفعل يتجه فيه قصد التصديق ، وأشار إلى ما ذكرناه. والوجه عندي أن القعود المستمر مع محاولة القيام هو المعجز ، فرجع المعجز إلى الفعل. فإن قيل : إن القعود معتاد ، والمعجز خارق للعادة ؛ قلنا : القعود المستمر مع محاولة القيام في أقوام لا يعدون كثرة خارق للعادة ؛ فهذا شريطة المعجزة.

ومن شرائطها أن تكون خارقة للعادة ، إذ لو كانت عامة معتادة يستوي فيها البار والفاجر ، والصالح والطالح ، ومدعي النبوءة المحق بها والمفتري بدعواه ، لما أفاد ما يقدر معجزا تمييزا وتنصيصا على الصادق ، ولا خفاء بذلك فنطنب فيه.

١٢٦

وللبراهمة أسئلة يجب الاعتناء بها الآن. منها أن قالوا : خرق العوائد لا ينضبط ، فإن ما يوجد على الندور مرة أو مرتين ، لا يخرج عن قبيل الخوارق ، وإذا تكرر وتوالى صار معتادا ، ولا ينضبط ما يلحقه بالمعتاد ويخرجه عن الخوارق ، فالقول فيه مستند إلى جهالة.

وهذا لا محصول له ، وهو تحويم على جحد ضرورات العقول بتخييل ليس له تحصيل ؛ فإنا باضطرار نعلم أن إحياء الموتى وفلق البحر وما شابههما ليس من الأفعال المعتادة ، وعدم انحصار الأعداد التي تلحقها بالمعتاد لا يدرأ هذه الضرورة ، ورب شيء لا تنضبط عدته ولا تكيف صفته ، وإن كان معلوما باضطرار. وهذا بمثابة إفضاء الأخبار المتواترة إلى العلم الضروري بالمخبر عنه ، فلو أردنا ضبط أقل عدد يحصل التواتر بأخبارهم لم نجد إلى ذلك سبيلا ، وليس عدد فيه أولى من عدد.

وأقصى ما نذكره أن الأعداد التي ورد الشرع بها في الشهود ليست عدد التواتر ، ثم ليس لنا بعدها عدد يقطع به. ومن خاطب غيره بما تحشّمه فغضب ، استيقن على الضرورة غضبه. ولا يمكن ربط العلم بغضبه على احمراره أو صفة أخرى من صفاته ، فإن كل صفة يشار إليها قد توجد في غير حالة الغضب.

وإن قالت البراهمة : في أصلكم أن خرق العوائد وقلبها مقدور لله تعالى ، فليس من المستحيل أن تطرد عادة ثم يعهد مثلها ، ولو اطردت لخرجت عن كونها معجزة. فإذا ادعى نبي الرسالة ، وتشبث بما يخرق العادة ، فما يؤمننا أن يكون ذلك أول عادة ستطرد ، ولو اطردت لما كانت آية. والقول في التّفصّي عن ذلك يطول.

وأقرب شيء في ردهم أن نقول : لو قال نبي آيتي أن يقلب الله عادة معتادة ويطرد نقيضها ، لكان ذلك أحق المعجزات بالدلالة على النبوءات. ولئن دل نادر واحد مع عود العادة إلى الاطراد ، فلأن تدل عادة مطردة على مناقضته التي سلفت أولى. ثم إن استمر تمويههم في نادر يتحدى به نبي ، فما قولهم فيه إذا بدر منه ذلك النادر ، ثم انطوت أيام ودهور ، ولم يعهد لذلك النادر كرور ، فقد خرج عن أن يكون ابتداء عادة عوادة.

ومن أعظم شبههم في ذلك ، أن قالوا : كيف يتيقن العاقل كون ما جاء به النبي خارقا للعادة ، وقد استقر في نفسه ما اطلع الحكماء عليه من خواص الأجسام وبدائع التأثيرات ، حتى توصلوا إلى قلب النحاس ذهبا إبريزا ، أو جر الأجسام الثقال بالأدوات الخفيفة ، إلى غير ذلك من بدائع الحكم ونتائج الفكر الثاقبة؟ هذا ، ومما استفاض في البرية حجر له خاصيته في جذب الحديد ، فما يؤمننا أن يكون مدعي النبوة قد عثر على سرّ من هذه الأسرار وتظاهر به؟

قلنا : هذا يجر إلى إنكار البداية والتشكك في الضروريات ، وكل نظر يجر إلى دفع ضرورة فهو الباطل دون الضرورة. وبيان ذلك ، أنا باضطرار نعلم أنه ليس في القوى البشرية والفكر الحكمية إحياء العظام بعد ما رمت ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وقلب العصا حية تتلقف ما يأفك السحرة ؛ ومن جوز التوصل إلى مثل ذلك بالحكم ، ودرك الخواص فقد خرج عن حيز العقلاء.

١٢٧

وينبغي أن لا يبعد أن يكون في طرف من أطراف الأرض صقع تنبت فيه الحيوانات وتنمو نمو النباتات ، حتى إذا التأم النبات علقت الحيوانات وجاءت بالحكم والآيات ، إلى غير ذلك من الجهالات.

ثم إذا تحدى النبي بشيء قدرناه خارقا ، فلو لم يكن خارقا لاشرأبّت النفوس لمعارضته ، وانصرفت الدعاوى إلى فضحه وحطه عن دعواه. فإذا ذاعت الدعوى وشاعت آيتها والتحدي بها وتعجيز الخلائق عن الإتيان بمثلها ، استبان بذلك أنه من الخوارق ، وهذا القدر غرضنا في ذلك.

والشريطة الثالثة للمعجزة أن تتعلق بتصديق دعوى من ظهرت على يديه ؛ وهذه الشريطة تنقسم إلى أوجه لا بد من الإحاطة بها.

منها أن يتحدى النبي بالمعجزة ، وتظهر على وفق دعواه ، فلو ظهرت آية من شخص وهو ساكت صامت فلا تكون الآية معجزة. وإنما قلنا ذلك لأن المعجزة تدل من حيث تتنزل منزلة التصديق بالقول على ما سنذكره ، ولا يتأتى ذلك دون التحدي. فإن من ادعى أنه رسول الملك ، وقال بمرأى منه ومسمع : إن كنت رسولك فقم واقعد ففعل الملك ذلك ، كان ذلك بمثابة قوله : صدقت. ولو لم يدع الرسول ذلك ، بل ادعى الرسالة مطلقا ، وقام الملك وقعد لما كان ذلك دالا على تصديقه فلا بد من التحدي إذا.

