تراثنا ـ العددان [ 38 و 39 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 38 و 39 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٧٨

الواقعي الذي شهده تاريخ الإسلام ومضى عليه التدوين.

تلك حقيقة وقف عليها الكثير من الدارسين والمحققين ، ولم تعد من الأمور الغامضة التي قد تثير حفائظ المتمسكين بكل ما ينسب إلى التراث.

لقد أدرك الجميع حقيقة أن معظم المؤرخين الذين صاغوا هذا التاريخ هم من الموالين للسلطات سياسيا ، في عهود تأجج فيها النزاع السياسي وازدادت حدته حتى امتد إلى كل ميادين الحياة ، فكان أقل ما يفعله المؤرخون هو تبرير أعمال الخلفاء والأمراء ، أيا كانوا ، ومهما كانت أعمالهم ، والكف عن ذكر ما يزعجهم من حقائق التاريخ ، وما لا يأذنوا بكتابته!

كما أن معظم التواريخ كانوا أيضا موالين للسلطات مذهبيا ، في عهود كان فيها النزاع المذهبي على أشده (وقد صار كل الفرق يحكي الشر عن مخالفيه ويكتم الخير ، ويروي الكذب والبهتان ، وينتحل الأحاديث النبوية والمأثورات عن السلف خدمة لأغراض المتخاصمين)!.

ووجد المتدينون والفقهاء في هذا التاريخ مادة دسمة في الانتصار لأوليائهم في السياسة والمذهب.

بل الغريب أن يكون الفقهاء أشد تطرفا من المؤرخين في ما يمس (عدالة) أوليائهم من (الخلفاء)! وهذا ظاهر جدا في كتابات ابن حزم وابن تيمية.

تلك الحقائق هي التي جمعت الدارسين والمنصفين من أهل التحقيق والنظر على قول واحد مفاده :

إن معلوماتنا عن التاريخ بحاجة إلى مراجعة جادة ودراسة في ضوء رؤية شمولية للتاريخ الإسلامي ..

رؤية تحيط بجوهر رسالة الإسلام ..

رؤية تكون فيها الشريعة الإسلامية بمصدريها الأساسيين ـ القرآن والسنة ـ هي المعيار الذي تقوم على أساسه الأطراف المتنازعة والفئات

٦١

المختلفة.

وهذا هو الذي أردناه في هذا البحث ..

* فالقرآن والسنة هما المصدران المعصومان اللذان يحكمان على كل ما عداهما ، ولا شئ يحكم عليهما.

* وإن القرآن والسنة يعكسان الصورة التامة لمسار الإسلام ، في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده.

* وأما الواقع الذي صنعه المسلمون بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم فهو من صنع المسلمين أنفسهم ، وهو خاضع لميزان القرآن والسنة ، فما كان منه موافقا لهما فهو من الإسلام ومن مساره الشرعي الذي لا شك فيه ، وما كان منه مخالفا لهما فهو مسار آخر أولى أن ينسب إلى أصحابه.

كما ظهر هنا جليا نوعان من الموازين خضعت لهما أكثر الدراسات في التاريخ والعقيدة ، وهما :

* ميزان منح أصول المذهب سمة العصمة ، فجعل نصوص القرآن والسنة وحقائق التاريخ كلها خاضعة له ، فما وافق المذهب فهو الحق عنده ، وما خالف المذهب أعمل فيه التأويل ولو إلى حد التعطيل وخصوصا مع آيات الكتاب الكريم ، وما لا يمكن تأويله من السنة والحقائق التاريخية أنكرها بالمرة وكذب بها!

* وميزان منح السياسة النافذة والأمر الواقع في مرحلة ما سمة العصمة ، وجعلها هي الحاكمة على النصوص القرآن والسنة ، فلا يقبل إلا ما وافقها ، وأما ما خالفها فمصيره إما إلى التأويل الذي يبلغ أحيانا منزلة النسخ والتعطيل ، وإما إلى التكذيب والانكار الذي ينال الكثير من السنة النبوية والوقائع التاريخية.

وما توفيقي إلا بالله.

٦٢

حديث تأثير السحر في سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

في ميزان النقد

السيد حسن الحسيني

آل المجدد الشيرازي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا طيبا مباركا كثيرا في الأولى والآخرة ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد المحفوظ من كيد السحرة ، وعلى آله الطيبين الطاهرين البررة ، وصفوة صحبه المصطفين الخيرة.

