كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي

كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلّة في أصول الإعتقاد

المؤلف:

عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي


المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٤

أعجزت عنه بقلة الاكتراث. قلنا : هذا ركيك من القول لا يبوح به من شدا طرفا من الآداب ، فإن العرب في تحاورها وتفاوضها ، كانت تتشمر إذا تهاجت لمعارضة الركيك من الشعر والرصين المتين منه. وباضطرار نعلم أن القرآن في اعتقادهم لم ينحط عن شعر لشاعر ونثر لناثر ، حتى يحملهم الازدراء به على الانكفاف عن معارضته.

كيف ، وقد كان الرسول عليه‌السلام وأنصاره يقولون : لو عارضتم سورة من القرآن لألقينا إليكم السلم وآثرنا النواجز بعد التناجز ، وأذعنا لكم. فإن تكن الأخرى ، ألفينا ضرام الحرب ، وأدمينا مراسها وأحكمنا أساسها ، ومددنا الأيدي إلى قتل النفوس وهتك السّجوف عن العواتق العربيات. وكيف يخطر لعاقل ، وقد ظهرت كلمة الإسلام وخففت على المسلمين الرايات والأعلام أن يؤثر الكفار أهوالا تشيب النواصي وأحوالا تزيل الرواسي ولا يعارضوا بسورة ازدراء بها.

فقد ثبتت المعجزة والتحدي بها ، والعجز من معارضتها ، وهذا القدر مغن فيما نريده ، والله الموفق للصواب.

فصل

فإن قيل : أوضحوا لنا وجه الإعجاز في القرآن ، ثم بينوا القدر المعجز منه. قلنا : المرضي عندنا أن القرآن معجز لاجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب. فلا يستقل النظم بالإعجاز على التجريد ، ولا تستقل الجزالة أيضا.

والدليل عليه أنا لو قدرنا الجزالة المحضة معجزة ، لم نعدم سؤالا مخيلا. إذ لو قال قائل : إذا قوبل القرآن بخطب العرب ونثرها وأشعارها وأراجيزها ، لم ينحط كلام اللّدّ البلغاء واللّسن الفصحاء عن جزالة القرآن ، انحطاطا بينا قاطعا للأوهام. وإن ادعينا الإعجاز في الأسلوب المحض ، والنظم المخالف لضروب الكلام ، فربما يتجه تقدير نظم ركيك يضاهي نظم القرآن ، كما يؤثر من ترهات مسيلمة الكذاب حيث قال : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فلا يعجز عن مثل ذلك ، مع الرضى بالركيك والكلام المرذول الذي تمجه الأسماع. فيلزم من مجموع ما ذكرناه ربط الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة.

فإن قيل : ما وجه البلاغة في القرآن؟ وما وجه خروج نظمه عن ضروب الكلام؟ قلنا : أما وجه البلاغة فبينة لا خفاء بها. والبلاغة التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف ذلق رائق ، منبئ عن المقصود من غير مزيد ؛ فهذا الكلام الجزل ، والمنطق الفصل. ثم البليغ من الكلام تتفنن أقسامه.

فمن جوامع الكلم الدلالة على المعاني الكثيرة بالعبارات الوجيزة ، وهذا الضرب لا يعد في القرآن كثرة.

فمنه إنباء الله تعالى عن قصص الأولين ، ومآل المسرفين وعواقب المهلكين ، في شطر من آية ،

١٤١

وذلك قوله عزوجل : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ، وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [سورة العنكبوت : ٤٠].

وقال الرب على مفتتح أهل السفينة وإجرائها وإهلاك الكفرة ، واستقرار السفينة واستوائها ، وتوجه أوامر التسخير إلى الأرض والسماء ، بقوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) ، إلى قوله : (وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة هود : ٤١ ـ ٤٤].

وأنبأ عن الموت وحسرة الفوت ، والدار الآخرة وثوابها وعقابها وفوز الفائزين ، وتردي المجرمين ، والتحذير من التغرير بالدنيا ، ووصفها بالقلة بالإضافة إلى دار البقاء : بقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران : ١٨٥] الآية.

ومن أقسام الكلام البليغ قص القصص من غير انحطاط عن الكلام الجزل ، ومعظم البلغاء يعلو كلامهم ما شببوا ، فإذا لابسوا حكايات الأحوال جاءوا بالكلام الرث والقول المستغث ، وإن حاولوا كلاما جزلا ، لم يدرك الكلام مقصده من المعنى.

وهذه قصة يوسف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع اشتمالها على الأمور المختلفة ، والمؤتلفة مسرودة ، على أحسن نظام وأبلغ كلام متناسقة الأطراف ، متلائمة الأكناف ، كأن آياتها آخذ بعضها برقاب بعض. ثم القصص لا تخلو عن التردد والتكرار سيما إذا اتحدت المعاني ، وما لنا نكلف أنفسنا في هذا المعتقد نزف بحر لا ينقص!

ومن صدق الآيات على بلاغة القرآن اعتراف العرب قاطبة بها ، صريحا وضمنا ؛ فمنهم من اعترف وأفصح ، ومنهم من سكت وصمت ولو كان في القرآن ما يجانب الجزالة ، لكان أحق الناس بالتعريض لنسبته إلى الركاكة أهل اللسان.

فإن قيل : هل في القرآن وجه من الإعجاز غير النظم والبلاغة؟ قلنا : أجل فيها وجهان معجزان :

أحدهما الإنباء عن قصص الأولين على حسب ما ألقي في كتب الله تعالى المنزلة ، ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممن عانى تعلما ومارس تلقف كتاب. وكان ينشأ بين ظهراني العرب ، ولم تعهد له خرجات يتوقع فيها تلقف علم ودراسة كتاب ، وكان في ذلك أصدق آية على صدقه.

واشتمل القرآن على غيوب تتعلق بالاستقبال والإخبار عن المغيب ، قد يوافق كرّة أو كرّتين ، فإذا توالت الأخبار كانت خارقة للعادات. فمن غيوب القرآن قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) [سورة الإسراء : ٨٨] الآية ، وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [سورة البقرة : ٢٤] وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [سورة الفتح : ٤٧] ، وقوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [سورة الروم : ١] وقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) [سورة الفتح : ٢٠] ، إلى غير ذلك مما يطول تعداده.

١٤٢

فصل

للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات لا تحصى سوى القرآن ؛ كانشقاق القمر ، وإنطاق العجماء ، ونبع الماء من خلل الأصابع ، وتسبيح الحصى ، وتكثير الطعام القليل.

والمرضي عندنا ، أن آحاد هذه المعجزات لا تثبت تواترا ، لكن مجموعها يفيد العلم قطعا لاختصاصه بخوارق العادات ، كما أن آحاد البذل من حاتم لا تثبت تواترا ، ولكن مجموعها يفيد العلم على الضرورة بسخائه ، وكذلك القول في جسارة أمير المؤمنين «علي» رضي الله عنه ، وشجاعته. وأما انشقاق القمر ، فقد أنبأت عنه آية من كتاب الله ثبت نقلها تواترا ، فهذا القدر بالغ كاف فيما نرومه.

باب

القول في أحكام الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين.

اعلموا أن أحق ما يفتتح به الباب ، معنى النّبوءة ؛ فليست النبوءة راجعة إلى جسم النبي ، ولا إلى عرض من أعراضه ، ويبطل صرفها إلى علمه بربه إذ ذلك يثبت من غير تقدير النبوءة. وباطل أيضا صرف النبوءة إلى علم النبي بكونه نبيا ، فإن المعلوم ما لم يتقرر فلا يتقرر العلم به. فإن كان النبي عالما بنبوءته فما نبوءته؟ وفيها السؤال.

