علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

ومن أمثلة الجمع مع التفريق شعرا قول رشيد الدين الوطواط :

فوجهك كالنار في ضوئها

وقلبي كالنار في حرّها

فقد جمع بين وجه الحبيب وقلب نفسه في حكم واحد هو تشبيههما بالنار ، ثم فرّق بينهما في ذلك الحكم من جهة وجه الشبه في كليهما ، فوجه الحبيبة كالنار في ضوئها ولمعانها ، وقلب الشاعر كالنار في حرارتها ولهبها المحرق.

ومن الشواهد أيضا قول الفخر عيسى :

تشابه دمعانا غداة فراقنا

مشابهة في قصة دون قصة

فوجنتها تكسو المدامع حمرة

ودمعي يكسو حمرة اللون وجنتي

فالشاعر هنا جمع بين الدمعين ساعة الفراق في الشبه ، ثم فرّق بينهما بأن دمع الحبيبة أبيض فإذا جرى على خدها صار أحمر بسبب احمرار خدّها ، وأنّ دمعه أحمر لأنه يبكي دما وجسده من النحول والشحوب أصفر فإذا جرى دمعه على خده صيّره أحمر.

ومن أمثلة الجمع مع التفريق كذلك قول البحتري :

ولما التقينا والنقا موعد لنا

تعجّب رائي الدرّ منا ولاقطه

فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها

ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه

فالبحتري في بيتيه هذين جمع بين رائي الدر ولاقطه في حكم واحد هو التعجب ، ثم فرّق بينهما في ذلك الحكم ، أي من جهة التعجب ، فرائي الدر يتعجب من ثناياها اللؤلؤية التي تبدو له عند ابتسامها ، ولاقط الدر يتعجب مما تنفرج عنه شفتاها عند الحديث من كلمات يلتقطها وكأنها اللؤلؤ قيمة ونفاسة.

١٦١

الجمع مع التفريق والتقسيم

وهو الجمع بين شيئين أو أشياء في حكم واحد ، ثم التفريق بينها في ذلك الحكم ، ثم التقسيم بين الشيئين أو الأشياء المفرقة بأن يضاف إلى كل ما يلائمه ويناسبه.

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)(١).

أما الجمع ففي قوله : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن قوله (نَفْسٌ) متعدد معنى ، أي جمع الأنفس بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ،) ثم فرق بينهم بأن بعضهم شقي وبعضهم سعيد ، ثم قسم بأن أضاف إلى الأشقياء ما لهم من عذاب النار ، وإلى السعداء ما لهم من نعيم الجنة.

ومن الجمع مع التفريق والتقسيم شعرا قول ابن شرف القيرواني :

لمختلفي الحاجات جمع ببابه

فهذا له فن وهذا له فنّ

فللخامل العليا وللمعدم الغنى

وللمذنب العتبى وللخائف الأمن (٢)

فمختلفي الحاجات جمع بينهم في حكم واحد هو الاجتماع أمام

__________________

(١) يوم يأتي : أي يوم يأتي أمر ربك ، والزفير : إخراج النفس بشدة ، والشهيق رد النفس بشدة ، وعطاء غير مجذوذ : أي عطاء غير مقطوع.

(٢) الفنّ هنا : الحال ، والخامل : ساقط النباهة الذي لاحظ له ، مأخوذ من خمل المنزل خمولا إذا عفا ودرس ، وللمذنب العتبى : أي الرضا عنه والتجاوز عن ذنبه.

١٦٢

بابه ، ثم فرّق بينهم في ذلك الحكم من جهة أن كلا منهم له حال خاصة تخالف حال غيره ، ثم عاد فقسّم بأن أضاف إلى كل واحد منهم ما يناسب حاله ، فللخامل العليا ، وللمعدم الغنى ، وللمذنب العتبى ، وللخائف الأمن.

١٦٣

تأكيد المدح بما يشبه الذم

أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي عبد الله بن المعتز ، فقد عده في كتابه «البديع» من محاسن الكلام ، وسمّاه «تأكيد مدح بما يشبه الذم» وأورد له مثالين ، هما قول النابغة الذبياني :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

وقول النابغة الجعدي :

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد فما يبقي من المال باقيا

ومن البلاغيين من يسمي هذا الفن البديعي «الاستثناء» ناظرين إلى أن حسنه المعنوي ناشىء من أثر أداة الاستثناء التي يبنى عليها ، ولكن تسمية ابن المعتز له أدلّ في الواقع عليه من تسميته «بالاستثناء».

