علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

البلاغة» وجمع ما تناثر فيهما من القواعد البلاغية وتنظيمها وحصر فروعها وأقسامها.

ولكنه في محاولته لم يقتصر على ذلك ، وإنما نراه يلخص أيضا بديعيات الوطواط وينثر ما أخذه منها في ثنايا فصول كتابه على نحو أدى إلى نوع من الخلط بين مباحث علم البديع ، ومباحث علمي المعاني والبديع.

وما دمنا نتابع نشأة البديع وتطوره في عصوره المختلفة ، فإن تحليل عمل الرازي في كتابه ونقده والحكم عليه يخرج عن دائرة ما نبغيه منه.

وما نبغيه هو معرفة قدر المساهمة التي أسهم بها في خدمة علم البديع وتطويره ، وهذه المساهمة ، كما رأينا ، ليس فيها جديد يحسب للرازي ، وكل ما له أنه استخدم في كتابه بعض فنون البديع المعروفة ، وكان مرجعه الأول فيها كتاب «حدائق السحر في دقائق الشعر» للوطواط.

٢ ـ السكاكي :

هو سراج الدين أبو يعقوب يوسف بن محمد السكاكي المتوفى على الراجح سنة ٦٢٦ من الهجرة. ويقال إنه بدأ يشتغل بالعلم ويتفرغ له وهو في نحو الثلاثين من عمره ، ولهذا أكب على علوم الفلسفة والمنطق والفقه وأصوله واللغة والبلاغة يدرسها حتى أتقنها.

وللسكاكي مصنفات كثيرة أهمها كتاب «مفتاح العلوم» الذي قسمه إلى ثلاثة أقسام أساسية : قصر القسم الأول منها على علم الصرف وما يتصل به من الاشتقاق بأنواعه ، كما جعل القسم الثاني منه لعلم النحو أما القسم الثالث فخص به علم المعاني وعلم البيان ، وملحقاتهما من البلاغة والفصاحة ، والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية.

٤١

ولما كانت علوم البلاغة تحتاج إلى علوم المنطق والعروض والقافية فقد أفرد لكل منها مبحثا خاصا وحيزا في كتابه. وبذلك اشتمل «المفتاح» على علوم الصرف والنحو والمعاني والبيان والمنطق والعروض والقافية والمحسنات البديعية.

وشهرة السكاكي ترجع في الواقع إلى القسم الثالث من كتاب المفتاح ، وهو القسم الخاص بعلم المعاني وعلم البيان وملحقاتهما من البلاغة والفصاحة ، والمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية.

ومصدر هذه الشهرة أنه أعطى لأصول العلوم التي أفرد لها القسم الثالث من كتابه الصيغة النهائية التي عكف عليها العلماء من بعده يتدارسونها ويشرحونها مرارا.

وقد كان ما انتهى إليه في ذلك وليد اكتساب ومجهود ذاتي. وتفصيل ذلك أنه استطاع أن يخرج من اطلاعه على أعمال رجال البلاغة المتقدمين عليه بملخص لما نثروه في كتبهم من آراء ، أضاف إليها ما عنّ له شخصيا من أفكار ، ثم صاغ ذلك كله صياغة محكمة استعان فيها بقدرته المنطقية في التعليل والتحديد والتقسيم والتفريع والتشعيب.

ولعل عبد القاهر الجرجاني والزمخشري وفخر الدين الرازي هم أكثر من أفاد منهم السكاكي في عمله هذا.

والآن ما ذا عن البديع عند السكاكي ومجهوده فيه؟ لقد ذكرنا آنفا أنه ألحق البديع في القسم الثالث من كتابه المفتاح بعلمي المعاني والبيان. ومعنى ذلك أنه لم يكن ينظر إليه كعلم مستقل قائم بذاته ، وإلا لكان عليه أن يعامله معاملة علمي المعاني والبيان ، وأن يعطيه من العناية ما أعطاه لهما.

٤٢

ومع ذلك فلعله كان أول من نظر في المحسنات البديعية وقسمها إلى محسنات معنوية وأخرى لفظية ، وهذا أمر يحسب بطبيعة الحال للسكاكي لأن من بحثوا قبله في المحسنات البديعية كانوا يوردونها مختلطا بعضها ببعض ، وقلما حاول أحدهم أن يفرق بين المعنوي واللفظي منها ، كما فعل هو.

وشيء آخر أن السكاكي لم يأت في كتابه المفتاح على كل المحسنات البديعية التي كانت معروفة إلى عصره ، وإنما اقتصر منها على ستة وعشرين نوعا ، لعلها كانت في نظره أهم من غيرها أثرا في تحسين الكلام لفظا ومعنى ، كما أنه لم يزد على المحسنات جديدا من عنده.

