تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٢

الآيات ـ نبأ عظيم وإفصاح خطير ، هو أن من كان في ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر وأثناء القتال كانوا على ثلاث فئات : فئة مؤمنة ثابتة ، وفئة منافقة ، وفئة الذين في قلوبهم مرض ـ وهي الفئة التي أشارت إلى وجودها سورة المدثر المكية ، رابع سورة نزلت في أوائل البعثة ، في صفوف المسلمين ـ وكان من الفئتين الأخيرتين ـ لما رأتا حشد مشركي قريش وبطرهم وخيلاءهم في غزوة بدر ـ أن قالتا عن الفئة الأولى بأنها مغرورة بسبب دينهم وهو دين الإسلام ، فلم ينسبوا أنفسهم إلى الدين الإسلامي ، وإنما جعلوا أنفسهم ـ بذلك ـ على دين المشركين! والإفصاح هذا في هذه السورة عن معسكر جيش المسلمين الذي كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه منقسم إلى ثلاث فئات ، يبطل كل الروايات التي يرويها العامة حول قدسية البدريين ، وأن الله قد غفر لهم وإن عملوا ما عملوا ـ فضلا عن كون ذلك مناقض للآيات والسور العديدة المشترطة للوفاء حتى حلول الأجل والثبات على الإيمان والعمل الصالح ـ.

كما أنه يبطل مقولة إن كل بدري أو أحدي فهو مؤمن وممدوح ومرضي حاله عند الله تعالى.

وفي الآيتين اللاحقتين المتصلتين بالآيات التي أوردناها ، يقول تبارك وتعالى : (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) (١) وهو تهديد ووعيد لهم بالعقوبة المبتدأ بها عند الموت.

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٥٠ و ٥١.

١٠١

ولأجل ذلك ترى أن الخطاب الإلهي في هذه السورة مخصص وموجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين آمنوا خاصة دون الفئتين الأخريتين ، قال تعالى : (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم * يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين * يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم ...) (١) ..

فخص ألفة القلوب والمساعدة على النصر والخطاب بالجهاد بالمؤمنين دون الفئتين الأخريين ، فكيف يتوهم بأن قوله تعالى : (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) (٢) شامل للمنافقين والذين في قلوبهم مرض ممن كان في ركب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر؟!

وفي هذه السورة آيات أخرى ، وهي قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون * يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) (٣).

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٦٢ ـ ٦٥.

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٧٤.

(٣) سورة الأنفال ٨ : ٢٤ ـ ٢٧.

١٠٢

ففي تفسير ابن كثير عن السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا (١).

وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أن المسلمين البدريين سيفتنون بفتنة تصيب الجميع ، وأنهم سيمتحنون بها وفيهم الظالمون ، وأن من يخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه فإن الله شديد العقاب ..

وهذه الآيات الكريمة صريحة ـ كذلك ـ في تقسيم وتمييز من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدر وفي أوائل الهجرة إلى المدينة ، وأنهم يفتنون ، ويكون بعضهم ظالما ، ويخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه.

للبحث صلة ...

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٢ / ٢٨٦.

١٠٣

السنة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(٥)

السيد علي الشهرستاني

ج ـ الإحراق :

ذكرنا سابقا خبر عائشة وأنها قالت بأن أباها قال لها : «أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها» (١) وأوضحنا هناك أن أبا بكر وبفعله «الإحراق» أراد نفي الوثائق الدالة على خطئه ، لوجود أحاديث في الصحيفة تخالف اجتهاداته ، فأمر بإبادتها!!

وهكذا كان فعل عمر بن الخطاب مع الأحاديث ، إذ أمر الصحابة أن يأتوه بصحفهم «فظنوا أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار» (٢).

فنحن نتساءل : كيف اتفق الشيخان على سياسة محددة تجاه الأحاديث النبوية؟!

ولم الإحراق بالنار دون الإماثة بالماء أو الدفن في التراب؟!