* * *

وتأكيد المدح بما يشبه الذم ضربان :

١ ـ أولهما ، وهو في الوقت ذاته أفضلهما ، أن يستثنى من صفة ذم

١٦٤

منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها في صفة الذم.

كقول النابغة الذبياني السابق :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب (١)

فالنابغة هنا نفى أولا عن ممدوحيه صفة العيب ثم عاد فأثبت لهم بالاستثناء عيبا هو أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب ، وهذه ليست في الواقع صفة ذم وإنما هي صفة مدح أثبتها الشاعر لممدوحيه وأكدها بما يشبه الذم.

وتأكيد المدح في هذا الضرب من وجهين : أحدهما أن التأكيد فيه هو من جهة أنه كدعوى الشيء ببيّنة وبرهان ، كأنه استدل على أنه لا عيب فيهم بأن ثبوت عيب لهم معلق بكون فلول السيف عيبا وهو محال.

والوجه الثاني أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال ، بمعنى أن المستثنى يكون داخلا في المستثنى منه وفردا من أفراده ، وعلى هذا فإذا قيل :

«ولا عيب فيهم غير ...» فإن السامع يتوهم بمجرد التلفظ بأداة الاستثناء «غير» أو نحوها وقبل النطق بما بعدها أن ما يأتي بعدها وهو المستثنى لا بدّ أن يكون صفة ذم ، فإذا ولى أداة الاستثناء صفة مدح تبدد توهم السامع بهذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها. لقد توهم أن الذي سيلي أداة الاستثناء لا بدّ أن يكون صفة ذم فإذا به يفاجأ بأنها صفة مدح. ومن هنا يجيء التوكيد لما فيه من المدح على المدح ، ومن الإشعار بأن المتكلم لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح وتحويل الاستثناء من متصل إلى منقطع.

__________________

(١) الفلول : جمع فل ، وهو الثلم يصيب السيف في حده ، وقراع الكتائب : مضاربة الجيوش ومقاتلتها عند اللقاء.

١٦٥

٢ ـ والضرب الثاني من تأكيد المدح بما يشبه الذم يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له.

ومثال ذلك قول الرسول : «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» ، و «بيد» بمعنى «غير» وهو أداة استثناء ، وأصل الاستثناء في هذا الضرب أن يكون منقطعا ، ولم يقدر متصلا لأنه ليس هنا صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها.

وإذا لم يمكن تقدير الاستثناء متصلا في هذا الضرب فلا يفيد التوكيد إلا من الوجه الثاني ، وهو أن ذكر أداة الاستثناء يوهم إخراج شيء مما قبلها من حيث أن الأصل في مطلق الاستثناء هو الاتصال ، فإذا ذكر بعد الأداة صفة مدح أخرى جاء التوكيد.

ومن تأكيد المدح بما يشبه الذم ضرب آخر وهو أن يؤتى بمستثنى فيه معنى المدح معمولا لفعل فيه معنى الذم ، وذلك نحو قوله تعالى : (وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا). أي وما تعيب منا إلا الإيمان بالله الذي هو أصل المناقب والمفاخر كلها.

فالفعل (تَنْقِمُ) فيه معنى العيب والذم ، والمستثنى بإلا وهو مصدر الإيمان المؤول من «أن آمنا» يتضمن صفة مدح ، وهو في الوقت ذاته معمول الفعل (تَنْقِمُ). فهذا المثال ونظائره مما تأتي فيه صفة المدح الواقعة

بعد أداة الاستثناء معمولا لفعل فيه معنى الذم ـ يعد ضربا آخر من تأكيد المدح بما يشبه الذم.