والمحسنات البديعية المعنوية التي آثرها على غيرها ووقف عندها في كتابه تبلغ عشرين نوعا ، هي : المطابقة ، والمقابلة ، ومراعاة النظير ، والمزاوجة ، والمشاكلة ، والإيهام ، واللف والنشر ، والجمع ، والتفريق ، والتقسيم ، والجمع مع التفريق ، والجمع مع التقسيم ، والجمع مع التفريق والتقسيم ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، والتوجيه ، والاعتراض ، والالتفات ، والاستتباع الذي سماه الفخر الرازي الموجّه ، وسوق المعلوم مساق غيره لنكتة كالتوبيخ ، وتقليل اللفظ ولا تقليله مما يدخل في بعض صور الإيجاز والإطناب.

أما المحسنات البديعية اللفظية التي أوردها فهي : الجناس ، ورد العجز على الصدر ، والسجع ، والقلب ، والاشتقاق ، والترصيع.

وكل هذه الفنون البديعية مستمدة بأمثلتها من الفخر الرازي ، وقد عقب بعد سردها بقوله : «ويورد الأصحاب هنا أنواعا مثل كون الحروف منقوطة أو غير منقوطة ، أو البعض منقوطا والبعض غير منقوط بالسوية ، فلك أن تستخرج من هذا القبيل ما شئت ، وتلقب من ذلك بما أحببت».

٤٣

ولعل في هذا القول ما يعزز رأينا في سبب اقتصار السكاكي على ما ساقه من المحسنات البديعية ، وإيثارها على غيرها ، ذلك لأن الأمر كله مرجعه إلى الذوق والقدرة على التمييز أو التفصيل بين محسن بديعي وآخر من حيث الأثر الذي يحدثه في الارتفاع بالقول لفظا ومعنى.

٣ ـ ضياء الدين بن الأثير : ٥٨٨ ـ ٦٣٧ ه‍.

هو أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم محمد الشيباني المعروف با بن الأثير الجزري نسبة إلى جزيرة ولد فيها ، تدعى جزيرة ابن عمر بالموصل.

وضياء الدين بن الأثير هذا هو شقيق مجد الدين بن الأثير ، وعز الدين بن الأثير. وأبناء الأثير الثلاثة هؤلاء اشتهر كل منهم بفن من الفنون ، فمجد الدين المتوفى سنة ٦٠٦ للهجرة من رجال الحديث المشهورين وله مؤلفات مفيدة منها «النهاية في غريب الحديث والأثر» ، وعز الدين المتوفى سنة ٦٣٠ للهجرة من كبار المؤرخين ، وهو صاحب «الكامل في التاريخ» وهو أشهر كتب التاريخ المتداولة بين أيدينا ، ومن أوثق المصادر التاريخية الإسلامية وأوضحها ، بدأ فيه بالخليقة وانتهى إلى آخر سنة ٦٢٨ ه‍. والكتاب كله مرتب على السنين ، وقد جمع فيه خلاصة الكتب التاريخية التي تقدمته ، واقتبس فيه تاريخ الطبري كله تقريبا بعد حذف الأسانيد وتبعه في ترتيبه ، وجعله ١٢ جزءا كبيرا. ولعز الدين بن الأثير أيضا كتاب «أسد الغابة في معرفة الصحابة» وهو معجم أبجدي في تراجم الصحابة ، في خمسة مجلدات كبيرة.

أما ضياء الدين بن الأثير الأخ الأصغر فهو لغوي أديب ، ومؤلفاته كلها في الأدب والبيان وصناعة الكلام ، وأهم مؤلفاته كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر».

وكتاب «المثل السائر» الذي هو موضوع بحثنا هنا مقسم إلى مقدمة

٤٤

في علم البيان ، وإلى مقالتين : الأولى في الصناعة اللفظية ، والثانية في الصناعة المعنوية.

ويقول علماء البيان : «إن المثل السائر للنظم والنثر بمنزلة أصول الفقه لاستنباط أدلة الأخصام» فقد أتى فيه بما لم يسبقه أحد إليه ، ولعل هذا هو سبب زهوه وإعجابه بنفسه البادي في ثنايا كتابه.

وقد ألّف عز الدين بن أبي الحديد صاحب شرح نهج البلاغة والمتوفى سنة ٦٥٥ للهجرة كتابا سماه «الفلك الدائر على المثل السائر» يعنّف فيه ضياء الدين بن الأثير على غروره وتهجمه على من سبقوه ، ويصحح بعض آرائه ، وينقض اعتراضاته على الزمخشري والغزالي وأبي علي الفارسي وابن سينا والفارابي وغيرهم ممن تناولهم بالنقد والتجريح في كتابه.