فالنبوءة ترجع إلى قول الله تعالى لمن يصطفيه : «أنت رسولي». وهذا بمثابة الأحكام ، فإنها ترجع إلى قول الله تعالى. ولا تؤول إلى صفات الأفعال ، فليس للفعل الواجب صفة لوجوبه نفسية. بل الفعل المقول فيه : «افعل» ، واجب بالقول ، وذلك بمثابة المذكور الذي لا يكتسب من الذكر صفة في نفسه.

فصل

فإن قيل : بينوا لنا عصمة الأنبياء وما يجب لهم. قلنا : يجب عصمتهم عما يناقض مدلول المعجزة ، وهذا مما نعلمه عقلا ، ومدلول المعجزة صدقهم فيما يبلغون. فإن قيل : هل تجب عصمتهم عن المعاصي؟ قلنا : أما الفواحش المؤذنة بالسقوط وقلة الديانة ، فتجب عصمة الأنبياء عنها إجماعا.

ولا يشهد لذلك العقل ، وإنما يشهد العقل لوجوب العصمة عما يناقض مدلول المعجزة. وأما الذنوب المعدودة من الصغائر ، على تفصيل سيأتي الشرح عليه ، فلا تنفيها العقول ولم يقم عندي دليل قاطع سمعي على نفيها ، ولا على إثباتها. إذ القواطع نصوص أو إجماع ، ولا إجماع إذ العلماء

١٤٣

مختلفون في تجويز الصغائر على الأنبياء. والنصوص التي تثبت أصولها قطعا ، ولا يقبل فحواها التأويل ، غير موجودة.

فإن قيل : إذا كانت المسألة مظنونة ، فما الأغلب على الظن عندكم؟ قلنا : الأغلب على الظن عندنا جوازها ، وقد شهدت أقاصيص الأنبياء في آي من كتاب الله تعالى على ذلك. فالله أعلم بالصواب.

فإن قيل : قد استوعبتم ما يليق بالمعتقد في النبوءات ، وأضربتم عن الرد على العيسوية. قلنا : إنما فعلنا ذلك لوضوح تناقض قولهم ، بأنهم التزموا شريعته ثم كذبوه ، وقد علمنا ضرورة أنه ادعى كونه مبتعثا إلى الثقلين وأرسل دعاته إلى الأكاسرة وملوك العجم. فوضح بهذا القدر سقوط مذهبهم ونجز به ما لا يسوغ جهله في النبوءات.

باب

اعلموا ، وفقكم الله تعالى ، أن أصول العقائد تنقسم إلى ما يدرك عقلا ، ولا يسوغ تقدير إدراكه سمعا؟ وإلى ما يدرك سمعا ، ولا يتقدر إدراكه عقلا ؛ وإلى ما يجوز إدراكه سمعا وعقلا.

فأما ما لا يدرك إلا عقلا ، فكل قاعدة في الدين تتقدم على العلم بكلام الله تعالى ووجوب اتصافه بكونه صدقا ؛ إذ السمعيات تستند إلى كلام الله تعالى ؛ وما يسبق ثبوته في الترتيب ثبوت الكلام وجوبا ، فيستحيل أن يكون مدركه السمع.

وأما ما لا يدرك إلا سمعا ، فهو القضاء بوقوع ما يجوز في العقل وقوعه ، ولا يجب أن يتقرر الحكم بثبوت الجائز ثبوته فيما غاب عنا إلا بسمع. ويتصل بهذا القسم عندنا جملة أحكام التكليف ، وقضاياها من التقبيح والتحسين والإيجاب والحظر ، والندب والإباحة.

وأما ما يجوز إدراكه عقلا وسمعا ، فهو الذي تدل عليه شواهد العقول ، ويتصور ثبوت العلم بكلام الله تعالى متقدما عليه. فهذا القسم يتوصل إلى دركه بالسمع والعقل. ونظير هذا القسم إثبات جواز الرؤية ، وإثبات استبداد الباري تعالى بالخلق والاختراع ، وما ضاهاهما مما يندرج تحت الضبط الذي ذكرناه. فأما كون الرؤية ووقوعها فطريق ثبوتها الوعد الصدق والقول الحق.

فإذا ثبتت هذه المقدمة ، فيتعين بعدها على كل معتن بالدين واثق بعقله أن ينظر فيما تعلقت به الأدلة السمعية ، فإن صادفه غير مستحيل في العقل ، وكانت الأدلة السمعية قاطعة في طرقها ، لا مجال للاحتمال في ثبوت أصولها ولا في تأويلها ـ فما هذا سبيله ـ فلا وجه إلا القطع به.

وإن لم تثبت الأدلة السمعية بطرق قاطعة ، ولم يكن مضمونها مستحيلا في العقل ، وثبتت أصولها قطعا ، ولكن طريق التأويل يجول فيها ، فلا سبيل إلى القطع ؛ ولكن المتدين يغلب على ظنه

١٤٤

ثبوت ما دل الدليل السمعي على ثبوته ، وإن لم يكن قاطعا ، وإن كان مضمون الشرع المتصل بنا مخالفا لقضية العقل ، فهو مردود قطعا بأن الشرع لا يخالف العقل ، ولا يتصور في هذا القسم ثبوت سمع قاطع ، ولا خفاء به.

فهذه مقدمات السمعيات ، لا بد من الإحاطة بها ، ونحن الآن نسرد أبوابها تترى ، مستعينين بالله ، ونذكر في كل باب ما يليق به من فصول معقودة إن شاء الله.

باب الآجال

الآجال يعبر بها عن الأوقات ، فأجل كل شيء وقته ، وأجل الحياة وقتها المقارن لها ، وكذلك أجل الوفاة. فالأوقات في موجب الإطلاقات يعبر بها كثيرا عن حركات الفلك ، وولوج الليل على النهار ، والنهار على الليل.

وتحقيق القول في الأوقات أنها لا تتخصص بأجناس من الموجودات ، تخصيص الجواهر والعلوم ونحوها ، ولكن كل واقع ابتغي أن يقرن بمتجدد ، فذلك المتجدد الذي قرن به الحادث وقت له وذلك إلى قصد المؤقت وإرادته. فإذا قال قائل : قدم زيد عند طلوع الشمس ، فقد جعل الطلوع وقتا للقدوم ، وإن قال : طلعت الشمس عند قدوم زيد ، فقد جعل القدوم وقتا للطلوع.

والأصل في التوقيت ، أن يقدر المؤقت متجددا معلوما ، ويفرض فيما يؤقته استبهاما ، فيزيل الاستبهام الموهوم بضم ذكره إلى ذكر ما فرض معلوما ، ثم يجوز أن يقدر موجود متجدد وقتا ، ويجوز أن يقدر عدم وقتا ، إذا تحقق التجدد فيه في مثل قول القائل : تحرك الجوهر عند زوال السواد عنه.

وذهب بعض القدماء إلى أن كل موجود مفتقر إلى زمان ، وقضوا لذلك بثبوت أوقات لا نهاية لها ولا مفتتح ، وزعموا أن الباري لم يزل موجودا في أوقات غير متناهية ؛ وهذا لا يتحصل ، ولا معنى للزمان إلا قرن حادث بمتجدد ، أو قرن متجدد بمتجدد.

وقد أقمنا الدليل الواضح على قدم الباري تعالى ، وأوضحنا استحالة حوادث لا أول لها ، ومقتضى هذين الأصلين يقضي بفساد ما قال هؤلاء ، ولو افتقر كل موجود إلى وقت ، لافتقرت الأوقات إلى أوقات ، ثم يتسلسل القول ويؤدي إلى جهالة ، لم يلتزمها أحد من العقلاء.