وبعد ، فهذه رسالة موسومة ب (القول الفائق في نفي تأثير السحر في خير الخلائق) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بينت فيها اختلاف جمهور الفريقين في تأثره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسحر الذي عمله لبيد بن الأعصم اليهودي ـ كما جاء في بعض الأحاديث وذكره جماعة من المفسرين في سبب نزول المعوذتين ـ وضمنتها حجج الطائفتين على مذهبهم ليكون اختيار الحق عن بينة ، والله تعالى ولي الهداية والتوفيق.

فنقول : اعلم أنهم اختلفوا في أن السحر هل له حقيقة أم لا ، وقد أطالوا الكلام في هذا الشأن ، ونحن نضرب عن ذلك صفحا ، ونطوي عنه كشحا ، روما للاختصار.

ويترتب على الثاني عدم بقاء مجال للبحث ، إلا أن الأول وإن كان هو

٦٣

الأقرب بيد أن تأثير السحر في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ثابت ، بل لا يصح البتة ، كما سيظهر لك ذلك إن شاء الله تعالى.

٦٤

فصل

إذا تقرر هذا فاعلم : أن مما اعتل به من أجاز تأثير السحر فيه صلى الله عليه وآله وسلم ما روي من أنه عليه وآله الصلاة والسلام سحره لبيد بن أعصم اليهودي ، وقد ورد ذلك من طرق الفريقين ، ونحن نورد في هذه العجالة ما وقفنا عليه من تلك المرويات ، ونتكلم فيه بما يفتح الله به علينا ويرشدنا إليه ، وهو المستعان في الأمور كلها ، لا إله غيره ولا رب سواه.

أخرج فرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره (١) عن عبد الرحمن بن محمد العلوي ومحمد بن عمرو الخزاز ، عن إبراهيم بن محمد بن ميمون ، عن عيسى ابن محمد ، عن جده ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : سحر لبيد بن أعصم اليهودي وأم عبد الله اليهودية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقد من قز أحمر وأخضر وأصفر ، فعقدوا له إحدى عشرة عقدة ، ثم جعلوه في جف من طلع (٢) ، ثم أدخلوه في بئر بواد بالمدينة في مراقي البئر تحت راعوفة (٣) فأقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا لا يأكل ولا يشرب ولا يسمع ولا يبصر ولا يأتي النساء.

فنزل عليه جبرئيل ونزل بالمعوذات فقال له : يا محمد ما شأنك؟ قال : ما أدري ، أنا بالحال التي ترى ، قال : فإن أم عبد الله ولبيد بن أعصم سحراك ، وأخبره بالسحر وحيث هو.

ثم قرأ جبرئيل : (بسم الله الرحمن الرحيم * قل أعوذ برب الفلق) ،

__________________

(١) تفسير فرات الكوفي : ٦١٩ ح ٧٧٤.

(٢) جف الطلعة وعاؤها الذي يكون فيه ، والجمع الجفوف ، والطلع من النخل شئ يخرج كأنه نعلان مطبقات والحمل بينهما منضود والطرف محدد.

(٣) راعوفة البئر صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتفرت تكون هناك ليجلس المستقي عليها حين

٦٥

فقال رسول الله ذاك فانحلت عقدة ، ثم لم يزل يقرأ آية ويقرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنحل عقدة ، حتى قرأها عليه إحدى عشرة آية وانحلت إحدى عشرة عقدة ، وجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره بما أخبره جبرئيل وقال : انطلق فأتني بالسحر ، فخرج علي عليه السلام فجاء به ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقض ، ثم تفل عليه ، الحديث.

وإسناد هذا الخبر مما لا تقوم به حجة ، فإن عبد الرحمن بن محمد العلوي مجهول لا يعرف حاله ، ولم يتعرض أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ لترجمته ، وكذا صاحبه محمد بن عمرو الخزاز ، فإن حاله مجهول (٤) ، وإنما ذكر النجاشي (٥) في ترجمة أبيه عمرو بن عثمان الثقفي الخزاز أن له ابنا اسمه محمد روى عنه ابن عقدة.

ونحوهما عيسى بن محمد وجده ، إذ لم يترجما في كتب الأصحاب رحمهم‌الله تعالى.

وأما إبراهيم بن محمد بن ميمون ، فقد حكي عن (ميزان الاعتدال) (٦) للحافظ الذهبي أنه من أجلاء الشيعة ، ولذلك عدة المامقاني في الحسان (٧).

وأخرج ابنا بسطام في كتاب (طب الأئمة عليهم‌السلام) (٨) عن محمد ابن جعفر البرسي ، قال : حدثنا أحمد بن يحيى الأرمني ، قال : حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا محمد بن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إن جبرئيل عليه‌السلام أتى النبي

__________________

التنقية.