والآن وبعد هذه الترجمة الموجزة لابن الأثير ننتقل إلى كتابه «المثل السائر» محاولين التعرف على ما أورد فيه من أنواع البديع.

وأول ما نلحظه بهذا الخصوص أنه لم ينظر إلى المحسنات البديعية كعلم قائم بذاته كما فعلت مدرسة عبد القاهر الجرجاني والزمخشري والسكاكي ومن لفّ لفهم ، وبالتالي لم يدرسها دراسة منفصلة عن البيان ، وإنما نراه يتوسع في مفهوم علم البيان بحيث يشمل مباحث علم المعاني والبديع ، مجاريا في ذلك مدرسة الجاحظ التي تعتبر كلمة البيان مرادفة لكلمة البلاغة.

من أجل ذلك نراه في مقالته (١) الأولى الخاصة بالصناعة اللفظية

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص : ٥٦ ـ ١٢٢.

٤٥

يتكلم عن المحسنات البديعية اللفظية ، وفي مقالته الثانية الخاصة بالصناعة المعنوية يعرض للمحسنات البديعية المعنوية.

وعنده أن المحسنات البديعية اللفظية هي صناعة تأليف الألفاظ ، ولهذا ساق منها في مقالته الأولى ثمانية أنواع ، عقد لكل نوع منها فصلا مستقلا ، وهذه الأنواع هي : السجع ، والتصريع ، والتجنيس ، والترصيع ، ولزوم ما لا يلزم ، والموازنة ، واختلاف صيغ الألفاظ ، وتكرير الحروف.

وهو في دراسته لهذه الأنواع لم يقف عند حد تعريفها وبيان أقسامها وتفريعاتها ، وإنما هو أيضا يمد دراسته لها إلى بيان ما يختص فيها بالكلام المنثور ، وما يختص بالكلام المنظوم ، وما يعم القسمين جميعا.

فالسجع عنده يختص بالكلام المنثور ، وعرفه بأنه تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد. وهو يطيل القول فيه على أساس أنه قد أصبح سمة من سمات الرسائل ، كما يسمي فواصل (١) القرآن المتحدة في الروي أسجاعا ، متخذا من ذلك دليله على أن السجع أعلى درجات الكلام.

والترصيع يختص بالكلام المنظوم ، وهو أن تكون كل لفظة من ألفاظ الشطر الأول مساوية لكل لفظة من ألفاظ الشطر الثاني في الوزن والقافية. وهذا لا يوجد في كلام الله تعالى لما هو عليه من زيادة التكلف ، وإنما هو يوجد في الشعر كقول بعضهم :

فمكارم أوليتها متبرعا

وجرائم ألغيتها متورعا

فمكارم بإزاء جرائم ، وأوليتها بإزاء ألغيتها ، ومتبرعا بإزاء متورعا ،

__________________

(١) يعني بالفواصل حروف المقاطع.

٤٦

وهو داخل عنده في باب السجع لأنه في الكلام المنظوم كالسجع في الكلام المنثور.

أما أنواع المحسنات البديعية اللفظية الأخرى ، وهي : التجنيس ، والتصريع ، ولزوم ما لا يلزم ، والموازنة ، واختلاف صيغ الألفاظ ، وتكرير الحروف ؛ فإنها عند ابن الأثير تعم القسمين جميعا.

وفي مقالته (١) الثانية الخاصة بالصناعة المعنوية تكلم ابن الأثير بإسهاب عن المعاني. وقد دعاه ذلك إلى الحديث عن بعض المحسنات البديعية المعنوية ، وهذه المحسنات هي : التجريد ، والالتفات ، والتفسير بعد الإبهام ، والاستدراج ، والاعتراض ، والأحاجي أو الألغاز ، والتناسب بين المعاني ويقسمه أقساما ثلاثة : الطباق ، وصحة التقسيم ، وترتيب التفسير الذي أراد به ما يشمل اللف والنشر. وقد توسع في معنى الطباق فجعله يشمل المقابلة ، والمشاكلة ، والمؤاخاة بين المعاني.

وتكلم عن الاقتصاد والتفريط والإفراط ، وهو يعني بالاقتصاد الحد الأوسط ، وبالتفريط التقصير بالمعنى ، وبالإفراط المبالغة ، وتحدث عن الاشتقاق وعده نوعا من الجناس ، كما تحدث عن التضمين ، وقسمه قسمين : الاقتباس من القرآن الكريم وأحاديث الرسول ، وهو يكسب الكلام حسنا وطلاوة ، وقسم آخر يجري في الشعر كما يجري في النثر ، إذ يعلّق معنى البيت بما بعده ، أو يعلّق فصل من الكلام المنثور بما يتلوه ، وفي رأيه أن ذلك مقبول ولا ينبغي أن يعاب على نحو ما عابه بعض النقاد في الشعر.

