فتح القدير - ج ٣

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ٣

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٩٧

أبلغ أمير المؤمني

ن أخا العراق إذا أتيتا

إنّ العراق وأهله

سلم إليك فهيت هيتا

وتكون اللام في (لَكَ) على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان ، أي : لك. أقول هذا كما في هلمّ لك. قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاث ؛ فالفتح للخفة ، والكسر لالتقاء الساكنين ، والضم تشبيها بحيث ، وإذا بين باللام نحو هيت لك فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له ، أي : لك أقول هذا. وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل ، إما خبر : أي تهيأت ، وإما أمر : أي أقبل. وقال في الصحاح : يقال هوّت به وهيّت به إذا صاح به ودعاه ، ومنه قول الشاعر :

يحدو بها كلّ فتى هيّات

وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها. قال أبو عبيدة : كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز ، معناها تعال. قال أبو عبيدة : فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أعوذ بالله معاذا ممّا دعوتني إليه ، فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه ، وجملة (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز ، والضمير للشأن ، أي : إن الشأن ربي ، يعني العزيز : أي سيدي الذي ربّاني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) ، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ وقال الزجّاج : إن الضمير لله سبحانه ، أي : إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرّمه ، وجملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها ، والفلاح : الظفر. والمعنى : أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف. قوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) يقال : همّ بالأمر ؛ إذا قصده وعزم عليه. والمعنى : أنه همّ بمخالطتها كما همّت بمخالطته ، ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلّة الخلقية ، ولم يكن من يوسف عليه‌السلام القصد إلى ذلك اختيارا كما يفيده ما تقدّم من استعاذته بالله ، وإن ذلك نوع من الظلم. ولما كان الأنبياء معصومين عن الهمّ بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلّف ، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال : كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن ، فلما أتيت على (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) قال : هذا على التقديم والتأخير ، كأنه قال : ولقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهمّ بها. وقال أحمد بن يحيى ثعلب : أي همّت زليخا بالمعصية وكانت مصرّة ، وهمّ يوسف ولم يوقع ما همّ به ، فبين الهمّين فرق ، ومن هذا قول الشاعر (١) :

هممت بهمّ من ثنية لؤلؤ (٢)

شفيت غليلات الهوى من فؤاديا

__________________

(١). هو جميل بثينة.

(٢). في تفسير القرطبي (٩ / ١٦٦) : بثينة لو بدا.

٢١

فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم ، وقيل : همّ بها ؛ أي همّ بضر بها ، وقيل : همّ بها بمعنى تمنى أن يتزوّجها. وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدّمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي ، ويدل على هذا ما سيأتي من قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) (١) ، وقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) ومجرد الهمّ لا ينافي العصمة ، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية ، وذلك المطلوب ، وجواب لو في (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) محذوف ، أي : لو لا أن رأى برهان ربه لفعل ما همّ به.

واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو؟ فقيل : إن زليخا قامت عند أن همّت به وهمّ بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال : ما تصنعين؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف : أنا أولى أن أستحي من الله تعالى. وقيل : إنه رأى في سقف البيت مكتوبا : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (٣) الآية ؛ وقيل رأى كفا مكتوبا عليها : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) (٤) وقيل : إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده ؛ وقيل : نودي : يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل : رأى صورة يعقوب على الجدار عاضّا على أنملته يتوعّده ؛ وقيل غير ذلك مما يطول ذكره. والحاصل أنه رأى شيئا حال بينه وبين ما همّ به. قوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) الكاف نعت مصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك ، أي : مثل تلك الإراءة أريناه ، أو مثل ذلك التثبيت ثبتناه (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أي كل ما يسوؤه ، والفحشاء : كلّ أمر مفرط القبح ؛ وقيل : السوء : الخيانة للعزيز في أهله ، والفحشاء : الزنا ، وقيل : السوء : الشهوة ، والفحشاء : المباشرة ؛ وقيل : السوء : الثناء القبيح. والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولا أوليا ، وجملة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) تعليل لما قبله. قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو «المخلصين» بكسر اللام. وقرأ الآخرون بفتحها. والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه‌السلام كان ممن أخلص طاعته لله ، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة ، وقد كان عليه‌السلام مخلصا مستخلصا. (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) أي تسابقا إليه ، فحذف حرف الجرّ وأوصل الفعل بالمفعول ، أو ضمن الفعل معنى فعل آخر يتعدّى بنفسه كابتدرا الباب ، وهذا الكلام متصل بقوله : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وما بينهما اعتراض ، ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب ، وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه ، ووحّد الباب هنا وجمعه فيما تقدّم ؛ لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى خارج الدار (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) أي جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله ، والقدّ : القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا ، والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا ، وقع منها ذلك عند أن فرّ يوسف لما رأى برهان ربه ، فأرادت أن تمنعه من الخروج بجلبها لقميصه (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا العزيز هنالك ، وعنى بالسيد الزوج ؛ لأن القبط يسمّون الزوج

__________________

(١). يوسف : ٥٢.

(٢). يوسف : ٥٣.

(٣). الإسراء : ٣٢.

(٤). الانفطار : ١٠.

