تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٢

أما أولا : فلأن الإيمان برسل عيسى إيمان بعيسى وسبق إليه ، وهذا ما يفهمه أدنى الناس من أهل اللسان! وهل من فرق بين الإيمان به وبين الإيمان برسله؟! وكل أهل الإيمان بالله سبحانه وتعالى قد آمنوا برسله وصدقوهم؟!

وأما ثانيا : فإن كل خبر خالف الكتاب بالتباين والتناقض ، فإنه مردود ، سواء كان في القصص أو في الأحكام ، ولكن لا اختلاف بين مدلول خبرنا ومدلول الكتاب ، فضلا عن أن يكون بينهما مناقضة.

وأما ثالثا : فإن محل الاستدلال بالرواية هو الفقرة الأخيرة المتعلقة بأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولذا فقد جاءت الرواية في بعض ألفاظها خالية عن الفقرتين السابقتين.

ورابعا : قوله : «وأيضا ، انحصار السباق في ثلاثة ...».

رد للحديث الصحيح والنص الصريح بالاجتهاد ، نظير تكذيب إمامة ابن تيمية حديث المؤاخاة ، حتى رد عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني (١).

وخامسا : قوله : «وبعد اللتيا والتي ، أية ضرورة أن يكون كل سابق صاحب الزعامة الكبرى وكل مقرب إماما؟!» ..

جهل أو تجاهل ، فقد تقدم في كلام العلامة الحلي أن هذه فضيلة لم تثبت لغير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو الأفضل ، فيكون هو الإمام.

وسادسا : قوله : «وأيضا لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للآية صراحة ...» ..

فقد سبقه فيه ابن تيمية ، إذ قال في الوجوه التي ذكرها بعد دعوى

__________________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٢١٧.

٦١

بطلان الحديث عن ابن عباس : «الثالث : إن الله يقول : (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار) (١) وقال تعالى : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (٢) والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل ، ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، فكيف يقال : إن سابق هذه الأمة واحد؟!» (٣).

أقول :

مقتضى الحديث الصحيح المتفق عليه أن سابق هذه الأمة واحد ، وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهذا لا ينافي سياق الآية المباركة ، ولا الآيات الأخرى ، كالآيتين المذكورتين ..

ونحن أيضا نقول ـ بمقتضى الجمع بين قوله تعالى : (والسابقون الأولون من المهاجرين ...) وقوله تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) (٤) ـ : إن كل من سبق غيره إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقي من بعده

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

(٢) سورة فاطر ٣٥ : ٣٢.

(٣) منهاج السنة ٧ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٤) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

٦٢

على ما عاهد الله عليه ورسوله ، ولم ينقلب على عقبيه ، فله أجره عند الله وقربه منه ، ونحن نحترمه ونقتدي به.

وسابعا : قوله : «وأيضا ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن أول من آمن حقيقة خديجة ...» ..

أقول :

وهذا كذب ، فلا إجماع من أهل السنة والشيعة أن أول من آمن خديجة ، بل عندنا أن أمير المؤمنين عليه‌السلام سابق عليها ، وكيف كان ، فقد ثبت في الصحيح أن أبا بكر إنما أسلم بعد خمسين رجلا ، وهل آمن حقيقة؟! وتفصيل الكلام في محله.

وثامنا : قوله : «كذلك في الأمير ، فقد كان المانع متحققا قبل وصول وقت إمامته ...».

أقول :

قد عرفت وجه الاستدلال بالآية المباركة على ضوء الحديث الصحيح المتفق عليه ، وهذا الكلام لا علاقة له بالاستدلال أصلا.

على أن كون وجود الخلفاء الثلاثة مانعا عن خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام دعوى عريضة لا دليل عليها ، لا من الكتاب ولا من السنة المقبولة ولا من العقل السليم ، ودعوى كونهم أصلح في حق الرئاسة هي أول الكلام ، فإن هذه الأصلحية يجب أن تنتهي إلى الأدلة المعتبرة من النقل والعقل ، وليس كذلك ، بل هي لدى التحقيق دالة على العكس.