وأخيرا يتكلم عن الإرصاد ويقول إن أبا هلال سماه التوشيح ،

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص : ١٢٢ ـ ٣١٠.

٤٧

وحقيقته أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية أرصدها له ، أي أعدها في نفسه ، فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيته. وعنده أن ذلك من محمود الصنعة ، لأن خير الكلام ما دل بعضه على بعض.

أما التوشيح عند ضياء الدين فمعناه أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفين ، فإذا وقف من البيت على القافية الأولى أي الداخلية كان شعرا مستقيما من بحر وقافية ، وإذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى ، كان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر وقافية أخرى ، وصار ما يضاف إلى القافية الأولى للبيت كالوشاح.

فمن ذلك قول بعضهم :

اسلم ودمت على الحوادث مارسا

ركنا ثبير أو هضاب حراء (١)

ونل المراد ممكنا منه على ...

رغم الدهور وفز بطول بقاء

فهذان البيتان من بحر الكامل التام والقافية هي الهمزة ، ولكن إذا حذفنا من البيت الأول «أو هضاب حراء» ومن الثاني «وفز بطول بقاء» ظل البيتان قائمين وتحولا من بحر الكامل التام إلى بحر آخر هو مجزوء الكامل ، وأصبحت صورتهما هكذا :

اسلم ودمت على الحوا

دث مارسا ركنا ثبير

ونل المراد ممكنا

منه على رغم الدهور

ويعقب ضياء الدين على هذا النوع بأنه لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم ، وأن حسنه منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البراعة.

__________________

(١) ثبير : الجبل المعروف عند مكة. حراء جبل بمكة فيه غار ، وكان الرسول ، قبل أن يوحى إليه ، يأتيه ويخلو بغاره فيتحنث فيه ، أي يتعبد لله.

٤٨

وقد أشار صاحب المثل السائر أخيرا إلى اختلاف البلاغيين في بعض مصطلحات الفنون البديعية وألقابها ، بل منهم من يضع لفن واحد من البديع اسمين اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان ، وليس الأمر كذلك بل هما نوع واحد ، وذلك كما فعل «الغانمي» حينما ذكر «التبليغ» و «الإشباع» على أنهما نوعان من البديع مختلفان ، مع أنهما من حيث المضمون سواء ، لا فرق بينهما بحال ، كما ذكر أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين النوعين بعينهما «الإيغال» ، وهو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ، أي قافيته ، ثم يأتي بالمقطع فيزيد فيه معنى آخر ، كقول امرىء القيس :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقّب

فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية وهو «كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع» فلما احتاج إلى القافية وجاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة.

ولا يفوت ضياء الدين بعد ذلك أن يشير إلى ولع بعض الكتاب والشعراء بالمحسنات البديعية وتفننهم في اختراع صور منها خرجت بالكلام عن موضوع علم البيان.

وممن فعل ذلك الحريري في رسائل تضمنتها بعض مقاماته ، ففي رسالة نراه يبيّنها على كلمة مهملة وكلمة معجمة ، كقوله : «الكرم ، ثبت الله جيش سعودك ، يزين ، واللؤم ، غض الدهر جفن حسودك ، يشين ، والأروع يثيب ، والمعور (١) يخيب».

وفي رسالة ثانية يبنيها على عبارات تقرأ طردا وردا ، أي لا تستحيل

__________________

(١) المعور : كل من بدا فيه موضع خلل للضرب.

٤٩

بالانعكاس ، كقوله : «لذ بكل مؤمل إذا لّم وملك بذل».

وقوله :

أسل جناب غاشم

مشاغب إن جلسا

وفي رسالة ثالثة يبنيها على صورة تجعلها تقرأ من أولها بوجه ، ومن آخرها بوجه آخر ، كقوله : «الإنسان صنيعة الإحسان ، وكسب الشكر استثمار السعادة ، وفصاحة المنطق سحر الألباب ، وزينة الرعاة مقت السعاة ، وتناسي الحقوق ينشىء العقوق».

وفي رسالة رابعة ينشئها على أساس حرف غير منقوط ، وآخر منقوط كقوله :

سيّد قلّب سبوق مبرّ

فطن مغرب عزوف عيوف

مخلف متلف أغرّ فريد

نابه فاضل زكيّ أنوف

ويعلق ضياء الدين بن الأثير على مثل هذه الحيل البديعية بقوله : «كل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغة ، لأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها ، وكذلك البلاغة ، فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعاني ... وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسائله لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة ، وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة .... وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني ، فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه ولا داخلا في بابه. ولو كان ذلك مما يوصف بحسن في ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عزوجل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة ، أو ورد في كلام العرب الفصحاء ، ولم نره في شيء من أشعارهم وخطبهم» (١).