ثم يكفي في التحدي أن يقول : آية صدقي أن يحيي الله هذا الميت ، وليس من شرط المتحدي أن يقول : هذه آيتي ولا يأتي أحد بمثلها ؛ فإن الغرض من التحدي ربط الدعوى بالمعجزة ، وذلك يحصل دون أن يقول : ولا يأتي أحد بمثلها ؛ فهذا وجه من وجوه تعلق المعجزة بالدعوى.

ومن وجوهه أن لا تتقدم المعجزة على الدعوى ، فلو ظهرت آية أو لا وانقضت ، فقال قائل : أنا نبي والذي مضى كانت معجزتي ، فلا يكترث به ، إذ لا تعلق لما انقضى بدعواه. فإن قيل : إذا نظرنا إلى صندوق وألفيناه خلوا ، وأقفلناه وتركناه بمرأى منا ؛ فقال مدعي النبوءة : آية نبوءتي أنكم تصادفون في هذا الصندوق ثيابا ، فإذا فتحنا الصندوق وألفينا المتاع كما وصف كان ذلك آية. قلنا : نحن وإن كنا نجوز تقدم اختراع ذلك المتاع على دعواه ، ولكن قوله المبني على الغيب آية ، وذلك مطابق لدعواه ، فاعلموا.

فإن قيل : هل يجوز استيخار المعجزة عن دعوى النبوءة؟ قلنا : إن تأخرت وطابقت الدعوى كانت آية. ذلك مثل أن يقول النبي : آية صدقي انخراق العادة بكذا وكذا وقت الصبح ؛ فإذا وقع ذلك كما وعد ، وكان خارقا للعادة كان آية.

فإن قيل : لو قال مدعي النبوءة ستظهر آيتي بعد موتي بوقت ضربه ، فإذا وقع ما قاله بعد الوفاة على حسب دعواه ، كان ذلك خارقا للعادة ؛ فالوجه عندي في ذلك أن نقول : إن كلف الناس التزام الشرع ناجزا ، والآية موقوفة ، فقد كلفهم شططا ؛ وإن نص على الأحكام وعلى التزامها بوقت ظهور

١٢٨

الآية صح ذلك والقاضي أبو بكر رضي الله عنه منع ما صححته ، ولا وجه لمنعه ، والحق أحق أن يتبع.

ومن وجوه تعلق المعجزة بالتصديق ، أن لا تظهر مكذبة للنبي ، مثل أن يدعي مدعي النبوءة ، فيقول : آية صدقي أن ينطق الله يدي ، فإذا أنطقها الله تعالى بتكذيبه وقالت : اعلموا أن هذا مفتر فاحذروه ، فلا يكون ذلك آية. ولو قال : آيتي أن يحيي الله هذا الميت ، فأحياه الله تعالى فقام وله لسان زلق ، فقال : صاحبكم هذا متخرص ، وقد بعثني الله تعالى لأفضحه ثم خر صعقا ، فقد قال القاضي رضي الله عنه : هذه آية مكذبة لا تدل.

والذي عندي في ذلك أن التكذيب إن كان خارقا للعادة فهو الذي يقدح في المعجزة ، وذلك بمثابة نطق اليد بالتكذيب. فأما الميت إذا حيي وكذب فتكذيبه ليس بخارق للعادة. وللنبي أن يقول : إنما الآية إحياؤه وتكذيبه إياي كتكذيب سائر الكفرة.

فصل

في إثبات الكرامات وتمييزها من المعجزات

فالذي صار إليه أهل الحق جواز انخراق العادات في حق الأولياء ، وأطبقت المعتزلة على منع ذلك ، والأستاذ أبو إسحاق رضي الله عنه يميل إلى قريب من مذاهبهم.

ثم مجوزو الكرامات تحزبوا أحزابا. فمن صائر إلى أن شرط الكرامة الخارقة للعادة أن تجري من غير إيثار واختيار من الولي ، وصار هؤلاء إلى أن الكرامة تفارق المعجزة من هذا الوجه ، وهذا غير صحيح لما سنذكره. وصار صائرون إلى تجويز وقوع الكرامة على حكم الاختيار ، ولكنهم منعوا وقوعها على قضية الدعوى ؛ فقالوا : لو ادعى الولي الولاية ، واعتضد إيثار دعوته بما يخرق العادة ، فإن ذلك ممتنع ، وهؤلاء يقدرون ذلك تمييزا بين الكرامة والمعجزة. وهذه الطريقة غير مرضية أيضا ، ولا يمتنع عندنا ظهور خوارق العوائد مع الدعوى المفروضة.

وصار بعض أصحابنا إلى أن ما وقع معجزة لنبي ، لا يجوز وقوعه كرامة لولي ؛ فيمتنع عند هؤلاء أن ينفلق البحر ، وتنقلب العصا ثعبانا ، ويحيي الموتى كرامة لولي ، إلى غير ذلك من آيات الأنبياء ؛ وهذه الطريق غير سديدة أيضا. والمرضي عندنا ، تجويز جملة خوارق العوائد في معارض الكرامات.

وغرضنا من تزييف هذه الطرق وإثبات الصحيح عندنا ، والميز بين الكرامة والمعجزة ، يستبين بذكرنا عمد نفاة الكرامة ؛ وتفصّينا عنها ، وتعويلنا على القواطع في إثباتها.

فمما تمسك به نفاة الكرامة أن قالوا : لو جاز انخراق العادة من وجه ، لجاز ذلك من كل وجه ،

١٢٩

ثم يجر مقاد ذلك إلى ظهور ما كان معجزة لنبي على يد ولي ، وذلك يفضي إلى تكذيب النبي المتحدي بآيته ، القائل لمن تحداه : لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به. فلو جاز إتيان الولي بمثله ، لتضمن ذلك نسبة الأنبياء إلى الافتراء.