وفي هذا الأسلوب البديعي قد تأتي أدوات الاستثناء من مثل «إلا ، وغير ، وسوى» بمعنى «لكن» التي للاستدراك ، وعندئذ يكون تأكيد المدح

١٦٦

بما يشبه الذم فيها من الضرب الثاني الذي يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له. وذلك كقول الشاعر :

هو البحر إلا أنه البحر زاخرا

سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

فالممدوح هنا هو البحر ، لكنه البحر زاخرا ، لكنه الضرغام ، لكنه الوبل أي المطر ، فقد شبه الممدوح بالبحر وهذه صفة مدح ، ثم أكدت هذه الصفة بصفات مدح أخرى هي : أنه البحر زاخرا ، وأنه الضرغام شجاعة ، وأنه الوبل أي المطر غزارة. وكل ذلك قد ثبت وتأكد بالاستدراك الذي أزال توهم السامع بالاستثناء لصفات ذم وأحل محلها صفات مدح.

وبعد ... فتجدر الإشارة هنا إلى أن تسمية هذا الفن البديعي «بتأكيد المدح بما يشبه الذم» قد نظر فيها إلى الأعم الأغلب ، وإلا فقد يكون ذلك في غير المدح والذم ويكون من محسنات الكلام ، كقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ). يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فلا يحل لكم غيره ، وذلك غير الممكن.

والغرض بطبيعة الحال هنا هو المبالغة في تحريم هذا النوع من الزواج وسد الطريق إلى إباحته. ويمكن تسمية ما يأتي من هذا القبيل «بتأكيد الشيء بما يشبه نقيضه».

* * *

وتتمة لما سبق وزيادة في توضيحه نورد فيما يلي بعض أمثلة مما جادت به قرائح الشعراء فيه.

١٦٧

فالضرب الأول من تأكيد المدح بما يشبه الذم هو ، كما عرفنا ، أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح بتقدير دخولها في صفة الذم. ومن أمثلة ذلك :

١ ـ قول أبي هفّان الشاعر :

ولا عيب فينا غير أن سماحنا

أضرّ بنا ، والبأس من كل جانب

فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم

وأفنى الندى أموالنا غير عائب

فقوله إن السماح والبأس أضرّا بهم ليس بعيب على الحقيقة ، ولكنه توكيد مدح. ومما زاد المعنى ملاحة ولطف موقع ما تضمنه من احتراس بديع في قوله «غير ظالم وغير عائب».

٢ ـ وقول ابن الرومي :

ليس له عيب سوى أنه

لا تقع العين على شبهه

فجعل انفراده في الدنيا بالحسن دون أن يكون له قرين يؤنسه عيبا ، فهو بذلك يزيد توكيد حسنه.

٣ ـ وقول حاتم الطائي :

وما تشتكي جارتي غير أنني

إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري ويرجع أهلها

إليها ولم تقصر عليّ ستورها

٤ ـ وقول أبي هلال العسكري :

ولا عيب فيه غير أن ذوي الندى

خساس إذا قيسوا به ولئام

٥ ـ وقول شاعر :

ولا عيب فيكم غير أن ضيوفكم

تعاب بنسيان الأحبة والوطن

١٦٨

٦ ـ وقول صفي الدين الحلي في المعنى السابق :

لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم

يسلو عن الأهل والأوطان والحشم

٧ ـ وقول جمال الدين بن نباتة :

لا عيب فيه سوى العزائم قصّرت

عنها الكواكب وهي بعد تحلق

٨ ـ وأعظم الشواهد على هذا النوع قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً.)

* * *

والضرب الثاني من تأكيد المدح بما يشبه الذم يتمثل في إثبات صفة مدح لشيء تعقبها أداة استثناء يكون المستثنى بها صفة مدح أخرى له.

ومن أمثلته :

١ ـ قول النابغة الجعدي :

فتى كملت أخلاقه غير أنه

جواد فما يبقى من المال باقيا

فتى كان فيه ما يسر صديقه

على أن فيه ما يسيء الأعاديا

٢ ـ وقول شاعر آخر :

أدافع عن أحسابهم غير أنني

وحاشاي يوما لا أمنّ عليهمو

٣ ـ وقول شاعر ثالث :

أطلب المجد دائبا غير أني

في طلابي لا تعرف اليأس نفسي

١٦٩

تأكيد الذم بما يشبه المدح

وتأكيد الذم بما يشبه المدح كعكسه السابق ضربان :

١ ـ أحدهما أن يستثنى من صفة مدح منفية عن الشيء صفة ذم ، بتقدير دخولها في صفة المدح.