٢٢

سيدا ، وإنما لم يقل سيدهما ، لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحا فلم يكن سيدا له ، وجملة (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب ، وما استفهامية ، والمراد بالسوء هنا الزنا ؛ قالت هذه المقالة طلبا منها للحيلة وللستر على نفسها ، فنسبت ما كان منها إلى يوسف ؛ أيّ جزاء يستحقه من فعل مثل فعل هذا ، ثم أجابت عن استفهامها بقولها : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) أي ما جزاؤه إلا أن يسجن. ويحتمل أن تكون ما نافية ، أي : ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم ؛ قيل : والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط ، والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره ، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل ، وجملة (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) مستأنفة كالجملة الأولى. وقد تقدّم بيان معنى المراودة ، أي : هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءا (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أي من قرابتها ، وسمّي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل ، قيل : لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب. قيل : كان ابن عمّ لها واقفا مع العزيز في الباب ، وقيل : ابن خال لها ، وقيل : إنه طفل في المهد تكلم. قال السهيلي : وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذكر من تكلّم في المهد ، وذكر من جملتهم شاهد يوسف ؛ وقيل : إنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره ، وكان من قرابة المرأة (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) أي فقال الشاهد هذه المقالة مستدلا على بيان صدق الصادق منهما وكذب الكاذب بأن قميص يوسف إن كان مقطوعا من قبل ، أي : من جهة القبل (فَصَدَقَتْ) أي فقد صدقت بأنه أراد بها سوءا (وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في قوله إنها راودته عن نفسه. وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق «من قبل» بضم اللام. وكذا قرأ : (مِنْ دُبُرٍ) قال الزّجّاج : جعلاهما غايتين كقبل وبعد ، وكأنه قيل من قبله ومن دبره ، فلما حذف المضاف إليه ، وهو مراد ، صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو الغاية (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) أي من ورائه (فَكَذَبَتْ) في دعواها عليه (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواه عليها ، ولا يخفى أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تلازم بين مقدّميهما وتالييهما ، لا عقلا ولا عادة ، وليس هاهنا إلا مجرد أمارة غير مطردة ، إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقدّ القميص من دبر ، وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقدّ القميص من قبل (فَلَمَّا رَأى) أي العزيز (قَمِيصَهُ) أي قميص يوسف (قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ) أي هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما ، أو أن قولك : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من جنس كيدكنّ يا معشر النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) والكيد : المكر والحيلة ، ثم خاطب العزيز يوسف عليه‌السلام بقوله : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) أي عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدّث به ، ثم أقبل عليها بالخطاب فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) الذي وقع منك (إِنَّكِ كُنْتِ) بسبب ذلك (مِنَ الْخاطِئِينَ) أي من جنسهم ، والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليبا للمذكر على المؤنث كما في قوله : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ومعنى من الخاطئين من المتعمدين ، يقال : خطىء ، إذا أذنب متعمدا ؛ وقيل : إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما.

٢٣

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ) قال : هي امرأة العزيز. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : راودته حين بلغ مبلغ الرجال. وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : (هَيْتَ لَكَ) قال : هلمّ لك ، تدعوه إلى نفسها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : هلم لك بالقبطية. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : هي كلمة بالسريانية ، أي : عليك. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : معناها تعال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد : إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها.

وأخرج أبو عبيد وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ : «هئت لك» مكسورة الهاء مضمومة التاء مهموزة قال : تهيأت لك. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (إِنَّهُ رَبِّي) قال : سيدي ، قال : يعني زوج المرأة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن لمنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : لما همّت به تزينت ثم استلقت على فراشها ، وهمّ بها جلس بين رجليها يحلّ ثيابه ، فنودي من السماء : يا ابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه فبقي لا ريش له ، فلم يتّعظ على النداء شيئا حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب عاضّا على إصبعه. ففزع فخرجت شهوته من أنامله ، فوثب إلى الباب فوجده مغلقا ، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له واتبعته فأدركته ، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه ، فألفيا سيدها لدى الباب.

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان فيه من الطمع أن همّ أن يحلّ التكة ، فقامت إلى صنم لها مكلل بالدرّ والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أيّ شيء تصنعين؟ فقالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال : لا تناليها مني أبدا ، وهو البرهان الذي رأى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قال : مثّل له يعقوب ، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه ، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافا كثيرا. وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت قال : السيد : الزوج ، يعني في قوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : القيد.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال : صبيّ أنطقه الله كان في الدار. وأخرج أحمد وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تكلّم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن

٢٤

مريم». وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) قال : كان رجلا ذا لحية. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال : كان من خاصّة الملك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو رجل له فهم وعلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : ابن عمّ لها كان حكيما. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال : إنه ليس بإنسيّ ولا جنّي ، هو خلق من خلق الله. قلت : ولعله لم يستحضر قوله تعالى : (مِنْ أَهْلِها).

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))

يقال نسوة بضم النون ، وهي قراءة الأعمش والفضل وسليمان ، ويقال نسوة بكسر النون ، وهي قراءة الباقين ، والمراد جماعة من النساء ويجوز التذكير في الفعل المسند إليهنّ كما يجوز التأنيث. قيل : وهنّ امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه ، وامرأة صاحب دوابه ، وامرأة صاحب سجنه ، وامرأة حاجبه. والفتى في كلام العرب : الشاب ، والفتاة : الشابة ، والمراد به هنا : غلامها ، يقال : فتاي وفتاتي ، أي : غلامي وجاريتي ، وجملة (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) في محل رفع على أنها خبر ثان للمبتدأ ، أو في محل نصب على الحال ، ومعنى شغفها حبا : غلبها حبه ، وقيل : دخل حبّه في شغافها. قال أبو عبيدة : وشغاف القلب غلافه ، وهو جلدة عليه ؛ وقيل : هو وسط القلب ، وعلى هذا يكون المعنى : دخل حبّه إلى شغافها فغلب عليه ، وأنشد الأصمعي قول الراجز :

يتبعها وهي له شغاف

وقرأ جعفر بن محمد وابن محيصن والحسن وشعفها ؛ بالعين المهملة. قال ابن الأعرابي : معناه أجرى حبّه عليها (١) وقرأ غيرهم بالمعجمة. قال الجوهري : شعفه الحبّ أحرق قلبه. وقال أبو زيد : أمرضه. قال النحاس : معناه عند أكثر أهل اللغة : قد ذهب بها كل مذهب ؛ لأن شعاف الجبال : أعاليها ، وقد شغف بذلك شغفا بإسكان الغين المعجمة. إذا أولع به ، وأنشد أبو عبيدة بيت امرئ القيس :

أتقتلني من قد شغفت فؤادها

كما شغف المهنوءة (٢) الرجل الطّالي

__________________

(١). في تفسير القرطبي (٩ / ١٧٦) : أحرق حبه قلبها.

