تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 59 و 60 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٢

في جواب الزهراء عليها‌السلام : «لم أتفرد به وحدي» (١) ، وقد روت عائشة وحفصة وأوس بن الحدثان أنهم سمعوا ذلك (٢) ، وأضاف صاحب المغني اسم عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف (٣).

وجاء في الاختصاص أن أبا بكر قال : «فإن عائشة تشهد وعمر أنهما سمعا رسول الله وهو يقول : إن النبي لا يورث.

فقالت [فاطمة] : هذا أول شهادة زور شهدا بها في الإسلام ، ثم قالت : فإن فدك إنما هي صدقة تصدق بها علي رسول الله ، ولي بذلك بينة.

فقال لها : هلمي ببينتك.

قال : فجاءت بأم أيمن وعلي ...» (٤).

ونقل ابن أبي الحديد عن النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد البصري قوله : إن عليا وفاطمة والعباس ما زالوا على كلمة واحدة يكذبون «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» ، ويقولون : إنها مختلقة ، قالوا : كيف كان النبي يعرف هذا الحكم غيرنا ويكتمه عنا؟! ونحن الورثة ، ونحن أولى الناس بأن يؤدى هذا الحكم إليه (٥).

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٩٧ ـ ١٠٨ (وطبعة النجف ١ / ١٣١ ـ ١٤٥) وعنه في بحار الأنوار ٢٩ / ٢٣١.

(٢) أنظر : قرب الإسناد : ٤٧ ـ ٤٨ الطبعة القديمة ، وتفسير علي بن إبراهيم ٢ / ١٥٥ ـ ١٥٩.

(٣) المغني ـ الجزء المتم العشرين ـ ق ١ / ٣٢٨ ، وانظر : بحار الأنوار ٢٩ / ٣٥٨ ، وفي صفحة ٣٦٦ وما بعدها جواب صاحب المغني .. فمن أراد فليراجع.

(٤) الاختصاص : ١٨٣ ـ ١٨٥.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٨٠.

١٤١

وأما الأمر الثالث :

هو تقريرها تركهم كتاب الله ، فهو ظاهر في كلام الزهراء عليها‌السلام ، لأن كلمة «ورث» التي وردت في عدة آيات دالة على المال لغة وعرفا ، إن لم تقيد بقيد خارجي ، لكنهم صرفوا الإرث إلى وراثة الحكمة والنبوة دون الأموال في مسألة إرث الرسول وقضية الزهراء ، تقديما للمجاز على الحقيقة بلا قرينة صارفة! لأن جملة (وإني خفت الموالي) (١) يعني به وراثة المال لا العلم والحكمة ، لكون الأخيرين لا يأتيان بالوراثة ، فهما عطاء من الله ، يمن به أو يمنع ، وإن زكريا كان يخاف من الموالي ـ وهم بنو العمومة ومن يحذو حذوهم ـ فقوله : (وليا) يعني ولدا يكون أولى بميراثي.

وعليه : فحمل الآية على العلم والنبوة خلاف الظاهر ، لأن النبوة والعلم لا يورثان ، بل النبوة تابعة للمصلحة العامة ومقدرة لأهلها من الأزل عند بارئها .. (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (٢) ، فلا مدخل للنسب فيها ، كما أنه لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله أحدا من عباده نبيا.

على أن زكريا إنما سأل الله وليا من ولده يحجب مواليه ـ كما هو صريح الآية ـ من بني عمه وعصبته من الميراث ، وذلك لا يليق إلا بالمال ، ولا معنى لحجب الموالي عن النبوة والعلم.

ثم إن اشتراطه في وليه الوارث كونه رضيا بقوله : (واجعله رب

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ٥.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ١٢٤.

١٤٢

رضيا) (١) لا يليق بالنبوة ، إذ العصمة والقداسة في النفسيات من الملكات ، ولا تفارق الأنبياء ، فلا محصل عندئذ لمسألته ذلك ، وحاشا الأنبياء عن طلب ما لا محصل فيه.

نعم ، يتم هذا في المال ومن يرثه ، فإن وارثه قد يكون رضيا وقد يكون غيره ، ولذلك قال الرازي في تفسيره : إن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال ، وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك (٢) ..

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار : ورث سليمان عن أبيه ألف فرس (٣) ..

وقال البغوي في معالم التنزيل في تفسير الآية في سورة مريم : قال الحسن : معناه يرث مالي (٤) ..

وقال النيسابوري في تفسير الآية : عن الحسن : أنه المال (٥).