وذلك نحو قول القائل : «فلان لا خير فيه إلا أنه يسيء إلى من أحسن إليه».

٢ ـ وثانيهما أن يثبت للشيء صفة ذم وتعقّب بأداة استثناء تليها صفة ذم أخرى له. وذلك كقول القائل : «فلان فاسق إلا أنه جاهل».

والضرب الأول يفيد التأكيد من وجهين ، والثاني من وجه واحد ، كما مر من تأكيد المدح بما يشبه الذم.

المذهب الكلامي

المذهب الكلامي نوع كبير من أنواع البديع المعنوي ، وقد عده ابن المعتز أحد الفنون البديعية الخمسة الأساسية التي بنى عليها كتابه

١٧٠

«البديع» ، وقال عنه : «هو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي. وهذا باب ما أعلم أني وجدت في القرآن منه شيئا ، وهو ينسب إلى التكلف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (١).

ولكن ابن المعتز لم يذكر مفهوم الجاحظ لهذا الفن البديعي كما أنه لم يحاول هو تحديده ، وكل ما فعله أنه ذكر بعض أمثلة له ، منها قول الفرزدق :

لكل امرىء نفسان : نفس كريمة

وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها

ونفسك من نفسيك تشفع للندى

إذا قل من أحرار هنّ شفيعها

ومنها قول أبي نواس :

إن هذا يرى ـ ولا رأي للأح

مق ـ أني أعده إنسانا

ذاك في الظن عنده وهو عندي

كالذي لم يكن وإن كان كانا

وقول إبراهيم بن المهدي يعتذر للمأمون من وثوبه على الخلاقة :

البرّ منك وطاء العذر عندك لي

فيما فعلت فلم تعذل ولم تلم

وقام علمك بي فاحتج عندك لي

مقام شاهد عدل غير متهم

وإذا تأملنا كل مثال من هذه الأمثلة وجدنا أن الشاعر يدعي دعوى ثم يحاول التماس دليل مقنع عليها. تماما كما يفعل المتكلمون بإيراد الحجج العقلية على دعاواهم.

وعلى هذا فأغلب الظن أن مفهوم المذهب الكلامي عند الجاحظ وابن المعتز كما توحي به الأمثلة السابقة هو : اصطناع مذهب المتكلمين العقلي في الجدل والاستدلال وإيراد الحجج والتماس العلل ، وذلك بأن

__________________

(١) كتاب البديع لا بن المعتز ص ٥٣ ـ ٥٧.

١٧١

يأتي البليغ على صحة دعواه بحجة قاطعة أيا كان نوعها.

ولعل مما يؤكد ذلك قول الجاحظ في معرض المعرفة والاستدلال : «ولو لا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى ، كما أنه لو لا الاستدلال لما كان لوضع الدلالة معنى ..... وللعقل في خلال ذلك مجال ، وللرأي تقلب ، وتنشر للخواطر أسباب ، ويتهيأ لصواب الرأي أبواب» (١).

* * *

وقد عرض البلاغيون بعد ابن المعتز للمذهب الكلامي وعدوه من فنون البديع ، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري وابن رشيق القيرواني.

وكلام هذين الأديبين لم يزد في جملته على ما قاله ابن المعتز نقلا عن الجاحظ ، ولكن أبا هلال يعلق بملاحظة ذكية على قول ابن المعتز ، فيقول في مستهل كلامه عن المذهب الكلامي : «جعله عبد الله بن المعتز الباب الخامس من البديع ، وقال : ما أعلم أني وجدت منه شيئا في القرآن وهو ينسب إلى التكلف ، فنسبه إلى التكلف وجعله من البديع» (٢)!.

كما أن ابن رشيق يقرر أنه «مذهب كلاميّ فلسفيّ» (٣) كما جاء في تعقيبه على بيتين من شعر أبي نواس.

* * *

وإذا ما انتهينا إلى العصور المتأخرة فإننا نجد الخطيب القزويني «٧٣٩ ه‍» يعرف المذهب الكلامي بقوله : «هو إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام ، نحو : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا)(٤).

__________________

(١) كتاب الحيوان ج ٢ ص ١١٥ ـ ١١٦.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٤١٠.

(٣) كتاب العمدة ج ٢ ص ٧٦.