والغرض من الباب أن نعلم أن كل من يقتل فقد مات بأجله. والمعنيّ بذلك أن الذي قتل قد علم الله تعالى في أزله مآل أمره ، وما علم أنه كائن فلا بد أن يكون فإن قيل : لو قدر عدم القتل فيه ، فما قولكم في تقدير موته وبقائه؟

قلنا : ذهب كثير من المعتزلة إلى أنه لو قدر عدم القتل فيه لبقي مدة ، والقاتل قاطع بذلك

١٤٥

أجله. وذهب آخرون إلى أنه لو لم يقتل تقديرا ، لمات حتف أنفه في الوقت الذي يقدر القتل فيه ، وذلك كله خبط لا محصول له.

والوجه القطع بأن من علم الله تعالى أنه يقتل ، لا محالة ، فإن قدّر مقدّر عدم القتل ، وقدّر معه أن يكون المعلوم أنه لا يقتل فلا يمكن مع هذا التقدير القطع بامتداد العمر ، ولا القطع بالموت في وقت القتل بدلا منه ، بل كل جائز ممكن عقلا لا يمتنع تقديره ، فهذا ما لا يسوغ غيره ، وقد شهدت آي من كتاب الله تعالى على أن كل هالك مستوف أجله ، منها قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة النحل : ٦١].

فإن قيل : ما المعنيّ بقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) [سورة فاطر : ١١].

قلنا : المراد بهذه الآية وجهان من التأويل : أحدهما أن يكون المراد بها ، وما ينقص من عمر شخص من أعمار أضرابه ومبالغ مدة أمثاله ، وليس المراد ينقص عمره الواقع في معلوم الله ، وكيف يسوغ ذلك ، وفيه تقدير علم الله تعالى!. والوجه الثاني ، أن تحمل الزيادة والنقصان على المحو والإثبات المعتورين على صحف الملائكة ، وقد يثبت شيء في صحيفتهم مطلقا ، وهو مقيد في معلوم الله تعالى ، وعلى ذلك حمل المحققون قول الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) [سورة الرعد : ٣٩].

باب الرزق

والرزق يتعلق بمرزوق ، تعلق النعمة بمنعم عليه ، والذي صح عندنا في معنى الرزق ، أن كل ما انتفع به منتفع فهو رزقه ، فلا فرق بين أن يكون متعديا بانتفاعه ، وبين أن لا يكون متعديا به.

وذهب بعض المعتزلة إلى أن الرزق هو الملك ، ورزق كل موجود ملكه ، وقد ألزم هؤلاء أن يكون ملك الباري تعالى رزقا له ، من حيث كان ملكا له ، فلم يجدوا عن ذلك انفصالا.

وزاد المتأخرون ، فقالوا : رزق كل مرزوق ما انتفع به من ملكه وهؤلاء تحرزوا عن ملك الباري تعالى لما قيدوا الملك بالانتفاع ، والرب تعالى متقدس عنه ، ويلزمهم مع هذا التقييد ، أن يقولوا : لا يدرّ على البهائم رزق الله تعالى ؛ فإنها لا تتصف بالملك وإن اتصفت بالانتفاع ، وقد قال الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [سورة هود : ٦]. فإذا بطل ما قالوه ، لم يبق إلا صرف الرزق إلى الانتفاع من غير رعاية الملك.

فإن قالوا : هذا الأصل يلزم أن يكون الغصب رزقا للغاصب إذا انتفع به ، ثم لا وجه لمنعه من رزقه ودفعه عما رزقه الله تعالى ، وتوجيه اللائمة عليه فيه ؛ وهذا الذي استنكروه نص مذهبنا ؛ فكل منتفع بشيء مرزوق به.

١٤٦

ثم الرزق ينقسم إلى المحظور والمباح ، وما ذكروه من أن المرزوق لا يدفع عن رزقه ، ممنوع غير مسلم ، وظاهر تشغيبهم يعارضه قولهم : إن القدرة على الإيمان قدرة على الكفر ، فالكافر إذا عندهم معان من جهة الله تعالى على كفره ؛ فإن لم يبعد أن يكون المعاقب بكفره معانا على كفره ، لم يبعد ما ذكرناه.

ثم الذي التزموه يجر إلى شناعة لا يبوء بها ذو دين. وذلك أن من اغتذى بالحرام طول عمره ، وانصرفت انتفاعاته إلى الجهات المحظورة من كل وجه ، فيلزم أن يقال : لم يدرّ عليه من الله رزق ، وما رزقه الله قط ؛ وذلك عظيمة لا ينتحلها متدين.

ثم الرزق عندنا ينطلق على ما ينتفع به ، إذا تقرر الانتفاع به ؛ فهذا مقتضى الإطلاق. ومن اتسع ملكه ولم ينتفع به ، يقال له : لم يجعل الله ما خوله رزقا له ، ويتعذر صرف الرزق إلى محض الانتفاع في إطلاق اللسان.

فآل الكلام إلى أن الرزق هو المنتفع به ، وإن سمي الانتفاع رزقا ، فالمراد به المنتفع به ؛ إذ لو جعلنا نفس الانتفاع رزقا ، لأخرجنا الأطعمة والأشربة والأقوات عن كونها أرزاقا ، وذلك خروج عن موجب اللسان ؛ والقول في هذا الباب ، وفي الذي تقدم عليه ، يتعلق بمحض العبارة والتناقش فيها.

باب

في الأسعار

الأسعار كلها جارية على حكم الله تعالى ، وهي إثبات أقدار أبدال الأشياء ؛ إذ السعر يتعلق بما لا اختيار للعبد فيه : من عزة الوجود والرخاء ، وصرف الهمم والدواعي ، وتكثير الرغبات وتقليلها ، وما يتعلق فيها باختيار العباد ، فهو أيضا فعل الله تعالى ؛ إذ لا مخترع سواه.

وأطلقت المعتزلة القول بأن السعر من أفعال العباد ، وفيما قدمناه في خلق الأعمال مقنع في الرد عليهم.

باب

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

قد جرى رسم المتكلمين بذكر هذا الباب في الأصول ، وهو بمجال الفقهاء أجدر. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بالإجماع على الجملة ؛ ولا يكترث بقول من قال من الروافض : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، موقوفان على ظهور الإمام فقد أجمع المسلمون ،

١٤٧

قبل أن ينبغ هؤلاء ، على التواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتوبيخ تاركه مع الاقتدار عليه. ولعلنا نذكر لمعا كافية في نقض نصوص الإمامية ، إن شاء الله.

فإذا ثبت ما قلنا أصلا ، فلا يتخصص بالأمر بالمعروف الولاة ، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين. والدليل عليه الإجماع أيضا. فإن غير الولاة من المسلمين في الصدر الأول ، والعصر الذي يليه ، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر ، مع تقرير المسلمين إياهم ، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف من غير تقلد ولاية.

ثم حكم الشرع ينقسم إلى ما يستوي في إدراكه الخاص والعام ، من غير احتياج إلى اجتهاد ، وإلى ما يحتاج فيه إلى اجتهاد. فأما ما لا حاجة فيه إلى الاجتهاد ، فللعالم وغير العالم الأمر فيه بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما ما اختص مدركه بالاجتهاد ، فليس للعوام فيه أمر ولا نهي ، بل الأمر فيه موكول إلى أهل الاجتهاد.

ثم ليس للمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر ، في موضع الخلاف ، إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا. ومن قال إن المصيب واحد ، فهو غير متعين عنده ، فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين.