__________________

(١) المثل السائر ص : ٣٠٨.

٥٠

وأخيرا يصدر حكمه على هذا النوع من الكلام بقوله : «وكل ذلك وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان ، والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة لا بدرجة الفصاحة والبلاغة» (١).

وكأني بصاحب المثل السائر يرمي من وراء هذا التعليق إلى التنبيه على خطورة الإسراف في اختراع الحيل البديعية التي تفسد الأدب والذوق معا ، وتعطي الغلبة في صناعة القول للصنعة على الطبع.

ولعل فيما أوردناه عن ضياء الدين بن الأثير ما يعطي صورة عن فنون البديع التي عالجها كجزء من علم البيان لا كعلم قائم بذاته كما فعلت مدرسة عبد القاهر والزمخشري والسكاكي ومن تأثر بهم.

٤ ـ التيفاشي المغربي :

هو أحمد بن يوسف التيفاشي المغربي المتوفى بمصر سنة ٦٥١ للهجرة ، وله مؤلف في علم البديع أحصى فيه سبعين محسنا من المحسنات البديعية.

٥ ـ زكي الدين بن أبي الأصبع المصري :

المتوفي سنة ٦٥٤ للهجرة ، وله ثلاثة كتب هي : كتاب الأمثال (٢) وكتاب تحرير التجبير ، وكتاب بديع القرآن.

أما كتاب «الأمثال» فيتضمن ما جمعه ابن أبي الأصبع من أمثال أبي تمام ، وأمثال أبي الطيب المتنبي ، وما ولّده أبو الطيب من أمثال أبي تمام ،

__________________

(١) نفس المرجع. والشعبذة والشعوذة : خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأي العين.

(٢) انظر بخصوص هذا الكتاب خزانة الأدب لا بن حجة الحموي ص ٨٣.

٥١

وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال ، وزاد على ذلك أمثال دواوين الإسلام والحماسة ، وأمثال أبي نواس ، وختم الجميع بأمثال العامة ، وبما سار من أمثال الطغرائي في لامية العجم كقوله :

حب السلامة يثني عزم صاحبه

عن المعالي ويغري المرء بالكسل

أعلّل النفس بالآمال أرقبها ..

ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل!

وإنما رجل الدنيا وواحدها ..

من لا يعول في الدنيا على رجل

وأما كتاب «تحرير التحبير» فقد أحصى فيه من المحسنات البديعية مائة وعشرين نوعا ، بدأها بمحسنات ابن المعتز وقدامة ، وثنّى بما جمعه من كتب البلاغيين بعدهما ، فبلغ ذلك كله اثنين وتسعين محسنا ، ثم أضاف إلى هذا العدد ثلاثين محسنا جديدا ، منها عشرون من زياداته هو ، والباقي إما مسبوق إليه أو متداخل عليه.

وفي كتابه الثالث «بديع القرآن» عرض ابن أبي الأصبع لما في القرآن من محسنات بديعية بلغ بها مائة محسّن وثمانية ، كما يقول في مقدمة الكتاب.

ومما يلاحظ عليه أنه في معالجته لفنون البديع قد أدخل بعض مباحث المعاني في البديع ، وخاصة صور الإطناب ، كالتكرار والتفصيل ، والتذييل ، والاستقصاء ، والإيضاح ، والبسط ، والإيجاز. ومعنى ذلك أن البديع عنده ، وربما قبله ، أخذ يشتمل لا على الصور البيانية فحسب ، كما كان الشأن منذ ابن المعتز ، وإنما أخذ يشتمل أيضا على كثير من أساليب علم المعاني.

٦ ـ علي بن عثمان الأربلي :

المتوفى سنة ٦٧٠ من الهجرة كان معاصرا لا بن أبي الأصبع

٥٢

المصري ، وقد نظم قصيدة مدح من ستة وثلاثين بيتا في كل بيت منها نوع من أنواع البديع التي كانت شائعة في عصره. وقد وضع بإزاء كل بيت اسم المحسن البديعي الذي تضمنه.

وهذه القصيدة تعدّ المحاولة الأولى في الاتجاه الذي أخذ بعد ذلك يشيع بين الشعراء بدخولهم في ميدان البديع ينظمون فنونه في قصائد عرفت فيما بعد باسم «البديعيات».