(٢). «المهنوءة» : المطلية بالقطران.

٢٥

قال : فشبهت لوعة الحب بذلك. وقرأ الحسن : «قد شغفها» بضم الغين. قال النحاس : وحكي قد شغفها بكسر الغين ، ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلا شغفها بفتح الغين ؛ ويقال : إن الشغاف : الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى ، وهي الجلدة البيضاء ، فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد ، وجملة (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى : إنا لنراها ، أي : نعلمها في فعلها هذا ، وهو المراودة لفتاها في ضلال عن طريق الرشد والصواب (مُبِينٍ) واضح لا يلتبس على من نظر فيه (فَلَمَّا سَمِعَتْ) امرأة العزيز (بِمَكْرِهِنَ) أي غيبتهنّ إياها ، سمّيت الغيبة مكرا لاشتراكهما في الإخفاء ؛ وقيل : أردن أن يتوصّلن بذلك إلى رؤية يوسف ، فلهذا سمّي قولهنّ مكرا ؛ وقيل : إنها أسرّت عليهنّ فأفشين سرّها ، فسمّي ذلك مكرا (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي تدعوهنّ إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي هيأت لهن مجالس يتكئن عليها ، وأعتدت من الاعتداد ، وهو كل ما جعلته عدّة لشيء. وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير «متكا» مخففا غير مهموز ، والمتك : هو الأترجّ بلغة القبط ، ومنه قول الشاعر :

نشرب الإثمبالصّواع جهارا

وترى المتك بيننا مستعارا

وقيل : إن ذلك هو لغة أزد شنوءة ، وقيل : حكي ذلك عن الأخفش. وقال الفراء : إنه الزّماورد (١). وقرأ الجمهور «متكأ» بالهمز والتشديد ، وأصح ما قيل فيه إنه المجلس ، وقيل : هو الطعام ، وقيل : المتكأ : كل ما أتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث. وحكى القتبي أنه يقال اتكأنا عند فلان ، أي : أكلنا ، ومنه قول الشاعر (٢) :

فظلنا بنعمة واتّكأنا

وشربنا الحلال من قلله

ويؤيد هذا قوله : (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه ، والسكين تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء. قال الجوهري : والغالب عليه التذكير ، والمراد من إعطائها لكل واحدة سكينا أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة ، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهنّ من تقطيع أيديهنّ (وَقالَتِ) ليوسف (اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) أي في تلك الحالة التي هنّ عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام. قوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي : عظّمنه ، وقيل : أمذين ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما رأين الفحل من فوق قلة

صهلن وأكبرن المنيّ المقطّرا (٣)

__________________

(١). «الزماورد» الرقاق الملفوف باللحم.

(٢). هو جميل بن معمر.

(٣). في تفسير القرطبي :

إذا ما رأين الفحل من فوق قاره

صهلن وأكبرن المني المدفقا

«القلة» : الجبيل الصغير.

٢٦

وقيل : حضن. قال الأزهري. أكبرن بمعنى حضن ، والهاء للسكت ؛ يقال : أكبرت المرأة ؛ أي : دخلت في الكبر بالحيض ، وقع منهنّ ذلك دهشا وفزعا لما شاهدنه من جماله الفائق ، وحسنه الرائق ، ومن ذلك قول الشاعر :

نأتي النساء على أطهارهنّ ولا

نأتي النّساء إذا أكبرن إكبارا

وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، وقالوا : ليس ذلك في كلام العرب. قال الزجّاج : يقال أكبرنه ولا يقال حضنه ، فليس الإكبار بمعنى الحيض. وأجاب الأزهري فقال : يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية. وقد زيّف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل. وقال ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل ، أي : أكبرن إكبارا بمعنى حضن حيضا (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي : جرحنها ، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد ، بل المراد به الخدش والحزّ ، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس : يقال : قطع يد صاحبه ؛ إذا خدشها ، وقيل : المراد بأيديهنّ هنا : أناملهنّ ، وقيل : أكمامهنّ. والمعنى : أنه لما خرج يوسف عليهنّ أعظمنه ودهشن وراعهنّ حسنه حتى اضطربت أيديهنّ ، فوقع القطع عليها وهنّ في شغل عن ذلك بما دهمهنّ ؛ مما تطيش عنده الأحلام ، وتضطرب له الأبدان ، وتزول به العقول وقلن حاشا لله كذا قرأ أبو عمرو ابن العلاء بإثبات الألف في حاشا. وقرأ الباقون بحذفها. وقرأ الحسن «حاش لله» بإسكان الشين. وروي عنه أنه قرأ «حاش الإله» ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ «حاشا الله». قال الزّجّاج : وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية ، تقول : كنت في حاشية فلان ، أي : في ناحيته ، فقولك : حاشا لزيد من هذا ، أي : تباعد منه. وقال أبو عليّ : هو من المحاشاة ، وقيل : إن حاش حرف. وحاشا فعل ، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ، ومعناها هنا التنزيه ، كما تقول : أسي القوم حاشا زيدا ، فمعنى حاشا لله : براءة لله وتنزيه له. قوله : (ما هذا بَشَراً) إعمال «ما» عمل ليس هي لغة أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن كهذه الآية ، وكقوله سبحانه : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ، وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس. وقال الكوفيون : أصله ما هذا ببشر ، فلما حذفت الباء انتصب. قال أحمد بن يحيى ثعلب : إذا قلت ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض. وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس ، وبه قال البصريون ، والبحث مقرّر في كتب النحو بشواهده وحججه ، وإنما نفين عنه البشرية لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية ؛ ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة ؛ لكنه قد تقرّر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات ، وأنهم فائقون في كل شيء ، كما تقرّر أن الشياطين على العكس من ذلك ، ومن هذا قول الشاعر (١) :

