كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

ثم قد يرد الاسم ، والمراد به التسمية ، وقد ترد الصفة ، والمراد بها الوصف ، ولا يبلغ الكلام في ذلك مبلغ القطع.

وذهبت المعتزلة إلى التسوية بين الاسم والتسمية ، والوصف والصفة ، والتزموا على ذلك بدعة شنعاء ، فقالوا : لو لم تكن للباري في الأزل صفة ولا اسم ، فإن الاسم والصفة أقوال المسمين والواصفين ، ولم يكن في الأزل قول عندهم ومن زعم أنه لم يكن لربه تعالى في أزله صفة الألوهية ، فقد فارق الدين ، وراغم إجماع المسلمين.

ثم الدليل على أن الاسم يفارق التسمية ، ويراد به المسمى ، آي من كتاب الله تعالى ؛ منها قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) سورة الأعلى : ١ ، وانما المسبح وجود الباري تعالى دون ألفاظ الذاكرين وقال عزوجل : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن : ٧٨] ؛ وقال تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [سورة يوسف : ٤٠].

ومعلوم أن عبدة الأصنام ما عبدوا اللفظ والكلام ، وإنما عبدوا المسميات لا التسميات.

فإن قيل : أطلق المسلمون القول بأن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ؛ فلو كان الاسم هو المسمى ، لكان ذلك حكما بتعدد الآلهة.

ولنا في جواب ذلك مسلكان :

أحدهما ، أن نقول قد يراد بالاسم التسمية ، وهذا مما لا ننكره ، فيحمل الإطلاق في الأسماء على المسميات.

والوجه الثاني ، أن كل اسم دل على فعل فهو اسم ، فالأسماء هي الأفعال ، وهي متعدّدة ؛ وما دلّ على الصفات القديمة ، لم يبعد فيه التعدد ؛ وما دل على الصفات النفسية ، وهي الأحوال فلا يبعد أيضا تعددها.

فصل

ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه ؛ وما منع الشرع من إطلاقه ، منعناه ، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم ؛ فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد السمع ؛ ولو قضينا بتحليل أو تحريم من غير شرع ، لكنا مثبتين حكما دون السمع.

ثم لا نشترط في جواز الإطلاق ، ورود ما يقطع به في الشرع ، ولكن ما يقتضي العمل ـ وإن لم يوجب العلم ـ فهو كاف. غير أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل ، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الرب ووصفه ، فاعلم.

٦١

فصل

قسم شيخنا ، رضي الله عنه ، أسماء الرب سبحانه وتعالى ثلاثة أقسام. وقال من أسمائه ما نقول إنه هو هو ، وهو كل ما دلت التسمية به على وجوده ؛ ومن أسمائه ما نقول إنه غيره ، وهو كل ما دلت التسمية به على فعل كالخالق والرازق ؛ ومن أسمائه ما لا يقال إنه هو ولا يقال إنه غيره ، وهو كل ما دلت التسمية به على صفة قديمة كالعالم والقادر.

وذكر بعض أئمتنا أن كل اسم هو المسمى بعينه ، وصار إلى أن الرب سبحانه وتعالى إذا سمي خالقا فالخالق هو الاسم ، وهو الرب تعالى ؛ وليس الخالق اسما للخلق ، ولا الخلق اسما للخالق ، وطرد ذلك في جميع الأقسام.

والمرتضى عندنا طريقة شيخنا رضي الله عنه ؛ فإن الأسماء تتنزل منزلة الصفات ، فإذا أطلقت ولم تقتض نفيا حملت على ثبوت متحقق. فإذا قلنا : الله الخالق ، وجب صرف ذلك إلى ثبوت وهو الخلق ، وكان معنى الخالق من له الخلق ، ولا ترجع من الخلق صفة متحققة إلى الذات ، فلا يدل الخالق إلا على إثبات الخلق. ولذلك قال أئمتنا : لا يتصف الباري تعالى في أزله بكونه خالقا ، إذ لا خلق في الأزل ، ولو وصف بذلك على معنى أنه قادر كان تجوزا. فخرج من ذلك أن العلم والقدرة كما كانا صفتين ، فكذلك هما اسمان. والكلام في ذلك يؤول إلى التنازع في إطلاق لفظ ومنع إطلاقه.

ثم جميع أسماء الرب سبحانه تنقسم إلى ما يدل على الذات ، أو يدل على الصفات القديمة ، وإلى ما يدل على الأفعال ، أو يدل على النفي فيما يتقدس الباري سبحانه عنه. ونحن الآن نشير إلى تفسير الأسماء المأثورة على إيجاز.

فأما «الله» ، فالصحيح أنه بمثابة الاسم العلم للباري سبحانه ، ولا اشتقاق له. ثم قيل : أصله إله ، فزيدت اللام فيه تعظيما. وقيل : الإله ، ثم حذفوا الهمزة المتخللة ، وأدغموا اللام للتعظيم في التي تليها. وقيل : أصله لاه ، فزيدت فيه اللام تعظيما. وقال بعض أهل اللغة : هو من التألّه ، وهو التعبد ، فالله معناه المقصود بالعبادة.

«الرحمن الرحيم» : هما اسمان مأخوذان من الرحمة ، ومعناهما واحد عند المحققين ، كالنّدمان والنديم ، وإن كان الرحمن يختص به الله تعالى ولا يوصف به غيره. ثم الرحمة مصروفة عند المحققين إلى إرادة الباري تعالى إنعاما على عبده ، فيكون الاسمان من صفات الذات. وحمل بعض العلماء الرحمة على نفس الإنعام ، فيعود الرحمن الرحيم إلى صفات الأفعال.

«الملك» : معناه ذو الملك. ثم اختلفوا في الملك ؛ فمنهم من فسره بالخلق ، فالملك الخالق وهو من أسماء الأفعال. وقال بعضهم : الملك القدرة على الاختراع ؛ إذ يقال : فلان يملك الانتفاع

٦٢

بماله ، معناه يتمكن منه ، فيكون الاسم على ذلك من أسماء الصفات ، والرب تعالى لم يزل ولا يزال مالكا.

«القدّوس» : فعول من القدس وهو الطهارة والنزاهة ، ومعناه التنزيه من صفات النقص ودلالات الحدث ، وهو من أسماء التنزيه والنفي. وسميت الأرض المقدسة مقدسة ، لأنها مبرأة من أوضار الجبابرة ، وسميت الجنان حضرة القدس لذلك.

«السلام» : قيل معناه ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ، فيكون من أسماء التنزيه ؛ وقيل معناه مالك تسليم العباد من المهالك والمعاطب ، فيرجع إلى القدرة ؛ وقيل : ذو السلام على المؤمنين في الجنان ، فيرجع إلى الكلام القديم والقول الأزلي ، قال الله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [سورة يس : ٥٨].

«المؤمن» : قيل معناه المصدق ؛ فإن الإيمان هو التصديق والرب تعالى مصدق نفسه ورسله بقول الصدق ، فالاسم راجع إلى الكلام ؛ وقيل المؤمن معناه أنه تعالى يؤمن الأبرار من الفزع الأكبر ، وعلى ذلك يحتمل صرف الاسم إلى القول ، فإن الرب تعالى سيؤمن عباده يوم العرض الأكبر ويسمعهم قوله تعالى : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [سورة فصلت : ٣٠] ، ويجوز صرف الاسم إلى القدرة على خلق الأمنة والطمأنينة ، فيكون من أسماء الأفعال.

«المهيمن» : قيل معناه الشاهد ؛ ثم ينقسم معنى الشاهد فيمكن حمله على العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة ، ويمكن حمله على القول بمعنى أن الرب تعالى يشهد على كل نفس بما كسبت ؛ قال الخليل في تفسير المهيمن : هو الرقيب ، وسيأتي تفسير الرقيب ؛ وقيل : معنى المهيمن أصله المؤيمن فقلبت الهمزة هاء على قياس قولهم : هرقت وأرقت في معنى ، وهرجت في أرقت وأرجت ؛ والمؤيمن معناه الأمين ، وهو الصادق وعده.