(٤) كتاب التلخيص للقزويني ص ٣٧٤.

١٧٢

والقزويني يقصد «بطريقة أهل الكلام» أن تكون الحجة بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب. ففي قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) اللازم ، وهو فساد السموات والأرض باطل ، لأن المراد به خروجهما عن النظام الذي هما عليه ، فكذا الملزوم وهو تعدد الآلهة باطل.

ومثل هذه الآية الكريمة قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي والإعادة أهون عليه من البدء ، والأهون من البدء أدخل في الإمكان من البدء. فالإعادة أدخل في الإمكان من البدء وهو المطلوب.

وقد استشهد القزويني على هذا الفن البديعي أيضا بأبيات من قصيدة للنابغة الذبياني يعتذر فيها إلى النعمان بن المنذر ، وهي :

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب (١)

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش وأكذب

ولكنني كنت امرأ لي جانب

من الأرض فيه مستراد ومذهب (٢)

ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم

أحكم في أموالهم وأقرب

كفعلك في قوم أراك اصطفيتهم

فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا

فالقضية كما يفهم من القصيدة التي منها هذه الأبيات أن النابغة قد كان مدح آل جفنة بالشام فتنكر النعمان لذلك وغضب على الشاعر. وفي هذه الأبيات التي هي مثال للمذهب الكلامي يجادل النابغة النعمان بالمنطق ويدافع عن نفسه بالحجج وبأنه لم ينحرف عن ولائه له ، وليس من العدل التفرقة في الحكم بين مدح ومدح. ثم ينتهي بالحجة الدامغة

__________________

(١) الريبة : الشك.

(٢) مستراد : موضع يتردد فيه لطلب الرزق ، وهو من راد كلأ بمعنى طلبه.

١٧٣

فيقول : أنت أحسنت إلى قوم أراك اصطفيتهم فمدحوك ، وأنا أحسن إليّ قوم فمدحتهم ، فكما أن مدح أولئك لك لا يعد ذنبا ، فكذلك مدحي لمن أحسن إليّ لا يعد ذنبا.

ففي المذهب الكلامي قضايا ودعاوى يدافع عنها بالمنطق والجدل ، والحجج والأدلة المقنعة ، كما رأينا.

* * *

وممن جاءوا بعد القزويني وعرضوا للمذهب الكلامي ابن حجة الحموي أحد علماء وأدباء القرن التاسع الهجري.

ففي مستهل حديثه عنه يقول : «المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ. وهو في الاصطلاح أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام ، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة».

ثم يستطرد إلى الرد على قول ابن المعتز بأنه لا يعلم ذلك في القرآن ، يعني المذهب الكلامي ، فيقول ابن حجة : «وليس عدم علمه مانعا علم غيره ، إذ لم يستشهد على هذا المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن ، وأصح الأدلة في شواهد هذا النوع وأبلغها قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ،) هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله ، وتمام الدليل أن تقول : لكنهما لم تفسدا ، فليس فيهما آلهة غير الله».

ومن أدلته أيضا عنده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» ، وتمام الدليل أن يقال : لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم. فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه.

١٧٤

ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي :

لو يكون الحبّ وصلا كله

لم تكن غايته إلا الملل

أو يكون الحب هجرا كله

لم تكن غايته إلا الأجل

إنما الوصل كمثل الماء لا

يستطاب الماء إلا بالعلل

فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي ، فإنه قاس الوصل على الماء ، فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش ، فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر.

وعند ابن حجة أن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره ، وأعذب في الذوق ، وأسهل في التركيب ، فإنه جملة واقعة بعد «لو» الشرطية وجوابها ، وهذه الجملة على اصطلاح المناطقة مقدمة شرطية يستدل بها على ما تقدم من الحكم (١).

اللف والنشر

ويسميه بعض البديعيين «الطي والنشر» : وهو ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين ، ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك بالقرائن اللفظية أو المعنوية.

وهذا يعني أن تذكر شيئين فصاعدا إما تفصيلا فتنص على كل واحد منهما ، وإما إجمالا فتأتي بلفظ واحد يشتمل على متعدد وتفوض إلى العقل رد كل واحد إلى ما يليق به من غير حاجة إلى أن تنص أنت على ذلك.