__________________

(١). قال ابن السيرافي : هو أبو وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. وقال أبو عبيدة : هو لرجل من عبد القيس ، جاهلي يمدح بعض الملوك (لسان العرب)

٢٧

فلست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزّل من جوّ السماء يصوب

وقرأ الحسن «ما هذا بشرى» على أن الباء حرف جرّ ، والشين مكسورة ، أي : ما هذا بعبد يشترى ، وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم ، فإنهنّ لم يقلنه لدليل ، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهنّ وذلك ممنوع ، فإن الله سبحانه يقول : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١). وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته ، فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة ، على أن هذه المسألة ـ أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ـ ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر ، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) الإشارة إلى يوسف ، والخطاب للنسوة ، أي : عيرتنني فيه. قالت لهنّ هذا لما رأت افتتانهنّ بيوسف إظهارا لعذر نفسها ؛ ومعنى فيه : أي في حبه ؛ وقيل بالإشارة إلى الحب ، والضمير له أيضا ؛ والمعنى : فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب ، والأوّل أولى. ورجحه ابن جرير. وأصل اللوم : الوصف بالقبيح. ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهنّ ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه ، فأقرت بذلك وصرّحت بما وقع منها من المراودة له ، فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي استعف وامتنع مما أريده طالبا لعصمة نفسه عن ذلك ، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء هاتكة لستر العفاف ، فقالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدّم ذكره عند ما غلقت الأبواب وقالت هيت لك (لَيُسْجَنَنَ) أي : يعتقل في السجن وليكونن من الصاغرين الأذلاء لما يناله من الإهانة ، ويسلب عنه من النعمة والعزّة في زعمها ، قرئ «ليكونن» بالتثقيل والتخفيف ، قيل : والتخفيف أولى ؛ لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف ، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة ، وأما ليسجنن فبالتثقيل لا غير ؛ فلما سمع يوسف مقالها هذا ، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجيا لربه سبحانه (رَبِّ السِّجْنُ) أي : يا ربّ السجن الذي أوعدتني هذه به (أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) من إتيانها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخرة. قال الزجاج : أي دخول السجن ، فحذف المضاف. وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ «السّجن» بفتح السين ، وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب ، وهو مصدر سجنه سجنا ، وإسناد الدعوة إليهنّ جميعا ؛ لأن النسوة رغّبنه في مطاوعتها وخوّفنه من مخالفتها ، ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهنّ جميعا ، فقال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصّه الله سبحانه في هذه السورة ، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدّم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة ؛ وقيل : إنها كانت كلّ واحدة تخلو به وحدها ، وتقول له : يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك

__________________

(١). التين : ٤.

٢٨

من امرأة العزيز ؛ وقيل : إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيما لها ، أو عدولا عن التصريح إلى التعريض ، والكيد : الاحتيال ، وجزم (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) على أنه جواب الشرط ، أي : أمل إليهنّ ، من صبا يصبو ؛ إذا مال واشتاق ، ومنه قول الشاعر :

إلى هند صبا قلبي

وهند حبّها يصبي (١)

(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) معطوف على أصب ، أي : أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه ، أو ممن يعمل عمل الجهال. قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) لما قال : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) كان ذلك منه تعرّضا للدعاء ، وكأنه قال : اللهمّ اصرف عنّي كيدهنّ ، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار ، لأنه إذا صرف عنه كيدهنّ لم يقع شيء مما رمنه منه ، ووجه إسناد الكيد قد تقدّم ، وجملة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه ، أي : إنه هو السميع لدعوات الداعين له : العليم بأحوال الملتجئين إليه.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (قَدْ شَغَفَها) قال : غلبها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه (قَدْ شَغَفَها) قال : قتلها حبّ يوسف ، الشغف : الحبّ القاتل ، والشعف : حبّ دون ذلك ، والشغاف : حجاب القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (قَدْ شَغَفَها) قال : قد علقها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) قال : بحديثهنّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) قال : بعملهنّ ، وكلّ مكر في القرآن فهو عمل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) قال : هيأت لهنّ مجلسا ، وكان سنّتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كلّ إنسان سكينا يأكل بها (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ) قال : فلما خرج عليهن يوسف (أَكْبَرْنَهُ) قال : أعظمته ونظرن إليه ، وأقبلن يحززن أيديهنّ بالسكاكين وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعن الطعام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) قال : أعطتهنّ أترنجا ، وأعطت كل واحدة منهنّ سكينا ، فلما رأين يوسف أكبرنه ، وجعلن يقطعن أيديهنّ وهنّ يحسبن أنهنّ يقطعن الأترنج. وأخرج مسدّد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ : الأترنج ، وكان يقرؤها خفيفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (مُتَّكَأً) قال : طعاما. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال : هو الأترنج. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : هو كلّ شيء يقطع بالسكين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحّاك مثله. وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز ابن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدّثني أبي عن جدّي يقول في قوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) قال : أمنين ، وأنشد :

__________________

(١). الشاعر هو زيد بن ضبّة.

وفي لسان العرب : ........ وهند مثلها يصبي.