وماذا يعني تهديد عمر لفاطمة الزهراء عليها‌السلام والمتخلفين عن البيعة

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ / ٥ ، الاعتصام بحبل الله المتين ١ / ٣٠.

(٢) تقييد العلم : ٥٣ ، حجية السنة : ٣٩٥.

١٠٤

بالإحراق؟! وقد قالت فاطمة : يا بن الخطاب! أجئت لتحرق دارنا؟!

قال : نعم ، أو تدخلوا في ما دخلت فيه الأمة (١).

وفي خبر آخر قيل له : إن في البيت فاطمة! قال : وإن (٢)!!

ونفذ هذا التهديد أو جزء منه ، حين أقبل عمر وبيده فتيل من نار ، فما بايع علي حتى رأى الدخان قد دخل بيته.

ولم يكن هؤلاء الممتنعون مخصوصين بهذا اللون من الاعتداء ، بل تعداهم إلى غيرهم ، فعن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كان في بني سليم ردة ، فبعث أبو بكر إليهم خالد بن الوليد ، فجمع رجالا منهم في الحضائر ثم أحرقهم بالنار ، فجاء عمر إلى أبي بكر فقال : انزع رجلا عذب بعذاب الله!! فقال أبو بكر : لا والله لا أشيم سيفا سله الله على الكفار حتى يكون هو الذي يشيمه ، ، ثم أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة (٣).

لا أدري لم يعذب خالد بعذاب لم يأمر الله به في جزاء المحاربين والساعين في الأرض فسادا؟!!

وكيف به مع قوله تعالى : (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (٤)؟!

وأنت ترى عدم وجود الحرق بالنار في جزائهم ، بل وجود نصوص

__________________

(١) العقد الفريد ٤ / ٢٥٩ ، تاريخ أبي الفداء ١ / ٥٦ و ١٦٤.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ١٢ ، أعلام النساء ٤ / ١١٤.

(٣) الطبقات الكبرى ٧ / ٢٧٨ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٣٧٢.

(٤) سورة المائدة ٥ : ٣٣.

١٠٥

في السنة النبوية تنهى عن العذاب بالنار ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن النار لا يعذب بها إلا الله (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يعذب بالنار إلا ربها (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن «لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله» إلا بإحدى ثلاث : رجل زنى بعد إحصان ، فإنه يرجم ، ورجل يخرج محاربا لله ورسوله ، فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض ، أو يقتل نفسا ، فيقتل بها (٤).

وليس في هذه الفقرات ـ كذلك ـ الحرق بالنار ، بل ترى الابتعاد عن الإحراق واضحا وظاهرا فيها.

إن أبا بكر عذر خالدا بالتأويل! لاحتياجه إلى سيفه لإخماد ثورات المتمردين والمخالفين ، وهو يعلم بأنه ليس بأهل للصلاح والإصلاح ، بل همه نكاح النساء وسفك الدماء ، إذ جاءت رسالة أبي بكر إليه : «لعمري يا بن أم خالد! إنك لفارغ ، تنكح النساء ، وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجف بعد».

كتب ذلك إليه لما قال خالد لمجاعة : زوجني ابنتك! فقال له مجاعة : مهلا! إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك.

فقال : أيها الرجل! زوجني!! فزوجه ، فبلغ ذلك أبا بكر ، فكتب إليه

__________________

(١) فتح الباري ٦ / ١٨٥.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٣٠٧ ، فتح الباري ٦ / ١٨٤ ح ٣٠١٦.

(٣) مصنف ابن أبي شيبة ٧ / ٦٥٨ ح ٣.

(٤) سنن أبي داود ٤ / ١٢٤ ح ٤٣٥٣.

١٠٦

الكتاب ، فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسر ، يعني عمر بن الخطاب (١).

والغريب أن أبا بكر نفسه قد أمر طريفة بن حاجز أن يحرق الفجاءة بالنار ، فخرج به طريفة إلى المصلى فأوقد نارا فقذفه فيها!!