وهذا تمويه لا تحصيل له ، إذ لا خلاف في أن الشيء الواحد من خوارق العوائد يجوز أن يكون معجزة لنبي بعد نبي ، ثم لا يكون ظهوره ثانيا مكذّبا لمن تحدى به أولا. فإن قالوا : النبي يقيّد دعواه في خطاب من تحداه ، ويقول : لا يأتي أحد بمثل ذلك إلا من يدعي النبوة صادقا في دعواه. قلنا إن ساغ تقييد الدعوى بما ذكرتموه ، فلا يمتنع أيضا أن يقول النبي لا يأتي بمثل ذلك متنبي ولا ممخرق مفتر ، ولا من يروم تكذيبي ؛ وتخرج الكرامات عن هذه الجهات وليس تقييد أولى من تقييد.

ومما احتجوا به ، أن قالوا : لو جوزنا انخراق العوائد للأولياء ، لم نأمن في وقتنا وقوعه ، وذلك يؤدي إلى أن يتشكك اللبيب في جريان دجلة دما عبيطا ، وانقلاب الأطواد ذهبا إبريزا ، وحدوث بشر من غير إعلاق وولادة ، وتجويز ذلك سفسطة وتشكك في الضروريات.

قلنا : هذا الذي ذكرتموه ينعكس عليكم في زمان الأنبياء ؛ فإن الذين كانوا في مدة الفترة ، وهي ما بين العروج بعيسى عليه‌السلام إلى ابتعاث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان لا يسوغ منهم تجويز ما منعتم تجويزه في محاولة دفع الكرامات. ولما ابتعث النبي ، وظهرت الآيات ، وانخرقت العادات ، استلّ عن صدور العقلاء الأمن من وقوع خوارق العوائد.

وهذا سبيلنا في الذي دفعنا إليه ، فنحن الآن على أمن من أن ما قدروه لا يقع. فإن قدر الله وقوعه قلب العادة ، وأزال العلوم الضرورية بأن ما قدروه لا يقع. فقد بطل ما قالوه ، واستبان بانفصالنا عنه أصل في الكرامة.

فإن قيل : ما دليلكم على تجويزها؟ قلنا : ما من أمر يخرق العوائد إلا وهو مقدور للرب تعالى ابتداء ، ولا يمتنع وقوع شيء لتقبيح عقل لما مهدناه فيما سبق. وليس في وقوع الكرامة ما يقدح في المعجزة ؛ فإن المعجزة لا تدل لعينها ، وإنما تدل لتعلقها بدعوى النبي الرسالة ونزولها منزلة التصديقي بالقول. والملك الذي يصدق مدعي الرسالة بما يوافقه وبما يطابق دعواه ، لا يمتنع أن يصدر منه مثله إكراما لبعض أوليائه. ولا يقدح مرام الإكرام في قصد التصديق ، إذا أراد التصديق ، ولا خفاء بذلك على من تأمل.

فإن قيل : فما الفرق بين الكرامة والمعجزة؟ قلنا : لا يفترقان في جواز العقل ، إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوءة.

واستدل مثبتو الكرامات بما لا سبيل إلى درئه في مواقع السمع. فإن أصحاب الكهف وما جرى لهم من الآيات لا سبيل إلى جحده ، وما كانوا أنبياء إجماعا. وكذلك خصت مريم عليها‌السلام

١٣٠

بضروب من الآيات ؛ فكان زكريا صلوات الله عليه يصادف عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، ويقول معجبا : (أَنَّى لَكِ هذا). وتساقط عليها الرطب الجنيّ ، إلى غير ذلك من آياتها. وكذلك أم موسى عليها‌السلام ، ألهمت في أمره بما لا خفاء به. وجرى من الآيات في مولد الرسول عليه‌السلام ما لا ينكره منتم إلى الإسلام ، وكان ذلك قبل النبوءة ، والانبعاث والمعجزة لا تسبق دعوى النبوءة كما قدمناه.

فإن تعسف بعضهم وزعم أن الآيات التي استدللنا بها كانت معجزات لنبي كل عصر ، فذلك اقتحام للجهالة. فإنا إذا بحثنا عن العصور الخالية ، لم نلف الآيات التي تمسكنا بها مقترنة بدعوى ، بل كانت تقع من غير تحد لمتحد. فإن قالوا : إنما وقعت للأنبياء دون دعواهم فشرط المعجزة الدعوى ، فإذا فقدت كانت خوارق العادات كرامة للأنبياء ، ويحصل بذلك غرضنا في إثبات الكرامات ولم يكن في وقت مولد الرسول نبي تستند إليه آياته. فقد وضحت الكرامات جوازا ووقوعا ، عقلا وسمعا.

فصل

هذا الفصل في إثبات السحر وتمييزه عن المعجزة ونذكر فيه إثبات الجن والشياطين والرد على منكريهم.

فأما السحر فثابت ، ونحن نصفه أولا ، ثم ندل عقلا على جوازه ونتمسك بموارد السمع على وقوعه ونذكر تمييزه عن المعجزة في خلال الكلام. فلا يمتنع أن يترقى الساحر في الهواء ، ويتحلق في جو السماء ويسترق ويتولج في الكواء والخوخات ، إلى غير ذلك مما هو من قبيل مقدورات البشر ، إذ الحركات في الجهات من قبيل مقدورات الخلق. ولا يمتنع عقلا أن يفعل الرب تعالى عند ارتياد الساحر ما يستأثر بالاقتدار عليه ، فإن كل ما هو مقدور للعبد فهو واقع بقدرة الله تعالى عندنا.

والدليل على جواز ذلك ، كالدليل على الكرامة. ووجه الميز هاهنا بين السحر والمعجزة كوجه الميز في الكرامة ، فلا وجه إلى إعادته. وقد شهدت شواهد سمعية على ثبوت السحر ؛ منها قصة هاروت وماروت ، ومنها سورة الفلق مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه سحره على مشط ومشاطة تحت راعوفة في بئر ذروان. وسحر ابن عمر فتوعكت يده ، وسحرت جارية عائشة رضي الله عنها.

واتفق الفقهاء على وجود السحر واختلفوا في حكمه ، وهم أهل الحل والعقد ، وبهم ينعقد الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة فقد ثبت السحر جوازا ووقوعا.

ثم اعلموا أن السحر لا يظهر إلا على فاسق ، والكرامة لا تظهر على فاسق ، وليس ذلك من مقتضى العقل ، ولكنه متلقى من إجماع الأمة. ثم الكرامة وإن كانت لا تظهر على معلن بفسقه ، فلا

١٣١

تشهد بالولاية على قطع ، إذ لو شهدت بها لأمن صاحبها العواقب ، وذلك لم يجر لولي في كرامة اتفاقا.