«العزيز» : معناه الغالب ، والغلبة ترجع إلى القدرة ؛ ومن قول العرب : «من عزّ بزّ» معناه من غلب صلب ، والأرض الصّلبة تسمى عزازا لقوتها ؛ وقيل : العزيز العديم المثل ، فالاسم على ذلك يرجع إلى التنزيه.

«الجبّار» : معناه مقدر الصلاح ، من قولهم : جبرت العظم الكسير فانجبر فهو من أسماء الأفعال إذا : وقيل : الجبار معناه حامل العباد على ما يريد ، ويرجع الاسم إما إلى الفعل وإما إلى القدرة عليه ؛ وقيل : الجبار معناه الذي لا يؤثر فيه قصد القاصدين ولا يناله كيد الكائدين. والنخلة إذا أرقلت وبسقت وفاتت الأيدي ، قيل نخلة جبارة ؛ فيقرب معنى الجبار من معنى المتعال على ما يأتي تفسيره.

«المتكبر» : معناه ومعنى «العليّ» ، و «المتعال» ، و «العظيم» واحد. ومن العلماء من حمل هذه الأسماء على التنزيه والتعالي والتقدس عن أمارات الحدث وسمات النقص. ومن الأئمة من حمل

٦٣

هذه الأسماء على الاتصاف بجميع صفات الألوهية التي بها يخالف الرب خلقه ، ويندرج تحت هذه الطريقة تضمنها للتنزيه ، وهذا أحسن ؛ ولا بعد في اشتمال الاسم الواحد على معان تنقسم إلى النفي والإثبات.

«الخالق ، البارئ ، المصور» : أما الخالق فمعناه بيّن ؛ والخلق قد يراد به الاختراع وهو أظهر معانيه ، ويراد به التقدير ؛ ولذلك سمي الحذّاء خالقا ، لتقديره بعض طاقات النعل على بعض. وحمل المفسرون قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [سورة المؤمنون : ١٤] على معنى التقدير. والبارئ معناه الخالق ؛ والمصوّر مبدع الصور.

«الغفار» : معناه الستار ، والغفر في اللغة الستر ، ومنه سمي المغفر مغفرا. ثم يمكن حمل الستر على ترك العقاب ، ويمكن حمله على الإنعام الذي يدرأ عن العبد ما يفضحه في العاجل والآجل.

«القهار» : ظاهر المعنى. ويمكن صرفه إلى القدرة ، ولا يبعد صرفه إلى الأفعال التي تذل الجبابرة كالإهلاك ونحوه.

«الوهاب» : مانح النعم.

«الرزاق» : خالق الرزق ومبدع الإمتاع به ، وسيأتي معنى الرزق.

«الفتاح» : قيل معناه الحاكم بين الخلائق ، والفتح الحكم في اللغة ، والعرب تسمي الحاكم فتّاحا ، وهو المعنيّ بقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [سورة الأعراف : ٨٩] معناه ربنا احكم بيننا. وإذا حمل على الحاكم فيمكن صرفه إلى القول القديم ، ويمكن صرفه إلى الأفعال المنصفة للمظلومين من الظالمين. وقيل : الفتاح ، مبدع الفتح والنصر.

«العليم» معناه : العالم على مبالغة ، وبناء فعيل من أبنية المبالغة.

«القابض ، الباسط» : من صفات الأفعال ؛ والقابض معناه : المضيق على من أراد ؛ والباسط ، الموسع الأرزاق على من أراد.

«الخافض ، الرافع» : من صفات الأفعال ، ومعناهما ظاهر.

وكذلك «المعز ، المذل ، السميع ، البصير» ظاهر المعاني.

«الحكم» معناه : الحاكم ، ويمكن صرفه إلى قول الله ، المبين لكل نفس جزاء عملها ، ويمكن صرفه إلى أفعال المجازاة في الثواب والعقاب.

وقيل : الحكم والحاكم يرجعان إلى معنى المنع ؛ ومن ذلك سميت حكمة اللجام حكمة ، فإنها تمنع الدابة من الجماح ، وسميت العلوم حكما ، لأنها تزع الموصوفين بها عن شيم الجاهلين.

«العدل» معناه : العادل ، وهو الذي يفعل ما له فعله.

٦٤

«اللطيف» قيل : الملطف ، كالجميل ، معناه المجمل ، وهو إذا من صفات الأفعال. وقيل : اللطيف ، العليم بخفيات الأمور.

«الخبير» معناه : العليم.

«الحليم» معناه : الذي لا تستفزه زلات العصاة ، ولا تحمله على استعجال عقوبتهم قبل آجالها ، ويرجع معنى الاسم إلى التنزيه والتعالي عن الاتصاف بالعجلة. وقيل : الحليم العفوّ ؛ ومعناه ينقسم إما إلى الإنعام ، وإما إلى ترك الانتقام ، والوجهان قريبان.

«الشكور» : معناه المجازي عباده على شكرهم إياه ، فيكون الاسم من معنى الازدواج ؛ وقيل : الشكور معطي الكثير على العمل القليل ؛ وقيل : الشكور المثني على العباد المصطفين ، فهذا إذا راجع إلى القول.

«الحفيظ» : قيل معناه العليم ، والحفظ العلم ، ومنه قول القائل : فلان يحفظ القرآن ، معناه يعلمه ؛ وقيل : الحفيظ الحافظ ، وهو مدبر الخلائق وكالئهم عن المهالك.

«المقيت» : قيل معناه خالق الأقوات ؛ وقيل معناه المقدر ومبدع كل شيء على قدره ؛ وقيل معناه القادر ، وقال الشاعر :

وذي ضغن كففت النفس عنه

وكنت على إساءته مقيتا

معناه قادرا حتى إساءته.

«الحسيب» : قيل معناه الكافي ، والعرب تقول : أعطيته فأحسبته ، معناه جاملته إلى أن قال حسبي أي كفاني ؛ وقيل الحسيب معناه محاسب الخلق ، ويرجع الاسم إلى القول.

«الجليل» معناه : العظيم ، وقد سبق تفسيره.

«الكريم» قيل معناه المفضل ؛ وقيل معناه الغفور ؛ وقيل معناه العليّ ؛ وخزائن الأموال تسمى كرائم ، وكل نفيس كريم.

«الرقيب» معناه : العليم الذي لا يعزب عنه شيء.

«المجيب» : يرجع معناه إلى إجابة دعاء الداعين ، وهو راجع إلى الكلام القديم ، ويمكن حمله على الأفعال التي تقتضي إسعاف المحتاجين ؛ يقال : أجبت فلانا إلى ملتمسه ، إذا أسعفته به.

«الواسع» : قيل معناه العالم ، وقيل معناه الجواد ، فإن ذا الجود يوصف بسعة الصدر ، وينفي عنه ضيق العطن ؛ وقيل معناه الغني وسيأتي تفسير الغني في باب التعديل.

«الحكيم» : قيل معناه العليم ؛ وقيل معناه الحاكم ، وقد مرّ تفسيره ؛ وقيل معناه المحكم المتقن.

«الودود» : قيل معناه الوادّ ، وتفسيره المحب لأوليائه ، وسيأتي تفسير المحبة من الله إن شاء الله ؛ وقيل الودود المودود.

٦٥

«المجيد» ، قال الزجاج : معناه الحسن الفعال وأصله من قولهم مجدت الماشية إذا صادفت روضة أنفا خصيبة ، وأمجدها الراعي ؛ ومنه قول العرب : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار. والمرخ والعفار شجرتان تقدح العرب بهما ؛ واستمجد معناه اشتمل على حظ كبير ، فالمجيد على ذلك يقرب من الجواد. والجواد يمكن حمله على المنعم ، ويمكن حمله على المقتدر على الوجود والإنعام ، ويمكن حمل المجيد على الكريم ، فإن المجد شائع بمعنى الكرم.