للبحث صلة ...

٦٣

عدالة الصحابة

(٣)

الشيخ محمد السند

مفاد الآيات القرآنية :

هذا ، وأما الآيات فمفادها بعيد تمام البعد عن تقديس جميع الصحابة أو ثلة جماعة بيعة السقيفة ، بل إن كل منها بنفسه دليل على عدم التعميم في عدالة الصحابة ، سواء فسرت الصحبة بمعنى كل من رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو نقل الحديث عنه ، أو لازمه مدة مديدة.

أما الآية الأولى :

فهي قوله تعالى : (السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي‌الله‌عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) (١).

فنرى أن الآية قد قيدت المرضي عنهم من المهاجرين والأنصار بقيدين ، الأول : السبق ، الثاني : كونه أول السابقين ، أي الأولية في السبق ،

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠٠.

٦٤

ومن المقرر في موضعه تاريخيا ـ برغم الدعاوي الأخرى ـ أن أول السابقين إلى الإسلام هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن ثم حاولت الدعاوي الأخرى الإستعاضة لتطبيق الآية بأن عليا أول من أسلم من الأحداث ، وأن خديجة أول من أسلم من النساء ، وأن ...

ولكن السبق والأولية في الآية غير مقيدتين بحيثية السن أو الجنس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أن استعمال القرآن الكريم للسبق هو بمعنى خاص كما تطالعنا به سورة الواقعة ، وهذا كديدن الاستعمال القرآني في العديد من عناوين الألفاظ كالصديقين والاصطفاء والتطهير ..

فالمعنى الذي في سورة الواقعة (السابقون السابقون * أولئك المقربون) (١) هو خصوص «المقرب» ، وقد أكدت الآية على عنوان «السبق» بالتكرار للإشادة به ، و «المقرب» قد أريد به معنى خاص في سورة المطففين : (كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين * وما أدراك ما عليون * كتاب مرقوم * يشهده المقربون) (٢) ، فعرف المقرب بأنه الذي يشهد كتاب الأبرار ، وشهادة الأعمال من خصائص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكرت ذلك الآيات كما في سورة التوبة ..

وهذا يعطينا مؤدى أن «المقرب» ليس من درجة الأبرار من أنماط المؤمنين ، بل فوقهم شاهد لما يعملونه ، وشهادة الأعمال لا ريب أنها نحو من الغيب الذي لا يطلعه الله إلا لمن ارتضى من رسول ، فهي نحو من العلم اللدني الإلهي المخصص بالمقربين ، فهم نحو من الذين أوتوا مناصب إلهية غيبية جعلها لهم.

__________________

(١) سورة الواقعة ٥٦ : ١٠ و ١١.

(٢) سورة المطففين ٨٣ : ١٨ ـ ٢١.

٦٥

ويعطي ذلك التقسيم في سورة الواقعة لمن يحشر من البشر إلى ثلاثة أقسام : السابقون ، وأصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، ولا ريب في دخول الأنبياء والرسل والأوصياء في القسم الأول ، وهو يقتضي عدم مشاركة غيرهم لهم في الدرجة ، فالباقون هم في القسمين الأخيرين ، ف «السبق» في الاستعمال القرآني هو في من حاز العصمة والطهارة الذاتية من الذنوب ، فالسبق ها هنا هو في الدرجات لا السبق الزمني ، مع أن أول السابقين زمنا من المهاجرين هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ..

ومن ذلك يظهر المراد من أول السابقين من الأنصار ، فإن المطهر من الذنب من الأنصار ـ أي الذي لم يهاجر ـ هما الحسنان ، فإنهما اللذان نزلت فيهما وفي أبويهما آية التطهير كما هو مقرر في موضعه من سبب نزول الآية في أخبار الفريقين.