(٤) تنقيح المقال ٣ / ١٦٤.

(٥) رجال النجاشي : ٢٨٧ رقم ٧٦٦.

(٦) ميزان الاعتدال ١ / ٦٣ رقم ٢٠٣.

(٧) تنقيح المقال ١ / ٢٣.

(٨) طب الأئمة : ١١٣.

٦٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا محمد ، قال : لبيك يا جبرئيل ، قال : إن فلانا اليهودي سحرك وجعل السحر في بئر بني فلان ، فابعث إليه ـ يعني إلى البئر ـ أوثق الناس عندك وأعظمهم في عينك ـ وهو عديل نفسك ـ حتى يأتيك بالسحر.

قال : فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام وقال : انطلق إلى بئر ذروان (٩) فإن فيها سحرا سحرني به لبيد بن أعصم اليهودي فأتني به.

قال علي عليه‌السلام : فانطلقت في حاجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهبطت فإذا ماء البئر قد صار كأنه ماء الحياض من السحر ـ إلى أن قال ـ فاستخرجت حقا (١٠) فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : افتحه ، ففتحته فإذا في الحق قطعة كرب النخل في جوفه وتر (١١) عليها إحدى عشرة عقدة ، وكان جبرئيل عليه‌السلام أنزل يومئذ المعوذتين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، اقرأها على الوتر.

فجعل أمير المؤمنين عليه‌السلام كلما قرا آية انحلت عقدة حتى فرغ منها ، وكشف الله عزوجل عن نبيه ما سحره به وعافاه.

وهذا الخبر غير نقي الإسناد أيضا ، إذ فيه البرسي والأصحاب ـ رحمهم الله ـ لم يحوموا حوله ، ولا تصدوا لذكره في كتبهم ، فلم يتبين لنا حاله ، ومثله أحمد بن يحيى الأرمني.

وأما محمد بن المفضل بن عمر ، فقد عده الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وسائر

__________________

(٩) ذروان ـ بفتح المعجمة وسكون الراء ـ : بئر في بني زريق ، وهم بطن من الأنصار مشهور من الخزرج.

(١٠) أي وعاء من خشب أو عاج أو غيرهما مما يصلح أن ينحت منه.

(١١) ا لوتر : شرعة القوس ومعلقها.

٦٧

أرباب الرجال من أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام (١٢) ، فالظاهر أن روايته عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام مرسلة ، ومع ذلك لا يعرف له حال.

بقي الكلام على محمد بن سنان أبي جعفر الزاهري الخزاعي ، وقد اختلفت كلمتهم فيه ، والمشهور بين الفقهاء وعلماء الرجال تضعيفه ـ كما نص عليه في التنقيح (١٣) ـ ونقل عن جماعة من الأكابر الطعن فيه والحط عليه.

فقد صرح الشيخ أبو جعفر الطوسي ـ رحمه‌الله ـ بضعفه في الرجال والفهرست ، وقال في (التهذيب) : محمد بن سنان مطعون عليه ضعيف جدا ، وما يستبد بروايته ولا يشركه فيه غيره لا يعتمد عليه ، ونحوه كلامه في (الاستبصار).

وقال أيضا ـ في أواخر باب الميم من رجاله ـ : مياح المدائني ضعيف جدا ، له كتاب يعرف ب : رسالة مياح ، وطريقها أضعف منها وهو محمد بن سنان.

وقال ابن الغضائري ـ رحمه‌الله ـ بترجمته : ضعيف ، غال ، يضع ، لا يلتفت إليه.

وقال المفيد رحمه‌الله ـ في رسالته التي في كمال شهر رمضان ونقصانه ، بعد نقل رواية دالة على أن شهر رمضان لا ينقص أبدا ـ : وهذا حديث شاذ نادر غير معتمد عليه ، في طريقه محمد بن سنان وهو مطعون فيه ، لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه ، ومن كان هذا سبيله لا يعتمد عليه في الدين. انتهى.

وقد قدح فيه أيضا في كلام آخر.

وتوقف العلامة ابن المطهر ـ رحمه‌الله ـ فيه ، كما هو نص خلاصته.

ونسب التضعيف إلى جماعة آخرين ، منهم أبو محمد الفضل بن شاذان

__________________

(١٢) رجال الطوسي : ٣٦١ رقم ٣٢.

(١٣) تنقيح المقال ٣ / ١٢٤.

٦٨

وأيوب بن نوح وصفوان بن يحيى.