«الباعث» : ناشر الموتى يوم الحشر ؛ وقيل معناه : باعث الرسل إلى الأمم.

«الوارث» : الباقي بعد فناء خلقه. «الشهيد» ، قيل معناه : العليم كما سبق. «الحق» ، قيل معناه : الواجب الوجود ؛ وقيل معناه : المحق ، وهو يقرب من صفات الأفعال على ذلك.

«الوكيل» معناه : القائم على خلقه بما يصلحهم ، وقيل معناه : الموكول إليه تدبير البرية.

«القوي» ، معناه : القادر ؛ وقيل معناه المتين.

«الوليّ» ، معناه : الناصر ؛ وقيل : معناه : متولي أمر الخلائق.

«الحميد» معناه : المحمود. وحقيقة الحمد : الثناء.

«المحصي» ، قيل معناه : العالم ، المحيط بالمعلومات ؛ وقيل معناه : القادر ، والوجهان ظاهران في اللغة.

«المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ» : لا خفاء بمعانيها.

«القيّوم» ، معناه : مدبر الخلائق في الحال والمآل ، وهي من صفات الأفعال.

«الواجد» ، قيل معناه : الغني من الوجد. قال الله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) [سورة الطلاق : ٦].

«الماجد» : معناه : المجيد. «الواحد» ، معناه : المتوحد. المتعالي عن الانقسام ؛ وقيل معناه : الذي لا مثيل له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [سورة مريم : ٦٥].

«الصمد» ، قيل : هو السيد ؛ وقيل في السيد إنه المالك ، وقيل إنه الحليم. وفسر ابن عباس قوله تعالى في صفة يحيى عليه‌السلام : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) [سورة آل عمران : ٣٩] قال : معناه «حليما» ؛ وقيل : الصمد الذي يصمد إليه في الحوائج ؛ وقيل الصمد الذي لا جوف له.

«القادر ، المقتدر ، المقدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر» : مفهومة المعنى.

«الظاهر ، الباطن» ؛ قيل الظاهر معناه القاهر ، من قول القائل «ظهر فلان على فلان» ؛ وقيل معناه المعلوم بالأدلة القاطعة.

«والباطن» قيل : هو المحتجب عن خلقه بموانع أبدعها في أبصارهم ؛ وقيل : العالم بالخفيات.

٦٦

«البرّ» : خالق البرية. «التواب» : الذي يرجع إنعامه على من حل عقد إصراره من المذنبين ، ورجع إلى التزام الطاعة ، والتوبة والرجوع.

«المقسط» : العادل ؛ يقال أقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار.

«النور» : معناه : الهادي. «البديع» ، قيل : هو المبدع ؛ وقيل : هو الذي لا نظير له.

«الرشيد» : قيل : معناه المرشد ؛ وقيل : هو العالم ؛ وقيل : هو المتعالي عن الدنيات وسمات النقص.

«الصبور» : معناه الحليم ، وقد سبق تفسيره.

فصل

ذهب بعض أئمتنا إلى أن اليدين والعينين والوجه صفات ثابتة للرب تعالى ، والسبيل إلى إثباتها السمع دون قضية العقل. والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة ، وحمل العينين على البصر ، وحمل الوجه على الوجود.

ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول ، استدل بقوله تعالى في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [سورة ص : ٧٥]. قالوا : ولا وجه لحمل اليدين على القدرة ، إذ جملة المبدعات مخترعة لله تعالى بالقدرة ، ففي الحمل على ذلك إبطال فائدة التخصيص ، وهذا غير سديد ؛ فإن العقول قضت بأن الخلق لا يقع إلا بالقدرة ، أو بكون القادر قادرا ، فلا وجه لاعتقاد وقوع خلق آدم عليه‌السلام بغير القدرة.

ومما يوضح ما قلناه ، أن آدم صلوات الله عليه ما استحق أن يسجد له لما خصص به من الخلق باليدين ، وذلك متفق عليه مقضى به في موجب العقل ، وإنما لزم السجود اتباعا لأمر الله. فإذا وجب على كل محقق القطع بأن آدم عليه‌السلام لم يسجد له لأنه خلق باليدين ، وظاهر الآية يقتضي اقتضاء السجود لاختصاص آدم بما تضمنته الآية ، فالظاهر متروك إذا والعقل حاكم بأن الذي يقع الخلق به القدرة.

ثم لا بعد في تكريم بعض العباد بالتخصيص بالذكر ، ونظائر ذلك في كتاب الله كثيرة فإنه عز اسمه أضاف الكعبة إلى نفسه ولا اختصاص لها بذلك ، وأضاف المؤمنين بصفة العبودية إلى نفسه ، وأضاف روح عيسى عليه‌السلام إلى نفسه. والإضافة تنقسم إلى إضافة صفة ، وإضافة ملك ، وإضافة تشريف.

فأما الآية المشتملة على ذكر العينين فمزالة الظاهر اتفاقا ، وكذلك قوله تعالى في الإنباء عن

٦٧

سفينة نوح عليه‌السلام : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [سورة القمر : ١٤] ولم يثبت أحد من المنتمين إلى التحقيق أعينا لله تعالى. والمعنى بالآية أنها تجري بأعيننا ، وهي منا بالمكان المحوط بالملائكة والحفظ والرعاية ؛ يقال فلان بمرأى من الملك ومسمع ، إذ كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته. وقيل المراد بالأعين في هذه الآية ، الأعين التي انفجرت من الأرض ، وأضيفت إلى الله تعالى ملكا ، وهذا غير بعيد.

وأما قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن : ٢٧] ، فلا وجه لحمل الوجه على صفة ، إذ لا تختص بالبقاء بعد فناء الخلق صفة لله تعالى ، بل هو الباقي بصفاته الواجبة ، فالأظهر حمل الوجه على الوجود. وقيل المراد بالوجه الجهة التي يراد بها التقرب إلى الله تعالى ؛ يقال : فعلت ذلك لوجه الله تعالى ، معناه لجهة امتثال أمر الله. فالمعنى بالآية. أن كل ما لم يرد به وجه الله محبط.

ومن سلك من أصحابنا سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه الآيات ، ألزمه سوق كلامه أن يجعل الاستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات تمسكا بالظاهر. فإن ساغ تأويلها فيما يتفق عليه ، لم يبعد أيضا طريق التأويل فيما ذكرناه.

وكنا على الإضراب عن الكلام على الظواهر ، فإذا عرض فسنشير إلى جمل منها في الكتاب والسنة. وقد صرح بالاسترواح إليها الحشوية الرعاع المجسمة.

فمما يسأل عنه قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور : ٣٥] ، قيل معناه الله هادي أهل السموات والأرض ، ولا يستجيز منتم إلى الإسلام القول بأن نور السموات والأرض هو الإله. والمقصود من الآية ضرب الأمثال فهي بذلك على الإجمال ، وقد نطق بما ذكرناه سياق الآية ، فإنه عز من قائل قال : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) [سورة النور : ٣٥].

ومما يسأل عنه قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [سورة الزمر : ٥٦] ، ولا يلتبس معنى هذه الآية إلا على غر غبي. إذ لا يتجه في انتظام الكلام حمل الجنب على تقدير الجارحة ، مع ذكر التفريط ، فلا وجه إلا حمل الجنب على جهات أمر الله تعالى ومأخذها. وقد يراد بالجنب الجناب والدّرا لعل المراد بها جمع ذروة ؛ يقال فلان محترس برعاية فلان ، لائذ إلى جنبه ، عائذ بجنابه. وليس ما ذكرنا من مضارب التأويل ، بل على قطع نعلم بطلان حمل الجنب الذي أضيف إليه التفريط على الجارحة.