وكذلك يظهر المراد من الذين اتبعوهم بإحسان ، أنهم المطهرون من الذنب من الذرية النبوية ، ويطالعك بهذا المعنى ـ مضافا إلى أنه مقتضى معنى «السبق» في الاستعمال القرآني ـ أن مقام الإحسان في القرآن لا ينطبق على غير المعصوم من الزلل والخطأ ، إذ لم يسند الإحسان إلى فعل مخصوص ، بل جعل وصفا لكل معصوم من الذنب ، لاحظ قوله تعالى : (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين) (١) ..

وقوله تعالى : (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) (٢) ..

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٨٤.

(٢) سورة يوسف ١٢ : ٢٢.

٦٦

وقوله تعالى : (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين) (١) ..

وقوله تعالى : (سلام على قوم نوح في العالمين * إنا كذلك نجزي المحسنين) (٢) ..

وقوله تعالى : (قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين) (٣) ..

وقوله تعالى : (سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين) (٤) ..

وقوله تعالى : (سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزي المحسنين) (٥) ..

وقوله تعالى : (سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزي المحسنين) (٦) ..

فترى أن الذي يوصف بالإحسان ـ من غير تقييد في فعل خاص كأداء دية أو مهر أو تسريح بإحسان للمطلقة ، بل بالإحسان في كل أفعاله ـ قد ادخر الله تعالى له جزاء دنيويا وأخرويا من سنخ الذي ذكرته الآيات السابقة ، من جعل النبوة في الذرية ، وإتيان الحكم والعلم اللدني الإلهي ، وتقدير السلامة والأمن في النشآت المختلفة.

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ١٤.

(٢) سورة الصافات ٣٧ : ٧٩ و ٨٠.

(٣) سورة الصافات ٣٧ : ١٠٥.

(٤) سورة الصافات ٣٧ : ١٠٩ و ١١٠.

(٥) سورة الصافات ٣٧ : ١٢٠ و ١٢١.

(٦) سورة الصافات ٣٧ : ١٣٠ و ١٣١.

٦٧

وقد وصف المحسن والمحسنون بأن رحمة الله قريب منهم ، وأن الله يحبهم ، وأن الله لمعهم معية خاصة غير معيته القيومية على كل مخلوق (١) ، فالآية لم تكتف بوصف القسم الثالث بأنهم تابعون للأولين السابقين ، بل ضيقت الدائرة إلى كون تبعيتهم بإحسان ، والإحسان والمحسن مقام فوق مقام العدل والعدالة.

وكذلك الحال في القسمين الأول والثاني ، فإنه لم يبق على دائرته الوسيعة ، فضيق بحدود «السابقين» ، وهذه الدائرة لم تبق على حالها ، بل ضيقت إلى دائرة «أول السابقين» ، فلا بد ـ والحال هذه ـ من تمحيص وفهم دلالة الكلام ، ألا ترى أن سورة المدثر ـ وهي رابع سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة ـ أنها تقسم الموجودين حينذاك إلى أربعة أقسام ، هي : المؤمنون ، وأهل الكتاب ، والمشركون ، والذين في قلوبهم مرض ، فلو كان المراد هو من سبق بإظهار الإسلام من المهاجرين ، فأين هم الذين في قلوبهم مرض ، ويستترون بالإسلام عن إظهاره؟!

فبكل ذلك ، مع ما ذكرنا من النقاط العامة ، يقع القارئ على المراد في الآية الكريمة.

ثم إنه لا يخفى على القارئ أن الآية هي من سورة التوبة ، وقد استعرضت السورة نماذج عديدة سيئة ممن عايش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقيه ، فمثلا فيها : (ويحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا) (٢) فإنها نزلت في غزوة تبوك ، وبعد

__________________

(١) أنظر : سورة النحل ١٦ : ١٢٨ ، سورة آل عمران ٣ : ١٣٤ ، سورة المائدة ٥ : ١٣ ، سورة الأعراف ٧ : ٥٦.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٧٤.