قال أبو عمرو الكشي في رجاله : قال أبو الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري : قال أبو محمد الفضل بن شاذان : لا أحل لكم أن ترووا أحاديث محمد بن سنان.

وقال أيضا : قال حمدويه : كتبت أحاديث محمد بن سنان عن أيوب بن نوح وقال : لا أستحل أن أروي أحاديث ابن سنان.

وقال أيضا : ذكر حمدويه بن نصير أن أيوب بن نوح دفع إليه دفترا فيه أحاديث محمد بن سنان فقال لنا : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا ، فإني كتبت عن محمد بن سنان ولكني لا أروي لكم أنا عنه شيئا ، فإنه قال عند موته : كل ما حدثتكم به لم يكن لي سماع ولا رواية وإنما وجدته. انتهى.

وقال ابن داود : روي عنه ـ يعني محمد بن سنان ـ أنه قال عند موته : لا ترووا عني مما حدثت شيئا ، فإنما هي كتب اشتريتها في السوق.

وممن ضعفه من أجلة أهل العلم الشيخ الإمام المحقق نجم الدين ابن سعيد في مواضع من المعتبر ، والعلامة ابن المطهر في موضع من المختلف ، والآبي في كشف الرموز ، والشهيد الثاني في المسالك ، والمحقق الأردبيلي ، وتلميذه صاحب المدارك ، وصاحب الذخيرة ، وحكي ذلك أيضا عن المعتصم والمنتقى ومشرق الشمسين ، والحبل المتين ، وحاشية المولى صالح ، والتنقيح ، والفخري في مرتب مشيخة الصدوق ، والذكرى ، والروضة ، وغيرها.

فالحزم اجتناب أحاديثه لا سيما في المسائل الأصولية ـ كالتي نحن فيها ـ ، وإن احتجوا ببعضها في الفروع فإنما ذلك لوجود متابعة ، أو قيام شاهد ، أو تحقق انجبار الضعف بعمل الأصحاب ، أو لأجل الاستناد إلى قاعدة التسامح في أدلة السنن والكراهة في مواردها عند الذاهب إلى حجيتها وتماميتها ، وغير ذلك.

وإن أبيت إلا القول بوثاقته ـ استنادا إلى ذب صاحب التنقيح عنه ـ فإن

٦٩

الآفة لا ترتفع من الحديث أيضا ، لجهالة سائر رجال السند ـ كما عرفت آنفا ـ.

ولا يخفى عليك أن أكثر ما ذكره المامقاني ـ رحمه‌الله ـ في الذب عنه وأجاب به عن المطاعن والقوادح التي رمي بها لا تأبى المؤاخذة والايراد.

هذا ، مع أن الجرح هنا مفسر فيقدم على المدح والتوثيق على مقتضى القاعدة المقررة في محلها.

فإن قلت : سلمنا ، إلا أن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ قد علق في التهذيب والاستبصار ، وكذا النجاشي ـ رحمه‌الله ـ في رجاله عدم الاعتماد على روايته على ما استبد بروايته ولم يشركه فيه غيره ـ كما مر آنفا ـ وهذا الحديث ليس كذلك ، إذ قد روي من وجوه أخر.

قلت : مضافا إلى أن الأكثر أطلقوا القول بتضعيفه ولم يقيدوه بذلك ـ ومنهم الشيخ رحمه‌الله في كتابيه الرجال والفهرست ـ فإن جميع الأخبار المروية في هذا الباب مرمية بالضعف والشذوذ ، ورطل منها لا يقام له وزن ولا يسوي دانقا ، ورواتها بين مجهول ووضاع.

وبالجملة : فليس في المقام ما يوجب الركون ويورث السكون إلى هذا الحديث وأضرابه ، بل الصارف عنه وعن أمثاله قوي ، ولو سلمنا فغاية ما تفيده الأحاديث الواردة في هذا الشأن الظن ، وظاهر أنه لا يكتفى به فيما نحن فيه ، بل لا بد من القطع واليقين والعلم الذي لا يعتريه شك ولا ريب ، فتنبه.

هذا كله من جهة الإسناد ، وأما متنه فلا يخلو من نكارة ، فإن ظاهر ما ورد فيه من أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى فرغ من المعوذتين ، أنه بإتمام قراءتهما انحلت العقد الإحدى عشرة بأجمعها ، وهذا لا يتم إلا على القول بأن المعوذتين إحدى عشرة آية ، وهو مذهب أهل الخلاف ، وأما على مذهب أهل الحق فلا يستقيم ذلك ، لإجماعهم على أن البسملة آية ، اللهم إلا أن يقال : إن المراد أصل المعوذتين دون بسملتيهما ، ودونه خرط القتاد.