ونحن لو تأملنا في استدلال الإمام علي والزهراء عليهما‌السلام والعباس ، لرأيناهم يستدلون بالقرآن على خطئه وسقم دعواه ، وذلك لأنهم أرادوا إلزامه بما ألزم به نفسه حينما نهى الناس عن التحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «بيننا وبينكم كتاب الله» ، أي إنهم استدلوا بعمومات القرآن في الإرث والوصية على خطئه ، فرجع هو إلى ما نهاهم عنه من الحديث عن رسول الله!! أي إنه استدل بما نهى عنه ضرورة ومصلحة!!

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ٦.

(٢) التفسير الكبير ٢١ / ١٨٤.

(٣) ربيع الأبرار ٥ / ٣٩٢ الباب ٩٢.

(٤) معالم التنزيل ٣ / ١٥٨.

(٥) تفسير النيشابوري ـ المطبوع مع تفسير الطبري ـ ١٩ / ٩٣.

١٤٣

وأما الأمر الرابع :

فلا يمكن لأحد أن ينكر مكانة علي والزهراء عليهما‌السلام العلمية ، ولو تأملت في احتجاجاتهما لرأيت الحق معهما لا محالة ، فمثلا نراهما يستدلان على أبي بكر ـ مضافا إلى ما سبق ـ بقاعدة اليد ، وإن على المدعي [وهو أبو بكر] البينة ، وعلى المنكر اليمين ، وقد مر عليك حجة الإمام علي عليه‌السلام بقوله : «أخبرني لو كان في يد المسلمين شئ فادعيت أنا فيه ، من كنت تسأل البينة؟!

قال : إياك كنت أسأل.

قال : فإذا كان في يدي شئ ، فادعى فيه المسلمون ، تسألني فيه البينة؟! فسكت أبو بكر ...» (١).

وفي حديث آخر توجد زيادة : فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يدها وقد ملكته في حياة رسول الله وبعده ، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوه شهودا كما سألتني على ما ادعيت عليهم؟! فسكت أبو بكر.

فقال عمر : يا علي! دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فئ للمسلمين ، لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال علي : يا أبا بكر! تقرأ كتاب الله؟!

قال : نعم.

قال : أخبرني عن قوله تعالى : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فينا نزلت أو في غيرنا؟!

__________________

(١) علل الشرائع : ١٩٠ ـ ١٩٢ ح ١.

١٤٤

قال : بل فيكم.

قال : فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ، ما كنت صانعا بها؟!

قال : كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر نساء العالمين!!

قال : كنت إذا عند الله من الكافرين.

قال : ولم؟!

قال : لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله ورسوله أن جعل لها فدك وقبضته في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها ، وزعمت أنه فيئ للمسلمين ، وقد قال رسول الله : «البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه» فرددت قول رسول الله : «البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه» (١).

ونحو هذا استدلال الزهراء عليها‌السلام على أبي بكر (٢) ، وقول الأنصار لها : يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به (٣) .. وفي آخر : لو سمعنا حجتكم ما عدلنا عنكم.

وجاء في كلام الإمام علي عليه‌السلام قوله : «فوالله يا معشر المهاجرين! لنحن أحق الناس به ، لأنا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا إلا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ،

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٩٠ ـ ٩٥ (طبعة النجف ١ / ١١٩ ـ ١٢٧).

(٢) أنظر : كتاب سليم بن قيس : ١٣٥ ـ ١٣٧.

(٣) الإمامة والسياسة ١ / ١٧٥.

١٤٥

المضطلع بأمر الرعية ، الدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله إنه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا» (١).

وهل يعقل أن تطلب فاطمة عليها‌السلام ـ وهي سيدة نساء أهل الجنة ، مع طهارتها وعصمتها ـ شيئا ليس لها؟!

وهل تريد ظلم جميع المسلمين بأخذها أموالهم؟!

وهل يجوز لعلي أن يشهد لفاطمة بغير حق؟! أو يمكن تصور مخالفته للحق ورسول الله يقول : «علي مع الحق والحق مع علي» ويقول : «اللهم أدر الحق معه حيث دار».

وهل يجوز القول عن أم أيمن ـ المشهود لها بالجنة ـ أنها قد شهدت زورا؟!

نعم ، إنا لا يمكننا أن نزكي أبا بكر والزهراء معا! إذ لو صدقنا أبا بكر في دعواه لصح ما تساءلناه عن الزهراء ، وإن كان أبو بكر كاذبا فالزهراء صادقة لا محالة ..