وفي لفظ الطبري : فأوقد له نارا في مصلى المدينة على حطب كثير ، ثم رمي فيها مقموطا (٢).

وفي لفظ ابن كثير : فجمعت يداه إلى قفاه وألقي في النار ، فحرقه وهو مقموط (٣).

إن القوم ـ ومن أجل تصحيح هذه المواقف ـ راحوا يروون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر بحرق من كذب عليه (٤) ، مع أن المحروقين ليسوا من الكذبة! فحرقهم حرام حتى مع فرض صدور هذا الأمر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!!!

مع أنه لا مناص من الإشارة إلى أن الحرق أسلوب انتقامي قاس كان يستعمله بعض زعماء الجاهلية للتنكيل بخصومهم ، ولذلك أكد الإسلام على منع هذا الأسلوب إلا في موارد خاصة معدودة ، لم يكن الفجاءة السلمي صاحب إحداها!

بل كان إحراق أبي بكر للفجاءة ، ووضع خالد رأس مالك أثفية للقدور (٥) ، نوعا من التمثيل الذي ورثوه من الجاهلية .. فقد كان عمرو بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٢٥٤ ، تاريخ الخميس ٣ / ٣٤٣ ، وانظر : الغدير ٧ / ١٦٨.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٢٣٤ ، الإصابة ٢ / ٣٢٢.

(٣) تاريخ ابن كثير ٦ / ٣١٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٤٦.

(٤) أنظر : أضواء على السنة المحمدية : ٦٥.

(٥) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١ حوادث سنة ١١ هجرية.

١٠٧

هند يلقب بالمحرق ، لأنه حرق مائة من بني تميم : تسعة وتسعين من بني دارم ، وواحدا من البراجم ، وشأنه مشهور (١).

ومحرق أيضا لقب الحرث بن عمرو ، ملك الشام من آل جفنة ، وإنما سمي بذلك لأنه أول من حرق العرب في ديارهم ، فهم يدعون آل محرق (٢).

وأما قول أسود بن يعفر :

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم ، وبعد إياد؟!

فإنما عنى به امرأ القيس بن عمرو بن عدي اللخمي ، لأنه أيضا يدعى محرقا (٣).

فوضع الأحاديث في جواز الإحراق جاء لتبرير فعل أبي بكر وخالد فيه.

وتقنين سياسة الحرق جاءت للإبادة والإفناء ، وعلى ضوء ما رأوه من مصلحة!

وبناء على ذلك ، فهذه المصالح أصبحت أصولا في سياسة الخلفاء لاحقا.

د ـ سياسة التطميع والرشوة :

إن رجال النهج الحاكم ـ وكما قلنا ـ تعاملوا مع الخلافة على أنها مصدر حكم وملك مادي حسب النظرة الجاهلية ، فكانوا لا يستقبحون

__________________

(١ ـ ٣) لسان العرب ١٠ / ٤٢ ـ ٤٣ مادة «حرق» ، وانظر كتب الأمثال في قولهم : «إن الشقي وافد البراجم».

١٠٨

اتباع سياسة التطميع في بعض الأحيان للوصول إلى الهدف ..

ومن ذلك ما فعلوه مع العباس بن عبد المطلب ، إذ إنهم أرادوا ـ باقتراح من المغيرة بن شعبة ـ أن يحدثوا شقا في الصف الهاشمي ، كالذي سعى إليه أبو سفيان من قبل في إحداث الشقاق في الصف الإسلامي ـ لما حاول مخادعة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فزجره الإمام عليه‌السلام ـ .. وذلك بإشراك العباس في الأمر ، إذ جاء أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة إلى العباس ليلا ، فقال له أبو بكر في ما قال :

ولقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ، ويكون لمن بعدك من عقبك ...