ومما يسأل عنه قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [سورة القلم : ٤٢] ، فالمعنى بالآية الإنباء عن أهوال يوم القيامة وصعوبة أحوالها ، وما يدفع إليه المجرمون من أنكالها. وإذا وجد الأمر في الحرب ، واستعرت الصدور بالغيظ ، وحدجت الأعين بالبغضاء ، وشمخت الأنوف ، والتحمت المصارع ، قيل : قامت الحرب على ساقها ؛ ولا يتخيل حمل الساق على الجارحة ذو تحصيل.

٦٨

ومما يسأل عنه قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢] ، وكذلك قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة : ٢١٠] ؛ وليس المعنيّ بالمجيء الانتقال والزوال ، تعالى الله عن ذلك ؛ بل المعنيّ بقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) ، أي جاء أمر ربك وقضاؤه الفصل وحكمه العدل.

ومن شائع الكلام التعبير عن الأمر بذي الأمر في إرادة التعظيم ؛ إذ يقال : إذا جاء الأمير بطل من سواه ، وليس الغرض انتقاله ، بل المراد اتصال نوافذ أوامره وزواجره. وإذا كان للتأويل مجال رحب ، وللإمكان مجرى سهب ، فلا معنى لحمل الآية على ما يقتضي تثبيت دلالات الحدث.

ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية بآيات يوافقون على تأويلها ، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل ، عورضوا بذلك السبيل فيما فيه التنازع ؛ فمما يعارضون به قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد : ٤] فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر ، حلوا عقد إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه ، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل. وإن حملوا قوله : «هو معكم أينما كنتم» ، وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [سورة المجادلة : ٧] ، على الإحاطة بالخفيات ، فقد تسوغوا التأويل ، وهذا القدر في ظواهر القرآن كاف.

وأما الأحاديث التي يتمسكون بها ، فآحاد لا تفضي إلى العلم ، ولو أضربنا عن جميعها لكان سائغا ، لكنا نومئ إلى تأويل ما دون منها في الصحاح. فمنها حديث النزول ، وهو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب له؟» (١) الحديث. ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام. وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ، أحدهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في الدليل على حدوث الأجسام.

والوجه حمل النزول ، وإن كان مضافا إلى الله تعالى ، على نزول ملائكته المقربين ، وذلك سائغ غير بعيد. ونظير ذلك قوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [سورة المائدة : ٣٣] ، معناه إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله ، ولا يبعد حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تخصيصا.

ومما يتجه في تأويل الحديث أن يحمل النزول على إسباغ الله نعماءه على عباده مع تماديهم في العدوان وإصرارهم على العصيان ، وذهولهم في الليالي عن تدبر آيات الله تعالى ، وتذكر ما هم بصدده من أمر الآخرة. وقد يطلق النزول في حق الواحد منا على إرادة التواضع ؛ فيقال : نزل الملك عن كبريائه إلى الدرجة الدنيا ، إذا حلم على رعيته ، وانحط عن سطوته ، مع تمكنه من تشديد الوطأة عليهم.

ومن الدليل على أن النزول ليس من شرطه الانتقال ، إطلاق النزول مضافا إلى القرآن ، مع العلم باستحالة انتقال الكلام كما سبق.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٣٤ ، ٤٣ ، ٩٤).

٦٩

ومما وقع السؤال عنه ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا كان يوم القيامة ، واستقرّ أهل الجنان في النعيم ، وأهل النار في الجحيم ؛ وقالت النار : هل من مزيد؟ ، فيضع الجبار قدمه في النار ، فتقول النار : قط قط» (١).

وهذا مما رواه محمد بن إسماعيل في كتاب التفسير من مسنده الصحيح.

وللتأويل أوسع مجال فيه ، فيمكن أن يحمل الجبار على متجبر من العباد ، وهو في معلوم الله من أعتى العتاة ، وقد ألهمت النار ترقّبه ، فهي لا تزال تستزيد حتى يستقرّ قدم ذلك الجبار فيها ، فتقول النار عند ذلك : قط قط.

وقد ورد في مأثور الأخبار : أن أقدام الخلائق البرّ منهم والفاجر تستقر على متن جهنم كأنها إهالة جامدة ، فإذا وافت الأقدام عليها ازدردت النار أهلها ، ولهي أعرف بهم من الوالدة بولدها.

ومصداق حمل الجبار على ما ذكرناه ، ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أهل النار كل متكبر جبار ، جظّ ، جعظريّ ، جوّاظ» (٢).

ويمكن حمل القدم على بعض الأمم المستوجبة للنار في علم الله تعالى ، وتكون الإضافة في القدم بمعنى الملك.

ومما تتمسك به الحشوية ، ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق آدم على صورته» ، وهذا الحديث غير مدوّن في الصحاح ، وإن صح فقد نقل له سبب أغفله الحشوية ، وهو ما روي أن رجلا كان يلطم عبدا له حسن الوجه ، فنهاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال : «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» ، والهاء راجعة على العبد المنهي عن ضربه. ويمكن صرف الهاء إلى آدم نفسه ، ومعنى الحديث على ذلك أن الله تعالى خلق آدم بشرا سويا من غير والد ووالدة.

والغرض من الحديث : أنه عليه الصلاة والسلام لم يدر في أطوار الخلق ، بل أبدعه الله على صورته.

ومن أحاط بما ذكرناه ، لم يصعب عليه مدرك تأويل ما يسأل عنه ، بعد التثبّت وعدم الابتدار إلى تأويل كل ما يسأل عنه من مناكير الأخبار.

فهذا ، رحمكم الله ، كاف بالغ في إثبات العلوم بالصفات الواجبة المنقسمة إلى النفسية والمعنوية ، وقد اندرج في خلل الكلام في هذا القسم ، إيضاح ما يستحيل على الله تعالى.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة ٥٠ باب ١. كتاب التوحيد باب ٧ ، ٢٥. مسلم في كتاب الجنة حديث ٣٥ ، ٣٧ ، ٣٨. الترمذي في كتاب الجنة باب ٢٠ أحمد في مسنده (٢ / ٣٦٩ ، ٥٠٧).

(٢) رواه البخاري في كتاب الأدب باب ٦. مسلم في كتاب الجنة حديث ٤٦ ، ٤٧. الترمذي في كتاب جهنم باب ١٣. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٤. أحمد في مسنده (٣ / ١٤٥).

٧٠

فإذا انصرم هذان الركنان ، لم يبق بعدهما إلا الكلام فيما يجوز على الله تعالى ، وبنجاز ذلك يتصرم المعتقد ، وبالله التوفيق.

باب

القول فيما يجوز على الله تعالى

هذا الباب ينقسم ، ويتفنّن ، ويندرج تحته أصول عظيمة الموقع.

ونحن نرى تصديره بإثبات جواز تعلق الرؤية بالله تعالى.

باب

إثبات جواز الرؤية على الله تعالى

فصل

الأولى بنا تقديم فصول يتعلق بها احتجاج أهل الحق ، ويستند إليها الانفصال عن شبه المخالفين ؛ فمن أهمها : إثبات الإدراك شاهدا.

فالذي صار إليه أهل الحق ومعظم المعتزلة أن المدرك شاهدا مدرك بإدراك ، كما أن العالم شاهدا عالم بعلم. وذهب ابن الجبائي وشيعته إلى نفي الإدراك شاهدا وغائبا. والمصير إلى أن المدرك هو الحي الذي لا آفة به.