وهكذا الحال بالنسبة إلى أحاديث «من خرج على ..» أو «خالف ..» أو «لم يعرف» إمام زمانه مات ميتة الجاهلية ، أو «من خرج من طاعة السلطان شبرا مات ميتة جاهلية» فنحن لو قبلنا هذه النصوص معتبرين أبا بكر هو إمام زمانه ، للزم أن تكون الزهراء ـ سيدة النساء ، المطهرة بنص القرآن ـ قد ماتت ميتة جاهلية!!!

وأما لو شككنا في كونه إمام ذلك العصر ، لتخلف بعض الصحابة عنه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٢ ، الإمامة والسياسة ١ / ٢٩.

١٤٦

ـ كعلي والعباس وبني هاشم والزبير والمقداد وسعد بن عبادة وغيرهم ـ لجاز خروج الزهراء عليه واعتقادها بانحرافه وضلالته ، ولا يمكن تصحيح الموقفين معا.

وإذا لم يقبل أبو بكر شهادة علي بن أبي طالب عليه‌السلام لكونه المنتفع ، فكيف قبل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت وعد شهادته شهادتين ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنتفع؟!

ولو صح ما استدلوا به من أن الشهادة لم تكمل في قضية فدك ـ مقتصرين على شهادة الإمام علي عليه‌السلام وأم أيمن ـ فماذا نفعل بما جاء عن سيرة الحكام وحكمهم بالشاهد الواحد مع اليمين ..

ففي كتاب الشهادات من كنز العمال : إن رسول الله وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقضون بشهادة الواحد مع اليمين (١).

وروى البيهقي عن علي : أن أبا بكر وعمر وعثمان يقضون باليمين مع الشاهد (٢).

كانت هذه نظرة عابرة ونماذج متفرقة عن اختلاف المفاهيم والأصول عند الطرفين ، وكيفية تشريع المواقف وصيرورتها أصولا تضاهي القرآن الحكيم والسنة المطهرة في العصور اللاحقة ، وقد أعطتك ـ وخصوصا النقطة ما قبل الأخيرة ـ صورة عن تلاعب الحاكمين بالقوانين المالية الإسلامية ك :

أ ـ سهم المؤلفة قلوبهم.

ب ـ تمليك الحجرات لزوجات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون بنيه!

__________________

(١) كنز العمال ٣ / ٤ و ٦.

(٢) كنز العمال ٣ / ١٧٨.

١٤٧

ج ـ استجازة الحاكم الدفن عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع نقله قوله : «نحن معاشر الأنبياء ...» .. وغيرها.

١١ ـ الذهاب إلى مشروعية الرأي ومقولة : «حسبنا كتاب الله» :

ثبت عن أبي بكر أنه أفتى بالرأي في الكلالة ، مع أن الله كان قد وضح حكمها في القرآن العزيز ، لقوله تعالى : (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن ...) (١).

هذا ، إضافة إلى مفردات كثيرة من هذا القبيل.

وشرح أبي بن كعب هذا في كلام له بعد خطبة لأبي بكر في يوم الجمعة أول شهر رمضان ، فقال في جملة كلامه : فهذا مثلكم أيتها الأمة المهملة ـ كما زعمتم ـ وأيم الله! ما أهملتم ، لقد نصب لكم علم يحل لكم الحلال ويحرم عليكم الحرام ، لو أطعتموه ما اختلفتم ولا تدابرتم ، ولا تقاتلتم ، ولا برئ بعضكم من بعض ..

فوالله! إنكم بعده لمختلفون في أحكامكم ، وإنكم بعده لناقضون عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنكم على عترته لمختلفون.

إن سئل هذا عن غير ما يعلم أفتى برأيه ، فقد أبعدتم وتخارستم ، وزعمتم أن الاختلاف رحمة ، هيهات! أبى الكتاب ذلك عليكم ، يقول الله تبارك وتعالى : (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (٢) ، ثم أخبرنا باختلافكم ، فقال :

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١٧٦.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٠٥.

١٤٨

(ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (١) أي : للرحمة ، وهم آل محمد ...»(٢).

ونحن كنا قد فصلنا هاتين المقولتين في كتابنا منع تدوين الحديث ولا نحب المعاودة إليهما ، فمن أراد المزيد فليراجع ذلك الكتاب.

فهذه النصوص أوقفتك على ملابسات بعض الأمور ، ومن هم وراء نسبة الأحاديث إلى هذا أو ذاك ، وأن إنكار حجية السنة النبوية ، والتلاعب بالنصوص ، وإدخال مفاهيم خارجة عن نطاق النصوص ، لم يكن من قبل المستشرقين ، أمثال جولد تسهير وجيم شاخت (٣) فقط ، بل سبقهم إليه الرعيل الأول من الصحابة ، أمثال أبي بكر وعمر بقولهما : «بيننا وبينكم كتاب الله» و «حسبنا كتاب الله» ، ومنعهم للتحديث والتدوين ، وضربهم للصحابة عليه ، وردعهم عن السؤال!