٧٠

مضافا إلى أن بين الخبرين المتقدمين تهافتا بينا ، ففي الأول أن جبرئيل عليه‌السلام هو الذي تولى قراءة المعوذتين ، وفي هذا أن عليا عليه‌السلام هو الذي قرأهما ، وعليك بالتأمل والتروي فيما روي في هذا الباب علك تهتدي إلى علل أخرى ، والله المستعان.

وفي كتاب طب الأئمة عليهم‌السلام أيضا (١٤) عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ من حديث ـ قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحره لبيد بن أعصم اليهودي ، فقال أبو بصير لأبي عبد الله عليه‌السلام : وما كاد أو عسى أن يبلغ من سحره؟ قال أبو عبد الله الصادق عليه‌السلام : بلى ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى أنه يجامع وليس يجامع ، وكان يريد الباب ولا يبصره حتى يلمسه بيده ، والسحر حق ، وما يسلط السحر إلا على العين والفرج ـ الحديث ـ.

ومع غض الطرف عن إرساله ، أفليس ـ يا أولي الألباب ـ أن من يرى أنه يفعل الشئ ولا يفعله قد بلغ السحر منه مبلغا عظيما وأخذ بروحه بحيث يتخيل ذلك؟! وحاشا أشرف الخلائق وأكملهم على الإطلاق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا التخبيط والتخليط.

وفي كتاب (دعائم الإسلام) (١٥) عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن علي عليه‌السلام : أن لبيد بن أعصم وأم عبد الله اليهوديين لما سحرا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلا السحر في مراقي بئر بالمدينة ، فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ولا يتكلم ولا يأكل ولا يشرب ، فنزل عليه جبرئيل ، بمعوذات ـ الحديث ـ.

وهذا خبر آحاد مرسل لا يحتج بمثله في هذه المقامات ، على أن هذا

__________________

(١٤) طب الأئمة : ١١٤.

(١٥) دعائم الإسلام ١ / ١٣٨ ح ٤٨٧.

٧١

اللفظ يدفع الذي قبله من حيث عدم تسلط السحر إلا على العين والفرج فحسب ، فإنه مشعر ، بل صريح في تأثيره في عقله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صار لا يفهم ـ والعياذ بالله ـ ما دام مسحورا ، وهذا من أشنع الأقوال وأفسد الآراء عند أولي البصائر والحجى ، بل صريح الخبر أن السحر أثر في سمعه وبصره وكلامه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، فأقام لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم ، وكذلك لا يأكل ولا يشرب ، وهذا كله من أبين الأباطيل وأوضح الأضاليل ، إذ كيف يصلح من جاز عليه مثل ذلك ـ من تعطيل الحواس واختلالها ـ لمنصب عظيم ومقام جسيم كالنبوة والرسالة والتبليغ عن الله تعالى شأنه وعز سلطانه.

وليعلم أن هذه المرويات وأضرابها لا تنفق في سوق الاعتقاد السديد وإن عزيت إلى الأئمة الهادين سلام الله تعالى عليهم أجمعين ، ولا يعول عليها ذو مسكة ، ولا يحتفل بشئ منها ذو لب ودين ، لمعارضتها لصريح الكتاب العزيز وبداهة العقل.

وعلى تقدير ثبوتها ، فإنها محمولة على التقية بلا ريب ، لموافقتها لأحاديث مخالفينا واعتقادهم ، وهذا أحسن ما يقال فيها على ذلك التقدير.

ومن القواعد المقررة عندهم أن المسائل الأصولية لا بد فيها من برهان قاطع ودليل جازم ، فلا يجوز التعويل على الظنون في ذلك.

قال الإمام العلامة جمال الدين ابن المطهر ـ رحمه‌الله تعالى ـ في (مبادئ الأصول) (١٦) : خبر الواحد إذا اقتضى علما ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده ، لأنه اقتضى التكليف بالعلم ولا يفيده فيلزم تكليف ما لا يطاق. انتهى.

وبالجملة : فقد قرروا أن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من

__________________

(١٦) مبادئ الوصول : ٢٠٩.

٧٢

الكتاب والسنة والمتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه ، وحديث الباب منه إن لم يحمل على التقية ، فافهم.

وقال شيخ الإسلام المجلسي رحمه‌الله في (بحار الأنوار) (١٧) ـ عقب إيراده أحاديث سحره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : والأخبار الواردة في ذلك أكثرها عامية أو ضعيفة ، ومعارضة بمثلها فيشكل التعويل عليها في إثبات مثل ذلك. انتهى.