وكل ما دل على إثبات الأعراض فهو دال على إثبات الإدراكات فإنا استدللنا على ثبوت العلم بتجدد حكمه ، وهو كون العالم عالما ، ثم سبرنا الدلالة وقسمناها على حسب ما سبق من سبيل التوصل إلى إثبات المعاني ، فيجرّنا سياق الدليل إلى إثبات العلم بكون المدرك مدركا ؛ وكما يتجدد كون العالم عالما شاهدا ثم لا يلزم ذلك غائبا فكذلك يتجدد كون المدرك مدركا.

ومن حمل كون المدرك مدركا على كونه حيا وانتفاء الآفة عنه ، لم يتجه له انفصال عن من يسلك هذا المسلك بعينه في العلوم والقدر والإرادات ؛ وإن حمل الإدراك على حصول بنية مخصوصة ، لم يبعد حمل العلم أيضا على بنية مخصوصة. والجملة المغنية عن التفصيل : أن نفي الإدراكات يطرّق القوادح إلى سبيل إثبات الأعراض.

وإذا ثبت الإدراك بما أشرنا إليه ، فاعلموا أن الإدراك لا يفتقر إلى بنية مخصوصة ، وهذا باطل

٧١

من أوجه : أقربها أن الإدراك الواحد لا يقوم إلا بالجوهر الفرد ، ثم لا أثر للجواهر المحيطة بمحل الإدراك في محل الإدراك ؛ فإن كل جوهر مختص بحيزه موصوف بأعراضه ، ولا يؤثر جوهر في جوهر.

وإنما تثبت أحكام الجواهر من أعراضها المختصة بها قياما ، وكذلك لا يؤثر عرض قائم بجوهر في جوهر آخر.

فإذا ثبت بما ذكرناه أن الجواهر التي يقدر اجتماعها مع محل الإدراك غير مؤثرة فيه ، ووجودها في حكمه كعدمها ، فيفضي مجموع ذلك إلى القطع بنفي اشتراط بنية وتركيب على صفة مخصوصة ، وذلك قاطع في مقصودنا.

ومما يقوي التمسك به في نفي اشتراط البنية ، أن الشرط حكمه أن يطرد شاهدا وغائبا ، ولذلك قالت المعتزلة : لما كان كون الحيّ حيا شرطا في كونه عالما شاهدا لزم القضاء بمثل ذلك غائبا.

فيلزمهم على هذا الشرط أن نقول لهم : لو كان كون المدرك مدركا شاهدا مشروطا بكونه مبنيا ، للزم من وصف الباري بكونه مدركا وصفه بكونه مبنيا ، تعالى الله عن قول المبطلين.

وإذا ثبت الإدراك وتقرر عدم افتقاره إلى بنية ، وجواز قيامه بالجوهر الفرد ، فنبني على ذلك أصلا في إيضاح بطلان عصمة المعتزلة ، وذلك أنهم قالوا : لا يدرك المدرك بإدراك الرؤية ، حتى ينبعث شعاع من ناظر الرائي ويتصل بالمرئي ؛ فإذا استد الشعاع وتحقق انبعاثه من الحاسة على المرئي ، واستقرت قواعده عليها ، ولاقى الطرف الأخير المرئي ولم ينب عنه ، فيرى عند ذلك.

فإذا كان بين المرئي والرائي حجاب كثيف يمنع الشعاع من النفوذ لم يره. فإذا بعدت المسافة ، وصارت بحيث تنبو الأشعة وتبيد ، فلا يرى البعيد ، وإن أفرط قربه من الناظر ، وامتنع من إفراط القرب انبعاث الشعاع لم ير أيضا ؛ ولذلك لا يرى داخل الأجفان عندهم.

وحملوا رؤية الرائي نفسه عند النظر إلى جسم صقيل على ذلك ، فقالوا : الأشعة تنبعث ، فإذا لاقت جسما صقيلا ، لم تتشبث فيه إذ لا تضرس للصقيل ، فينعكس الشعاع إلى الناظر ، ويتصل به ، فيدرك إذ ذاك نفسه ؛ وإذا انفرج الشعاع من الأحوال وغيره ، لم يدرك المدرك على ما هو عليه لعدم امتداد الشعاع ، في هذيان طويل لا يحتمل هذا المعتقد شرحه.

وكل ما هذوا به مبنيّ على انبعاث أشعة هي أجسام لطيفة مضيئة من حاسة البصر ، ولا يجوز تقدير انبعاثها من غير بنية العين.

وإذا أبطلنا بما قدمناه افتقار الإدراك ، وكون المدرك مدركا ، إلى بنية ، فذلك يتضمن إفساد ما رتبوه على البنية لا محالة.

ثم الشعاع أجسام عندهم في داخل العين تنبعث منها عند فتح الأجفان. فيقال لهم : ما الذي يوجب انبعاثها؟ وهلا استقرت في أحيازها؟ وما الموجب لانقباضها وانبساطها؟ فإن زعموا أن في

٧٢

تلك الحاسة اعتمادات توجب دفع الأشعة ، فذلك بناء على فاسد أصلهم في التولد وهم غير مساعدين عليه. ثم عندهم أن الاعتمادات اللازمة تكون سفلية كاعتمادات الثقيل ، وعلوية ، كاعتمادات لهيب النار إذا اضطرمت ، فأما سائر الجهات فالاعتمادات فيها مجتلبة مكتسبة ؛ والناظر ليس بمجتلب اعتمادا على جهة ، كما يجتلبه إذا حاول دفع ثقيل يمنة أو يسرة.

فإن قالوا : إنما ينبعث الشعاع بحركات الحدقة والأجفان ، فذلك محال ، فإن من تصطلم أجفانه يرى إذا سكن حدقته ، فإذا ثبت أنه ليس لانبعاث الأشعة موجب وإن عدّ من خلق الله ، فيلزم أن يقدر جواز عدم خلقة ، حتى يجوز أن يفتح الحي المدرك غير المئوف عينه وترتفع الحواجز ولا يريد الرب تعالى انبعاث الشعاع ولا يرى إذ ذاك شيئا ، وهو من أمحل المحال عند القوم.

ومما يصعب موقعه عليهم أن نقول : لئن كان الجوهر يرى لاتصال الشعاع به ، فما بال لونه يرى وهو عرض ، وقد رئي ، ولا يجوز الاتصال بالأعراض.

فإن قالوا : إنما يرى ما يتصل به الشعاع ، أو ما يقوم بما يتصل به الشعاع ؛ فنقول : مفاد ذلك يلزمكم جواز رؤية الطعوم والروائح ، لأنها تقوم بما يتصل به الشعاع.

ونقول لهم أيضا : عندكم أن الجوهر الفرد لو مثل في سمت الشعاع لما رئي ، وقد اتصل الشعاع على امتداده به ، ولو قدرتنا انضمام جواهر إليه لما خصه من الشعاع إلا ما اتصل به إذا قدر فردا ، وكل ذلك دال على بطلان انبعاث الأشعة من الناظر واتصالها بالمرئيات.

وإذا استدلّ المخالفون ، على ما اعتقدوه من انبعاث الأشعة من الناظر ، واتصالها بالمرئيات ، بما قدمناه في صدر الفصل ، وما يستروحون إليه من ذكر القرب والبعد ، وتعريج الأشعة وانعكاسها عن الأجسام الصقيلة ، فليس في شيء مما ذكروه مستروح.

وإيجاز الجواب عن جميع ما يتمثلون به ، أن نقول ؛ لم ادّعيتم حمل ثبوت الرؤية تارة وانتفائها أخرى ، على ظنونكم في انبعاث الأشعة واتصالها؟ وبم تردون قول من يقول : كل ما تنفونه وتثبتونه يرجع إلى استمرار العادات على قضية أرادها الله عليها ، وسبيلها كسبيل استعقاب الأكل والشرب ، الشبع ، والرّيّ ، وإن لم يكونا موجبين لهما؟ ولو انخرقت العادة الجارية ، لجاز رؤية البعيد المفرط البعد ، والقريب المتداني.