إن النزعة الداعية إلى الأخذ بالقرآن وترك تدوين الحديث عند الشيخين ومن ماشاهما ، هي التي مهدت الطريق للشيخ محمد عبده (٤) وأحمد أمين (٥) وغلام أحمد پرويز (٦) وغيرهم للقول بالاكتفاء بالقرآن عن السنة.

__________________

(١) سورة هود ١١ : ١١٨ و ١١٩.

(٢) الاحتجاج ١ / ١١٢ ـ ١١٥ (طبعة النجف ١ / ١٥٣ ـ ١٥٧).

(٣) دراسات في الحديث النبوي ـ للدكتور الأعظمي ـ : المقدمة (م) وصفحة ٦.

(٤) دراسات في الحديث النبوي ـ للدكتور الأعظمي ـ ١ / ٢٧ عن أضواء على السنة المحمدية : ٤٠٥ ـ ٤٠٦.

(٥) فجر الإسلام ، وعنه في دراسات في الحديث النبوي ١ / ٢٧ ، والسنة ومكانتها ـ للسباعي ـ : ٢١٣.

(٦) دراسات في الحديث النبوي ١ / ٢٩ عن سنت كي آئينى حيثيت ـ للمودودي ـ : ١٦.

١٤٩

وهو المصرح به من قبل الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقته على مقالة الدكتور توفيق صدقي في المنار ، إذ جاء في تعليقته : «... بقي في الموضوع بحث آخر هو محل للنظر ، وهو هل الأحاديث ـ ويسمونها بسنن الأقوال ـ دين وشريعة عامة ، وإن لم تكن سننا متبعة بالعمل بلا نزاع ولا خلاف لا سيما في الصدر الأول؟

إن قلنا : نعم ، فأكبر شبهة ترد علينا نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابة شئ عنه غير القرآن ، وعدم كتابة الصحابة للحديث ، وعدم عناية علمائهم وأئمتهم كالخلفاء بالتحديث ، بل نقل عنهم الرغبة عنه ، كما قلنا للدكتور صدقي في مذاكرته قبل أن يكتب شيئا في الموضوع» (١).

ثم علق الشيخ محمد رشيد رضا على فقرة أخرى من مقالة الدكتور صدقي بقوله : «وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث ، بل في رغبتهم عنه ، بل في نهيهم عنه ، قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث كلها دينا عاما دائما كالقرآن» (٢).

أجل ، إن تفكيرا كهذا قد وصل في الهند إلى أن يستغل من قبل الأجنبي ـ حسب تعبير الدكتور مصطفى الأعظمي في الدراسات ١ / ٢٨ ـ لترسيخ بعض المفاهيم الجديدة على ضوء الموروث القديم.

فقد أسس غلام أحمد پرويز جمعية باسم : «أهل القرآن» ، وأصدر مجلة شهرية عنها ، وفسر بعض الكتب بهذا الصدد.

فـ «أهل القرآن» تركوا المتواتر العملي في الإسلام كالصلاة والزكاة والحج ، وما شاكلها ، وقالوا : «لم يبين لنا القرآن الأمور الجزئية إلا قليلا ،

__________________

(١) دراسات في الحديث النبوي ١ / ٢٦ ـ ٢٧ ، عن مجلة المنار م ٩ / ٩٢٩ ـ ٩٣٠.

(٢) دراسات في الحديث النبوي ١ / ٢٧ عن مجلة المنار م ١٠ / ٥١١.

١٥٠

وقد تطرق في أغلب الأحيان للكليات ، فمثلا : أمر الله سبحانه وتعالى بإقامة الصلاة ، ولم يبين لنا مقدارها ، فإن كان الله سبحانه وتعالى يريد أن تصلي كما يصلون لذكره في آية واحدة ، مثلا : صلوا الظهر والعصر والعشاء أربعا والفجر ركعتين والمغرب ثلاثا.

ولا يمكن القول بأن مثل هذا التفصيل يزيد في حجم القرآن ، لأن القرآن الكريم كرر الأمر بإقامة الصلاة مرة أو مرتين ، ثم تذكر التفصيلات لإقامة الصلاة بدلا عن التكرار ، وكذلك الزكاة ، وهلم جرا» (١).