فقال له العباس : إن الله بعث محمدا كما وصفت نبيا ، وللمؤمنين وليا ، فمن الله به على أمته حتى قبضه الله إليه ، واختار له ما عنده ، فخلى على المسلمين أمورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق ، لا مائلين بزيغ الهوى ، فإن كنت برسول الله أخذت فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين أخذت فنحن منهم ... وإن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين ، فما وجب إذ كنا كارهين ... وما أبعد تسميتك بخليفة رسول الله ، من قولك : «خلى على الناس أمورهم ليختاروا» فاختاروك!!

فأما ما قلت إنك تجعله لي ، فإن كان حقا للمؤمنين ، فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض ، وعلى رسلك ، فإن رسول الله من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها (١).

__________________

(١) السقيفة وفدك ـ للجوهري ـ : ٤٧ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٢٥ طبعة لندن.

١٠٩

ولما فشلوا في استمالة العباس إلى جانبهم وإحداث الشقاق في الصف الهاشمي ، صرحوا بعدم إمكان اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم ، لأن العرب لا ترضى ذلك ، ثم صرحوا في تقسيم الخلافة بين القبائل (تيم ، عدي ، فهر ، أمية ، و...).

والطريف هو أنهم اقترحوا على العباس ذلك ، في حين أن عمر كان قد اقترح على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما أسر العباس في معركة بدر أن يقتله مع باقي الأسرى ، فأعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رأيه ، وكان قد تقدم إليهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم قتل الأسرى ، ومنهم العباس الذي كان قد أخرج إلى معركة بدر مكرها ، كغيره من بني هاشم كطالب وعقيل وبني عبد المطالب (١).

إن الحاكمين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يريدون ـ إن أمكنهم ذلك ـ استمالة الهاشميين والأنصار خلافا لسياستهم العامة معهم ، ومن ذلك ما جاء في شرح نهج البلاغة أن أبا بكر كان قد قسم قسما بين نساء المهاجرين والأنصار ، فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت ، فقالت : ما هذا؟!

قال : قسم قسمه أبو بكر للنساء.

وقالت : أتراشونني عن ديني؟! والله لا أقبل منه شيئا ، فردته عليه (٢).

وإذا كان العباس بن عبد المطلب والمرأة الأنصارية لم يقبلا رشا أبي بكر ، فإن هناك من كان يقبل الرشا المالية والسلطوية.

فقد جاء أبو سفيان ـ وفي يده بعض أموال السعاية ـ إلى المدينة ، وسمع

__________________

(١) أنظر : شرح نهج البلاغة ١٢ / ٦٠ وج ١٤ / ١٧٣ ـ ١٧٤ و ١٨٢ ـ ١٨٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٣.

١١٠

نبأ تولي أبي بكر للخلافة ، فرفع عقيرته قائلا : إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم ، فكلم عمر أبا بكر ، فقال : إن أبا سفيان قد قدم وإنا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده ، فتركه ورضي (١).

ولم يقف الأمر على الرشوة المالية حتى تعداه إلى الرشوة السلطوية ، إذ يظهر أن أبا سفيان لم يقنعه المال وحده ، بل طمح إلى أبعد من ذلك ، فقال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل؟! إنما هي بنو عبد مناف!! فقيل له : إنه قد ولي ابنك ، قال : وصلته رحم (٢).

هكذا ظهرت الرشا صريحة ماثلة للعيان ـ دون رادع ولا وازع ـ وقررت من قبل أبي بكر!! مع أنه في المقابل كان قد منع سهم المؤلفة قلوبهم ـ الذي نص عليه الكتاب وعمل به رسول الله ـ معتلا بأن ذلك رشوة على الإسلام!!

قال الشعبي : ليست اليوم مؤلفة قلوبهم ، إنما كان رجال يتألفهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام ، فلما أن كان أبو بكر قطع الرشا في الإسلام (٣) ، وكان ذلك بموافقة عمر ومشورته ، معللا المنع بما يشبه تعليل أبي بكر (٤).