٢٩

ولما رأته الخيل من رأس شاهق

صهلن وأمنين المنيّ المدفّقا

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جدّه ابن عباس في قوله : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) قال : لما خرج عليهنّ يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر الذي قدّمنا ذكره :

نأتي النساء لدى أطهارهنّ

 ...................................... البيت

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : (أَكْبَرْنَهُ) قال : أعظمنه (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) قال : حزّا بالسكين حتى ألقينها (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) قال : معاذ الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) قال : قلن ملك من الملائكة من حسنه. وأخرج أبو الشيخ عن منبه عن أبيه قال : مات من النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ تسع عشرة امرأة كمدا. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطي يوسف وأمّه شطر الحسن» ، وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف ؛ والمبالغة في ذلك ، ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن ، وفي بعضها ثلثه ، وفي بعضها ثلثيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس (فَاسْتَعْصَمَ) قال : امتنع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة (فَاسْتَعْصَمَ) قال : فاستعصى. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) قال : إن لا تكن منك أنت القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) قال : أتبعهنّ. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : أطاوعهنّ.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩))

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠))

معنى (بَدا لَهُمْ) ظهر لهم ، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه ، وأما فاعل (بَدا لَهُمْ) فقال سيبويه هو ليسجننه ، أي : ظهر لهم أن يسجنوه. قال المبرد : وهذا غلط لأن الفاعل

٣٠

لا يكون جملة ، ولكن الفاعل ما دلّ عليه «بدا» وهو المصدر ، كما قال الشاعر :

وحقّ لمن أبو موسى أبوه

يوفّقه الذي نصب الجبالا

أي : وحقّ الحقّ ، فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه ، وقيل : الفاعل المحذوف هو رأي ؛ أي : وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل ، وهذا الفاعل حذف لدلالة ليسجننه عليه ، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول : أي ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين : والله ليسجننه. وقرئ «لتسجننه» بالمثناة الفوقية على الخطاب ، إما للعزيز ومن معه ، أو له وحده على طريق التعظيم ، والآيات ؛ قيل : هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي ؛ وقيل : هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ، ولم يجد ذلك فيهم ، بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه ، الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف ، وإنفاذ ما تقدّم منها من الوعيد له بقولها : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ). قيل : وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة ، وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه ؛ وقيل : إنّ العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته ، لما علم أنها قد صارت بمكان من حبّه لا تبالي معه بحمل نفسها عليه على أيّ صفة كانت. ومعنى قوله : (حَتَّى حِينٍ) إلى مدّة غير معلومة كما قاله أكثر المفسرين ، وقيل : إلى انقطاع ما شاع في المدينة. وقال سعيد بن جبير : إلى سبع سنين ، وقيل : إلى خمس ، وقيل : إلى ستة أشهر ، وقد تقدّم في البقرة الكلام في تفسير الحين ، وحتى بمعنى إلى. قوله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) في الكلام حذف متقدّم عليه ، والتقدير : وبدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه ، ودخل معه السجن فتيان ، ومع للمصاحبة ، وفتيان تثنية فتى ، وذلك يدلّ على أنهما عبدان له ، ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا ؛ وقد قيل : إن أحدهما خبّاز الملك ، والآخر ساقيه ، وقد كانا وضعا للملك سمّا لما ضمن لهما أهل مصر مالا في مقابلة ذلك ، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك : لا تأكل الطعام فإنه مسموم ، وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشرب فلم يضرّه ، وقال للخباز : كل ، فأبى ، فجرّب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما ، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف ، وقيل : قبله ، وقيل : بعده. قال ابن جرير : إنهما سألا يوسف عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ، فسألاه عن رؤياهما كما قصّ الله سبحانه : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي رأيتني ، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة. والمعنى : إني أراني أعصر عنبا ، فسمّاه باسم ما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر. وفي قراءة ابن مسعود أعصر عنبا. قال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب ، فقال له : ما معك؟ فقال : خمر. وقيل : معنى أعصر خمرا ؛ أي : عنب خمر ، فهو على حذف المضاف ، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي ، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال ، وكذلك الجملة التي بعدها وهي : (وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً) ثم وصف الخبز هذا بقوله : (تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز ، ثم قالا ليوسف جميعا بعد أن قصّا رؤياهما عليه : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين ، أو بتأويل