وقالوا : «والخطأ الأساسي الذي وقع فيه المسلمون من بعد الخلافة الراشدة حتى الآن أنهم لم يفهموا الإسلام وروحه ، إذ الإسلام نظام اجتماعي مبني على الشورى ، فالقرآن يأمرنا بالأمور الكلية ويترك تفصيلها لمجلس الشورى للمسلمين الذي يقرر طريقة الصلاة ونسبة الزكاة حسب الزمان والمكان.

وهذا ما فهمه أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون (٢) ، فكانوا يستشيرون الصحابة ، وحيث شعروا بالحاجة إلى الإضافة أضافوها ، وإن لم يجدوا ضرورة للتغيير أبقوها.

ولو كانت سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا دائما لأعطانا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا مكتوبا جاهزا ، وليس معنى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) أطيعوا سنة الرسول بعد وفاته ، لأن سنته لا تحمل في طياتها عنصر الديمومة والبقاء ،

__________________

(١) دراسات في الحديث النبوي ١ / ٣٣ عن مقام حديث : ٦٥ ـ ٦٦ والمنار م ٩ / ٥١٧.

(٢) ثبت ذلك عن الثلاثة ، أما الإمام علي عليه‌السلام فكان أصلب الناس في معارضة هذا الفهم الخاطئ.

١٥١

بل معنى (أطيعوا الرسول) : أطيعوا النظام الذي أرشد إليه القرآن والذي كان يمثله الرسول في حياته ، والذي يعني إقامة الخلافة على منهاج النبوة.

وبما أن هذا النظام قد استمر إلى عهد الخلفاء الراشدين ، ثم بعد مجئ الأمويين على مسرح السياسة اختلف الوضع ، وأصبح هناك حد فاصل بين الدين والسياسة ، ولم يفهم الناس معنى طاعة الرسول ، فاتجهوا إلى الأحاديث ، لأن الأحكام في القرآن قليلة ، وضرورات الحياة أكثر فأكثر ، وكان من واجبات الخلافة على منهاج النبوة أن تسد ضرورات المجتمع في القضايا المتجددة ، لكن عدم وجود الدولة بهذا المفهوم دفع الناس إلى الأخذ بالحديث ، وعند عدم كفاية المجموعة الحديثية ازداد الوضع أكثر فأكثر» (١).

وبهذا فقد عرفنا السير الطبيعي لمقولة : «بيننا وبينكم كتاب الله» و «حسبنا كتاب الله» و «لا تحدثوا عن رسول الله شيئا»! والأفكار المطروحة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرته من مضاعفات خطيرة على السنة الشريفة ، وعلى الباحث استكشاف حقائق أكثر في هذا السياق ، خصوصا عندما يقف عند النصوص وقفة تدبر وتفكر!

للبحث صلة ...

__________________

(١) دراسات في الحديث النبوي ١ / ٣٣ ـ ٣٤ عن مقام حديث : ٦٨ ـ ٧٠.

١٥٢

دور الشيخ الطوسي قدس‌سره

في علوم الشريعة الإسلامية

(٦)

السيد ثامر هاشم العميدي

دوره في الحديث الشريف وعلومه

ضرب الشيخ الطوسي قدس‌سره أمثلة كثيرة في كتابيه التهذيب والاستبصار على تحري الصحيح من الأخبار وترك ما سواه بقدر الإمكان ، وقد اتضح هذا من خلال بيانه لوجوه فساد الخبر التي لا يمكن معها الاحتجاج به في دين الله عزوجل ، وذلك كلما وجد الفرصة سانحة لهذا البيان وهو يسطر بقلمه الشريف أحاديث أهل بيت العصمة والطهارة عليهم‌السلام في أبواب كتابه الخالد تهذيب الأحكام.

وقد بينا سابقا الجزء الأعظم من وجوه فساد الخبر بنظر الشيخ الطوسي قدس‌سره ، وبرهنا على سلامة موقفه العلمي النزيه الواضح من الأحاديث الضعيفة ، والموضوعة ، والموقوفة ، والمضمرة ، والمضطربة ، والغريبة ، والمرسلة ، والمنقطعة ، والشاذة ، ومع أخبار رواة الفرق البائدة والمذاهب المنحرفة.

١٥٣

ولأجل اكتمال صورة تلك الوجوه التي تعرض لها الشيخ الطوسي في كتبه لا سيما التهذيب والاستبصار ، سنذكر ما تبقى منها ، مبتدئين بأهمها على الإطلاق نظرا لما تحمله من تساؤلات ، بل وإثارات من هنا وهناك ، ونظرا لأهميتها سنقف معها في تعريفها وحقيقتها وتاريخها وموقف الشيخ الطوسي منها ، وهي :

عاشرا : أخبار الغلاة والمتهمين بالغلو :

الغلو في اللغة مصدر الفعل غلا يغلو ، ومعناه ـ كما يقول الراغب ـ : تجاوز الحد (١).