ويجوز أيضا رؤية ما وراء الحجاب ، وإذا طولبوا بذلك لم يرجعوا إلا إلى استبعاد محض لا محصول له ، والوجه معارضتهم بكل ما يوافقون على أنه موجب العادات المستمرة.

فصل

الإدراكات خمسة : أحدها البصر المتعلق بقبيل المرئيات ، والثاني السمع المتعلق بالأصوات ،

٧٣

والثالث : الإدراك المتعلق بالرّوائح ، والرابع : الإدراك المتعلق بالطعوم ، والخامس ؛ الإدراك المتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة. والحاسة في اصطلاح المحققين هي الجارحة التي يقوم ببعضها الإدراك ، وقد يعبر بالشمّ واللمس والذوق عن الإدراكات تجوزا.

وهذه العبارات منبئة عند المحصلين عن اتصالات بين الحواس وبين أجسام تدرك ، ويدرك أعراض لها. وليست الاتصالات إدراكات ولا شرائط فيها ، وإن استمرت العادات بها. والدليل عليه أنك تقول شممت الشيء فلم أدرك ريحه ، وذقته فلم أجد طعمه ، ولمسته فلم أدرك حرارته. وذلك يحقق أنه ليس المراد بها في الإطلاق أنفس الإدراكات.

وعدّ أئمتنا رضي الله عنهم من الإدراكات وجدان الحي من نفسه الآلام واللذات ، وسائر الصفات المشروطة بالحياة. ولا سبيل إلى القول بأن وجدان هذه الصفات هو العلم بها ؛ فإن الإنسان قد يضطر إلى العلم بتألم غيره ، ويجد من نفسه الألم المختص به ، ويفرق ببديهة عقله بين وجدانه ذلك من نفسه وبين علمه بألم غيره.

فصل

اتفق أهل الحق على أن كل موجود يجوز أن يرى. وذهب المحققون منهم إلى أن كل إدراك ، يجوز تعلقه بقبيل الموجودات في مجرى العادات ، فسائغ تعلقه في قبيله بجميع الموجودات. والمصحح لكون الشيء بحيث أن يدرك هو الوجود ، ويطرد ذلك في جميع الإدراكات ، على ما سنبينه بالحجاج إن شاء الله عزوجل.

وقد تتصل أطراف الكلام بما لا يستغني المسترشد عن الإحاطة به ، وذلك أن قائلا لو قال : هل يجوز أن يدرك المدرك إدراك نفسه ، فالمرضي عندنا أنه يجوز أن يدرك المدرك إدراك نفسه ، وإن لم يدركه فإنما لم يدركه لمانع ينافي إدراك الإدراك ، فيكون منعا منه ومنعا من تقدير أن يدركه في نفسه. وهل يجوز أن يتعلق إدراك الغير بإدراك غيره وموانعه؟ وهذا من الدقيق الذي لا يتأتى بسطه هاهنا.

فصل

كل ما يجوز أن يدرك فإذا لم يدركه المدرك. فإنما لم يدركه لقيام مانع به مضاد لإدراك ما يجوز أن يدركه. وتتعدد الموانع حسب تعدد تقدير الإدراكات ، وهي متناهية الإعداد ، إذ لا تنتفي النهاية عن أعداد المدركات.

وقد أنكرت المعتزلة الموانع التي أثبتناها مضادة للإدراكات. وزعموا أن الموانع منها القرب والبعد المفرطان ، وعدم انبعاث الشعاع على شكل السداد ، وعدم اتصاله بالمرئي. والحجب الكثيفة

٧٤

غير الشفافة من الموانع على أصولهم. وحملوا العمى على انتقاض بنية الحاسة. وكل ما يدل على إثبات الأعراض دال على أن العمى ، وكل مانع من الإدراك معنى ؛ ولو جاز حمل العمى على انتقاض البنية.

ومن أحاط بمآخذ الأدلة ، هان عليه طرد الدليل الذي رمناه ، وإن ابتغى مبتغ تجديد العهد بسبيل الدليل على ما نروم إثباته من الأعراض ، فليسرد ما رسمناه في إثبات الأعراض حرفا حرفا. فهذه المقدمات لم نجد من تقديمها بدّا.

فصل

ذكرنا من مذهب أهل الحق أن الباري سبحانه يجوز أن يرى ، ونقلنا مخالفة المخالفين. ثم معظم المعتزلة مجمعون على أن الباري تعالى لا يرى نفسه ، وهو في معتقد هؤلاء يستحيل أن يرى بالحواس ويستحيل أن يرى من غير حاسة. وذهبت شرذمة من المعتزلة إلى أن الباري يرى نفسه ، وإنما تمتنع على المحدثين رؤيته من حيث لا يرون إلا بالحاسة واتصال الأشعة. وذهب الكعبي وصحبه إلى أنه تعالى لا يرى ، ولا يرى نفسه ولا غيره ، وهذا مذهب النجار.

والذي يعول عليه في إثبات جواز الرؤية بمدارك العقول ، أن نقول : قد أدركنا شاهدا مختلفات ، وهي الجواهر والألوان ، وحقيقة الوجود تشترك فيها المختلفات ، وإنما يؤول اختلافها إلى أحوالها وصفات أنفسها ، والرؤية لا تتعلق بالأحوال. فإن كل ما يرى ويميز عن غيره في حكم الإدراك ، فهو ذات على الحقيقة ، والأحوال ليست بذوات. فإذا تقرر بضرورة العقل أن الإدراك لا يتعلق إلا بالوجود ، وحقيقة الوجود لا تختلف ، فإذا رئى موجود لزم تجويز رؤية كل موجود ؛ كما أنه إذا رئي جوهر ، لزم تجويز رؤية كل جوهر ؛ وهذا قاطع في إثبات ما نبغيه.

فإن قيل : لو كانت الرؤية لا تتعلق إلا بالموجود ، لما أدرك المدرك اختلاف المدركات ، وهذا السؤال وجّهه البهشمية ؛ فإن من أصلهم : أن الإدراك لا يتعلق بالوجود ، وإنما يتعلق بخاصّ وصف المدرك.

والذي ذكروه في نهاية من التناقض ؛ فإن ابن الجبائي امتنع من وصف الحال بكونها معلومة على حيالها ، محاذرة من أن تتخيل الحال ذاتا ، ثم زعم أنها المدركة دون الذات ووجودها. وكيف يستحيز اللبيب أن يحكم بأنه يدرك ما لا يعلم ، مع القطع بأن تعلق العلم أعم من تعلق الإدراك ؛ فإن العلم يتعلق بالوجود والعدم ؛ والإدراك لا يتعلق إلا بالذات الموصوفة بالوجود.

فإن قالوا : فما بال الحال علمت عند إدراك الوجود؟ قلنا : قولنا في العلم بالأحوال عند إدراك الوجود ، كقولهم في العلم بالوجود عند إدراك الأحوال. ثم لا يبعد في مجاري العقول وجود اقتران معنيين ، وهو بمثابة اقتران الآلام بالعلم بها ، والمحل بالعرض ، إلى غير ذلك.

٧٥

وأما من نفى جواز الرؤية ، فمما يعوّلون عليه أن الباري تعالى لو كان مرئيا لرأيناه في وقتنا ؛ إذ الموانع من الرؤية منفية عنه ، وهي القرب والبعد المفرطان ، والحجب الحائلة ونحوها ، فلما لم نره كان ذلك دالّا على أنا لم نره لاستحالة رؤيته.

فنقول لهم : لم حصرتم الموانع فيما ذكرتموه؟ ولم أنكرتم مزيدا عليها؟ فلا يرجعون عند تحقيق الطلبة إلا إلى قولهم : سبرنا الموانع فلم نلف إلا ما أفصحنا به. فيقال لهم : عدم عثوركم على ضبط الموانع ، لا ينتصب علما قاطعا ، وأنتم عرضة للزلل ، ولا يجب لكم العصمة ، ولا الإحاطة بقصارى الأشياء وحقائقها ، فلا يرجعون عند ذلك إلا إلى تردّد وتبلّد.