__________________

(١) ارجع إلى كلام ابن حجة الحموي عن هذا النوع البديعي في كتابه «خزانة الأدب» ص ١٦٥.

١٧٥

أقسامه :

واللف والنشر كما يفهم من التعريف السابق قسمان :

الأول : ذكر المتعدد على التفصيل وهو ضربان :

١ ـ أحدهما : أن يكون النشر على ترتيب اللف بأن يكون الأول من المتعدد في النشر للأول من المتعدد في اللف ، والثاني للثاني ، وهكذا إلى الآخر. وهذا الضرب هو الأكثر في اللف والنشر والأشهر.

ومن شواهد هذا الضرب بين اثنين قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء من فضل الله راجع إلى النهار على الترتيب.

ومن شواهده شعرا قول الشاعر :

ألست أنت الذي من ورد نعمته

وورد راحته أجني وأغترف؟

ومنها أيضا مع زيادة التورية قول شاعر آخر :

سألته عن قومه فانثنى

يعجب من إسراف دمعي السخي

وأبصر المسك وبدر الدجى

فقال ذا خالي وهذا أخي

ومن شواهده بين ثلاثة وثلاثة قول ابن حيوس :

ومقرطق يغني النديم بوجهه

عن كأسه الملأى وعن إبريقه (١)

فعل المدام ولونها ومذاقها

من مقلتيه ووجنتيه وريقه

ومنها قول ابن الرومي :

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم

في الحادثات إذا دجون نجوم

__________________

(١) المقرطق : لابس القرطق ، أي القباء بفتح القاف وهو نوع من الثياب.

١٧٦

فيها معالم للهدى ومصابح

تجلو الدجى والأخريات رجوم (١)

ومثله قول حميدة الأندلسية :

ولما أبي الواشون إلا فراقنا

وما لهمو عندي وعندك من ثار

غزوناهمو من ناظريك وأدمعي

وأنفاسنا بالسيف والسيل والنار

ومن شواهد ذكر المتعدد على التفصيل والترتيب بين أربعة وأربعة قول الشاب الظريف شمس الدين بن العفيف :

رأى جسدي والدمع والقلب والحشا

فأضنى وأفنى واستمال وتيما

ومن شواهده أيضا قول الشاعر :

ثغر وخد ونهد واحمرار يد

كالطلع والورد والرمان والبلح

وقد افتن الشعراء في هذا النوع من اللف والنشر المفصل المرتب حتى بلغوا فيه إلى الجمع بين عشرة وعشرة كقول بعضهم :

شعر جبين محيا معطف كفل

صدغ فم وجنات ناظر ثغر

ليل صباح هلال بانة ونقا

آس أقاح شقيق نرجس درّ

وحسن هذا النوع من البديع يتمثل في أن يكون اللف والنشر في بيت واحد خاليا من الحشو والتعقيد جامعا بين سهولة اللفظ والمعاني المخترعة. ولكن المبالغة والإسراف في كثرة المتعدد منه كما في بعض الأمثلة السابقة تخرج به عن دائرة البديع وتجرده من نعوت الحسن وترده إلى نوع من العبث يدعو إلى العجب منه بدل الإعجاب به.

٢ ـ والضرب الثاني من اللف والنشر المفصل : هو ما يجيء على غير

__________________

(١) الرجوم : مفرده الرجم بسكون الجيم وهو القتل ، والاخريات رجوم : أي والاخريات منايا.

١٧٧

ترتيب اللف. ومن هذا الضرب ما يكون معكوس الترتيب ، كقول ابن حيوس :

كيف أسلو وأنت حقف وغصن

وغزال لحظا وقدا وردفا (١)

فاللحظ للغزال ، والقد للغصن ، والردف للحقف.

وكقول الفرزدق :

لقد خنت قوما لو لجأت إليهمو

طريد دم أو حاملا ثقل مغرم

لألفيت فيهم معطيا ومطاعنا

وراءك شزرا بالوشيج المقوّم (٢)

ومنه ما يكون مختلطا مشوشا ، ولهذا يسمى اللف والنشر المشوش ، نحو : «هو ليل وورد ومسك خدا وأنفاسا وشعرا».