٣١

المذكور لك من كلامنا ، وقيل : إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قصّ رؤياه عليه ، فيكون الضمير راجعا إلى ما رآه كل واحد منهما ؛ وقيل : إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة ، والتقدير بتأويل ذلك (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، وكذا قال الفراء : إن معنى من المحسنين من العالمين الذين أحسنوا العلم. وقال ابن إسحاق : من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك ؛ أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فقد روي أنه كان كذلك ، وجملة (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئا من الغيب ، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلا أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما ، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصّاه عليه ، بل جعله عليه‌السلام مقدّمة قبل تعبيره لرؤياهما بيانا لعلوّ مرتبته في العلم ، وأنه ليس من المعبّرين الذين يعبّرون الرؤيا عن ظنّ وتخمين ، فهو كقول عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) (١) وإنما قال يوسف عليه‌السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ؛ ومعنى ترزقانه : يجري عليهما من جهة الملك أو غيره ، والجملة صفة الطعام ، أو يرزقكما الله سبحانه ، والاستثناء بقوله : (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما ، أي : بيّنت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما ، وسمّاه تأويلا بطريق المشاكلة ، لأن الكلام في تأويل الرؤيا ، أو المعنى : إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبر كما به للواقع ، والإشارة بقوله : (ذلِكُما) إلى التأويل ، والخطاب للسّائلين له عن تعبير رؤياهما (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) بما أوحاه إليّ وألهمني إياه لا من قبيل الكهانة والتّنجيم ونحو ذلك ممّا يكثر فيه الخطأ ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملّة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملّة الأنبياء من آبائه فقال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) وهو كلام مستأنف يتضمّن التّعليل لما قبله ، والمراد بالترك هو عدم التلبّس بذلك من الأصل ، لا أنه قد كان تلبس به ، ثم تركه كما يدلّ عليه قوله : (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) ثم وصف هؤلاء القوم بما يدلّ على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه. فقال : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي : هم مختصّون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله. وقوله : (وَاتَّبَعْتُ) معطوف على تركت ، (مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) وسمّاهم آباء جميعا لأنّ الأجداد آباء ، وقدّم الجد الأعلى ، ثم الجدّ الأقرب ثم الأب ؛ لكون إبراهيم هو أصل هذه الملّة التي كان عليها أولاده ، ثم تلقاها عنه إسحاق ثم يعقوب ، وهذا منه عليه‌السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ) أي ما صحّ لنا ذلك فضلا عن وقوعه ، والضّمير في لنا له وللأنبياء المذكورين ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الإيمان المفهوم من قوله ما كان لنا أن نشرك بالله ، و (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) خبر اسم الإشارة ، أي : ناشئ من تفضّلات الله علينا ولطفه بنا بما جعله لنا من النبوّة المتضمّنة للعصمة عن معاصيه ، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثه الأنبياء إليهم ، وهدايتهم إلى ربّهم ، وتبيين

__________________

(١). آل عمران : ٤٩.

٣٢

طرائق الحق لهم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم فيؤمنون به ويوحّدونه ويعملون بما شرعه لهم. قوله : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه ، وقيل : المراد : يا صاحبيّ في السجن ؛ لأن السجن ليس بمصحوب بل مصحوب فيه ، وأن ذلك من باب : يا سارق الليلة. وعلى الأوّل يكون من باب قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ النَّارِ) والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ ، ومعنى التفرّق هنا هو التفرّق في الذّوات والصّفات والعدد ، أي : هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم المختلفون في صفاتهم المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن ، أم الله المعبود بحق المتفرّد في ذاته وصفاته الذي لا ضدّ له ولا ندّ ولا شريك ، القهار الذي لا يغالبه مغالب ولا يعانده معاند؟ أورد يوسف عليه‌السلام على صاحبي السجن هذه الحجّة القاهرة على طريق الاستفهام ، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام ؛ وقد قيل : إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب ، ولهذا قال لهما : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) أي : إلا أسماء فارغة سمّيتموها ولا مسمّيات لها ، وإن كنتم تزعمون أن لها مسمّيات ، وهي الآلهة التي تعبدونها ، لكنها لما كانت لا تستحق التّسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسمّيات لها ؛ وقيل : المعنى : ما تعبدون من دون الله إلا مسمّيات أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم ، وليس لها من الإلهية شيء إلا مجرد الأسماء ؛ لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ ، وإنما قال : (ما تَعْبُدُونَ) على خطاب الجمع وكذلك ما بعده من الضمائر ؛ لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم ، ومفعول سميتموها الثاني محذوف ، أي : سمّيتموها آلهة من عند أنفسكم (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها) أي بتلك التسمية (مِنْ سُلْطانٍ) من حجة تدلّ على صحّتها (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله في العبادة ، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان ، وجملة (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) مستأنفة ، والمعنى : أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود ، ثم بيّن لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره فقال : (ذلِكَ) أي تخصيصه بالعبادة (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي : المستقيم الثابت (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن ذلك هو دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، لجهلهم وبعدهم عن الحقائق.

وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس عن قوله : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ) فقال : ما سألني عنها أحد قبلك ، من الآيات : قدّ القميص ، وأثرها في جسده ، وأثر السّكّين ، وقالت امرأة العزيز : إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس. وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : من الآيات كلام الصّبي. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : الآيات حزّهنّ أيديهنّ ، وقدّ القميص.

وأقول : إن كان المراد بالآيات : الآيات الدالة على براءته فلا يصحّ عدّ قطع أيدي النسوة منها ، لأنه وقع منهنّ ذلك لما حصل لهنّ من الدهشة عند ظهوره لهنّ ، مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر وتضعف عند رؤيته قوى التجلد ، وإن كان المراد الآيات الدالة على أنه قد أعطي من

٣٣

الحسن ما يسلب عقول المبصرين ، ويذهب بإدراك الناظرين ، فنعم يصح عدّ قطع الأيدي من جملة الآيات ، ولكن ليست هذه الآيات هي المرادة هنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس قال : عوقب يوسف ثلاث مرات ؛ أما أوّل مرة فبالحبس لما كان من همه بها ، والثانية لقوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (١) عوقب بطول الحبس ، والثالثة حيث قال : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٢) ، فاستقبل في وجهه (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (٣).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما) خازن الملك على طعامه ، والآخر ساقيه على شرابه. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) قال : عنبا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) قال : عبارته. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال : كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزّي حزينهم ، ويداوي مريضهم ، ورأوا منه عبادة واجتهادا فأحبوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن الضحّاك قال : كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له ، وإذا احتاج جمع له. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : دعا يوسف لأهل السجن فقال : اللهمّ لا تعمّ عليهم الأخبار ، وهوّن عليهم مرّ الأيام.

وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جرير في قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ) الآية قال : كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علما ، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به إليه ، فقال يوسف (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) إلى قوله : (يَشْكُرُونَ) فلم يدعه صاحبا الرؤيا حتى يعبر لهما ، فكره العبارة فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) إلى قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) قال : فلم يدعاه فعبر لهما.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) قال : إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله ، ويشكر ما بالناس من نعم الله ، ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : يا ربّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ، ويا ربّ حامل فقه غير فقيه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) الآية قال : لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظّهما من ربّهما وإلى نصيبهما من آخرتهما. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) قال : العدل ، فقال :

__________________

(١). يوسف : ٤٢.