ثم نقول لهم : بم تنكرون على من يزعم أنا إنما لم نره لمانع قائم بالحاسة ، مضادّ لإدراكه؟ فإن قالوا : مقاد هذا المذهب يفضي بمعتقده إلى أن يجوّز أن تكون بحضرته أطلال وأشخاص وأشباح ، وأطوال شامخة وجبال راسخة ؛ وهو لا يراها ، إذ لم يخلق له الإدراك لها ، والتزام ذلك جهل وانسلال عن موجب العقل.

قلنا : هذا الذي ذكرتموه تعويل على تهويل لا تحصيل له ، وهو على الفور ينعكس عليكم بالذي يغمض أجفانه ، ويعتقد اقتدار الرب تعالى على أن يخلق في أوجز ما يقدر وأسرع ما ينتظر ما فرضتموه علينا ؛ فما يؤمنه ، وقد غمّض أو أطرق ، أن يكون قد حدث بين يديه باختراع الله أطواد وأطلال؟ ومجوّز ذلك متجاهل.

وكذلك اتفق المنتمون إلى الإسلام على اقتدار الرب على أن يخلق بشرا سويا بديّا ، من غير أن يردّده في أطوار الخلق من النطف والأمشاج. ومن رأى بشرا سويا ، واستراب في كونه مولودا جريا على ما يجوّزه في قدرة الله تعالى كان والجا في نية الجهل.

ومن الممكنات أن تجري الأودية دما عبيطا ، وتنقلب الجبال ذهبا إبريزا ، ولو جوّزه عاقل في دهره وقدره ممكنا في عصره ، كان مهوّسا موسوسا ، فكذلك سبيل القطع بأنه ليس بحضرتنا ما لا نشاهده.

فرجع ذلك ، وقيتم البدع ، إلى استقرار العوائد واستمرارها دون موجبات العقول. كيف وقد خصص الرسل برؤية الملائكة على القرب من صحبهم وكانوا لا يرونهم ، إذ الدهر دهر انخراق العوائد ووضوح المعجزات المجانبة للعادات.

ومن شبههم : ما إذا تحقق رجع إلى محض الدعوى ، مثل قولهم : الرائي يجب أن يكون مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل. فيقال لهم في هذا الضرب : أعلمتم ما ادّعيتموه ضرورة ، أم علمتموه نظرا؟ فإن ادّعوا العلم الضروري ونسبوا خصومهم إلى جحده ، سقطت محاجتهم وتبين بهتهم وتطرق إليهم من المجسمة مثل ما ادّعوه.

٧٦

فإن قائلا منهم لو قال : باضطرار تعلم استحالة وجود موجود لا مجامع للعالم ولا مفارق له ، لم تدفع هذه الدعوى إلا بمثل ما دفعنا به شبهة نفاة الرؤية. ثم الباري تعالى يرى خلقه من غير جهة ، فجاز أن يرى في غير جهة.

وينبغي للمبتدي في هذا الفن ، أن لا يغفل عن معارضتهم بالعلم وكون الرب تعالى معلوما ، في كل ما يتمسكون به في نفي جواز الرؤية.

فصل

قد ثبت بموجب العقل جواز رؤية الباري تعالى ، وهذا الفصل يشتمل على أن الرؤية ستكون في الجنان ، وعدا من الله تعالى صدقا وقولا حقا.

والدليل عليه نصّ الكتاب ، وهو قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [سورة القيامة : ٢٢ ـ ٢٣].

والنظر ينقسم معناه في اللغة ، وتعتوره وصائل مختلفة على حسب اختلاف معانيه. فإن أريد به التقرب والانتظار ، استعمل من غير صلة ؛ قال الله تعالى في الإنباء عن أحوال المنافقين ومخاطبتهم المؤمنين ، وقد حيل بينهم وبينهم : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد : ١٣] ، معناه : انتظرونا. وإن أريد بالنظر الفكر ، وصل بفي ، فتقول : نظرت في الأمر ، إذا تدبرته. وإذا أريد به الترحم ، وصل باللام ، فتقول : نظرت لفلان. وإذا أريد به الإبصار ، أي الرؤية وصل بإلى.

والنظر في الآية التي احتججنا بها موصول بإلى خبر عن الوجوه الناظرة المستبشرة ، فاقتضاء النظر إثبات الرؤية. فإن عارضونا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام : ١٠٣] ، قلنا : في الكلام على هذه الآية مسالك. منها ، إن الرب تعالى لا يدرك جريا على ظاهر الآية ، بل يرى. وإنما امتنع من سلك هذا المسلك من إطلاق الإدراك لإنبائه عن الإحاطة وتضمنه اللحوق ، وإنما يلحق ذو الغايات ، والرب تعالى يتقدّس عن التحديد بالنهايات. وهؤلاء لا يمتنعون من إطلاق الإحاطة على معنى العلم ، ويقولون : الرب تعالى يعلم على الحقيقة ولا يحاط به ، ويرى ولا يدرك ، ثم ليس في الآية نفي جواز الإدراك ، وهو موضع الاختلاف الراجع إلى مدارك العقول.

ثم هذه الآية مطلقة غير مختصة بالأوقات ، وهي عامة فيها ، والآية التي استدللنا بها تنص على إثبات الرؤية في أوقات معلومة ، فيتجه في طرق التأويل حمل المطلق على المقيد ، فيحمل نفي الإدراك على أيام الدنيا.

وإن عارضونا بقوله تعالى في جواب موسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) [سورة الأعراف : ١٤٣] ، فهذه الآية من أصدق الأدلة على ثبوت جواز الرؤية ؛ فإن من اصطفاه الله لرسالته ، واختاره واجتباه

٧٧

لنبوءته ، وخصصه بتكريمه وشرّفه بتكليمه ، يستحيل أن يجهل من حكم ربه ما يدركه حثالة المعتزلة.

ومن نفى الرؤية نسب مثبت جوازها إما إلى ثبوت ما يقتضي تكفيرا ، وإما إلى ثبوت ما يقتضي تضليلا ، والأنبياء عليهم‌السلام مبرّءون عن ذلك ، كيف وقد ذهب مخالفونا إلى وجوب عصمتهم عن جميع الزلل!

فإن قال منهم قائل : إنما سأل موسى عليه‌السلام علما ضروريا ، وعبر عنه بالرؤية ، قيل له : الرؤية المقرونة بالنظر الموصول «بإلى» ، نص في الرؤية.

ثم الجواب يحمل على حسب الخطاب ، فما بال المعتزلة حملوا : (لَنْ تَرانِي) على نفي الرؤية ، وحملوا السؤال في صدر الآية على غير الرؤية؟

وإن قال منهم قائل : إنما سأل الرؤية لقومه قطعا لمعاذيرهم ، إذ كانوا يسألونه أن يريهم الله جهرة ، قيل له : هذا مخالفة للنص ، فإنه عليه‌السلام أضاف الرؤية المسئولة إلى نفسه ، حيث قال : (أَرِنِي).

ثم كيف يظن بالكليم أن يسأل ربه ما يعلم استحالته في حكمه تعالى لأجل قومه! ولما سألوه وقد جاوزوا البحر أن يجعل لهم إلها ، قال في الرّد عليهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [سورة الأعراف : ١٣٨].

وقد ذهبت شرذمة من المعتزلة ، إلى أن موسى عليه‌السلام كان يعتقد جواز الرؤية غالطا ، فأعلمه الله تعالى أنه لا يجوز ذلك ، وتلك عظيمة ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وهو من أعظم الازدراء بالأنبياء. ولو جاز ذلك ، لجاز أن يعتقد نبي كون ربه جسما غالطا ، ثم يعلمه الله ويلهمه الصواب.