وهذا الموقف من الشيخين يبين مدى التناقض والتباين بين ما قرروه في منع سهم المؤلفة قلوبهم وبين إعطائهم الرشوة لأبي سفيان مقابل السكوت على خلافتهم ، وذلك هو الذي أثر على السنة النبوية من بعد ، فادعى بعضهم أن سهم المؤلفة قد انتهى بانتهاء عمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) ،

__________________

(١) السقيفة وفدك : ٣٧ ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٤.

(٢) تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٢.

(٣ و ٤) الدر المنثور ٣ / ٢٥٢.

(٥) أنظر : تفسير الطبري ٦ / ٣٩٩ ـ ٤٠٠ ذ ح ١٦٨٦٨ ـ ١٦٨٧٢ ، تفسير الحسن

١١١

وصحح ولاية يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية عند كثير من المسلمين (١) رغم بعد ولايتهما عن الشرعية بعد السماء عن الأرض.

٧ ـ الضرورات تبيح المحظورات :

كانت هذه الفذلكة المزدوجة بين السنة والحكم من جملة سياسات الخلافة الجديدة ، والتي يمكن بلورتها عبر نقاط :

أ ـ توقيف أحكام الله مصلحة :

المتتبع لسيرة أبي بكر أيام خلافته يقف على حقائق كثيرة ومواقف وأصول كانت لها أدوار في تثبيت خلافته :

منها : عدم إجراء الحد على خالد بن الوليد برغم إجماع المسلمين على لزوم قتله ، إذ رجع عبد الله بن عمرو وأبو قتادة الأنصاري من السرية التي كان فيها خالد كي يكلما أبا بكر بما فعله خالد مع المسلمين من بني يربوع ، وتزوجه بزوجة مالك وهي في العدة.

فالاعتراض على فعلة خالد لم يأت من هذين الصحابيين فقط ، بل السرية كلها كانت مخالفة لفعله ، وحتى عمر بن الخطاب كان موقفه من خالد نفس موقف أولئك ، فإنه ـ لما دخل خالد المسجد بعد رجوعه من الواقعة ـ قام إليه فانتزع الأسهم من عمامته فحطمها ، ثم قال : أرئاء؟! قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، والله لأرجمنك بأحجارك!

__________________

البصري ١ / ٤١٨ ، تفسير الدر المنثور ٤ / ٢٢٣ ـ ٢٢٤ ، أحكام القرآن ـ للجصاص ـ ٣ / ١٨٢.

(١) أنظر : سير أعلام النبلاء ٣ / ١٣٢ و ١٥٩.

١١٢

وخالد لا يكلمه ، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر ، حتى دخل عليه ، فقال عمر لأبي بكر : إن في سيف خالد رهقا ، وأكثر عليه في ذلك.

فقال : يا عمر! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد ، فإني لا أشيم سيفا سله الله على الكافرين (١) ، ولما أصر أبو قتادة على موقفه دعاه أبو بكر ونهاه عن ذلك (٢).

بهذا المنطق (التأويل) وكون أعدائه (المسلمين) من الكافرين! عذر أبو بكر خالدا ، لاحتياجه إليه في مواقفه الأخرى في تثبيت الحكم ، وبنفس المنطق سوغ لنفسه نهي أبي قتادة عن التعرض لخالد ، مع أن اعتراض أبي قتادة كان في محله ، ويكتسب الشرعية من القرآن والسنة النبوية.

ب ـ استغلال الرئاسة القبلية :

لم يختص عمل أبي بكر بعدم تطبيقه لأوامر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبتعطيله لأحكام الله بعدم إجرائه الحد على خالد بن الوليد ، أو بتجاوزه الحدود واختراع حدود مرتجلة ، مثل حرقه الفجاءة بالنار!! بل تعدى إلى مفردات كثيرة أخرى.

منها : عفوه عن الأشعث بن قيس حين ارتد ، لكونه زعيم كندة وممن يحتاج إليه في مواقف ومشاهد أخرى ، وقد تأسف أبو بكر ـ عند موته ـ من فعلته بقوله «ثلاث .. وثلاث .. وثلاث» وعد من اللاتي ود فعلها ولم يفعلها : ضرب عنق الأشعث حين جئ به أسيرا ، فقال : «وأما

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٢٤١ ، البداية والنهاية ٦ / ٢٤١ ، أسد الغابة ١ / ٥٨٨ ، وغيرها.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ / ٣٥٨.