فإن قيل : بيّنوا مذهبكم في الجن والشياطين ، قلنا : نحن قائلون بثبوتهم ، وقد أنكرهم معظم المعتزلة ، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم ، وركاكة ديانتهم ، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي. وقد نصت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم. وحق اللبيب والمعتصم بحبل الدين ، أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ، ونص الشرع على ثبوته. ولا يبقى لمن ينكر إبليس وجنوده ، والشياطين المسخرين في زمن سليمان ، كما أنبأ عنهم آي من كتاب الله تعالى لا يحصيها ، مسكة في الدين ، وعلقة يتشبث بها ، والله الموفق للصواب ، وهذا غرضنا من هذا الباب.

باب

القول في الوجه الذي منه تدل المعجزة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم

اعلموا ، أرشدكم الله تعالى ، أن المعجزة لا تدل على صدق النبي ، حسب دلالة الأدلة العقلية على مدلولاتها. فإن الدليل العقلي يتعلق بمدلوله بعينه ، ولا يقدر في العقل وقوعه غير دال عليه ، وليس ذلك سبيل المعجزات.

وبيان ذلك بالمثال في الوجهين أن الحدوث لما دل على المحدث ، لم يتصور وقوعه غير دال عليه ، وانقلاب العصا حية ، لو وقع بديّا من فعل الله عزوجل من غير دعوى نبي ، لما كان دالا على صدق مدع فقد خرجت المعجزات عن مضاهات دلالات العقول.

فإن قيل : فما وجه دلالتها إذا؟ قلنا : هذا مما كثر فيه خبط من لا يحسن علم هذا الباب. والمرضي عندنا أن المعجزة تدل على الصدق من حيث تتنزل منزلة التصديق بالقول ، وغرضنا يتبين بفرض مثال ، فنقول :

إذا تصدر ملك للناس ، وتصدر لتلج عليه رعيته ، واحتفل الناس واحتشدوا ، وقد أرهق الناس شغل شاغل.

فلما أخذ كلّ مجلسه ، وترتب الناس على مراتبهم انتصب واحد من خواص الملك ، وقال : معاشر الأشهاد! قد حل بكم أمر عظيم ، وأظلكم خطب جسيم ، وأنا رسول الملك إليكم ، ومؤتمنه لديكم ، ورقيبه عليكم ، ودعواي هذه بمرأى من الملك ومسمع. فإن كنت أيها الملك صادقا في دعواي ، فخالف عادتك وجانب سجيتك ، وانتصب في صدرك وبهواك ، ثم اقعد ، ففعل الملك ذلك على وفق ما ادعاه ومطابقة هواه ، فيستيقن الحاضرون على الضرورة تصديق الملك إياه وينزل الفعل الصادر منه منزلة القول المصرح بالتصديق.

١٣٢

فهذه العمدة في ضرب المثال ، وها نحن نبني عليه أسئلة ونتفصى منها ، ويندرج تحت ما نطرده أغراض يعظم خطرها.

فمن أهم الأسولة ما أدلى به المعتزلة ، حيث قالوا : إذا جوزتم أن يضل الرب عباده ، ويغويهم ويرديهم ، فما يؤمنكم من إظهار المعجزات على أيدي الكذابين لإضلال الخلائق؟ وقال : أصلنا في تنزيه الرب تعالى عن فعل الجور وإضلال العباد ، يؤمننا مما ألزمناكموه وتدل المعجزة على الصدق ، من حيث نعلم أن الرب تعالى يخصصها بالصادقين. ولا يثبتها للكاذب فيضل الخلق.

والجواب عن ذلك ، أن نقول : من شهد مجلس الملك في الصورة المفروضة ، علم على الضرورة تصديق الملك من يدعي الرسالة ، وإن لم يخطر لمعظم الحاضرين نظر وعبر وتفكر في أن الملك لا يغوي رعيته ، ولا يطغى حاشيته ، ولو كانت دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على العلم بأن مظهر المعجزة لا يطغى ولا يضل ، لاختص بالعلم برسالة الملك من نظر هذا النظر ، واستدت منه العبر ، وليس الأمر كذلك على اضطرار ؛ والذي يكشف الحق في ذلك ، أن الملك لو كان ظالما غاشما لا تؤمن بوادره ، فالفعل المفروض ممن هذه صفته تصديق لمدعي الرسالة ، وجاحد ذلك منكر للبديهة.

ثم نقول للمعتزلة : ما وجه دلالة المعجزة عندكم؟ فإن قالوا : وجهها علمنا بأن الله تعالى لا يضل خلقه ، قلنا : فعلمكم على زعمكم يقارن المعتاد من الأفعال ، حسب مقارنته للخارق منها للعادة ، فجوزوا أن يقع فعل معتاد مع اعتقادكم علما للنبي ، فإن قالوا : لا بد من اختصاص المعجزة بوجه لأجله تدل ، قلنا : فبينوه نتكلم عليه ، فلا يزالون في عمه وحيرة ، أو يرجعوا إلى الحق. فإذا أوضحوا وجها ، سوى ما انتحلوه من فاسد معتقدهم ، فنقول : لا تظهر المعجزة على يدي الكاذب ، لأنها لو ظهرت لدلت على صدقه ، وتصديق الكاذب مستحيل في قضيات العقول.

فإن قيل : هل تجوزون في المقدور وقوع المعجزة على حسب دعوى الكاذب ، أم تقولون ليس ذلك من المقدور؟ قلنا : ما نرتضيه في ذلك أن المعجزة يستحيل وقوعها على حسب دعوى الكاذب ، لأنها تتضمن تصديقا والمستحيل خارج عن قبيل المقدورات ، ووجوب اختصاص المعجزة بدعوى الصادق ، كوجوب اقتران الألم بالعلم به في بعض الأحوال ، وجنس المعجزة يقع من غير دعوى ، وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب ، فاعلموا ذلك.

فإن قيل : إن ثبت لكم ما ادعيتموه في المثال الذي فرضتموه ، فبم تردون الغائب إلى الشاهد ، مع علمكم بأنه لا بد من جامع بينهما ، فإن روم الجمع من غير جامع يجر إلى الدهر والإلحاد؟

وربما عضدوا هذا السؤال بآخر ، فقالوا : إنما علمنا رسالة مدعيها بقرائن الأحوال ، وما أحسسنا منها ، وذلك مفقود غير موجود في حكم الإله.