فإن تبين أن سؤال موسى عليه‌السلام دال على جواز ما سئل عنه ، ثم سؤاله كان عن رؤية في الحال ، فلا يقدح في النبوّة ذهول النبي عليه الصلاة والسلام عن علم الغيب. فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يظن ما اعتقده جائزا ناجزا ، فأعلمه الرب تعالى مكنون غيبه. ثم سؤاله كان عن رؤية في الحال ، فتعيّن حمل النفي على موضع السؤال.

فصل

فإن قيل : قدمتم أن كل إدراك فإنه متعلق جوازا بكل موجود ، وقود ذلك يلزمكم تجويز تعلق الإدراكات الخمسة بذات الباري وصفاته ، وملتزم ذلك ينتهي إلى الحكم بكون الرب تعالى مشموما ملموسا مذوقا. قلنا : قد ذكرنا أن اللمس والذوق والشمّ عبارات عن اتصالات ، وليست هي الإدراكات. فأما الإدراكات ، مع القطع باستحالة الاتصال ، فيجوز تعلقها بكل موجود ، وكل دال على جواز رؤية كل موجود ، يطرد في جميع الإدراكات.

فإن قيل : قد قدمتم في الصفات الواجبة ، أن الرب تعالى سميع بصير ، وأثبتم العلم بالسمع

٧٨

والبصر ، فهل تثبتون للباري تعالى سائر الإدراكات؟ قلنا : الصحيح عندنا إثباتها ، والدال على إثبات العلم بالسمع والبصر دال على جميع الإدراكات.

فهذا باب مما يجوز في أحكام الإله. ومما يتعلق بالجائز من أحكامه ، ذكر خلقه واختراعه المخترعات ، ويتصل بذلك خلق الأعمال ، وما تمس الحاجة إليه من أحكام قدر العباد.

باب

القول في خلق الأعمال

اتفق سلف الأمة ، قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالق المبدع رب العالمين ، ولا خالق سواه ، ولا مخترع ، إلا هو. فهذا هو مذهب أهل الحق ؛ فالحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى ، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به ، وبين ما تفرد الرب بالاقتدار عليه. ويخرج من مضمون هذا الأصل ، أن كل مقدور لقادر ، فالله تعالى قادر عليه وهو مخترعه ومنشؤه.

واتفقت المعتزلة ، ومن تابعهم من أهل الأهواء على أن العباد موجدون لأفعالهم ، مخترعون لها بقدرهم. واتفقوا أيضا على أن الرب تعالى عن قولهم ، لا يتصف بالاقتدار على مقدور العباد ، كما لا يتصف العباد بالاقتدار على مقدور الرب تعالى.

ثم المتقدمون منهم كانوا يمتنعون من تسمية العبد خالقا لقرب عهدهم بإجماع السلف على أنه لا خالق إلا الله تعالى ، ثم تجرّأ المتأخرون منهم وسموا العبد خالقا على الحقيقة. وأبدع بعض المتأخرين ما فارق به ربقة الدين ، فقالوا : العبد خالق ، والرب تعالى عن قول المبطلين لا يسمى خالقا على الحقيقة. أعاذكم الله من البدع والتمادي في الضلالات.

ونحن الآن نرسم على المخالفين ثلاثة أضرب من الكلام ؛ فأما الضرب الأول ، فنتمسك فيه بالقواطع العقلية في خروج العبد عن كونه مخترعا ؛ ونذكر في الضرب الثاني ، إلزامات للمعتزلة مأخذها العقول أيضا ، والغرض منها إيضاح تناقض مذاهبهم ؛ ونذكر في الضرب الثالث ، الأدلة السمعية الدالة على صحة ما انتحاه أهل الحق.

فصل

أما الضرب الأوّل من الكلام ، فينحصر المقصود منه في طريقتين. إحداهما ، أن نقول لخصومنا : قد زعمتم أن مقدورات العباد ليست مقدورة للرب تعالى ، مصيرا منكم إلى استحالة

٧٩

إثبات مقدور بين قادرين ، فنقول لكم : الرب تعالى قبل أن أقدر عبده ، وقبل أن اخترعه ، هل كان موصوفا بالاقتدار على ما كان في معلومه أنه سيقدر عليه من يخترعه أم لا؟ فإن زعموا أنه تعالى لم يكن موصوفا بالاقتدار على ما سيقدر عليه العبد ، فذلك ظاهر البطلان ؛ فإن ما سيقدر عليه العبد عين مقدور الله تعالى ، إذ هو من الجائزات الممكنات المتعلق بها قدرة العبد بعد في الصورة التي فرضنا السؤال عنها.

وإن كان يمتنع تعلق كون الباري تعالى قادرا بمقدور العبد ، من حيث يستحيل عند الخصوم مقدور بين قادرين ، فلا ينبغي أن يمتنع كون ما سيقدر عليه العبد مقدورا لله تعالى قبل أن يقدر عليه العبد عنده ، فإنه لم تتعلق به بعد القدرة الحادثة. وإذا وجب كون ما سيقدر عليه العبد مقدورا لله تعالى قبل أن يقدر عبده عليه ، فإذا أقدره استحال أن يخرج ما كان مقدورا لله تعالى عن كونه مقدورا له.

ولو تناقض في معتقد المخالفين بقاؤه مقدورا للرب تعالى مع تجدد تعلق قدرة العبد به ، فاستبقاء كونه مقدورا للرب تعالى ، وانتفاء كونه مقدورا للعبد ، أولى من انقطاع تعلق كون الرب تعالى قادرا عليه لتجدد كونه مقدورا للعبد.

وإذا ثبت وجوب كون مقدور العبد مقدورا لله تعالى ، فكل ما هو مقدور له ، فإنه محدثه وخالقه ، إذ من المستحيل أن ينفرد العبد باختراع ما هو مقدور للرب تعالى.

ومما تمسك به أئمتنا أن قالوا : الأفعال المحكمة دالة على علم مخترعها ، وتصدر من العبد أفعال في غفلته وذهوله ، وهي على الاتساق والانتظام ، وصفة الإتقان والإحكام ، والعبد غير عالم بما يصدر منه ، فيجب أن يكون الصادر منه دالا على علم مخترعه. وإنما يتقرر ذلك على مذهب أهل الحق ، الصائرين إلى أن مخترع الأفعال الرب تعالى ، وهو عالم بحقائقها.

ومن ذهب إلى أن العبد مخترع أفعاله ، وهو غير عالم بها في الصورة التي وضعنا الدلالة فيها ، فقد أخرج الإتقان والإحكام عن كونه دالا على المتقن المخترع ، وذلك نقض للدلالة العقلية.

ثم لو ساغ وقوع محكم وفاعله غير عالم به ، ساغ أيضا بطلان دلالة الفعل على القادر ؛ وذلك ينساق القول به إلى بطلان دلالة الفعل على الفاعل.

فإن عكسوا علينا ما ذكرناه في الكسب ، وقالوا : يجب كون المكتسب عالما بما يكتسبه ، ثم يجوز أن يصدر منه القليل من الأفعال وإن كان ذاهلا غافلا.

قلنا : لا يجب عندنا في حكم العقل كون المكتسب عالما بما يكتسبه ، ثم يجوز أن يصدر منه القليل ، إذ لو وجب ذلك في الكثير من الأفعال لوجب في القليل منها.

فإن قالوا : يجوز على ما أصّلتموه صدور الأفعال الكثيرة من العبد من غير علمه بها ، قلنا : هذا مما نجوزه في موجب العقل ، وإنما يمتنع وقوعه لاطراد العادات ، ولو انخرقت لما امتنع في جائزات العقول ما طالبتمونا به.

٨٠