ولقد أجاد فيما أفاد ، رحمه‌الله تعالى ورضي عنه وأرضاه.

وقال أيضا ـ من جملة كلام الله ـ : وأما تأثير السحر في النبي والإمام صلوات الله عليهما فالظاهر عدم وقوعه. انتهى.

وكلامه هذا ظاهر في عدم اعتباره ـ رحمه‌الله ـ تلك الأخبار الدالة بظاهرها على التأثير ، وناهيك به طعنا فيها من هذا الإمام الخريت في الحديث وعلومه ، والله الموفق والمعين.

* * *

__________________

(١٧) بحار الأنوار ٦٣ / ٤١.

٧٣

فصل

وأما ما روي في ذلك من طرق مخالفينا فكثير ، نقتصر على إيراد نبذة منه في هذا الإملاء المختصر ، فنقول :

أخرج ابن أبي شيبة في (المصنف) (١٨) قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن يزيد بن حيان ، عن زيد بن أرقم ، قال : سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما ، قال : فأتاه جبريل فقال : إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عقدا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا فاستخرجها ، فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأنما نشط من عقال ، فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه أحد.

وأخرجه ابن سعد ، والنسائي في سننه (١٩) والحاكم وصححه ، وعبد بن حميد في مسنده ـ كما في الدر المنثور (٢٠) ـ.

وفي إسناده : محمد بن خازم التميمي السعدي مولاهم أبو معاوية الضرير الكوفي.

قال يعقوب بن شيبة وابن سعد : يدلس (٢١) ، وفي (هدي الساري) (٢٢) : ربما دلس.

وقد ذكروا أن المدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع ، وهو

__________________

(١٨) المصنف ٨ / ٢٩ ح ٣٥٦٩ ، تفسير سورة الكافرون والمعوذتين : ٤٦ ـ ٤٧.

(١٩) سنن النسائي ٧ / ١١٣.

(٢٠) الدر المنثور ٦ / ٤١٧.

(٢١) تهذيب التهذيب ٥ / ٩١.

(٢٢) هدي الساري : ٤٦٠.

٧٤

هنا عنعن فلا يحتج بحديثه ، وكذلك الأعمش ، على ما سيأتي إن شاء الله ـ.

وقال ابن حبان وغيره : كان مرجئا خبيثا ـ كما بترجمته في تهذيب التهذيب (٢٣) ـ. وقال ابن حبان أيضا : ربما أخطأ (٢٤).

وفيه : سليمان بن مهران الأعمش الكاهلي الأسدي ، وقد رمي بالتدليس.

قال الحافظ في (التقريب) : يدلس.

وعدة النسائي من المدلسين ـ كما في الخلاصة ، للخزرجي ـ.

وقال أبو حاتم : الأعمش حافظ يخلط أو يدلس. تهذيب التهذيب ٥ / ٥٤٥.

وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سئل يحيى بن معين عن الرجل يلقي الرجل الضعيف بين ثقتين ، ويصل الحديث ثقة عن ثقة ، ويقول : أنقص من الإسناد وأصل ثقة عن ثقة ، قال : لا تفعل لعل الحديث عن كذاب ليس بشئ ، فإذا أحسنه فإذا هو أفسده ، ولكن يحدث بما روى.

قال عثمان : كان الأعمش ربما فعل هذا. انتهى (٢٥).

وعده الحافظ العراقي أيضا من المدلسين فقال ـ في ألفية الحديث ـ : وفي الصحيح عدة كالأعمش ـ وكهشيم بعده وفتش وقال البقاعي : سألت شيخنا هل تدليس التسوية جرح؟ فقال : لا شك أنه جرح ، فإنه خيانة لمن ينقل إليهم وغرور. انتهى.

ولعظم ضرره قال شعبة بن الحجاج ـ فيما رواه الشافعي عنه (٢٦) ـ : التدليس أخو الكذب ، وقال أيضا : لئن أزني أحب إلي من أن أدلس. انتهى.

وقال الحافظ السيوطي ـ في مبحث تدليس التسوية من كتابه (تدريب

__________________

(٢٣) تهذيب التهذيب ٥ / ٩١.

(٢٤) هدي الساري : ٤٦١.

(٢٥) لسان الميزان ١ / ١٢.

(٢٦) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث : ٨٢.

٧٥

الراوي) (٢٧) ـ :

قال الخطيب : وكان الأعمش وسفيان الثوري يفعلون مثل هذا.

وقال العلائي : فهذا أفحش أنواع التدليس مطلقا وشرها.