وفيما يلي نموذج من بديعية الأربلي :

بعض هذا الدلال والإدلال

حال بالهجر والتجنب حالي

(الجناس اللفظي)

طلب دونه منال الثريا

وهوى دونه زوال الجبال

(الغلو)

وغرام أقله يذهل الآ

ساد في خيسها عن الأشبال

(المبالغة)

ما جد بعض فضله بذله الما

ل وقل الذي يجود بمال

(رد العجز على الصدر)

ليس فيه عيب يعدده الحساد

إلا العطاء قبل السؤال

(الاستثناء) (١)

٧ ـ ابن مالك :

هو بدر الدين محمد بن جمال الدين بن مالك الطائي الأندلسي أصلا الدمشقي دارا المتوفى سنة ٦٨٦ من الهجرة. وأبوه الشيخ جمال الدين بن مالك العالم النحوي صاحب الألفية المشهورة في النحو.

وبدر الدين نحوي كأبيه ، وله مؤلفات في النحو والبلاغة ، وكتابه

__________________

(١) انظر القصيدة وترجمة الأربلي في فوات الوفيات لا بن شاكر الكتبي ج ٢ ص : ١١٨.

٥٣

«المصباح في علوم المعاني والبيان والبديع» هو تلخيص لكتاب «مفتاح العلوم» للسكاكي. وقد جرّد كتابه من تعقيدات السكاكي المنطقية والكلامية والفلسفية التي قدّم بها لأقسام المفتاح وفصوله ، كما أدخل عليه بعض تعديلات ، أهمها نقل مبحث البلاغة والفصاحة من ذيل البيان إلى فاتحة مختصرة.

وقد جرى بدر الدين على رأي السكاكي في أن علمي المعاني والبيان يرجعان إلى البلاغة ، وأن المحسنات البديعية ترجع إلى الفصاحة ، كما اعترف بأن هذه المحسنات توابع لعلمي المعاني والبديع ، ولكنه مع ذلك جعلها علما مستقلا بذاته سماه «علم البديع» ، وبذلك مهد الطريق أمام البلاغة لتصبح متضمنة علوما ثلاثة : المعاني والبيان والبديع.

ولعل أهم شيء تميّز به المختصر على الأصل هو توسع بدر الدين في المحسنات البديعية ، فقد ذكر منها أربعة وخمسين نوعا ، على حين ذكر السكاكي منها ستة وعشرين فقط. ولا ريب أن بدر الدين كان متأثرا في ذلك برجال البديع في عصره ، فقد توسعوا في إحصاء أنواعه حتى تجاوزوا بها المائة ، بل إن منهم من بلغ بها مائة وخمسة وعشرين نوعا.

وقد ردّ بدر الدين المحسنات البديعية التي عرض لها في كتابه إلى الفصاحة اللفظية والمعنوية مجاريا في ذلك السكاكي وغيره من أصحاب البديع المتقدمين عليه.

ولكنه انفرد عنهم جميعا بجعل المحسنات البديعية المعنوية قسمين : قسما يعود إلى الإفهام والتبيين ، مثل : المذهب الكلامي ، والتتميم ، والتقسيم ، والاحتراس ، والتذييل ، والاعتراض ، والتجريد ، والمبالغة ، وقسما يعود إلى التزيين والتحسين ، مثل ، اللف والنشر ، والجمع مع التقسيم ، والجمع مع التفريق.

٥٤

ذلك هو مدى التطور الذي تم لعلم البديع في القرن السابع الهجري على أيدي سبعة من أشهر رجاله هم : فخر الدين الرازي ، والسكاكي ، وضياء الدين ابن الأثير ، والتيفاشي المغربي ، وابن أبي الأصبع المصري ، وعلي بن عثمان الأربلي ، وبدر الدين بن مالك.

وإذا انتقلنا إلى القرن الثامن الهجري فإننا نلتقي بستة علماء كان لهم اهتمام بالبديع وفنونه ، ومن هؤلاء من عرض للبديع في ثنايا درسه للبيان العربي بمفهومه العام ، ومنهم من قصد قصدا إلى دراسة البديع لذاته في عمل مستقل.

وفيما يلي نبذة عن كل عالم من أولئك العلماء توضح الجهد الذي بذله والمساهمة التي أسهم بها في دراسة علم البديع.

١ ـ يحيى بن حمزة :

هو يحيى بن حمزة العلوي اليمني المتوفى سنة ٣٤٩ للهجرة ، وقد اشتهر بعلوم النحو والبلاغة وأصول الفقه ، وله فيها مصنفات مختلفة ، يهمنا منها كتابه المسمى «الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز» والذي يقع في ثلاثة أجزاء.

ففي مقدمة هذا الكتاب يقفنا يحيى بن حمزة على حقيقتين : الأولى أن من ألّفوا في البلاغة إما مطيل ممل وإما موجز مخل ، والحقيقة الثانية أنه لم يطلع إلا على أربعة كتب مما كتبه البلاغيون قبله ، وهذه هي : «المثل السائر» لا بن الأثير ، وكتاب «التبيان في علم البيان» لعبد الواحد الزملكاني الدمشقي ، وكتاب «نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز» للفخر الرازي ، وكتاب «المصباح في المعاني والبيان والبديع» لبدر الدين بن مالك.