٦٨

الغزوة وفي طريق العودة دبرت مؤامرة لاغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العقبة ، وقد تقدم نقل حديث حذيفة ـ الذي رواه مسلم في صفات المنافقين ـ في منافقي أهل العقبة وأنهم من الصحابة الخاصة!

ونموذج ثان تفصح عنه سورة التوبة ، قال تعالى : (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم) (١) ..

ومن البين أن السورة تشير إلى نمط من المنافقين لم يظهر نفاقهم إلى العيان ، أي كانوا في غاية التستر ، ولا ريب أن الأباعد الذين يلقون النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاجون إلى هذه الشدة من التستر ، كما أن هؤلاء كانوا من الخطورة بمكان حتى إنهم احتاجوا إلى هذه الشدة من التستر ، كما إنهم مردوا واحترفوا النفاق بحيث لا يمكن اصطياد حركاتهم الظاهرة!

هذا ، فضلا عن النماذج الأخرى التي تستعرضها سورة التوبة ، من الأعراب وممن حول المدينة وغيرهم (٢) ، فإذا كانت السورة تقسم من

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٠١.

(٢) مثل قوله تعالى : (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) سورة التوبة ٩ : ٤٥.

وقوله تعالى : (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون) سورة التوبة ٩ : ٦٤.

وقوله تعالى : (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر) سورة التوبة ٩ : ٦٧.

وقوله تعالى : (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ...) سورة التوبة ٩ : ١٠٦.

وقوله تعالى : (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ...) سورة التوبة ٩ : ٤٩.

٦٩

صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن كان يتعامل معه يوميا أو لازموه إلى فئات عديدة صالحة وطالحة ، فكيف يعمم الصلاح إلى الكل؟! فلا يكون التعميم إلا بأن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ، أو يتعامى عن النظر إلى جميع آيات السورة الواحدة ، أو تصم الآذان عن سماعها جميعا! وهذا التقسيم ـ كما نبهنا سابقا ـ دليل على عدم إطلاق «المهاجر» على كل مكي أسلم وانتقل إلى المدينة ، وعلى عدم إطلاق «الأنصاري» على كل مدني أسلم ، بل يطلق كل منهما مع توافر قيود عديدة أخرى.

ولاحظ أسلوب هذه الآيات التي تستعرض النماذج الأخرى ، فإنه أسلوب لا يرى فيه الهوادة والمهادنة ، كقوله تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) (١).

وقوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين * وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة

__________________

وقوله تعالى : (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ...) سورة التوبة ٩ : ٧٥.

وقوله تعالى : (ومنهم من يلمزك في الصدقات ...) سورة التوبة ٩ : ٥٨.

وقوله تعالى : (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ...) سورة التوبة ٩ : ٧٩.

وقوله تعالى : (ومنهم الذين يؤذون النبي ...) سورة التوبة ٩ : ٦١.

وقوله تعالى : (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ...) سورة التوبة ٩ : ١٠٢.

(١) سورة التوبة ٩ : ٧٣.

٧٠

أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون * وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) (١) ..

فترى أن في سورة التوبة قد نزل الأمر بجهاد المنافقين على حد جهاد الكفار سواء ، وأفرد بالخطاب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزل الأمر بمجاهدة الكفار الذين يلون المؤمنين ـ أي القريبين منهم ـ وجعلت الآيات الذين في قلوبهم مرض من الكفار ، وقد عرفت أن الذين في قلوبهم مرض هم من الخاصة التي أظهرت الإسلام في أوائل البعثة كما صرحت بذلك سورة المدثر ، أما سورة التوبة فقد نزلت في غزوة تبوك ، أي في أخريات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

وقد نزل قبل ذلك في سورة الأحزاب التهديد بمجاهدة المنافقين والذين في قلوبهم مرض من دون الأمر به ، قال تعالى : (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) (٢) ..