وقال العراقي : هو قادح فيمن تعمد فعله.

وقال شيخ الإسلام : لا شك أنه جرح وإن وصف به الثوري والأعمش فلا اعتذار. انتهى.

وأخرج البخاري في صحيحه (٢٨) قال : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا عيسى بن يونس ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : سحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم ، حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشئ وما فعله ، حتى كان ذات يوم ـ أو ذات ليلة ـ وهو عندي ، لكنه دعا ودعا ثم قال : يا عائشة ، أشعرت أن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل؟ فقال : مطبوب ، قال : من طبه؟ قال : لبيد بن الأعصم ، قال : في أي شئ؟ قال : في مشط ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر ، قال : وأين هو؟ قال : في بئر ذروان ، فأتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس من أصحابه فجاء فقال : يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشيطان ، قلت : يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال : قد عافاني الله ، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا ، فأمر بها فدفنت.

وأخرج نحوه في باب السحر من كتاب الطب عن أبي أسامة عن هشام.

وأخرجه مسلم أيضا في باب السحر من كتاب الطب والمرض والرقى من

__________________

(٢٧) تدريب الراوي ١ / ٢٢٦.

(٢٨) كتاب الطب ـ باب السحر وقول الله تعالى : (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) ـ كتاب الدعوات ـ باب تكرير الدعاء.

٧٦

صحيحه باختلاف يسير في اللفظ.

وأخرج البخاري أيضا أيضا في صحيحه (٢٩) قال : حدثني عبد الله بن محمد ، قال : سمعت ابن عيينة يقول : أول من حدثنا به ابن جريج يقول : حدثني آل عروة عن عروة ، فسألت هشاما عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن فقال : يا عائشة ، أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه؟ قال : لبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا ، قال : وفيم؟ قال : في مشط ومشاطة ، قال : وأين؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان.

قالت : فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البئر حتى استخرجه ، فقال : هذه البئر التي أريتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رؤوس الشياطين ، قال : فاستخرج ، قالت : فقلت : أفلا ـ أي تنشرت ـ؟ فقال : أما والله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا. انتهى.

وفي إسناده : عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج.

قال المخراقي عن مالك : كان ابن جريج حاطب ليل.

وقال الدارقطني : تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس ، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح ، مثل إبراهيم بن أبي يحيى وموسى بن عبيدة وغيرهما ، وأما ابن عيينة فكان يدلس عن الثقات ـ كما في تهذيب التهذيب (٣٠) ـ.

هذا ، وقد عرفت أن حديث الباب في الصحيحين يدور على هشام بن

__________________

(٢٩) كتاب الطب ـ باب هل يستخرج السحر؟ ـ كتاب الأدب ، باب قول الله تعالى : (إن الله يأمر بالعدل والاحسان) الآية.

(٣٠) تهذيب التهذيب ٣ / ٥٠٢ ـ ٥٠٣.

٧٧

عروة عن أبيه عن عائشة ، وقد حكى شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) (٣١) و (هدي الساري) (٣٢) عن يعقوب بن شيبة ، أنه قال : كان تساهله ـ يعني هشاما ـ أنه أرسل عن أبيه ما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه.

قال ابن حجر : هذا هو التدليس ، وأما قول ابن خراش : كان مالك لا يرضاه ، فقد حكي عن مالك أشد من هذا. انتهى.

قلت : هو ما حكاه الخطيب في (تاريخ بغداد) (٣٣) والحافظ الذهبي في (الكاشف) عن الإمام مالك ، أنه قال : هشام بن عروة كذاب.

فأي وزن يقام بعد هذا لقول ابن القيم : إن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه (٣٤)؟!

وقال الحافظ في (تقريب التهذيب) : ربما دلس ، وقد عرفت ـ فيما تقدم ـ أن المدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع ، وهنا ليس كذلك ، وإن وقع في الصحيحين فليس بشئ ولا كرامة.

ويعجبني كلام الشيخ العلامة محيي الدين بن أبي الوفاء القرشي في هذا المضمار حيث قال : اعلم أن (عن) مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث ، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شئ كثير ، فيقولون على سبيل التجوز : ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع ، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال. انتهى (٣٥).

وأيضا : فقد ثبت في جملة من أحاديث الباب أنه عليه وآله الصلاة والسلام أرسل عليا عليه‌السلام إلى البئر فاستخرج السحر ، وكان جبريل قد

__________________

(٣١) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٥.

(٣٢) هدي الساري : ٤٧١.

(٣٣) تاريخ بغداد ١ / ٢٢٣.