وفي لسان العرب : «وغلا في الدين والأمر ، يغلو غلوا : جاوز حده» ونقل عن تهذيب اللغة قول بعضهم : «غلوت في الأمر .. إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت» (٢).

وفي المصباح : «وغلا في الدين غلوا ـ من باب قعد ـ تصلب وشدد حتى جاوز الحد» (٣).

كما عرفه الشيخ المفيد لغة بقوله : «الغلو في اللغة هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد ، قال الله تعالى : (يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) (٤) .. فنهى عن تجاوز الحد في المسيح عليه‌السلام ، وحذر عن الخروج عن القصد في القول ، وجعل ما ادعته

__________________

(١) المفردات ـ للراغب الأصبهاني ـ : ٦١٣ مادة «غلا».

(٢) لسان العرب ـ لابن منظور ـ ١٠ / ١١٢ ـ ١١٣ مادة «غلا».

(٣) المصباح المنير ـ للفيومي ـ ٢ / ٤٥٢ مادة «غلا».

(٤) سورة النساء ٤ : ١٧١.

١٥٤

النصارى فيه غلوا لتعديه الحد» (١).

وقال الطبرسي في تفسير الآية المتقدمة : «أصل الغلو مجاوزة الحد ، يقال : غلا في الدين يغلو غلوا ، أو غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب وتجاوزت لداتها ، تغلو غلوا وغلاء. قال الحرث بن خالد المخزومي :

حمصانة قلق موشحها

رؤد الشباب غلا بها عظم» (٢)

ويعلم مما تقدم سعة معنى الغلو في اللغة ، وأنه لا حصر له بتجاوز الحد في رفع المخلوق إلى مرتبة الخالق ، ولهذا قال العلامة الطباطبائي في معرض تفسير الآية الشريفة : «ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح عليه‌السلام أنه خطاب للنصارى ، وإنما خوطبوا بأهل الكتاب ـ وهو وصف مشترك ـ إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله وبينه في كتبه ، ومما بينه أن لا يقولوا عليه إلا الحق» (٣).

وأما في الاصطلاح فلم أجد للغلو تعريفا يجمع أشتات هذا المعنى ، وكل ما ذكر لا يعدو أكثر من الاعتقاد بتأليه المخلوق ورفعه فوق ما هو عليه ، وهو ليس بذاك لا سيما وإن في المأثور عن أهل البيت عليهم‌السلام وكذلك في أقوال بعض علماء العامة ما يؤكد سعة المعنى الاصطلاحي للغلو كما سيوافيك.

وعليه يمكن القول بأن الغلو هو ظاهرة أو موقف معين مبالغ فيه بلا دليل ، وقد يكون بحق فرد أو مجموعة ، أو قضايا أو أفكار أو مبادئ معينة.

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ـ للشيخ المفيد ـ : ٢٣٨.

(٢) مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٣ / ١٨١.

(٣) الميزان ـ للطباطبائي ـ ٥ / ١٤٩.

١٥٥

وقد نجد لهذا الكلام ما يؤيده ، فقد ذكر ابن حزم أن من طوائف الغلاة : الخوارج الذين غلو فقالوا : إن الصلاة ركعة واحدة بالغداة وركعة بالعشي فقط ، وكذلك عد من الغلاة من قال بنكاح المحارم ، أو من قال : إن سورة يوسف ليس من القرآن الكريم وكذلك من ذهب من طوائف المعتزلة إلى القول بتناسخ الأرواح ، أو من حكم بحلية شحم الخنزير ودماغه ، أو من قال : بأن من عرف الله حق معرفته سقطت عنه الأعمال والشرائع (١).

وقال الشهرستاني في الملل والنحل : «والغلاة هم الذين غلو في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية ، فربما شبهوا واحدا من الأئمة بالآلهة ، وربما شبهوا الإله بالخلق» (٢).

فانظر كيف عد تشبيه الخالق سبحانه بالمخلوق من الغلو ، ولم يحصره بتأليه المخلوق ، وعلى هذا فالغلاة لا حصر لهم بفئة أو طائفة معينة كما يحب إشاعته من لم يع حقيقة الغلو ولم يفهم معناه ، وإنما هم في الواقع ـ كما يقول الشيخ المفيد ـ : «قوم ملحدة وزنادقة يموهون بمظاهرة كل فرقة بدينهم» (٣).