(٢). يوسف : ٧٠.

(٣). يوسف : ٧٧.

٣٤

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما ، والمراد بقوله : (أَمَّا أَحَدُكُما) هو السّاقي ، وإنما أبهمه لكونه مفهوما ، أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي مالكه ، وهي عهدته التي كان قائما بها في خدمة الملك ، فكأنه قال : أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) تعبيرا لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزا فتأكل الطير منه (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وهو ما رأياه وقصاه عليه ، يقال استفتاه : إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه ، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) أي قال يوسف ، والظانّ هو أيضا يوسف ، والمراد بالظنّ العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز ، هكذا قال جمهور المفسرين ، وقيل : الظاهر على معناه ، لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظنا ، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء ، ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه‌السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) (١) الآية وجملة (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) هي مقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب ، وكانت هذه المقالة منه عليه‌السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدا إلى يوسف ، هكذا قال بعض المفسرين ، ويكون المراد بربه في قوله : (ذِكْرَ رَبِّهِ) هو الله سبحانه ، أي : إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) يذكره عند سيده ليكون ذلك سببا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته. وذهب كثير من المفسّرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربّه هو الذي نجا من الغلامين ؛ وهو الشرابي ، والمعنى : إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده ؛ أي : ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك ، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني». ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين. وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك ، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله

__________________

(١). يوسف : ٣٧.

٣٥

سبحانه ، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) سنة (فَلَبِثَ) أي يوسف (فِي السِّجْنِ) بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين ، أو بسبب ذلك الإنساء (بِضْعَ سِنِينَ) البضع : ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب. وحكي عن أبي عبيدة أن البضع : ما دون نصف العقد ، يعني ما بين واحد إلى أربعة ؛ وقيل : ما بين ثلاث إلى سبع ، حكاه قطرب. وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس. وقد اختلف في تعيين قدر المدّة التي لبث فيها يوسف في السجن فقيل : سبع سنين ، وقيل : ثنتا عشرة سنة ، وقيل : أربع عشرة سنة ، وقيل : خمس سنين.

وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : (أَمَّا أَحَدُكُما) قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب فنبتت ، فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ ثم سقيتهنّ الملك ؛ فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمرا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما تحالما ليجرّبا علمه ، فلما أوّل رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ولم نر شيئا ، فقال : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) يقول : وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : كان أحد اللذين قصّا على يوسف الرؤيا كاذبا. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن ساباط (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) قال : عند ملك الأرض. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله». وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة مرفوعا نحوه وهو مرسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أبو الشيخ عن الحسن مرفوعا نحوه ، وهو مرسل. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه وهو مرسل أيضا.

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أنس قال : أوحي إلى يوسف : من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فمن استنقذك من الجبّ إذ ألقوك فيه؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همّت بك؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فما لك نسيتني وذكرت آدميا؟ قال : جزعا وكلمة تكلّم بها لساني ، قال : فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين ، فلبث فيه سبع سنين. وقد اختلف السلف في تقدير مدّة لبثه في السجن على حسب ما قدّمنا ذكره ، فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرّجه.

٣٦

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

المراد بالملك هنا : هو الملك الأكبر ، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيرا له ، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه‌السلام أنه خرج من نهر يابس (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ) جمع سمين وسمينة ، في إثرهنّ سبع عجاف ، أي : مهازيل ، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهنّ. والمعنى : إني رأيت ، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة ، وكذلك قوله : (يَأْكُلُهُنَ) عبر بالمضارع للاستحضار ، والعجاف جمع عجفاء ، وقياس جمعه عجف ؛ لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال ، ولكنه عدل عن القياس حملا على سمان (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) معطوف على (سَبْعَ بَقَراتٍ) والمراد بقوله : (خُضْرٍ) أنه قد انعقد حبها ، واليابسات التي قد بلغت حدّ الحصاد. والمعنى : وأرى سبعا أخر يابسات ، وكان قد رأى أن السبع السنبلات اليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها ، ولعل عدم التعرّض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) خطاب للأشراف من قومه (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) أي : أخبروني بحكم هذه الرؤيا (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي : تعلمون عبارة الرؤيا ، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر ، فمعنى عبرت النهر : بلغت شاطئه ، فعابر الرؤيا يخبر بما يؤول إليه أمرها. قال الزّجّاج : اللام في للرؤيا للتبيين ؛ أي إن كنتم تعبرون ، ثم بيّن فقال : «للرؤيا» ، وقيل : هو للتقوية ، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل ، وجملة (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والأضغاث : جمع ضغث ، وهو كلّ مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ؛ والمعنى : أخاليط أحلام ، والأحلام : جمع حلم ؛ وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان ، والإضافة بمعنى من ، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلا رؤيا واحدة مبالغة منهم في وصفها بالبطلان ، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصّه الله علينا (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) قال الزّجّاج : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة ، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له ، لا مطلق العلم بالتأويل ؛ وقيل : إنهم نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقا ، ولم يدّعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا ؛ وقيل : إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها ، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي : من الغلامين ، وهو الساقي الذي قال له يوسف : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) ، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) بالدال المهملة على قراءة الجمهور ، وهي القراءة