وهذا آخر عقدة في النبوءات ، فإذا انحلت لم يبق بعدها للطاعنين مضطرب ؛ فنقول مستعينين

١٣٣

بالله تعالى : ما ذكرناه شاهدا بمثابة التقريب ، وضرب الأمثلة للإيضاح ، ولم نذكره مستدلين به فإن سبيل ما ذكرناه من قبيل الضروريات ، ولا يستدل عليها ، ولكن قد تضرب فيها الأمثال.

وها نحن نوضح مثل ما ذكرناه شاهدا وغائبا ، فنقول : المعجزة إنما تدل في حق من يعتقد الرب قادرا يفعل ما يشاء ، فيقول النبي في مخاطبة من سبق اعتقاده للإلهية : قد علمتم أن ابتعاث النبي غير منكر عقلا ، وأنا رسول الله إليكم ، وآية صدقي أنكم تعلمون تفرد الرب تعالى بالقدرة على إحياء الموتى ، وتعلمون أن الله عالم بسرنا وعلانيتنا وما نخفيه من سرائرنا ونبديه من ظواهرنا ، وإنما أنا رسول الله إليكم ، فإن كنت صادقا ، فاقلب يا رب هذه الخشبة حية تسعى ؛ فإذا انقلبت كما قال ، وأهل الجمع عالمون بالله تعالى فحينئذ يعلمون على الضرورة أن الرب تعالى قصد بإبداع ما أبدع تصديقه ، كما ذكرناه شاهدا.

وما موّهوا به من قرائن الأحوال ، لا محصول له. فإن من كان غائبا عن المجلس الموصوف ، فبلغه ما جرى ، شارك الحاضرين في العلم بالرسالة وإن لم يحس حالا ، وكذلك لو كان الملك في بيت مستخل بنفسه ، ودونه السجف المسدولة ، فقال مدعي الرسالة : إن كنت رسولك فحرك الحجب ، وأشل السجوف ، ففعل ذلك كان تصديقا ، وإن لم ير الملك ، فلما جرى التصديق من وراء الحجاب ، انقطعت هذه الأسباب ، وانحسمت الأبواب ، ووضح الحق ، والله المشكور على كل حال.

ويعتضد ما ذكرناه ، بأن أهل المراء والشكوك تحزبوا في زمان الأنبياء ؛ فمنهم من أنكر الإلهية ، وخامرته الشكوك في النبوءات لذلك ؛ ومنهم من اعتقد كون النبي ساحرا ، وصار إلى أن الصادر منه تخييل ، وما اعتقد معتقد في دهر من الدهور كون المعجزة فعلا لله تعالى على الابتداء ، موافقا لدعوى النبي ، ثم استراب في النبوءات وذلك شاهد على أن ذلك موقع ضرورة ، لا مجال للشكوك فيه.

فهذا قولنا في دلالة المعجزة على صدق الرسول ، ولا يكاد يستتب ذلك للمعتزلة. فإن معنى ما ذكرناه على القصد إلى التصديق ، ويعسر على المعتزلة إثبات قصد الله تعالى ؛ فإنهم نفوا إرادة قديمة ومنعوا كونه مريدا لنفسه. ووضح بما قدمناه ، بطلان كونه مريدا بإرادة حادثة ، فلا يبقى لهم متعلق في إثبات قصد إلى تصديق.

فصل

فإن قيل : هل في المقدور نصب دليل على صدق النبي غير المعجزة؟ قلنا : ذلك غير ممكن ، فإن ما يقدر دليلا على الصدق لا يخلو : إما أن يكون معتادا ، وإما أن يكون خارقا للعادة. فإن كان معتادا ، يستوي فيه البر والفاجر ، فيستحيل كونه دليلا. وإن كان خارقا للعادة ، يستحيل كونه دليلا دون أن يتعلق به دعوى النبي ، إذ كل خارق للعادة يجوز تقدير وجوده ابتداء من فعل الله تعالى ؛ فإذا لم يكن بد من تعلقه بالدعوى ، فهو المعجزة بعينها.

١٣٤

فصل

فإن قيل : إن سلم لكم ما ذكرتموه من نزول المعجزة منزلة التصديق بالقول ، فلا يتم غرضكم دون أن تثبتوا استحالة الخلف وامتناع الكذب في حكم الله سبحانه ، ولا سبيل إلى إثبات ذلك بالسمع ، فإن مرجع الأدلة السمعية إلى قول الله تعالى ؛ فما لم يثبت وجوب كونه حقا صدقا ، لا يستمر في السمع أصلا. ولا يمكن أن يحتج في ذلك بالإجماع ؛ فإن العقل لا يدل على تصحيح الإجماع ، وإنما يتلقى صحته من كتاب الله تعالى.

ولا يمكن التمسك في تنزيه الرب تعالى عن الكذب بكونه نقصا من وجهين : أحدهما أن الكذب عندكم تحكم لا يقبح لعينه ؛ والثاني أنه لو سلم أنه نقص ، فالمعتمد في نفي النقائص دلالة السمع. قلنا : أما الرسالة فإنها تثبت دون ذلك في الحال ، ولا يتعلق إثباتها بأخبار تتصدى لكونها صدقا أو كذبا. كأن المرسل قال : جعلته رسولا ، وأنشأت ذلك فيه آنفا ، ولم يقل ذلك مخبرا عما مضى.

وسبيل ذلك كسبيل قول القائل : وكلتك في أمري واستنبتك لشأني ، فهذا توكيل ناجز يستوي فيه الصادق والكاذب. ومحصول القول فيه أن صيغة التوكيل ، وإن كانت أخبارا ، فالغرض منها أمر بانتداب لشأن وانتصاب لشغل ، والأمر لا يدخله الصدق والكذب. وآية ذلك أن الملك وإن نقم عليه كذب وخلف ، فالفعل الذي فرضناه منه يصدق الرسول ويثبت الرسالة ، قطعا على الغيب من غير ريب. فهذا موقف لا يتوقف ثبوته على نفي الكذب عن الباري سبحانه وتعالى ، فاعلموه.