ومن جملة ما تقدم يعلم بأن للغلو مصاديق جمة في الفكر والعقيدة ، ولا زال معظمها قائما إلى اليوم ، فالجبر ، والتشبيه والتجسيم ، والرؤية والحلول والنزول والاستواء كلها من الغلو ، لأنها من الاعتقادات التي تجاوزت الحد وخرجت عن القصد ، ونظيرها القول بعدالة الصحابة ، بل

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ـ لابن حزم الأندلسي ـ ٢ / ٢٤٦.

(٢) الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٢٨٨.

(٣) تصحيح الاعتقاد ـ للمفيد ـ : ٢٤٠.

١٥٦

لعل جملة من الصحابة يمكن تصنيفهم في دائرة الغلاة ، نظير من كان يحك المعوذتين من مصحفه ولا يرى أنهما من القرآن ، ونظير من زعم خلو المصحف من سورتي الحقد والخلع ، أو آية الشيخ والشيخة ، ونحو هذا مما تجاوزوا فيه الحد وخرجوا به عن القصد ..

ومما يقطع بهذا ما جاء على لسان الإمام الرضا عليه‌السلام بأن المشبهة والمجبرة إنما هم من الغلاة ، فقد أخرج الصدوق في التوحيد بسنده عن الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام : قال : «قلت له : يا بن رسول الله! الناس ينسبوننا إلى القول بالتشبيه والجبر لما روي من الأخبار في ذلك عن آبائك الأئمة عليهم‌السلام؟

فقال عليه‌السلام : يا بن خالد! ... إنهم لم يقولوا من ذلك شيئا وإنما روي عليهم ..

ثم قال عليه‌السلام : من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر مشرك ونحن منه براء في الدنيا والآخرة ، يا بن خالد! إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا ، ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا ، ومن وصلهم فقد قطعنا ومن قطعهم فقد وصلنا ، ومن جفاهم فقد برنا ومن برهم فقد جفانا ، ومن أكرمهم فقد أهاننا ومن أهانهم فقد أكرمنا ، ومن قبلهم فقد ردنا ومن ردهم فقد قبلنا ، ومن أحسن إليهم فقد أساء إلينا ومن أساء إليهم فقد أحسن إلينا ، ومن صدقهم فقد كذبنا ومن كذبهم فقد صدقنا ، ومن أعطاهم فقد حرمنا ومن حرمهم فقد أعطانا. يا بن خالد! من كان من شيعتنا فلا يتخذن منهم وليا ولا نصيرا» (١).

__________________

(١) التوحيد : ٣٦٣ ـ ٣٦٤ ح ١٢ باب نفي الجبر والتفويض.

١٥٧

وهذا المقدار الذي ذكرناه بشأن الغلو لا بد منه ، لكي يعلم ـ ونحن نبين موقف الشيخ الطوسي من أخبار الغلاة أو المتهمين بالغلو ـ أن نسبة الغلو إلى التشيع مع انقراض جميع فرق الغلاة المحسوبة على التشيع ظلما ، إنما هي نسبة لا تمت إلى الواقع بصلة نظرا لما في تراث التشيع الزاخر بتكفير الغلاة والبراءة منهم ولعنهم على رؤوس الأشهاد ، هذا في الوقت الذي نرى فيه احتلال رموز المجبرة والمشبهة وأمثالهم قمة الإطراء والتبجيل!!

وجدير بالذكر أن نسبة الغلو إلى جملة من رواة الشيعة لم تثبت ، لعدم وجود ما يدل ـ ولو بالدلالة الهامشية ـ على اعتقادهم بما لا يجوز في حق الأئمة عليهم‌السلام ، لوجود المخرج الصحيح لروياتهم ..

أما من أين جاءت إليهم تلك النسبة؟! فهذا يعود ـ كما نرى ـ إلى الظروف السياسية التي عاشها بعض رموز التشيع وقادتهم ممن كانت لهم الكلمة النافذة والجاه العريض ، كأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، الذي حاول أن يمنع رواية بعض فضائل أهل البيت عليهم‌السلام التي لا يستسيغ سماعها علماء العامة ، وكذلك من لم يع قدر أهل البيت عليهم‌السلام من الشيعة أنفسهم ، وهم من عرفوا بالمقصرين ، مع الإذن برواية ما عداها ، وذلك لضمان وحدة الموقف أولا ، وعدم نفور الطرف الآخر ثانيا ، والتمهيد بهذا إلى الدخول في معتركه الفكري والثقافي بغية إظهار التشيع بصورة تحتملها النفوس التي دأبت على إقصاء تراث أهل البيت عليهم‌السلام وتربت على عداء شيعتهم وتكذيبهم في كل أو جل ما يروونه. ونتيجة لهذا فقد اضطر الأشعري إلى ممارسة منهجه وتطبيقه بالقوة كما فعل مع البرقي وغيره! ولم يلبث الأمر هكذا حتى ظهر اتجاه عام ومنهج متشدد في التعامل

١٥٨

مع رواة ذلك النوع من الفضائل ، واعتمده جملة من العلماء البارزين من أمثال ابن الوليد ، وتلميذه الشيخ الصدوق ..