كذلك يعطي في المقدمة السبب الذي دعاه إلى تأليف كتابه ، ومفاده

٥٥

أنه شرع يقرأ على بعض طلابه كتاب الكشاف للزمخشري فطلبوا منه أن يؤلف لهم كتابا في البلاغة يسترشدون به في فهم الكشاف المؤسس على البلاغة وقواعدها ، فأجابهم إلى طلبهم وألّف لهم هذا الكتاب.

والكتاب بحث في قواعد البلاغة سواء ما اتصل منها بالمعاني أو البيان أو البديع الذي يعنينا هنا في المحل الأول.

وكل ما ذكره يحيى بن علي في كتابه عن علم البديع قد استوحاه في الواقع من كتاب «المصباح في المعاني والبيان والبديع» لبدر الدين بن مالك.

فهو يجري مع بدر الدين في تقسيم علم البديع إلى ما يتعلق بالفصاحة اللفظية ، وما يتعلق بالفصاحة المعنوية. وفي بحثه للفصاحة اللفظية ساق يحيى بن علي عشرين محسنا لفظيا ، منها الجناس ، والترصيع ، والتوشيح ، والالغاز ، وقد عدّ من ذلك الطباق مع أنه من محسنات المعنى لا اللفظ.

وفي حديثه عن الفصاحة المعنوية أورد خمسة وثلاثين محسنا معنويا ، منها التشبيه ، والسرقات الشعرية مستوحيا ما قاله فيها من كلام ابن الأثير. ثم ختم حديثه عن البديع بتحديد معناه وبيان أقسامه إجمالا. تلك خلاصة موجزة لما جاء في كتاب يحيى بن علي عن علم البديع.

٢ ـ التنوخي :

صاحب كتاب الأقصى القريب في علم البيان.

هو محمد بن عمرو التنوخي المتوفى سنة ٧٤٩ للهجرة ، كان معاصرا ليحيى بن علي وتوفيا في سنة واحدة.

وفي عنوان الكتاب ما ينبىء عن منحى التنوخي ومفهومه للبيان أو

٥٦

البلاغة. فهو لا يجري على طريقة عبد القادر والزمخشري والسكاكي ، تلك الطريقة التي تقوم على أساس التمييز والفصل بين علوم البلاغة الثلاثة المعروفة ، وإنما نراه يتبع طريقة ابن الأثير التي تعد البلاغة وحدة عضوية مترابطة.

ثم هو بعد ذلك يخالف ابن الأثير في طريقة البحث والمعالجة ، فإذا كان ابن الأثير يعتمد في بحثه على الذوق الأدبي ، فإن التنوخي يعتمد على النحو والمنطق.

على أن حظ البديع من كتاب التنوخي ضئيل ، فهو يتكلم فيه عن الاعتراض ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم الذي يعده صورة من صور الكناية ، كما يتكلم عن الاشتقاق ، والتكرار ، والتقسيم ، والمبالغة ، والتضمين ، والاستدراج ، والسجع ، ولزوم ما لا يلزم ، والجناس الذي أطال فيه. وكذلك ذكر أنواعا من البديع يمكن أن ترد إلى البيان. مثل التوشيح أو الموشحات.

تلك هي فنون البديع التي ساقها التنوخي في كتابه ، وهي من ناحية قليلة العدد ، ومن ناحية أخرى جاءت مختلفة في الكتاب على حسب مقتضيات البحث ، فلا فصل ولا تفريق بين اللفظي والمعنوي منها ، كما فعل بعض البلاغيين المتقدمين عليه.

٣ ـ ابن قيم الجوزية (١) :

هو شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيّم الجوزية المتوفى سنة ٧٥١ للهجرة.

__________________

(١) انظر ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج ٤ ص : ٢١.

وفي النجوم الزاهرة ج ٤ ص : ٢٤٩.

٥٧

كان بارعا في عدة علوم ، ما بين تفسير وفقه ، ولغة ونحو ، وحديث وأصول. ولزم شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية ، وغلب عليه حبه له حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله ، بل ينتصر له في جميع ذلك ، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه. واعتقل مع ابن تيمية في قلعة دمشق ، فلما مات ابن تيمية أفرج عنه. وكان مغرما بجمع الكتب فحصل منها ما لا يحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا ، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم.