ثم الذي يتعاطى الأمر بالمعروف لو لم يكن ورعا ، لم ينحسم عنه الأمر بالمعروف ؛ إذ ما يتعين عليه في نفسه ، فرض متميز عما يتعين عليه الأمر به في غيره ، ولا تعلق لأحد الفرضين بالآخر. ثم الأمر بالمعروف فرض على الكفاية ؛ فإذا قام به في كل صقع من فيه غناء ، سقط الفرض عن الباقين.

وللآمر بالمعروف أن يصدّ مرتكب الكبيرة بفعله ، إن لم يندفع عنها بقوله : ويسوغ لآحاد الرعية ذلك ، ما لم ينته الأمر إلى نصب ، قتال وشهر سلاح ؛ فإن انتهى الأمر إلى ذلك ، ربط ذلك الأمر بالسلطان ، فاستغنى به. وإذا جار وإلى الوقت ، وظهر ظلمه وغشمه ، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه ، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب.

وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسيس ، واقتحام الدور بالظنون ، بل إن عثر على منكر غيّره جهده.

فهذه عقود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يشذ منها عقد ، وتفاصيلها الشرع من مفتتحه إلى مختتمه.

باب الإعادة

مقصود هذا الباب يحصره فصلان : أحدهما في تثبيت جواز الإعادة ، والثاني في وقوعها.

١٤٨

فأما جواز الإعادة فالعقل يدل عليه ، ويدل عليه السمع أيضا ، كما ذكرنا في صدر السمعيات. وكل حادث عدم فإعادته جائزة ، ولا فصل بين أن يكون جوهرا أو عرضا.

وذهب بعض أصحابنا إلى أن الأعراض لا تعاد ، بناء على أن المعاد معاد لمعنى ، فلو أعيد العرض لقام به معنى. وهذا لا أصل له عند المحققين ؛ فإن الإعادة بمثابة النشأة الأولى ، وليس المعاد معادا لمعنى.

وجوزت المعتزلة إعادة الجواهر إذا عدمت ، وقسموا الأعراض إلى ما يبقى وإلى ما لا يبقى ، وقالوا : ما لا يبقى منها كالأصوات والإرادات فلا يجوز إعادتها ، وكل عرض يستحيل بقاؤه يختص عندهم بوقت لا يجوز تقدير تقدمه عليه ، ولا تقدير استيخاره عنه. وأما الباقي من الأعراض ، فمنقسم إلى ما كان مقدورا للعبد ، وإلى ما لم يكن مقدورا له ؛ فأما ما كان مقدورا للعبد ، فلا يجوز من العبد إعادته ، ولا يصح من القديم أيضا إعادته عندهم. وأما ما لم تتعلق به قدرة العبد ، وهو باق من الأعراض ، فتجوز إعادته.

فإن سئلنا الدليل على جواز الإعادة استثرناه من نص الكتاب ، وفحوى الخطاب ، وشبهنا الإعادة بالنشأة الأولى ، كما قال تعالى ردا على منكري البعث : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).

ووجه تحرير الدليل أنا لا نقدر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة ، ولو قدرناها مثلا لها لقضى العقل بتجويزها ، فإن ما جاز وجوده جاز مثله ، إذ من حكم المثلين أن يتساويا في الواجب والجائز.

وهذا توسع في الكلام ، فإن الإعادة هي المعاد ، والمعاد هو بعينه المخلوق أولا ، فكيف يقدر الشيء خلافا لنفسه! والدلالة تعتضد بأن الأوقات التي هي مقارنة موجودات لموجودات لا أثر لها. فما فرض وجوده في وقت لم يمتنع تقديره في غيره.

وهذا لا يستقيم للمعتزلة مع خرمهم أصل الإعادة بمنعها فيما لا يبقى من الأعراض ، بأن قالوا : إنما منعنا إعادة ما لا يبقى من الأعراض ؛ لأنه لو عاد ، وقد سبق له الوجود ، لكان موجودا في وقتين ؛ ولو جاز وجوده ، في وقتين يتخللهما عدم ، لجاز وجوده في وقتين متواليين. وهذا الذي ذكروه اقتصار على الدعوى المحضة ، وهم بالجمع بينهما مطالبون.

ثم لو استمر الوجود في وقتين ، لا تصف العرض بكونه باقيا ، ولو بقي العرض كذلك لاستحال عدمه ، وليس كذلك إذا وجد العرض في وقتين بينهما عدم. فإن في كل وقت حادث غير مستمر ، وهو مقدور عندنا في حالتي الخلق والإعادة ، وإن كان يمتنع كون الباري مقدورا. ثم يلزمهم إعادة مقدور العبد ، فلا يجدون في الانفصال وجها مغنيا ، كما ذكرناه في خلق الأعمال ، فهذا كلام في جواز الإعادة.

١٤٩

فأما وقوعها فمستدرك بالأدلة السمعية ، وقد شهدت القواطع منها على الحشر والنشر ، والانبعاث للعرض والحساب والثواب والعقاب. فإن قيل : هل تعدم الجواهر ، ثم تعاد ؛ أم تبقى وتزول أعراضها المعهودة ، ثم تعاد بنيتها؟ قلنا : يجوز كلا الأمرين عقلا ، ولم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما ، فلا يبعد أن تصير أجسام العباد على صفة أجسام التراب ، ثم يعاد تركيبها إلى ما عهد قبل. ولا نحيل أن يعدم منها شيء ، ثم يعاد ، والله أعلم بعواقبها ومآلها.

باب

جمل من أحكام الآخرة المتعلقة بالسمع

فمنها إثبات عذاب القبر ، ومساءلة منكر ونكير. والذي صار إليه أهل الحق إثبات ذلك ، فإنه من مجوزات العقول ، والله مقتدر على إحياء الميت ، وأمر الملكين بسؤاله عن ربه ورسوله. وكل ما جوزه العقل ، وشهدت له شواهد السمع ، لزم الحكم بقبوله ، وقد تواترت الأخبار باستعاذة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربه من عذاب القبر ، ونقل آحاد من الأخبار في ذلك تكلف ، ثم لم يزل ذلك مستفيضا في السلف الصالحين ، قبل ظهور أهل البدع والأهواء.

ومن الشواهد لذلك من كتاب الله تعالى ، قوله في قصة فرعون وآله : (وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [سورة غافر : ٤٦]. وهذا نص في إثبات عذاب القبر عليهم قبل الحشر فإنه عز من قائل ذكر ذلك ، ثم قال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [سورة غافر : ٤٦].

فإن تمسك نفاة عذاب القبر بمسالك الملحدة المستهزئين بالشرع ، وقالوا : نحن نرى الميت الذي ندفنه على حالته ، ونعلم على الضرورة كونه ميتا ، ولو تركناه صاحيا دهرا لما حال عما عهدناه عليه. وهذا من قائله ملزم بعدم الطمأنينة إلى الإيمان ، والركون إلى الإيقان ، وهو بمثابة استبعاد نشر العظام البالية ، وتأليف الأجزاء المفترقة ، في أجواف السباع ، وحواصل الطيور ، وأقاصي التخوم ، ومدارج الرياح ، إلى غير ذلك.

ثم اعلموا أن المرضي عندنا أن السؤال يقع على أجزاء يعلمها الله تعالى ، من القلب أو غيره فيحييها الرب تعالى ، فيتوجه السؤال عليها وذلك غير مستحيل عقلا ، وقد شهدت قواطع السمع به ، وما ذكروه من الإنكار والإكبار بمثابة إنكار الجاحدين رؤية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الملائكة مع جلوسه بين أظهرهم.

فصل

فإن قيل : بينوا الروح ومعناه ، فقد ظهر الاختلاف فيه. قلنا : الأظهر عندنا ، أن الروح أجسام

١٥٠

لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله تعالى العادة باستمرار حياة الأجسام ما استمرت مشابكتها لها ، فإذا فارقتها يعقب الموت الحياة في استمرار العادة.