وقد أدى ذلك إلى بروز ظاهرة التضعيف بنسبة الغلو إلى جملة من الرواة ، كما نشاهده في نسبة الغلو على لسان (بعض أصحابنا) في تراجم بعض الرواة في رجال النجاشي وفهرست الشيخ مع إنهما لم يتبنيا تلك النسبة ، بل وصرحا في بعض التراجم بخلافها ، ولو لم يكن منشأ نسبة الغلو تلك هو التحديث بذلك النوع من الفضائل لما توقف الشيخ ولا النجاشي في ذلك ، ولما أظهرا أية معارضة لتلك النسبة.

نعم ، تأثر كبار فقهاء ومحدثي الشيعة الإمامية بدعوة الأشعري ومنهجه كمحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد وتلميذه الشيخ الصدوق ، وتجنب بعض الفقهاء والرواة والمحدثين المعاصرين للأشعري الصدام مع مدرسته ومسايرتها بعدم رواية كل ما يرونه صحيحا ، من أمثال الفقيه الجليل والمحدث الشهير محمد بن الحسن الصفار ، الذي تجنب في بصائر الدرجات ـ وهو كتاب ألف في قم في أواخر أيام الأشعري رحمه الله ـ مطلق الرواية عن سهل بن زياد مداراة منه للجو العام حينئذ ، مع أن سهلا من مشايخ الصفار بلا خلاف ، وقد روى عنه عدة روايات في التهذيب والفقيه والتوحيد وغيرها من الكتب كما تتبعناه ، بل عد الصفار من جملة رجال عدة الكافي الذين يروي الكليني بتوسطهم عن سهل بن زياد ، والتي بلغت مواردها في الكافي أكثر من ١٠٠٠ مورد ، ومع هذا فقد تحاشى الصفار الرواية عن سهل في بصائر الدرجات ، لما في موضوع كتابه من حساسية شديدة يومذاك.

ومن يدري؟! فلعله أراد بذلك درء شبهة الغلو عن نفسه وكتابه

١٥٩

بتجنبه سهلا ، لا سيما وهو يرى شيخه البرقي يخرج عنوة من قم!

والذي أراه شخصيا أن الصفار كان معتقدا بوثاقة سهل بن زياد وجازما بصدقه وعدالته ، بدليل أنه ـ وبعد انتقال الأشعري إلى رحمة الله ـ سارع للتحديث عن سهل بالروايات (الممنوعة) ليلقيها على مسامع أقطاب الحديث من تلامذته كالكليني رضوان الله تعالى عليه ، الذي يقول عنه النجاشي : «شيخ أصحابنا في وقته بالرأي ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم» (١).

وعلى أية حال فإن ما ذكرناه لا يعني القول بإنكار وجود الغلاة ولا إنكار وجود رواياتهم أيضا ، بقدر ما يعني التريث بشأن تهمة الغلو والتحقيق في منشأها وأسبابها ومصدرها ، فإن لم تثبت بحق بعضهم فلا معنى للتساؤل عن سر وجود مروياتهم في كتبنا.

وإن ثبتت بحق بعض آخر ، فكيف يعقل اعتماد الثقة الجليل على خبر الغلاة بعد انحرافهم وإيداعه في كتابه ، وهو بنفسه يرى ضرورة تكذيبهم ولعنهم والبراءة منهم اقتداء بما تواتر عن أهل البيت عليهم‌السلام بلعنهم ، والبراءة منهم ، وإهانتهم؟! وقد تقدم في حديث الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه‌السلام ما هو صريح بذلك ..

هذا فضلا عن إيعاز أهل البيت عليهم‌السلام لشيعتهم بالفتك بالغلاة وتصفيتهم جسديا مع التمكن ، وقد استطاع بعضهم ذلك فعلا ، إذ تمكن أحد أصحاب الإمام العسكري عليه‌السلام من الفتك بفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني فقتله بسامراء بعد أن اتضح غلوه ولعنه على لسان الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) رجال النجاشي : ٣٧٧ رقم ١٠٢٦.

١٦٠