علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

فدارهم الأولى فعل أمر من المداراة ، ودارهم الثانية اسم للبيت ، وأرضهم الأولى فعل أمر من الإرضاء ، وأرضهم الثانية هي الأرض اسم.

ومنه قول أبي العلاء المعري :

لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا

ونحن في حفر الأجداث أحيانا

فأحيانا الأولى اسم بمعنى من وقت لآخر ، وأحيانا الثانية فعل مضارع بمعنى بعث فينا الحياة من جديد ، ففي اللفظين الجناس المستوفى لتشابههما لفظا واختلافهما نوعا ومعنى.

ومن بديع الجناس بين الاسم والفعل ما كتب به إلى الخليفة المأمون في حق عامل له وهو : «فلان ما ترك فضة إلا فضها ، ولا ذهبا إلا أذهبه ، ولا مالا إلا مال عليه ، ولا فرسا إلا افترسه ، ولا دارا إلا أدارها ملكا ، ولا غلّة إلا غلّها ، ولا ضيعة إلا ضيّعها ، ولا عقارا إلا عقره ، ولا حالا إلا أحاله ، ولا جليلا إلا أجلاه ، ولا دقيقا إلا دقه».

ومن الجناس المستوفى بين الفعل والحرف قول الشاعر :

علا نجمه في عالم الشعر فجأة

على أنه ما زال في الشعر شاديا

فالجناس هنا بين «علا» الأولى وهي فعل بمعنى ارتفع و «على» الثانية التي هي حرف جر.

ومنه قول شاعر آخر :

ولو أن وصلا عللوه بقربه

لما أنّ من حمل الصبابة والجوى

فالجناس هنا بين «أن» الأولى وهي حرف توكيد ونصب و «أن» الثانية فعل ماض من الأنين.

* * *

٢٠١

٣ ـ جناس التركيب : وهو ما كان أحد ركنيه كلمة واحدة والأخرى مركبة من كلمتين : وهذا الجناس ثلاثة أضرب تأتي على النحو التالي :

أ ـ المتشابه : وهو ما تشابه ركناه ، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا وخطا.

ومن أمثلته قول الشاعر :

إذا ملك لم يكن ذا هبه

فدعه فدولته ذاهبه

ومثله قول القائل :

يا سيدا حاز رقى.

بما حباني وأولى

أحسنت برا فقل لي

أحسنت في الشكر أولا؟

فالجناس بين «أولى» وهي كلمة مفردة فعل بمعنى منح وأعطى ، وبين «أولا» وهي كلمة مركبة من «أو» العاطفة و «لا» النافية.

ومثله قول شمس الدين محمد بن عبد الوهاب :

حار في سقمي من بعد همو

كل من في الحي داوى أورقا

بعدهم لا طل وادي المنحنى

وكذا بان الحمى لا أورقا (١)

فركن الجناس الأول هنا «أورقا» وهو مركب من كلمتين أولاهما «أو» العاطفة ، والأخرى «رقا» الفعل بمعنى عوّذه بالله ، وركنه الثاني «أورقا» الفعل وهو كلمة واحدة بمعنى خرج ورقه.

__________________

(١) البان : شجر يطول في استواء مثل نبات الأثل ، وهو شديد الخضرة ، وثمره كاللوبياء واحدته «بانة» وبها تشبه الجارية الناعمة. والمعنى : لا سقى الله وادي المنحنى ولا أورق بان الحمى بعد رحيلهم.

٢٠٢

ب ـ المفروق : وهو ما تشابه ركناه ، أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة لفظا لا خطا.

ومن أمثلة هذا النوع كقول الشاعر :

لا تعرضن على الرواة قصيدة

ما لم تكن بالغت في تهذيبها

وإذا عرضت الشعر غير مهذب

عدوه منك وساوسا تهذي بها

فالجناس بين : تهذيبها ، وتهذي بها ؛ وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلافهما معنى.

ومنه قول الشاعر :

قلت للعاذل الملح على الدم

ع وإجرائه على الخد نيلا

سل سبيلا إلى النجاة ودع دم

ع عيوني يجري لهم سلسبيلا

فركنا الجناس «سل سبيلا» و «سلسبيلا» وهما متشابهان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى.

ومثله قول ابن أسد الفارقي :

عدونا بآمال ورحنا بخيبة

أماتت لنا أفهامنا والقرائحا (١)

فلا تلق منا غاديا نحو حاجة

لتسأله عن حاجة والق رائحا

فالجناس بين : «القرائحا» و «الق رائحا» الأولى اسم هو جمع قريحة ، والأخرى مركبة من فعل أمر واسم ، والركنان متشابهان لفظا مختلفان خطا ومعنى.

ومثله قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف :

__________________

(١) القرائح : جمع قريحة ، وقريحة الإنسان طبيعته التي جبل عليها ، لأنها أول خلقته.

٢٠٣

أسرع وسر طالب المعالي

بكل واد وكل مهمة

وإن لحا عاذل ... جهول

فقل له : يا عذول مه مه

ومنه قول الشاعر :

فقل لنفسك أي الضرب يوجعها

ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي

فالجناس بين اسم مفرد «النواقيس» جمع ناقوس ، ومركب من اسم وفعل «النوى» اسم بمعنى الفراق و «قيسي» الأمر المسند إلى ياء المخاطبة من قاس يقيس. وقد تشابه به الركنان لفظا لا خطا مع اختلاف المعنى.

ومنه كذلك قول بهاء الدين السبكي :

كن كيف شئت عن الهوى لا أنتهي

حتى تعود لي الحياة وأنت هي

فالجناس بين «انتهى» و «أنت هي».