ثم الروح من المؤمن يعرج به ، ويرفع في حواصل طيور خضر إلى الجنة ، ويهبط به إلى سحيق من الكفرة ، كما وردت به الآثار. والحياة عرض تحيا به الجواهر ، والروح يحيا بالحياة أيضا ، إن قامت به الحياة. فهذا قولنا في الروح.

فصل

في الجنة والنار

الجنة والنار مخلوقتان ، إذ لا يحيل العقل خلقهما ، وقد شهدت بذلك آي من كتاب الله تعالى ، منها قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [سورة آل عمران : ١٣٣] والإعداد يصرح بثبوت الشيء وتحققه. وقال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) [سورة النجم : ١٣ ـ ١٥]. وتواترت الأخبار في قصة آدم عليه‌السلام ، عن الجنة وإدخال آدم إياها ، وبدور الزلة منه فيها ، وإخراجه عنها ، ووعده الرد إليها. وكل ذلك ثابت قطعا ، متلقى من فحوى الآيات المستفيض من نقل الأثبات والثقات.

وقد أنكرت طوائف من المعتزلة خلق الجنة والنار ، وزعموا أن لا فائدة في خلقهما قبل يوم الثواب والعقاب ، وحملوا ما نصت الآية عليه في قصة آدم عليه‌السلام على بستان من بساتين الدنيا ؛ وهذا تلاعب بالدين ، وانسلال عن إجماع المسلمين. وما هذوا به ، من قولهم لا فائدة في خلق الجنة والنار في وقتنا ، ساقط لا محصول له. فإن أفعال الباري تعالى لا تحمل على الأغراض على أصول أهل الحق ، وهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

ثم ، بم ينكرون على من يقول لهم : علم الله تعالى أن خلق الجنة والنار لطف في الإيمان والأحكام العقلية ، وذلك غير بعيد على موجب قياسهم في اللطف والصلاح والأصلح؟

فصل

في الصراط

والصراط ثابت على حسب ما نطق به الحديث ، وهو جسر ممدود على متن جهنم ، يرده الأولون والآخرون. وإذا توافرا إليه قيل للملائكة : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [سورة الصافات : ٢٤].

والميزان حق ، وكذلك الحوض والكتب التي يحاسب عليها الخلائق ، ولا تحيل العقول شيئا من ذلك. ودلالة السمع ثابتة على قطع في جميع ما ذكرناه.

١٥١

فإن أبدوا مراء في الصراط ، وقالوا : في الحديث المشتمل عليه إنه أدق من الشعر وأحد من السيف ، وخطور الخلائق على ما هذا وصفه غير ممكن. وربما يجحدون الميزان ، مصيرا إلى أن الأعمال هي التي يتعلق الثواب والعقاب بها ، وهي أعراض لا يتحقق وزنها.

فأما ما ذكروه في الصراط فلا خفاء بسقوطه ؛ فإنه لا يستحيل الخطور في الهواء ، والمشي على الماء. وكيف ينكر ذلك من يلزمه الدين رغما الاعتراف بقلب العصا حية وفلق البحر ، وإحياء الموتى في دار الدنيا. والموزون الصحف المشتملة على الأعمال ، والرب تعالى يزنها على أقدار أجور الأعمال وما يتعلق بها من ثوابها وعقابها. فهذا القدر كاف في إرشادكم إلى طريق إثبات السمعيات.

باب

في الثواب والعقاب وإحباط الأعمال والرد على المعتزلة والخوارج

والمرجئة (١) في الوعد والوعيد

الثواب عند أهل الحق ليس بحق محتوم ، ولا جزاء مجزوم ، وإنما هو فضل من الله تعالى. والعقاب لا يجب أيضا ، والواقع منه هو عدل من الله. وما وعد الله تعالى من الثواب أو توعد به من العقاب ، فقوله الحق ووعده الصدق. وكل ما دللنا به على أنه لا واجب على الله تعالى ، فإنه يطرد هاهنا.

وذهبت المعتزلة إلى أن الثواب حتم على الله تعالى ، والعقاب واجب على مقترف الكبيرة إذا لم يتب عنها. ولا يجب العقاب عند الأكثرين وجوب الثواب ؛ لأن الثواب لا يجوز حبطه والعقاب يجوز إسقاطه عند البصريين وطوائف من البغداديين ؛ ولكن المعنى بكونه مستحقا عندهم أن يحسن لوقوعه مستحقا ، ولو لم يكن كذلك لما حسن العقاب على التأبيد ، فهذا حقيقة أصلهم.

فإن ساعدناهم على التقبيح والتحسين عقلا ، ألزمناهم على موجب أصلهم أمثلة لا قبل لهم بها. منها ، أن السيد إذا كان يقوم بمؤن عبده وإزاحة علله ، والعبد يخدمه غير مستفرغ جهده ، بل كان مودعا معظم أفعاله فلا يستحق العبد على سيده شيئا على مقابل الخدمة المستحقة عليه. وكذلك المعظم في عشيرته ، إذا كان يكرم ولده ويقيم أوده ، والولد يكرمه ، ويرعاه ويطلب مرضاته

__________________

(١) فرقة كلامية قالت بالإرجاء في الإيمان ، وبالقدر على مذاهب القدرية وبإرجاء الحكم على صاحب الكبيرة إلى الله تعالى خلافا للمعتزلة ولأهل السنة. وقيل الإرجاء تأخير علي رضي الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة وهي أربعة أصناف. انظر الملل والنحل والفرق بين الفرق.

١٥٢

ويتوخاها ، فلا يستوجب بإزاء خدمته مزيدا على ما يناله من الإحسان الدّار عليه.

فإذا كان هذا سبيل من يخدم مثله ؛ فالعبد الذي لو قوبلت عبادته بنعماء الله تعالى عليه في لحظة ، لأبرّت نعماء الله تعالى وأربت على جميع قرباته. والرب تعالى يستحق لأن يعبد ، والنعم منه على العباد تترى ، ولو حاول العبد عدّها لم يحصها. فكيف يستوجب العبد بالنزر اليسير من أعماله ، وهو الغريق في أنعم الله تعالى ، مزيد ثواب لو لا فضله العظيم!

ثم عبادة العبد شكر للنعم ، وليس من حكم العقل في مستقر العوائد استيجاب عوض على بذل واجب هو عوض. ولو استحق العبد بشكره عوضا ، لاستحق الرب تعالى على ما يوليه من الثواب عوضا ، ولا محيص عن ذلك.

فصل

يقال للمعتزلة : إن سلم لكم استحقاق الثواب ، فلم زعمتم أنه يثبت على التأبيد؟ والعبادات الصادرة من المكلفين متناهية ، فما بال أعواضها تثبت مع انتفاء النهاية عنها؟

فإن قالوا : إنما كان ذلك ، لأن الثواب هو النعيم الهنيّ الخليّ عما ينكده ، الصفي عن رنق يكدره ، ولو كان الثواب عرضة للزوال لما تهنى به مثاب ، مع علمه بتعرضه للزوال. قلنا لم قلتم إن الثواب يجب على الرتبة العليا في التهني والتخلي عن كل شوب ، فعن هذا سألتم؟

ثم النعم التي يجب على العباد شكرها في دار الدنيا ، مشوبة بالمحن والهموم ، وهي على حقائق النعم مع استحقاق شكرها ، فلا يبعد ذلك في الثواب أيضا ، ثم الرب تعالى مقتدر على أن يلهي المثابين عن ذكر الزوال والتفكر في الانتقال ، إلى أن يستوفوا مدتهم ؛ فما المانع من ثبوت الثواب مؤقتا مع ما ذكرناه؟

ثم نقول : إن كان هذا قولكم في الثواب ، فما قولكم في العقاب؟ فهلا ثبت على التأقيت ، وإذا رد الأمر إلى المعهود شاهدا ، فباضطرار نعلم أن من بدرت منه بادرة واحدة ، ثم قدر له استمرار البقاء ، فلا يحسن معاقبته عليها أبدا سرمدا ، فما وجه حسن ذلك من أرحم الراحمين ، وأكرم الأكرمين؟

فإن قالوا : إنما يخلد الله تعالى في النار من علم أنه لو ردّ لعاد لما نهي عنه ، قلنا : هذا لا يخلصكم عما ألزمناكموه ، ولنا أن نقول بتأقت العقاب ، ثم يميت الله تعالى من علم أنه لو ردّ لعاد لما نهي عنه ، أو يسلبه عقله بعد توفي العقاب عليه ، وهذا القدر كاف في غرضنا.