ولكن لا يثبت صدق النبي ، بعد ثبوت الرسالة ، فيما يؤديه وينهيه ، ويشرعه من الأحكام ويشرحه من الحلال والحرام ، إلا مع القطع بتقدس الباري تعالى عن الخلف والكذب. فإن النبي يعتضد فيما يدعيه من صدق نفسه في تبليغه ، بتصديق الله إياه. وما لم يثبت وجوب كون تصديقه تعالى حقا صدقا ، لا يثبت صدق النبي في أنبائه. وليس تصديقه فيما يبلغه تفصيلا ، بمثابة انتصابه رسولا ؛ فإن حقيقة نصبه يرجع إلى إثبات أمر ، والإخبار عن صدقه فيما يخبر به يتعرض لكونه صدقا أو كذبا.

وقد عول الأستاذ أبو إسحاق رضي الله عنه ، في كتابه المترجم بالجامع ، على فصل وحث على التمسك به ، فقال : الأحكام لا ترجع عندنا إلى صفات الأفعال ، وإنما ترجع إلى تعلق الكلام القديم بها. والشيء لا يجب لنفسه ، ولكن يقضي فيه بالوجوب ، للتوعد على تركه ووعد الثواب على فعله. والوعد والوعيد خبران ، فلو لم يثبتا على حكم الصدق ، لم يوثق بهما. وإذا كان كذلك ، لم يتقرر إيجاب وحظر ، وندب إلى الطاعة وتحذير من المخالفة. ويؤول قصارى ذلك إلى أن لا يتصور للباري تعالى أمر مطاع ، وقد دلت الأدلة على كونه إلها قادرا عالما ، ولا تعقل الإلهية ممن لا

١٣٥

يتصور منه الأمر والنهي وقال عند اختتام هذا الفصل ولو لم يتفق في كتابنا إلا هذا لكان بالحري أن يغتبط به.

وقد أبنا ما فهمناه من كلام ذلك الحبر رضي الله عنه ، ولسنا نرى ذلك مقنعا في الحجاج ، ولا سبيل إلى حسم الطلبات عما ذكرناه ، ولا وجه لادعاء الضرورة. والذي عليه التعويل في غرض الفصل ، أنا نقول : قد أوضحنا الطرق الموصلة إلى كون الباري سبحانه عالما مريدا ، وقد قدمنا ما فيه مقنع في إثبات كلام النفس. والعالم بالشيء المريد له ، لا يمتنع أن يقوم به أخبار من المعلوم المراد ، على حسب تعلق العلم والإرادة به.

وكل معنى يقبله الموجود ، فإنه لا يعرى عنه أو عن ضده ، إن كان له ضد ، كما قرر في صدر الاعتقاد. فلو لم يتصف الباري تعالى بخبر صدق ، لوجب اتصافه بضده ؛ وإذا اتصف بضده استحال أن يقدر ذلك الصدق ذهولا وغفلة عما قدرناه مخبرا عنه. فإن الذهول كما يضاد الخبر عن الشيء ، فإنه يضاد أيضا العلم به وإرادته. وإن كان ضد الخبر الصدق ، خبرا هو خلف وكذب واقع على خلاف المخبر ، فيجب مع تقدير ذلك الوصف بقدمه والقضاء باستحالة عدمه ، لما قدمناه من إثبات قدم الكلام.

ثم يؤول منتهى ذلك إلى أنه يستحيل من الباري تعالى أن يخبر عما علمه ، على حسب تعلق العلم به. وذلك معلوم بطلانه ؛ فإنا نعلم قطعا أن العالم بالشيء يستحيل أن يتصف ، على علمه به بصفة يستحيل عليه معها كلام نفسه ، المتعلق بمعلومه على حسب تعلق العلم به ، حتى يقال مستحيل مع العلم به إخبار النفس عنه. فإذا امتنع ادعاء هذه الاستحالة شاهدا ، وانتسب جاحد ما قلناه إلى دفع البديهة ، فيلزم طرده شاهدا وغائبا.

فإن قيل : كيف ادعيتم البديهة في فرع أصله متنازع فيه ، فإن معظم المتكلمين صاروا إلى إنكار كلام النفس؟ قلنا : الذي يدعي أهل الحق أن كلام النفس لا ينكر ، وإنما التنازع في أن ما ادعيناه : هل هو كلام ، أو هو اعتقاد ، أو علم. فأما هواجس النفس وخواطرها ، فالاتصاف بها معلوم لا يجحد.

فإن قالوا : ليس يمتنع مع تقدير كلام النفس ، أن يعلم العالم كون زيد في الدار ، ويدير في خلد نفسه مع ذلك أنه ليس في الدار ، قلنا : هذا تخييل ووهم ، فإن ذلك الكلام الدائر أخبار ، وليس بخبر ناجز مثبت. والذي يحقق ذلك ، أن العالم بالشيء مع الإخبار عنه على حسب العلم به بتا قطعا ، يدير في نفسه ما صوره السائل. وحديث النفس على حكم الصدق مستدام ، كما كان قبل خطور هذا التقدير.

ولو كان ما ألزمه السائل ثابتا ، لاستحال اجتماعه مع نقيضه. وكل عالم بالشيء مخبر عنه على حقيقته ، يجد من نفسه على الضرورة الاتصاف بكونه مخبرا عنه ، مع تقديره مخبرا ، على حكم الخلف. وسبيل ذلك كسبيل العلم بالشيء على ما هو به ، مع تقدير اعتقاده فيه على خلاف ما هو به ، فلا يكون الاعتقاد المقدر مع العلم المتقرر اعتقادا محققا.

١٣٦

فاستبان بما ذكرناه ، أن المصير إلى تقدير صفة يستحيل معها الاتصاف بحديث النفس عن المعلوم بالعلم ، على حسب تعلق العلم به ادعاء استحالة تأباها العقول. ويعتضد ما ذكرناه بأن العالم بالشيء ، لو لم يتكلف إخطار خلف بقلبه ، لاستمر له حديث النفس صدقا مع العلم بالذي يتكلف تقديرا ، وليس بصفة مضادة للحديث الصادق.

فهذا القدر كاف هنا ، وهو قاض باتصاف الباري تعالى بالكلام المتعلق بالمعلوم ، على حسب تعلق العلم به. ومن ابتغى مزيدا على ذلك ، فليتأمل الشامل.