١١٣

اللاتي تركتهن : فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه ، فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه ...»(١).

نعم ، زوج أبو بكر الأشعث أخته وأشركه في المهام ، وراح يقرب بني أمية الطلقاء ، ويولي أولاد أبي سفيان الطليق الولايات ، وقد أبقى الأموال بيد أبي سفيان يصرفها كيفما يريد ، كل ذلك حفاظا على النظام القبلي والزعامات القرشية وغيرها التي تخدم الحكومة في تثبيت قواعدها.

إن سياسة الشيخين كانت تبتني على عدم الاستفادة من المال لأنفسهما ولأولادهما ، وقد صرح الإمام علي عليه‌السلام بذلك ـ وهو يبين الفرق بين عثمان والشيخين ـ حين قال لعثمان : «أما التسوية بينك وبينهما ، فلست كأحدهما ، إنهما وليا هذا الأمر فظلفا (٢) أنفسهما وأهلهما عنه ، وعمت فيه وقومك عوم السابح في اللجة ...» (٣).

هذا ، وإن عثمان كان قد اعترف بهذه الحقيقة بقوله : «إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما ، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي» (٤) وكذلك الأمر في الولايات ..

لكن ما اشترك فيه الجميع هو تقريب الذوات وأصحاب الرئاسات ، بل استغلال حتى بعض أمهات المؤمنين وذوي النفوذ من الصحابة في هذا الشأن ، كل ذلك من أجل الوصول إلى الهدف ، معرضين عن وجود عيون الصحابة وكبار الأتقياء الصالحين للقيادات ، ليس ذلك إلا لعدم تمتعهم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٥٢.

(٢) أي : كفا.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٥.

(٤) أنساب الأشراف ٦ / ١٣٧ ، وانظر مؤدى ذلك في : الطبقات الكبرى ٣ / ٤٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٦٥٠ ، شرح نهج البلاغة ٢ / ١٣٨ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٦٧.

١١٤

بالقوة القبلية والمركز العشائري ، والحشم والأتباع.

ج ـ تعطيل أحكام الله اجتهادا :

تناقلت كتب التاريخ خبر المؤلفة قلوبهم الذين جاؤوا أبا بكر ـ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يطلبون حقوقهم ، فكتب إلى عمر كتابا بذلك ، فلما أتوه مزق الكتاب ، وقال : «إنا لا نعطي على الإسلام شيئا ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ولا حاجة لنا بكم» ، فرجعوا إلى أبي بكر وقالوا : هل أنت الخليفة أم عمر؟!

قال : هو إن شاء الله» (١).

فعطل أبو بكر فرض الصدقة المصرح به في القرآن اجتهادا منه! وبذلك شرع الاجتهاد قبال النص.

ومثله منعه الزهراء عليها‌السلام فدكا حين احتجت عليها‌السلام بالقرآن على مشروعية تمليكها ، بعمومات آيات الوصية والإرث وتوريث الأنبياء أبناءهم!

وهل يعد تضييع قتل الأشعث ـ بعد أن أطلقه وزوجه وقربه ـ إلا تعطيلا لحكم من أحكام الله في قتل المرتد ، وعدم جواز محاباته وتقريبه على أقل التقادير؟!

والأوضح من كل ذلك هو منعه أهل البيت عليهم‌السلام حقهم في الخمس الذي جعله الله لهم في كتاب الله ، حتى قالت الزهراء عليه‌السلام له : " لقد علمت

__________________

(١) أنظر في منع عمر لسهم المؤلفة قلوبهم : تفسير الدر المنثور ٤ / ٢٢٤ في تفسير الآية ٦٠ من سورة التوبة ، تفسير المنار ١٠ / ٤٩٦ ، النص والاجتهاد : ٤٤.