وقد صنّف وألّف كتبا كثيرة منها : «كتاب الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلوم البيان» ، وهو يحتوي على مقدمة وقسمين. وفي المقدمة إشادة بعلوم البيان ، لأن العلم بها في نظره يعين على معرفة إعجاز القرآن. وفي المقدمة يتحدث أيضا عن بعض مباحث البيان من حقيقة ومجاز واستعارة وتمثيل.

وفي القسم الأول من الكتاب يتحدث عن الكناية ، ثم يتطرق إلى محسنات البديع المعنوية فيحصي منها نحو ثمانين نوعا ، وفي القسم الثاني الذي عقده للفصاحة يتكلم عن المحسنات البديعية اللفظية ويذكر منها أربعة وعشرين نوعا.

تلك هي مباحث الكتاب بإيجاز ، وهي في الواقع ترديد لما اهتدى إليه المتقدمون في ميدان البيان أو البديع ، وليس لا بن الجوزية فيها إلا فضل الجمع ، وإن كان جمعا ينقصه دقة الترتيب والتبويب.

٤ ـ صفي الدين الحلي (١) :

هو الشاعر المشهور صفي الدين عبد العزيز بن سرايا الطائي الحلي

__________________

(١) انظر ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني ج ٢ رقم : ٢٤٣١.

٥٨

المتوفى سنة ٧٥٠ للهجرة. أحب الأدب ومهر في فنون الشعر كلها ، وتعلم المعاني والبيان ، وصنّف فيها ، واحترف التجارة ، فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في التجارة ، ثم يرجع إلى بلاده ، وفي غضون ذلك يمدح الملوك والأعيان.

وديوان صفي الدين الحلي مشهور يشتمل على فنون كثيرة من الشعر ، وله في مدح الرسول قصيدة طويلة تبلغ مائة وخمسة وأربعين بيتا من بحر البسيط ، وهي على غرار بردة البوصيري المشهورة موضوعا ووزنا وقافية.

وهذه القصيدة هي المعروفة ببديعية صفي الدين والتي مطلعها :

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقر السّلام على عرب بذي سلم

وهذه البديعية تشتمل على مائة وخمسة وأربعين محسنا ، لأن كل بيت فيها يتضمن محسنا من محسنات البديع. وقد قصر الأبيات الخمسة الأولى منها على الجناس الذي جعل له فيها اثني عشر نوعا.

ومطلع بديعية الحلي المشار إليه آنفا يشتمل من المحسنات على براعة الاستهلال أو حسن الابتداء كما يسميه ابن المعتز ، ويعني به دلالة المطلع من البدء على موضوع القصيدة.

كذلك يشتمل المطلع على نوعين من الجناس بين «سلام وسلم» و «علم وسلم».

وقد سمى الحلي بديعيته «الكافية البديعية في المدائح النبوية» وألّف عليها شرحا سماه «النتائج الإلهية في شرح الكافية البديعية» ، وفي مقدمة الشرح نبذة عمن سبقه إلى التأليف في البديع. ويقول ابن حجة الحموي

٥٩

إن الحلي «ذكر أنه جمع بديعيته من سبعين كتابا» (١). ولهذه البديعية شرح آخر وضعه عبد الغني النابلسي وسماه «الجوهر السني في شرح بديعية الصفي».

ويلاحظ على بديعية الحلي أنه لم يلتزم فيها تسمية النوع البديعي في كل بيت ، اكتفاء بالتعريف به عن طريق المثال. ولعله أراد بذلك أن يسبغ على بديعيته صفة الوضوح والجمال الشعري ، وأن يجنبها صفة التعقيد في النظم عند التزام تسمية النوع البديعي في البيت.

وإذا كانت قصيدة الأربلي السابقة الذكر هي المحاولة الأولى في القصائد البديعيات فإن بديعية صفي الدين الحلي هي المحاولة الثانية في هذا الاتجاه.

٥ ـ ابن جابر الأندلسي (٢) :

هو محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي الضرير المتوفى سنة ٧٨٠ للهجرة. قرأ القرآن والنحو والحديث على شيوخ عصره وكان شاعرا جيد النظم عالما بالعربية ، وذكر لسان الدين بن الخطيب في تاريخ غرناطة أن ابن جابر نظم فصيح ثعلب ، وكفاية المتحفظ ، وغير ذلك.

وقد رحل من الأندلس إلى مصر والشام واصطحب معه أبا جعفر الغرناطي ، فكان ابن جابر ينظم الشعر والغرناطي يكتب.

ولابن جابر بديعية على قافية الميم من بحر البسيط سماها «الحلة

__________________

(١) انظر خزانة الأدب لتقي الدين ابن حجة الحموي ص : ٣٦٨.

(٢) ترجمته في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ج ٣ ص : ٤٢٩.

وفي نكت الهميان للصفدي ص : ٢٤٤.

٦٠