* * *

والقسم الثاني من اللف والنشر ما يكون ذكر المتعدد فيه على الإجمال ، نحو قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). فإن الضمير في (قالُوا) لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فذكر الفريقان على وجه الإجمال بالضمير العائد إليهما ، ثم ذكر ما لكل منهما ، أي : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى.

فلف بين القولين إجمالا ثقة بقدرة السامع على أن يرد إلى كل فريق قوله ، وأمنا من الالتباس ، وذلك لعلمه بالتعادي بين الفريقين وتضليل كل واحد منهما لصاحبه بدعوى أن داخل الجنة هو لا صاحبه. وهذا

__________________

(١) الحقف بكسر الحاء : الرمل العظيم المستدير يشبه به الكفل في العظم والاستدارة.

(٢) الوشيج : شجر الرماح ، وقيل : هي عامة الرماح واحدتها وشيجة ، وقيل : هو من القنا أصلبه.

١٧٨

القسم من اللف والنشر لا يقتضي ترتيبا أو عدم ترتيب.

* * *

ومن بديع اللف والنشر وغريبه أن يذكر متعددان أو أكثر ثم يذكر في نشر واحد ما يكون لكل من أفراد كل من المتعددين ، كقول القائل : «الغنى والفقر والعلم والجهل بها تحيا الشعوب وبها تموت».

«فالغنى والفقر» لف أول ، و «العلم والجهل» لفّ ثان ، وقوله : «بها تحيا الشعوب وبها تموت» نشر ذكر فيه ما لكل واحد من اللفين ، لأن قوله : «بها تحيا الشعوب» نشر راجع للغنى من اللف الأول وللعلم من اللف الثاني. وقوله : «وبها تموت» نشر راجع للفقر في اللف الأول ، وللجهل في اللف الثاني.

ولعنا بعد كل ما تقدم ندرك معنى تسمية هذا النوع من البديع المعنوي «باللف والنشر». فوجه تسمية المعنى المتعدد الأول على وجه التفصيل أو الإجمال باللف أنه انطوى فيه حكمه ، لأنه اشتمل عليه من غير تصريح به ، ثم لما صرح به في الثاني كان كأنه نشر لما كان مطويا ، فلذلك سمي نشرا.

مراعاة النظير

ويسميه أصحاب البديع التناسب والائتلاف والتوفيق والمؤاخاة أيضا. وهو في الاصطلاح : أن يجمع الناظم أو الناشر أمرا وما يناسبه لا بالتضاد لتخرج المطابقة ، سواء كانت المناسبة لفظا لمعنى أو لفظا للفظ أو معنى لمعنى ، إذ المقصود جمع شيء إلى ما يناسبه من نوعه أو ما يلائمه من أي وجه من الوجوه.

١٧٩

ومن أمثلة ذلك قول البحتري في وصف الإبل الانضاء التي أنحلها السير :

كالقسيّ المعطفات بل الأس

هم مبرية بل الأوتار

فإنه لما شبه الإبل بالقسي وأراد أن يكرر التشبيه كان يمكنه أن يشبهها مثلا بالعراجين أو نون الخط لأن المعنى واحد في الانحناء والرقة ، ولكنه قصد المناسبة بين الأسهم والأوتار لما تقدم ذكر القسي.

ومن شواهد مراعاة النظير التي يجمع فيها بين الأمر وما يناسبه لا على وجه التضاد قول الشاعر في وصف فرس :

من جلّنار ناضر خده

وأذنه من ورق الآس (١)

فالمناسبة هنا بين الجلنار والآس والنضارة.

ومنها أيضا قول ابن رشيق في مدح الأمير تميم :

أصح وأقوى ما سمعناه في الندى

من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا

عن البحر عن كف الأمير تميم

فإن الشاعر قد ناسب هنا بين الصحة والقوة والسماع والخبر المأثور والرواية ، ثم بين السيل والحيا والبحر وكف تميم ، مع ما في البيت الثاني من صحة الترتيب في العنعنة ، إذ جعل الرواية لصاغر عن كابر كما يقع في سند الأحاديث ، فإن السيول أصلها المطر والمطر أصله البحر ، ولهذا جعل كف الممدوح أصلا للبحر مبالغة.

ومنها كذلك قول الشاعر :

__________________

(١) الجلنار : زهر الرمان.

١٨٠