فسورة التوبة متميزة من بين السور الأخرى في ملاحقة فلول أقسام المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، إلى درجة نزول الأمر بجهاد المنافقين على حد جهاد الكفر سواء ، ومن ذلك يظهر ملاحقة القرآن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ممن احترف النفاق ومرد عليه ، من أوائل البعثة حتى

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٢٣ ـ ١٢٧.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٠ ـ ٦٢.

٧١

آخر نزول القرآن في المدينة.

وقد تقدمت رواية البخاري في صحيحه في الباب الواحد والعشرين من كتاب الفتن ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون! (١) فعلى من ينطبق ما يصفه حذيفة؟! ولماذا كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متسترين وبعده خرجوا من تسترهم وأصبحوا هم الظاهرين وصار الجو العام على مشرعتهم؟!

ولذلك سميت سورة التوبة بالفاضحة كما عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : سورة التوبة؟ فقال : التوبة؟! بل هي الفاضحة ، ما زالت تنزل «ومنهم ..» حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ذكر فيها! (٢).

وسميت بذلك لأنها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم (٣) ، ومنهم أهل العقبة الذين هموا بما لم ينالوا وقالوا كلمة الكفر ، وعرفهم حذيفة وعمار في الواقعة المعروفة في كتب السير والتفاسير.

وتسمى بالمبعثرة ، وذلك عن ابن عباس ، لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين ، أي تبحث عنها (٤).

وتسمى البحوث ، فعن أبي أيوب الأنصاري أنه سماها بذلك ، لأنها تتضمن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم (٥).

وتسمى بالحافرة ، فعن الحسن ، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين ما

__________________

(١) صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٧.

(٢) الدر المنثور ٤ / ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٥.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٥.

(٥) مجمع البيان ٥ / ٦.

٧٢

كانوا يسترونه (١).

ومن الواضح أنه لم تكن هذه الفئة وغيرها من المنافقين من قبيل عبد الله بن أبي سلول وجماعته ، ممن كان ظاهر النفاق والشقاق وشاهر بهما ، وإنما فضحت سورة التوبة المتسترين الذين كانوا في شدة خفاء ، ولا ريب أنهم كانوا ذوي خطب ووقع في مجريات الأمور ، ويرون أن حجر العثرة الأساس أمام مخططاتهم هو وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك شدد القرآن على أهمية ملاحقتهم.

وتسمى المثيرة ، لأنها أثارت مخازيهم ومقابحهم (٢).

فلها عشرة أسماء كما ذكر المفسرون (٣).

ومع كل ما تضمنته سورة التوبة ، وما كان سبب النزول الرئيسي لها ، ومع ما تبين من دلالة «الأولين ، السابقين ، والاتباع بالإحسان» بتحديدها لدائرة خاصة جدا ، كيف يتجرأ على نسبة التعميم في مفاد الآية المتقدمة؟!

ومما ذكرنا يظهر الحال في مفاد الآية الخامسة من تعداد الآيات التي يستدل بها ، وهي قوله تعالى في سورة التوبة نفسها : (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) (٤) فإن «المهاجر» ـ كما تقدم ـ لا يطلق على كل مكي أسلم وانتقل إلى المدينة وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما دلت على ذلك سورة التوبة

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٦.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٦.

(٣) أنظر : مجمع البيان ٥ / ٥ ـ ٦.

(٤) سورة التوبة ٩ : ١١٧.

٧٣

بتقسيمها من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فئات عديدة صالحة وطالحة.

وكذا الحال في عنوان «الأنصاري» ، فهو ليس كل مدني أسلم وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أن الآية المذكورة في تفسيرها الوارد عن أهل البيت عليهم‌السلام ، دالة على تكفير ذنب وخطيئة صدرت منهم ، وأن التوبة على الله تعالى بلحاظ ذلك (١).