٣٧

الفصيحة ، أي : تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا. وقرئ بالمعجمة ؛ ومعنى (بَعْدَ أُمَّةٍ) : بعد حين ، ومنه : (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) (١) أي : إلى وقت. قال ابن درستويه : والأمة لا تكون على الحين إلا على حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه قال : والله أعلم وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة ، والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس. قال الأخفش : هو في اللفظ واحد ، وفي المعنى جمع ، وكل جنس من الحيوان أمة. وقرأ ابن عباس وعكرمة «بعد أمة» بفتح الهمزة وتخفيف الميم : أي بعد نسيان ، ومنه قول الشاعر :

أممت (٢) وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدّهر يودي بالعقول

ويقال : أمه يأمه أمها : إذا نسي. وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمة» بكسر الهمزة ؛ أي بعد نعمة ؛ وهي نعمة النجاة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) أي أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله ، وهو يوسف (فَأَرْسِلُونِ) خاطب الملك بلفظ التعظيم ، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقصّ عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا) أي : يا يوسف ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه ، فقال له : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) إلى آخر الكلام ؛ والمعنى : أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا ، وأن المطلوب منه تعبيرها (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي : إلى الملك ومن عنده من الملأ (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفنّ التعبير ، وجملة (قالَ تَزْرَعُونَ) إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كغيرها مما يرد هذا المورد (سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً) أي متوالية متتابعة ، وهو مصدر ، وقيل : هو الحال ، أي : دائبين ، وقيل : صفة لسبع ، أي : دائبة ، وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ (دَأَباً) بتحريك الهمزة ، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان ، قال الفرّاء : حرّك لأن فيه حرفا من حروف الحلق ، وكذلك كلّ حرف فتح أوّله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة. فعبّر يوسف عليه‌السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب ، والعجاف بسبع سنين فيها جدب ، وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر والسبع السنبلات اليابسات ، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله : (فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) أي ما حصدتم في كلّ سنة من السّنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه عنها لئلا يأكله السوس ، إلا قليلا مما تأكلون في هذه السنين المخصبة ، فإنه لا بدّ لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها ، واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم لأنه قد علم من قوله تزرعون (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد السبع السنين المخصبة (سَبْعٌ شِدادٌ) أي سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها ، وإسناد الأكل إلى السنين مجاز ، والمعنى : يأكل الناس فيهنّ أو يأكل أهلهنّ ما

__________________

(١). هود : ٨.

(٢). في تفسير القرطبي (٩ / ٢٠١) : أمهت.

٣٨

قدمتم لهنّ ، أي : ما ادخرتم لأجلهنّ فهو من باب : نهاره صائم ، ومنه قول الشاعر :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والرّدى لك لازم

(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تحبسون من الحب لتزرعوا به ؛ لأنّ في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة : معنى تحصنون : تحرزون ، وقيل : تدّخرون ، والمعنى واحد. قوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي من بعد السّنين المجدبات ، فالإشارة إليها ، والعام السنة (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الإغاثة أو الغوث ، والغيث المطر ، وقد غاث الغيث الأرض ، أي أصابها ، وغاث الله البلاد يغيثها غوثا : أمطرها ، فمعنى يغاث الناس : يمطرون (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون ، وقيل : أراد حلب الألبان ؛ وقيل : معنى يعصرون : ينجون. مأخوذ من العصرة ، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة : والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة ، ومنه قول الشاعر :

صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود

واعتصرت بفلان : التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي (تعصرون) بناء الخطاب. وقرئ «يعصرون» بضم حرف المضارعة وفتح الصاد ، ومعناه يمطرون ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (١).

وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربك ؛ أي : الملك الأعظم ومظلمتي وحبسي في غير شيء ، فقال : أفعل ؛ فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه ، ورضي عنه صاحبه ، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين ؛ ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها ، فهالته ، وعرف أنها رؤيا واقعة ، ولم يدر ما تأويلها ، فقال للملأ حوله من أهل مملكته : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ذكر يوسف ما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قاله فقال : أنا أنبئكم بتأويله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) يقول : مشتبهة. وأخرج أبو يعلى وابن جرير عنه قال : من الأحلام الكاذبة. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) قال : بعد حين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بعد سنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بعد أمة من الناس. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) الآية ، قال : أما السّمان فسنون فيها خصب ، وأما العجاف فسنون مجدبة ، وسبع سنبلات خضر هي السّنون المخاصيب تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها ، وأخر يابسات المحول الجدوب لا تنبت شيئا.

__________________

(١). النبأ : ١٤.

٣٩

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط عليهم أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر». وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) يقول : تخزنون ، وفي قوله : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) يقول : الأعناب والدهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) يقول : يصيبهم فيه غيث (يَعْصِرُونَ) يقول : يعصرون فيه العنب ويعصرون فيه الزبيب ويعصرون من كل الثمرات. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه أيضا (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) قال : يحتلبون. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عنه أيضا (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ) قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأنّ الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر. وفيه يعصرون السّمسم دهنا ، والعنب خمرا ، والزيتون زيتا.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

قوله : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) في الكلام حذف قبل هذا ، والتقدير : فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا ، وقال الملك لمن بحضرته ائتوني به ، أي : بيوسف ، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله بعد أن علم من فضله ما علمه من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه (فَلَمَّا جاءَهُ) أي جاء إلى يوسف (الرَّسُولُ) واستدعاه إلى حضرة الملك ، وأمره بالخروج من السجن (قالَ) يوسف للرسول (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي سيدك (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أمره بأن يسأل الملك عن ذلك وتوقف عن الخروج من السجن ، ولم يسارع إلى إجابة الملك ، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه ، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلما بينا ، ولقد أعطي عليه‌السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوّره ، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الدّاعي» يعني الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك. قال ابن عطية : كان هذا الفعل من يوسف أناة وصبرا ، وطلبا لبراءة ساحته ، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر ذنبه ، فيراه الناس

٤٠