ومما يطالبون به ، أن الثواب عندهم لا يقع منه شيء في دار الدنيا ، ولكن يستأخر إلى انقضاء أمد الدنيا ، وإلى تصرّم اليوم الثقيل يوم القيامة ، وليس من حكم العقل فينا تأخير المستحق وحبسه

١٥٣

عن مستحقه ، مع التمكن من أدائه وإيفائه ، ومطل الغنى ظلم على لسان صاحب الشرع.

وتعتضد هذه الطلبة ، بأن العقاب قد يتنجز منه شيء في دار الدنيا ، إذ الحدود المقامة على مستحقيها عقاب لهم إجماعا. فإذا لم يبعد تنجز شيء من العقاب ، فما المانع من حمل بعض النعم على جهة الثواب ، وإن تنجزت في الدنيا؟

فصل

ذهبت الخوارج إلى أن من قارف ذنبا واحدا ، ولم يوفق للتوبة ، حبط عمله ومات مستوجبا للخلود في العذاب الأليم. وصاروا إلى أنه يتصف بكونه كافرا ، إذا اجترم ذنبا واحدا. وصارت الأباضية (١) منهم إلى أنه يتصف بالكفر المأخوذ من كفران النعم ، ولا يتصف بالكفر الذي هو الشرك.

وذهبت الأزارقة (٢) منهم إلى أن العاصي كافر بالله تعالى كفر شرك.

والمعتزلة وافقوا الخوارج في المصير إلى استحقاق الخلود ، على ما سنفصل مذهبهم. ولكنهم فارقوا الخوارج من وجهين : أحدهما أنهم لم يصفوا مرتكب الكبيرة بالكفر ، ولم يصفوه أيضا بالإيمان ، وزعموا أنه على منزلة بين المنزلتين ، ورسموه فيها بكونه فاسقا. وفارقوهم من وجه آخر ، فقالوا : استحقاق الخلود في العقاب يختص بالكبائر ، وجملة الذنوب كبائر عند الخوارج ، والمعتزلة قسموا الذنب إلى الصغائر والكبائر على ما سنعقد فيه فصلا.

وغرضنا الآن الرد على أصحاب الوعيد ، فنقول : من أصلكم أن الوعيد على التأبيد يستحق بزلة واحدة ويحبط لأجلها ثواب الطاعات ؛ وذلك ، مع تسليم فاسد أصولكم ، في العقول مستحيل ، فإن مرجع العقول ومداركها إلى أمثلة الشاهد. ونحن نعلم أن من خدم غيره وبلغ جهده دائما في رعاية حقه مائة سنة فصاعدا ، ثم بدرت منه بادرة واحدة ، فليس يحسن إحباط جميع حسناته بسيئة واحدة ، وإن كان الثواب والعقاب متنافيين ، فليس الثواب بأن يحط ويحبط بأولى من العقاب ، بأن يسقط ، والشرع يدل على درء السيئات بالحسنات ؛ فإحباط العقاب أحق ، وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [سورة هود : ١١٤].

__________________

(١) إمامهم عبد الله بن إباض ، أحد بني مرة بن عبيد من بني تميم ، افترقوا فرقا كثيرة اتفقوا. على أن مخالفيهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين ولكنهم كفار ، وحرموا دماءهم في السر واستحلوها في العلانية ، انظر الفرق بين الفرق.

(٢) إمامهم نافع بن الأزرق الحنفي المكنّى بأبي راشد ، ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا ولا أشد منهم شوكة ، كانوا يرون بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون وكذلك القعدة عن الهجرة إليهم وإن كانوا على رأيهم. انظر الفرق بين الفرق.

١٥٤

ثم الطاعات ثابتة على حقائقها ، صحيح أداؤها ، والإصرار على الكبيرة لو كان يدرأ ثواب الطاعات ، لكان ينافي صحتها ؛ كالردة ، ومفارقة السنة ، فإنها لما كانت محبطة كانت منافية لصحة العبادات. ثم الثواب يستحق على الطاعات عندهم لحسنها ووقوعها طاعات وذلك يتحقق مع الكبيرة الواحدة تحققه دونها.

فإن قالوا : مرتكب الكبيرة فاسق مخالف ، والجمع بين الثواب وبين سمة الفسوق متناقض ؛ فإن الثواب يؤذن بالولاية ، والفسوق ينافيها. قلنا : لا خلاف أنه موصوف بكونه مطيعا بطاعته موقنا موحدا وكل ما ذكرناه من سمات الأولياء. ثم إنما يتناقض اجتماع سمة المشاقّة والموافقة في الوقت الواحد ، ولا بعد في المخالفة في الشيء والموافقة في غيره. ثم إن لم يكن من الإحباط والإسقاط بدّ فهلّا أحبطتم العقاب وغلبتم الثواب كما قررناه!.

وربما استدل أصحاب الوعيد بظاهر من الكتاب ، ونحن نذكر أغمضها فنرشد إلى طريق الكلام عليه. فمما تمسكوا به قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [سورة النساء : ٩٣] ، وهذا في ظنهم نص على الوعيد والخلود. وقد كثر كلام المفسرين في الآية ، وليس من غرضنا استيعاب جميع ما قيل ، ولكنا نذكر ما يقنع.

وقد قال ابن عباس في تأويل الآية : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) مستحلا قتله ، والعمد على الحقيقة إنما يصدر من المستحل ؛ فأما من يعتقد أن القتل من أعظم الكبائر فيجرئه هواه ويزعه اعتقاده ، فلا يقدم على الأمر إلا خائفا وجلا. وآية ذلك أن الرب تعالى لما ذكر القصاص ووجوبه ، لم يقرنه بالوعيد والخلود ؛ وحيث ذكر الخلود لم يتعرض لوجوب القصاص ، وذلك أصدق دلالة على أن التوعد بالخلود للكافر المستحل ، الذي لا تجري عليه ظواهر الأحكام. فإن الحربي ، الذي لم يلتزم أحكامنا ، إذا قتل لم يقض عليه بوجوب القصاص.

ثم إن الخلود ، وإن كان ظاهرا في التأبيد ، فليس هو نصا فيه ، وقد يطلق ، والمراد به امتداد مدة وتطاول أمد ، وعلى هذا التأويل يحيّا الملوك بتخليد الملك. وأصحاب الوعيد قاطعون بمعتقدهم ، والظاهر المتعرض للاحتمال لا يفيد القطع.

ثم يعارض استدلالهم بالاحتجاج بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [سورة النساء : ٤٨] ، وهذا نص في موضع النزاع ، ولا سبيل لهم إلى حمل الآية على التوبة ، من وجهين : أحدهما أن قبول التوبة حتم عندهم ، فلا يفيد تعلق المغفرة بالمشيئة ؛ والثاني أنه تعالى فرق بين المشرك وبين ما دونه ، والتوبة عند الشرك تحبطه وتجبّه ، كما أن التوبة عن المعاصي تسقط أوزارها. ويتسع مجال الكلام على الظواهر ، وهذا القدر كاف.