١١٥

الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذي القربى ...»(١).

فهذا تعطيل صريح لأحكام الله بحجة أنه لم يسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول أن كل ذلك لهم ، أو لاحتياج جيوش المسلمين إلى ذلك المال ، أو لغيرها من المعاذير ، فيها وفي غيرها من الاجتهادات ، ولنا وقفة قريبة مع أبي بكر تحت عنوان «اختلال قوانين الإرث» فانتظر.

د ـ منع السؤال :

كان من المفروض على أبي بكر ـ ونظرا لموقعه ـ أن يجيب عن الأسئلة التي ترد عليه ، لكونه قد جلس مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفه في الحكم بالأحكام الشرعية في مختلف القضايا!! لأن القرآن يقول : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد» ويحث على المسألة والتعلم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجيب السائلين عن كل مسائلهم الدينية والدنيوية ، وذلك ما صرح به الكتاب العزيز بقوله : (يعلمهم الكتاب والحكمة).

والمفروض ـ في ضوء ذلك ـ أن الخليفة هو القائم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل هذه الجهات ، فكان لا بد له من أن يحط علما بالفقه والشرع المقدس وعلم التفسير والتأويل ، ليكون مفزع المسلمين في تبيين الأحكام عند الحاجة لذلك ..

ولما لم يكن لأبي بكر الإلمام الكامل بجميع أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٦.

١١٦

ولم تكن عنده صحف مكتوبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تراه يواجه مشكلة كبرى ، فتراه ينهى عن السؤال ويسعى إلى ضرب السائل ، مع أننا نجد أن هناك رجالا كالإمام علي عليه‌السلام وابن عباس يسعون للإجابة عن أسئلة السائلين ، موضحين آفاق الفكر الإسلامي لهم ، وإليك مفردتين في ذلك :

الأولى : أخرج اللالكائي في السنة عن عبد الله بن عمر ، قال : جاء رجل إلى أبي بكر ، فقال : أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم ، قال : فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟! قال : نعم ، يا بن اللخناء! أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك (١).

الثانية : عن أنس بن مالك ، قال : أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله ، فأشار القوم إلى أبي بكر ، فوقف عليه ، فقال : أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي.

فقال أبو بكر : سل عما بدا لك.

فقال اليهودي : أخبرني عما ليس لله ، وعما ليس عند الله ، وعما لا يعلمه الله.

فقال أبو بكر : هذه مسائل الزنادقة يا يهودي! وهم أبو بكر والمسلمون باليهودي.

فقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : ما أنصفتم الرجل.

فقال أبو بكر : أما سمعت ما تكلم به؟!

فقال ابن عباس : إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى علي رضي‌الله‌عنه يجيبه ، فإني سمعت رسول الله يقول لعلي بن أبي طالب : اللهم اهد قلبه ،

__________________

(١) أنظر : الغدير ٧ / ١٥٣ عن اللالكائي في «السنة».

١١٧

وثبت لسانه ، قال : فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا ... الخبر (١).

وحسبك أن الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، هو صاحب القول الذي طار صيته في الآفاق : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإني أعلم بطرق السماء من طرق الأرضين (٢).

ه ـ تقديم المفضول على الفاضل :

نظرا لضرورة تحكيم أصول الحكم والزعامة فقد شرعت ولاية المفضول مع وجود الفاضل ..

قال الباقلاني في التمهيد ـ عند الجواب عن قول أبي بكر : «وليتكم ولست بخيركم» ـ : يمكن أن يكون قد اعتقد أن في الأمة أفضل منه ، إلا أن الكلمة عليه أجمع ، والأمة بنظره أصلح ، لكي يدلهم على جواز إمامة المفضول عند عارض يمنع من نصب الفاضل!

ولهذا قال للأنصار وغيرهم : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أحدهما : عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ، وهو يعلم أن أبا عبيدة دونه ودون عثمان وعلي في الفضل ، غير أنه قد رأى أن الكلمة تجتمع عليه وتنحسم الفتنة بنظره ، وهذا أيضا مما لا جواب لهم عنه (٣).