القول

في إثبات نبوءة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فصل

قد قدمنا ما يتعلق بإثبات أصل النبوءات على الجملة ، وغرضنا الآن الاعتناء بإثبات نبوءة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أنكر نبوءته طائفتان ، تمسكت إحداهما بالمصير إلى منع النسخ ، وتمسكت الأخرى بالمماراة في آياته ومعجزاته. وذهبت طائفة من اليهود يسمون العيسوية (١) ، إلى إثبات نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنهم خصصوا شرعه بالعرب دون من عداهم.

فأما من أنكر النسخ ، وإليه ذهب معظم اليهود ، فمقصدنا في إبطال ما انتحلوه لا يتبين إلا بذكر حقيقة النسخ على اختصار واقتصار على ما فيه غنية.

فالمرضي عندنا ، أن النسخ هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بخطاب أخر ، على وجه لولاه لاستمر الحكم المنسوخ. ومن ضرورة ثبوت النسخ على التحقيق ، رفع حكم بعد ثبوته.

والمعتزلة يصيرون إلى أن النسخ لا يرفع حكما ثابتا ، وإنما يبين انتهاء مدة شريعة ، وإلى ذلك مال بعض أئمتنا ، وقالوا : النسخ تخصيص الزمان ؛ وعنوا به أن المكلفين إذا خوطبوا بشرع مطلق ، فظاهر مخاطبتهم به تأبيده عليهم ، فإذا نسخ استبان أنه لم يرد باللفظ إلا الأوقات الماضية.

وهذا عندنا نفي للنسخ وإنكار لأصله ، ورد له إلى تبيين معنى لفظ لم يحط به أولا وتنزيل له

__________________

(١) فرقة تنسب إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني وقيل : إن اسمه عوفيد ألوهيم أي عابد الله. كان في زمن المنصور وزعم أنه نبي وأنه رسول المسيح المنتظر. انظر الملل والنحل.

١٣٧

منزلة تخصيص صيغة عامة ، والمخصص من الصيغة العامة غير مراد بها ، ونحن نلزم المعتزلة ومن انتمى إلينا فصلين على موجب أصلين.

فنقول للمعتزلة : من أصلكم أن تأخير البيان عن مورد الخطاب إلى وقت الحاجة غير سائغ ، فلو كان النسخ تبيينا له ، لما استأخر عن اللفظ الوارد أولا ، كما لا يستأخر التخصيص عندهم عن اللفظة العامة لو جردت عن مخصصها ، ولا محيص لهم عن ذلك.

ونقول للمنتمين إلينا : قد علمتم مصيرنا إلى جواز نسخ العبادة المفروضة قبل مضي وقت يسعها ، ويستحيل مع المصير إلى ذلك القول بأن النسخ تبيين لانقطاع وقت العبادة ، إذ يستحيل أن يقدر للعبادة وقت لا يسعها. ثم إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مأمور عندنا وعند أصحابنا بالذبح أولا ، ونسخ ذلك عنه آخرا ، وعين المأمور به هو الذبح ، ولم يكن أفعالا تمتد وتتعدد ، حتى يصرف الأمر إلى الشيء ، والنسخ إلى غيره.

وإذا صرف النسخ إلى عين المأمور به ، كان رفعا للحكم على التحقيق ؛ فإذا استبان ذلك رددنا على اليهود المنكرين للنسخ ، وقلنا : ليس بين الجواز والاستحالة رتبة معقولة ، ووجوه الاستحالة مضبوطة فرب شيء يستحيل لنفسه ، كانقلاب الأجناس ، واجتماع الضدين ، والأمر بما نهى عنه ليس مما يستحيل لنفسه ، فإن تصويره ممكن ، لا استحالة فيه ؛ فإذا لم يستحل لنفسه ، امتنع صرف استحالته إلى غيره ، إذ ليس في تجويزه خروج صفة من صفات الإلهية عن حقيقتها ؛ فإن الحكم ليس بصفة للفعل نفسية كما قدرناه ، وليس في تقدير النسخ ما يفضي إلى تغير العلم والإرادة ، ولا يزال السبر يطرد حتى يستبين أن النسخ لا يستحيل لنفسه ، ولا يفضي إلى استحالة في غيره.

فإن قالوا : بم تنكرون على من يزعم أنه يستحيل لإفضائه إلى اتصاف الباري تعالى بالبداء ، وهو متقدس عنه؟ قلنا : البداء يعبر عن استفادة علم ما لم يكن ، ومن أحاط بما لم يكن محيطا به ، يقال بدا له ، وقد يعبر به عن من يهم بأمر ثم يندم على ما هم ، ولا يتقرر شيء من ذلك في النسخ ؛ فإن علم الباري سبحانه متعلق بالمعلومات على ما هي عليه ، ولا يتجدد له علم لم يكن ، والإرادة على أصولنا لا يعتبر بها الأمر ؛ فإن الرب سبحانه وتعالى يأمر بما لا يريده ، ويريد ما لا يأمر به ، فلم يبق لادعاء البداء وجه.

وقد تمسك نفاة النسخ بتخيل لا يقوم بالانفصال عنه إلا متبحر في هذا الشأن ، وذلك أنهم قالوا : ما أوجبه الله تعالى فقد أخبر عن كونه واجبا ؛ فلو حظره وأخبر عن كونه محظورا ، لانقلب الخبر الأول خلقا واقعا على خلاف مخبره ، وذلك مستحيل.

والذي ذكروه تخييل ليس له تحصيل وذلك أن الوجوب ليس بصفة للواجب على أصلنا ؛ والمعنى بكون الشيء واجبا أنه الذي قيل فيه «افعل» : فإذا أخبر الرب تعالى عن وجوب الشيء فمعناه أنه أخبر عن الأمر به ؛ فإذا نهى عنه أخبر عن النهي عنه ؛ فليس بين الإخبار عن الأمر به تحقيقا وبين

١٣٨

الإخبار عن النهي عنه تناقض ، فلا يتصف كل واحد من الخبرين بالخروج عن كونه صدقا حقا.

وإنما تخيل هؤلاء ما قالوه ، من حيث اعتقدوا الوجوب صفة للواجب ، وقدروها مخبرا عنها ، ثم قدروا الخبر عن نفسها. وصعب موقع ذلك عندهم من حيث علموا أن النسخ رفع حكم ثابت ، وليس بآئل إلى تبيين ما لم يثبت. ومن أحاط بما ذكرناه ، هان عليه مدرك الانفصال عن السؤال. وإذا ثبت جواز النسخ عقلا ، فليس تمنع منه دلالة سمعية.