وأما الآية الثانية :

فهي قوله تعالى : (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) (٢).

فقد روى السيوطي وغيره عن جمع أنهم يحتجون بهذه الآيات على عدم جواز تناول الصحابة بقص ما وقع منهم ، وأن من يتناولهم بسوء ما صدر من أفعال بعضهم ففي قلبه غل ، وأن من يقص ما جرى بينهم لا يدخل في مدلول (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

(٢) سورة الحشر ٥٩ : ٨ ـ ١٠.

٧٤

آمنوا) (١).

ولأجل تحصيل المفاد الصحيح للآيات ينبغي ذكر الآيتين اللاحقتين ، وهما : (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون) (٢) ..

فترى أن سورة الحشر هنا كسورة التوبة المتقدمة ، فهي لا تقتصر في تقسيم من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الفئة الصالحة فحسب ، بل تنبه على ذكر الجماعة الطالحة ، وهم المنافقون ، وهو إبطال لدعوى التعميم في كل من صحب ولقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كما أن السورة في الآيات المذكورة تحدد وتفسر «المهاجر» بأنه من توافر على قيود أربعة ، وهي :

الأول : الذي أخرج من دياره وأمواله.

الثاني : كون خروجه ابتغاء فضل الله ورضوانه ، كما قدمناه مرارا من أن الهجرة في الاستعمال القرآني هي في المعنى الخاص من الفعل العبادي في سبيل الله ، لا قصد الحطام الدنيوي.

الثالث : نصرة الله ورسوله ، وقدمنا أن كتب السير ملأى بمن كان يجبن في الحروب ومنازلة الأبطال في ساعة العسرة والشدائد ممن يقال

__________________

(١) الدر المنثور ٨ / ١٠٥ ـ و ١١٣ ـ ١١٤ ، تفسير الطبري ١٢ / ٤٣ ح ٣٣٨٨٨ ، تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ٢٨٩ ، تفسير البغوي ٤ / ٢٩٢.

(٢) سورة الحشر ٥٩ : ١١ و ١٢.

٧٥

عنهم إنهم من الخاصة الذين صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الرابع : الصدق ، وهو ـ كما تقدمت الإشارة المختصرة إليه ـ قد شرح في آيات عديدة ، كقوله تعالى : (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما) (١) ..

فالاستقامة حتى آخر العمر ، وعدم التبديل ، من مقدمات الصدق ، ولذلك اشتهر بين الصحابة في طعنهم على بعضهم بأنه بدل وأحدث ، كما درج هذا الاستعمال بكثرة عندهم في فتنة قتل عثمان وبقية الفتن التي دارت بينهم ، فدلت الآية على اشتراط الوفاء بالعهد وعدم التبديل في وصف المؤمنين بالصدق.

وكقوله تعالى في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم * فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم * ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم * فكيف إذا

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٢٣ و ٢٤.

٧٦

توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم * أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) (١).

فنرى في سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنها تشترط في عنوان الصدق الثبات عند الزحف وعدم الفرار والجبن ، بينما المنافق الخفي جبان في الحروب والنزال كأنه يغشى عليه من الموت لشدة خوفه وجبنه ، فإذا قاد جيشا ليفتح حصنا عاد يجبن الناس والناس يجبنونه ، بخلاف الصادق ، فإنه كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه ..

والمنافق الخفي المحترف للنفاق يحزن من هول القتال والكفار ، ويقول ـ مثلا ـ : يا رسول الله! إنها قريش وخيلاؤها ، ما هزمت قط. فليس ذلك علامة الصدق في ما يدعيه من الإيمان ، فهذا الصحابي الذي أشارت إلى فئته سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنافق المحترف ، وصفتهم عكس ما أشير إليه في سورة الفتح بقوله تعالى : (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (٢) ، وإن صحابي هذه الفئة غظ فظ مع المؤمنين في السلم ، هجين ذعر جبان في الحرب مع الكفار.