وقال القاضي في المواقف : جوز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل ، إذ لعله أصلح للإمامة من الفاضل ، إذ المعتبر في ولاية كل أمر معرفة مصالحه ومفاسده ، وقوة القيام بلوازمه ، ورب مفضول في علمه

__________________

(١) المجتنى ـ لابن دريد ـ : ٤٥ ـ ٤٦ ، وانظر : الغدير ٧ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٢) نهج البلاغة ٢ / ١٥٢ الخطبة ١٨٤.

(٣) التمهيد ـ تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ـ : ٤٩٤ ، وانظر : الغدير ٧ / ١٣١.

١١٨

وعمله هو بالزعامة أعرف ، وشرائطها أقوم ، وفصل قوم ، فقالوا : نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب ، وإلا وجب.

وقال الشريف الجرجاني : كما إذا فرض أن العسكر والرعية لا ينقادون للفاضل بل للمفضول (١).

نعم ، إن الحاجة والسياسة أوصلتهم للاعتقاد بفكرة تقديم المفضول على الفاضل ، ثم انجرت إلى القول بأن المقدم في الخلافة هو المقدم في الفضل!!

حتى قال أحمد بن محمد الوتري البغدادي في روضة الناظرين :

اعلم أن جماهير أهل السنة والجماعة يعتقدون أن أفضل الناس بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، رضي الله تعالى عنهم ، وأن المتقدم في الخلافة هو المقدم في الفضيلة ، لاستحالة تقديم المفضول على الفاضل ، لأنهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل ، والدليل عليه : إن أبا بكر رضي‌الله‌عنه لما نص على عمر رضي‌الله‌عنه قام طلحة رضي‌الله‌عنه فقال : ما تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا؟!

فقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : فركت لي عينيك ، ودلكت لي عقبيك ، وجئتني تكفني عن رأيي ، وتصدني عن ديني ، أقول له إذا سألني : خلفت عليهم خير أهلك ، فدل على أنهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل (٢).

فها هم ينتقلون من فكرة تقديم المفضول على الفاضل إلى فكرة أن

__________________

(١) شرح المواقف ٣ / ٢٧٩ ، وانظر : الغدير ٧ / ١٤٩.

(٢) روضة الناظرين : ٢ ، كما في الغدير ٧ / ١٥٢.

١١٩

المقدم في الحكم والخلافة هو الأفضل ، مستدلين على ذلك بأدلة واهية كما رأيت ، وقد أوضحنا ذلك في كتابنا منع تدوين الحديث لمن شاء المزيد.

٨ ـ إبعاد المنافسين ضرورة سياسية :

أ ـ بنو هاشم.

ب ـ الأنصار.

بنو هاشم :

لا ينكر أحد عداء قريش لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي قتل صناديدهم وفرسانهم ، وأن قريشا ـ نظرا لمكانتها ومطامعها ومطامحها ـ سعت لتنحية الإمام علي عليه‌السلام عن الخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكل ما لها من قوة وعزم.

ولو تأملت سيرة الشيخين لرأيتهما يجدان في تثبيت حكمهما وإبعاد منافسيهما من المناصب والولايات ، فقد جاء عن عمر قوله حينما نصب أبو بكر خالد بن سعيد الأموي أميرا على حملة الروم : أتولي خالدا وقد حبس عليك بيعته ، وقال لبني هاشم ما قال؟! ... ما أرى أن توليه ، وما آمن خلافه ، فانصرف عنه أبو بكر ، وولى أبا عبيدة بن الجراح ، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة (١).

فالشيخان والقرشيون معهم كانوا يخافون بني هاشم ، فلم يولوهم الولايات والأمصار ، بل اتخذوا سياسة تضعيفهم ، وذلك بتقريب مناوئيهم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٨ ـ ٥٩.

١٢٠