١٥٥

فصل

جماهير المعتزلة صاروا إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت ؛ وذهب الجبائي وابنه إلى أن الزلات إنما تحبط ثواب الطاعات إذا أربت عليها ، وإن أربت الطاعات درأت السيئات وأحبطتها. ثم لا ينظرون إلى أعداد الطاعات والزلات ؛ وإنما ينظرون إلى مقادير الأجور والأوزار ، فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها أجر طاعات كثيرة العدد ؛ ثم لا سبيل إلى ضبط مبالغ الأقدار ، بل هو موكول إلى علم الله تعالى ، واضطربوا في استواء الحسنات والسيئات ولم يثبت لهم في ذلك قدم ؛ وقال ابن الجبائي : لا يجوز وقوع ذلك إذ ليس للمكلفين إلا الجنة أو النار ، وإذا تساوت أقدار الأعمال ، اقتضى تساويها رتبة أخرى.

وكل ما ذكروه خبط لا تحصيل له ؛ إذ ليس بإزاء معرفة الله تعالى كبيرة يربو وزرها على أجرها ، والأشياء تعرف بأضدادها ، فيعلم أجر المعرفة بوزر ضدها ؛ فكان من حقهم أن يدرءوا الزلات بالمعرفة ؛ فإذا لم يفعلوا ذلك ، بطل هذيانهم بتغالب الأعمال وسقوط أقلها بأكثرها. ثم لا يبعد في العقل أن تكثر طاعات عبد ، وتصدر منه زلات ويعاقبه سيده عليها زمنا ثم يرده إلى كرامته ، وإن كانت زلاته أقل ، وكل ما ذكروه تحكم لا محصول له.

ثم التوبة ندم على ما نصفها ، ومن سعى في الأرض بالفساد عمره ، وثابر على انتهاك الحرمات دهره ؛ فالندم الواحد عليها يحبطها ، وإن كان لا يبلغ مبلغها في التعب والنصب ؛ فبطل كل ما قالوه.

فصل

الفرق بين الصغيرة والكبيرة

فإن قيل : قد ردّدتم ذكر الصغائر والكبائر ؛ فميزوا أحد القبيلين عن الثاني. قلنا : المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة ، إذ لا تراعى أقدار الذنوب حتى تضاف إلى المعصيّ بها ؛ فرب شيء يعد صغيرة بالإضافة إلى الأقران ، ولو صور في حق ملك لكان كبيرة يضرب بها الرقاب. والرب تعالى أعظم من عصي ، وأحق من قصد بالعبادة ، وكل ذنب بالإضافة إلى مخالفة الباري عظيم ، ولكن الذنوب وإن عظمت بما ذكرناه ، فهي متفاوتة على رتبها ، فبعضها أعظم من بعض. وهذا كحكمنا للأنبياء بالفضيلة وعلو المرتبة ، وبعضهم أعلى من بعض ؛ فهذا ما نرتضيه.

فإن قيل : من الذنوب ما لا يحط العدالة ، ولا يوجب درء الشهادة ؛ ومنها ما يدرؤها ؛ فميزوا ما ينافي العدالة عما لا ينافيها في أحكام الدنيا. قلنا : ليس ذلك الآن من غرضنا ؛ والكلام في الجرح والتعديل من مجال الفقهاء.

ثم نوجز قولا ، فنقول : كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي التي

١٥٦

تحط العدالة ، وكل جريرة لا تؤذن بذلك بل تبقي حسن الظن ظاهرا لصاحبه ، فهي التي لا تحط العدالة ؛ وهذا أحسن ما يتميز به أحد الضربين عن الآخر.

فصل

من مات من المؤمنين على إصراره على المعاصي ، فلا يقطع عليه بعقاب ، بل أمره مفوض إلى ربه تعالى ، فإن عاقبه فذلك بعدله ، وإن تجاوز عنه ، فذلك بفضله ورحمته ، فلا يستنكر ذلك عقلا وشرعا ، وهذا مذهب البصريين وبعض البغداديين. وذهب كثير من معتزلة بغداد ، إلى أن العفو غير جائز ، وحتم على الله أن يعاقب كل مصرّ على الأبد ، وهذا الذي قالوه مراغمة للعقل ، فلا يخفى حسن الغفران ، والتجاوز عن المسيء ، وقد نطق الشرع بذلك وحثّ عليه. فإذا حسن من الواحد منا الصفح ، مع تلذذه بالانتقام ، والتشفي ، وتعرضه للمضار لو كظم غيظه ، فلأن يحسن العفو من الرب تعالى ، المتنزه عن الحاجة المنعوت بالغنى حقا ، أولى وأحرى ، وما ذكروه إبطال لفضل الله ورحمته ؛ فإنهم أوجبوا عليه ما فعله في الدنيا ، وحتموا ما يجري من أحكام العقبى ، ولا تبقى مسكة من الدين مع من ينتحل هذا المذهب.

فصل

إذا ثبت جواز الغفران ، وقد شهدت له شواهد من الكتاب والسنة ؛ لم نذكرها لشهرتها ، فيترتب على ذلك تشفيع الشفعاء وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم.

فمذهب أهل الحق أن الشفاعة حق ، وقد أنكرها منكرو الغفران. ومن جوز الصفح والعفو بدءا من الله تعالى ، فلا يمنع الشفاعة ، ومنهم من يمنعها على مصيره إلى تجويز الغفران ؛ وذلك نهاية في الجهل ، لا يلتزمها ذو تحصيل.

وسبيلنا أن نبين أن تشفيع الشفعاء من مجوزات العقول بالطرق التي قدمناها. فإن رددنا الأمر إلى محض الحق ، ولم نقل بالتحسين والتقبيح ، فالرب تعالى يفعل ما يشاء ؛ وإن جاريناهم ، وقفونا فاسد معتقدهم ، فمرجعهم إلى شواهد الشاهد ؛ ولا يقبح عند العقلاء أن يشفّع الملك بعض المخلصين المصطفين لديه في مذنب استحق عقابا ، ولا ينكر ذلك إلا متعنت.

فإذا ثبت جواز التشفيع عقلا ، فقد شهدت له سنن بلغت الاستفاضة ، فمن رامها ألفاها منقولة ، ثم هي مصرحة بالتشفيع في أهل الكبائر ، إذ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) ؛ وقال في الشفاعة : «لا تحسبوها للمتقين ، وإنما هي للخاطئين المتلوّثين» ؛ وقال : «خيرت

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب السنة باب ٢١. الترمذي في كتاب القيامة باب ١١. ابن ماجه في كتاب الزهد ـ

١٥٧

بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة ، فاخترت الشفاعة ، فإنها أشفى» (١). وأجمع المسلمون قبل ظهور البدع ، على الرغبة إلى الله تعالى في أن يرزقهم الشفاعة ، وذلك مجمع عليه في العصور الماضية لا ينكر على مبديه.

فإذا شهد العقل بالجواز ، وعضدته شواهد السمع ، فلا يبقى بعد ذلك للإنكار مضطرب ، وفيما ذكرناه ردّ على فئة صاروا إلى أن الشفاعة ترفع الدرجات ولا تحط السيئات ؛ فإن الأخبار المأثورة شاهدة بتعلق الشفاعة بأصحاب الكبائر ، وكذلك الرغبات في التشفيع لم تزل تصدر من المتقين ومن الخاطئين ، ولا يبدو نكير على مبتهل إلى الله تعالى في تشفيع نبيّ فيه.