(٣٤) تفسير سورة الكافرون والمعوذتين : ٤٦.

(٣٥) الجواهر المضية في طبقات الحنفية ٢ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩.

٧٨

نزل بالمعوذتين ، فكلما قرئت آية انحلت عقدة حتى قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنما أنشط من عقال ، وهو يدل بظاهره على عدم إتيانه عليه وآله الصلاة والسلام البئر ، إذ لو أتاها في جماعة من أصحابه لكان مظنة لثوران الشر على الناس ووقوع الفتنة بين المسلمين واليهود ، لا أن ذلك لأجل أن لا يطلعوا على ما سحر به صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله فيتعلمه من أراد استعمال السحر.

كيف وقد ثبت في بعض الأحاديث أن السحر حلت عقده ونقض بمحضره الشريف؟! وفي بعضها إشعار باستكشاف ما كان داخل الجف وأنه وجد في الطلعة تمثال من شمع ، تمثال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا فيه إبر مغروزة ، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة (٣٦).

هذا ، وما في (فتح الباري) (٣٧) من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجههم أولا إلى البئر ثم توجه فشاهدها بنفسه ، مدفوع بأن الثابت في أحاديث الباب أن عقد السحر انحلت بقراءة المعوذتين بعد ما أتوا به إليه صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما تقدم ـ فلم يبق في البئر شئ من السحر حتى يتوجه عليه وآله الصلاة والسلام لمشاهدته ، فتنبه.

وأيضا : إن قول عائشة (أفلا استخرجته) وجوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم إياها بحصول المعافاة يعارضه ما وقع في حديثها الآخر من استخراجه ، وكذا ما رووه في حديث ابن عباس (٣٨) من أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى علي وآخر فأمرهما أن يأتيا البئر.

وفي مرسل عمر بن الحكم ـ عند ابن سعد ـ : فدعا جبير بن إياس الزرقي فدله على موضع في بئر ذروان فاستخرجه.

__________________

(٣٦) فتح الباري ١٠ / ٢٤١.

(٣٧) فتح الباري ١٠ / ٢٤١.

(٣٨) عند ابن سعد كما في فتح الباري ١٠ / ٢٤٠.

٧٩

قال ابن سعد : ويقال الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي (٣٩).

وقال الحافظ أبو الفضل ابن حجر : وفي رواية عمرة عن عائشة (فنزل رجل فاستخرجه) (٤٠).

وأنت خبير بأن هذا الاختلاف في المستخرج ينبئ عن تحقق أصل الخراج ، إذ لولاه لما كان وجه للاختلاف فيه ، على أن في أكثر أحاديث الباب دلالة على استخراج السحر ونقضه ـ كما تقدم ويأتي إن شاء الله ـ.

وبالجملة : فثاني الحديثين يدفع أولهما الصريح في عدم استخراج السحر ، والمخالف لغيره من النقول الدالة على استخراجه وحله فيسقط عن الاعتبار ، لأن ذلك قد استفاض من طرق مخالفينا واشتهر.

ومن ثم رجحوا رواية سفيان بن عيينة التي أثبت فيها إخراج السحر وجعل سؤال عائشة عن النشرة ، لتقدمه في الضبط على رواية عيسى بن يونس التي نفى فيها السؤال عن النشرة وجعل سؤال عائشة عن الاستخراج (٤١).

قال الحافظ ابن حجر (٤٢) : ويؤيده أن النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة ، والزيادة من سفيان مقبولة لأنه أثبتهم ، ولا سيما أنه كرر استخراج السحر في روايته مرتين فيبعد من الوهم ، وزاد ذكر النشرة وجعل جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ب (لا) بدلا من الاستخراج. انتهى.

ولما أشكل ذلك على المتعبدين بحديث عائشة في الصحيحين انبروا للجمع بينهما : بأن الاستخراج المثبت هو استخراج الجف من البئر ، والمنفي استخراج ما حواه (٤٣).

__________________

(٣٩) فتح الباري ١٠ / ٢٤٠.

(٤٠) فتح الباري ١٠ / ٢٤١ ، دلائل النبوة ٧ / ٩٢.

(٤١) فتح الباري ١٠ / ٢٤٥ ، إرشاد الساري ٨ / ٤٠٦.

(٤٢) فتح الباري ١٠ / ٢٤٥.

(٤٣) فتح الباري ١٠ / ٢٤٥ ، إرشاد الساري ٨ / ٤٠٦ ، تفسير سورة الكافرون والمعوذتين : ٤٥ ـ ٤٦.

٨٠