ثم إن السورة تلاحق وجود فئة محترفة للنفاق وهي : (الذين في قلوبهم مرض) (٣) وهي الفئة التي أشارت إليها سورة المدثر المكية (٤) ،

__________________

(١) سورة محمد ٤٧ : ٢٠ ـ ٣٠.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

(٣) سورة محمد ٤٧ : ٢٠ و ٢٩.

(٤) سورة المدثر ٧٤ : ٣١.

٧٧

رابع سورة أنزلت في بداية البعثة ، وكشفت عن وجود هذه الفئة في صفوف المسلمين الأوائل ، وهذه السورة تنبئ عن غرض هذه الفئة من إسلامها منذ البدء ، وهو تولي الأمور ، وعرضت بتوليهم للأمور ومقدرات الحكم ، وإفسادهم في الأرض ، وسيرتهم على غير سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسننه ، وتقطيعهم للرحم التي أمروا بوصلها ، وأن إسلامهم في بدء الدعوة ـ كما في سورة المدثر ـ هو لذلك الغرض ، لما اشتهر من الأنباء من الكهنة واليهود عن ظفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعرب والبلدان ، كما أشارت إليه الآية عن اليهود قبل الإسلام بقوله تعالى : (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) (١).

كما إن سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكشف عن وجود ارتباط بين هذه الفئة (الذين في قلوبهم مرض) وبين الكفار الذين كرهوا ما نزل الله ، وإنهم يعدونهم بطاعتهم في بعض الأمر والشؤون الخطيرة ، ويحسبون أن الله ليس بكاشفهم ، فالسورة تكشف عن فئة منافقة أخفت نفاقها فغدت محترفة في الاختفاء .. (لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول) (٢) ، في مقابل الفئة المؤمنة أهل الصدق .. كما تكشف عن فئة مرتدة في الباطن عن الإسلام ..

والحاصل : إن سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما تشير إلى شرائط عنوان الصدق ، فإنها تشير ـ كذلك ـ إلى تقسيم من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن صحبه ، لا التسوية بينهم وجعلهم في كفة واحدة ، فهل إن من يقسم

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٨٩.

(٢) سورة محمد ٤٧ : ٣٠.

٧٨

الصحابة إلى فئات ـ تبعا للقرآن الكريم في تقسيمه لهم ـ يؤمن بالكتاب كله؟! أم من يبعض الإيمان ، فهو يؤمن ببعض آيات السورة دون بعضها الآخر ، مع إنه لم يصب ذلك البعض أيضا؟!

وكذا يشير إلى معنى الصدق قوله تعالى في سورة الأحزاب : (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا * قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا * قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير * أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا * يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون

٧٩

في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا * لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا * ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما * من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا * ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما) (١).

نقلنا الآيات بطولها من سورة الأحزاب ليبين الجو الذي تصوره الآيات لنا في واقعة الخندق ، كما أن هذه السورة تبين أيضا أن من شرائط الصدق : الثبات عند الزحف ، والشجاعة في الحروب ، وعدم الفرار ، إلا أن المنافقين والذين في قلوبهم مرض إذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد ، فالحدة ليست في شجاعتهم وبطولتهم في النزال والشدائد ، بل في لسانهم في وقت السلم ، يبتذلون الفظاظة والغظاظة حتى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتقدمون بما يرتأونه على الله ورسوله : (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) (٢) ..

فمن الغريب بعد ذلك أن يرووا في فضائل بعض الصحابة اعتراضه على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أربع موارد لفقوها ، وأن القرآن نزل بخلاف قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاقا لرأي ذلك الصحابي ، وفي بعض الروايات أنه أمسك

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٩ ـ ٢٤.

(٢) سورة الحجرات ٤٩ : ١ و ٢.

٨٠