باب

في الأسماء والأحكام

فصل

اعلموا أن غرضنا في هذا الفصل يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان ، وهذا مما اختلفت فيه مذاهب الإسلاميين.

فذهبت الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة ، ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة ، واختلفت مذاهبهم في تسمية النوافل إيمانا. وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان. وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب والإقرار بها. وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب. ومضمر الكفر إذا أظهر الإيمان مؤمن حقا عندهم ، غير أنه يستوجب الخلود في النار. ولو أضمر الإيمان ولم يتفق منه إظهاره ، فهو ليس بمؤمن ، وله الخلود في الجنة.

والمرضي عندنا ، أن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى ، فالمؤمن بالله من صدقه. ثم التصديق على التحقيق كلام النفس ، ولكن لا يثبت إلا مع العلم ، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد. والدليل على أن الإيمان هو التصديق صريح اللغة وأصل العربية ، وهذا لا ينكر فيحتاج إلى إثباته. وفي التنزيل : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [سورة يوسف : ١٧] معناه وما أنت بمصدق لنا.

ثم الغرض من هذا الفصل ، أن من مذهب أهل الحق وصف الفاسق بكونه مؤمنا ، والدليل

__________________

ـ باب ٣٧. أحمد في مسنده (٣ / ٢١٣).

(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ١٣. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٣٧. أحمد في مسنده (٢ / ٧٥) (٤ / ٤٠٤ ، ٤١٥).

١٥٨

على تسميته مؤمنا من حيث اللغة أنه مصدق على التحقيق. وآية ذلك في الشرع أن الأحكام الشرعية ، المقيدة بخطاب المؤمنين ، تتوجه على الفسقة توجّهها على الأتقياء إجماعا ، والفاسق يجري مجرى المؤمن في أحكامه ؛ فيسهم له من المغنم ، ويصرف إليه سهم المصالح ، ويذبّ عنه ، ويدفن في مقابر المسلمين ، ويصلى عليه ، وكل ذلك يقطع بكونه منهم.

ثم إن لم يبعد تسميته عارفا بالله تعالى مطيعا له بطاعاته مصدقا إياه ، فلا بعد في تسميته مؤمنا ، ويبعد جدا أن يقال : هذا عارف بالله غير مؤمن به. والكلام في هذا الفصل يتعلق بالتسميات ، ولبابه الوعيد والخلود ، وقد سبق ما فيه مقنع.

وقد يشهد لما ذكرناه إجماع العلماء على افتقار الصلوات ونحوها من العبادات ، إلى تقديم الإيمان ، فلو كانت أجزاء من الإيمان لامتنع إطلاق ذلك ، فإن استدل من سمى الطاعات إيمانا بقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة : ١٤٣] ؛ قالوا : المراد بذلك ، أي بالإيمان الصلوات المؤداة إلى بيت المقدس.

وربما يستدلون بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وتسعون خصلة ، أولها شهادة لا إله إلا الله ، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق» (١). قلنا : أما الإيمان في الآية التي استروحتم إليها ، فهو محمول على التصديق ، والمراد : وما كان الله ليضيع تصديقكم نبيكم فيما بلغكم من الصلاة إلى القبلتين وأما الحديث ، فهو من الآحاد ، ثم هو مؤول ؛ والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه ، أو كان منه بسبب.

فصل

فإن قيل : فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا : إذا حملنا الإيمان على التصديق ، فلا يفضل تصديق تصديقا ، كما لا يفضل علم علما ؛ ومن حمله على الطاعة سرا وعلنا ؛ وقد مال إليه القلانسي (٢) ، فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، وهذا مما لا نؤثره.

فإن قيل : أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان منهمك في فسقه ؛ كإيمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلنا : النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عداه باستمرار تصديقه ، وعصمة الله إياه من

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٥٨. أبو داود في كتاب السنة باب ١٤. الترمذي في كتاب الإيمان حديث ٦. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب ٩. أحمد في مسنده (٢ / ٣٧٩ ، ٤٤٥).

(٢) أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي ، توفي في الثلث الأول من القرن الرابع ، أي في حدود سنة ٣٣٥ ه‍. انظر التبيين لابن عساكر ص ٣٩٨ أصل وهامش.

١٥٩

مخامرة الشكوك ، واختلاج الريب. والتصديق عرض لا يبقى ، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام ، ثابت لغيره في بعض الأوقات ، زائل عنه في أوقات الفترات. فيثبت للنبي عليه الصلاة والسلام أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها ، فيكون إيمانه بذلك أكثر. فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان ، وأريد بذلك ما ذكرناه ، لكان مستقيما ، فاعلموه.

فإن قيل : قد أثر عن سلفكم ربط الإيمان بالمشيئة ، وكان إذا سئل الواحد منهم عن إيمانه قال إنه مؤمن إن شاء الله ، فما محصول ذلك؟ قلنا : الإيمان ثابت في الحال قطعا لا شك فيه. ولكن الإيمان الذي هو علم الفوز وآية النجاة ، إيمان الموافاة ؛ فاعتنى السلف به وقرنوه بالمشيئة ، ولم يقصدوا التشكك في الإيمان الناجز.

باب التوبة

التوبة في حقيقة اللغة الرجوع ، يقال : تاب وناب وأناب إذا رجع. وإذا أضيفت التوبة إلى العبد ، أريد بها رجوعه من الزلات إلى الندم عليها ، على ما سنحد التوبة في اصطلاح المتكلمين وإذا أضيفت التوبة إلى أفعال الله تعالى ، فالمراد رجوع نعمه وآلائه إلى عباده.

فإن قيل : حرروا عبارة في حقيقة التوبة على اصطلاحكم. قلنا : التوبة هي الندم على المعصية ، لأجل ما يجب الندم له ، ثم الندم تلازمه صفات ليست منه عموما ، وتلازمه صفات في بعض الأحوال دون بعض فأما الصفات التي تلازم التوبة أبدا ، فمنها الحزن والغم على ما تقدم من الإخلال بحق الله تعالى ؛ إذ من المحال أن يثبت الندم دون ذلك ، والفرح المسرور بما فرط منه لا يندم عليه. ومما يقارنه تمني عدم ما كان فيما مضى وكل نادم على فعل يجب اتصافه بتمني عدمه فيما مضى.

ومما يقارن التوبة في بعض الأحوال ، العزم على ترك معاودة ما ندم المكلف عليه ، وذلك لا يطرد في كل حال ؛ إذ إنما يصح العزم من متمكن من فعل ما قدمه ؛ ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ، ولا من الأخرس العزم على ترك قذف المحصنات. فإن صدر الندم من متمكن من مثل ما ندم عليه ، فلا بد أن يقارن ندمه العزم على ترك معاودته. إذ من المستحيل أن يكون موطنا نفسه على معاودة ما ندم على تقديمه رعاية لحق الله تعالى.

فإن قيل : لم قلتم إن التوبة هي الندم؟ قلنا : لأنه الثابت الذي لا يزول في التوبة ، وما عداه يتزايد ويختلف ، ومنه ما يثبت تارة وينتفي أخرى. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» فلزمنا ذلك لمساوقة الخبر وموافقته الأثر. فإن قيل : لم لا يجوز أن يسمى ترك المعصية توبة ، من غير ندم؟ قلنا : هذا مما يأباه الشرع. فإن الماجن إذا ملّ مجونه ، واستروح إلى بعض المباحات ، غير نادم على فارط الزلات ، وكان على عزم معاودتها ، فهذا يسمى تاركا للزلة ، ولا يسمى تائبا عنها.

١٦٠