وقد نبغت شرذمة من اليهود وتلقنوا من ابن الراوندي (١) سؤالا واستذلوا به الطغام والعوام من أتباعهم ، وقالوا : النسخ جائز عند الإسلاميين ، ولكنهم قالوا بتأبيد شريعتهم إلى تصرم عمر الدنيا ، فإذا سئلوا الدليل على ذلك ، رجعوا إلى إخبار نبيهم إياهم بتأبيد شريعته ، ونحن نقول قد أخبرنا موسى بتأبيد شريعته ، فلتتأبد ، وهو المصدق إجماعا ، وهذا الذي ذكروه باطل من وجهين.

أحدهما ما نقلوه لو صح لكان صدقا ، ولو ثبت صدقا حقا ، لما ظهرت المعجزات على يدي عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، فلما ظهرت دلت على كذب اليهود. ومهما ظهرت معجزة في شرعنا على يد متنبي تنبأ ، تبين إذ ذاك كذبنا في تأبيد شريعتنا ، فهذا وجه ظاهر. فإن عادوا إلى القدح في معجزة عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، لم يبدوا وجها في مرامهم ، إلا انقلب عليهم مثله في معجزة موسى ، عليه‌السلام.

والوجه الثاني أن نقول لو صح ما قلتموه ولقنتموه ، لكان أولى الأعصار بإظهار ذلك عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعلوم أن الجاحدين منكم لنبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يألوا جهدا في رد النبوءة ، وغيروا نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التوراة ، فلو كان فيها نص لا يقبل التأويل ، في تأبيد شريعة موسى عليه‌السلام ، لأظهر وعد من أقوى العصم. فلما لم يظهروه في زمن عيسى وعصر محمد عليهما‌السلام ، إذ لو أظهروه لتوفرت دواعيهم على نقلهم ، فاستبان بذلك ، أن ذلك مما اخترعه نابغتهم ، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره.

فهذا غرضنا من الكلام في النسخ ، وقد حان أن نتكلم في معجزة الرسول ، بعد ما ثبت جواز النسخ بقضيات العقول.

فصل

الأولى بنا تصدير هذا الفصل بما يتعلق بالقرآن وتحقيق كونه معجزا ، ومقاصدنا نبينها في معرض أجوبة عن أسئلة.

__________________

(١) أحد مشاهير الزندقة كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام ويقال أنه حرّف التوراة كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه الدافع توفي عام ٢٩٨ ه‍. انظر تاريخ ابن كثير ج ١١.

١٣٩

فإن قال قائل : ما دليلكم على أن نبيكم أظهر القرآن؟ وما يؤمنكم أن يكون ذلك مختلقا بعده؟ قلنا : لا حجاج في درء الضرورات ونحن باضطرار نعلم أن نبينا عليه‌السلام كان يدرس القرآن ويتلوه ، ويعلمه صحبه وأتباعه ، وما ثبت توترا معلوم على الضرورة. وجحد ذلك بمثابة جحد كون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدنيا ، وهذا كجحد الدول والوقائع وأيام الماضين. ولا معنى للإطناب في ذلك.

فإن قيل : فإن سلم لكم ظهور ذلك منه في زمانه ، فما دليلكم على تحديه به وتعجيزه الأمم بالدعاء إلى معارضته؟ قلنا : هذا أيضا معلوم على الضرورة. فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل مدليا بالقرآن ، مدلّا به ، مدعيا اختصاصه بكتاب الله تعالى المنزل عليه. ومن أنكر ادعاء استيثاره به ، وتعلقه بتخصيص الرب تعالى إياه بكتابه ، فقد جحد ما تواترت الأخبار عنه.

والذي يحقق ما قلناه ، أنا على البديهة نعلم أن واحدا من العرب لو أتى ـ تقديرا ـ بمثل القرآن ، لكان ذلك قادحا فيما يعهد من دعوى النبوءة مزريا به حاطا من رتبته ، وهذا ما لا سبيل إلى إنكاره ، ولو لا تحديه به لما كان الأمر كذلك. ولا خفاء بما قلناه وقد نصت آي من القرآن على التحدي وتعجيز العرب ومنها قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [سورة الإسراء : ٨٨] ، إلى غيرها من الآي في معناها.

فإن قيل : لا يبعد تقدير الاختلاف في هذه الآي بأعيانها ، فإنها لا تبلغ مبلغ الإعجاز فيمتنع تقدير اختراعها. قلنا : ما من آية هي من القرآن إلا ونقلها ثابت على التواتر ، إذ تلقاها قراء الخلف عن قراء السلف. ولم يزل الأمر كذلك ، ينقله أصاغر عن أكابر ، حتى استند النقل إلى قراء الصحابة رضي الله عنهم ، وما نقص عدد القراء في كل دهر عن عدد التواتر. والذي يوضح ما قلناه ، أنا لو تشككنا في آية بعينها لاتجه ذلك في كل آية ، وذلك يسقط الثقة بنقل جملة القرآن.

فإن قيل : ما الذي يؤمنكم أن القرآن عورض ، ثم كتم ما عورض به؟ قلنا : هذا محال ، إذ لو كان ذلك كذلك لظهر الأمر واشتهر ، والخطب العظيم لا يخفي في مستقر العادة ، وادعاء ما ذكره السائل بمثابة ادعاء خليفة قائم يأمر المسلمين قبل أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك يعلم بطلانه على الضرورة.

والذي يعضد ما قلناه ، أن الكفرة من لدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وقتنا ، باذلون كنه مجهودهم في أن ينكئوا في الدين بأقصى الإمكان. فلو كانت المعارضة ممكنة غير متعذرة ، لاحتالوا فيها على كرور الدهور وطول العصور ، ولو خفيت معارضته لاستجد مثلها.

ثم إن كان هذا السؤال وضربه من القائلين بالنبوءات ، انعكس عليهم جميع ما أوردوه في معجزات نبيهم. فيقال لليهود : ما يؤمنكم أن موسى عليه‌السلام عورضت آياته ، ثم تواضع بنو إسرائيل على طمس الخبر عما جرى من معارضته؟.

فإن قيل : بم تنكرون على من يزعم أن العرب ما انكفت عن معارضة القرآن عن عجز ، إنما

١٤٠