وهكذا يسمى الجناس في هذه الأمثلة ونظائرها مما يأتي فيه ركنا الجناس أو لفظاه متشابهين لفظا لا خطا بالجناس «المفروق».

ج ـ المرفوّ : وهو ما يكون فيه أحد الركنين كلمة والآخر مركبا من كلمة وجزء من كلمة ، نحو قول الحريري :

والمكر مهما أسطعت لا تأته

لتقتني السودد والمكرمة

فالجناس هنا ركنه الأول مركب من كلمة وجزء من كلمة ، هما لفظة «المكر» والميم والهاء من «مهما» والثاني مفرد هو «المكرمة».

ومثله قول الحريري أيضا :

ولا تله عن تذكار ذنبك وابكه

بدمع يحاكي المزن حال مصابه

ومثل لعينيك الحمام ووقعه

وروعة ملقاه ومطعم صابه

٢٠٤

فالجناس هو بين كلمة «مصابه» ومركب من كلمة وجزء من كلمة أخرى ، هما الميم الأخيرة من «مطعم» وكلمة «صابه» ، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى.

وهذا النوع الأخير من جناس التركيب لا يخلو ، كما يبدو ، من تعسف وتعقيد بالمقارنة إلى نوعيه الآخرين.

* * *

الجناس غير التام : وهو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة السابقة التي يجب توافرها في الجناس التام ، وهي : أنواع الحروف ، وأعدادها ، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات ، وترتيبها.

أ ـ فإن اختلف اللفظان في أنواع الحروف فيشترط ألا يقع الاختلاف بأكثر من حرف واحد. وهذا الجناس يأتي على ضربين :

١ ـ جناس مضارع : وهو ما كان فيه الحرفان اللذان وقع فيهما الاختلاف متقاربين في المخرج ، سواء كانا في أول اللفظ نحو قول الحريري : «بيني وبين كن ليل دامس وطريق طامس» (١) ، أو في الوسط نحو قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ،) أو في الآخر نحو : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل معقود بنواصيها الخير».

٢ ـ جناس لاحق : وهو ما كان الحرفان فيه متباعدين في المخرج ، سواء أكانا في أول اللفظ نحو قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أو في الوسط نحو قوله تعالى : (ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ

__________________

(١) الكن بكسر الكاف وتشديد النون : المنزل ، والدامس : الشديد الظلمة ، والطامس : المطموس العلامات الذي لا يهتدى فيه إلى المراد.

٢٠٥

وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أو في الآخر نحو قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ)(١).

* * *

ب ـ وإن اختلف اللفظان في أعداد الحروف سمي الجناس ناقصا وذلك لنقصان أحد اللفظين عن الآخر ، وهو يأتي كذلك على ضربين :

١ ـ ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بحرف واحد ، سواء كان ذلك الحرف في أول اللفظ نحو قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أو في الوسط نحو : «جدّي جهدي» (٢) أو في الآخر كقول الشاعر :

عذيري من دهر موار موارب

له حسنات كلهن ذنوب

وقول شاعر متغزلا :

وسألتها بإشارة عن حالها

وعليّ فيها للوشاة عيون

فتنفست صعدا وقالت : ما الهوى

إلا الهوان فزال عنه النون

وقول البهاء زهير :

أشكو وأشكر فعله

فأعجب لشاك منه شاكر

طرفي وطرف النجم في

ك كلاهماه ساه وساهر

__________________

(١) وإذا جاءهم : أي إذا جاء المنافقين وضعاف العقول من المسلمين خبر أمر من أمور جيوش المسلمين مما يتصل بأمنها أو بما تخافه أذاعوا به ، أي أذاعوه ونشروه وتحدثوا به ، وقد يكون في ذلك ضرر على الجيوش.

(٢) الجد بفتح الجيم : الحظ ، والجهد بفتح الجيم : المشقة والاجتهاد ، والمعنى حظي من الدنيا أو غناي فيها إنما هو على قدر ما أبذل من سعي واجتهاد ، وما أتحمل من مشقة.

٢٠٦

وقول أبي تمام :

يمدون من أيد عواص عواصم

تصول بأسياف قواض قواضب (١)

وربما سمى هذا القسم الذي تكون فيه الزيادة في الآخر «مطرّفأ» وذلك لتطرف الزيادة فيه. ووجه حسن هذا النوع ، كما يقول عبد القاهر الجرجاني ، إنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من «عواصم» أنها هي الكلمة التي مضت ، وإنما أتى بها للتوكيد ، حتى إذا تمكن آخرها في نفسك ووعاه سمعك ، انصرف عنك ذلك التوهم. وفي ذلك حصول الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها.

٢ ـ ما كانت الزيادة في أحد لفظيه بأكثر من حرف واحد في آخره.

وربما سمى هذا النوع «مذيلا». ومن أمثلته قول النابغة الذبياني :

لها نار جن بعد أنس تحولوا

وزال بهم صرف النوى والنوائب

وقوله أيضا راثيا :

فيا لك من حزم وعزم طواهما

جديد الردى بين الصفا والصفائح

وقول حسان بن ثابت :

وكنا متى يغز النبي قبيلة

نصل جانبيه بالقنا والقنابل (٢)

__________________

(١) يمدون من أيد : يصح أن تكون «من» زائدة فيكون المعنى يمدون أيديا ، ويصح أن تكون للتبعيض ، أي يمدون بعض أيد ، ومثلها «هز من عطفه وحرك من نشاطه» ، وعواص : جمع عاصية من عصاه ضربه بالعصا : أي السيف هنا ، وعواصم : جمع عاصمة من عصمه ، أي حفظه ورعاه ، وقاض : جمع قاضية : من قضى عليه قتله ، وقواضب : جمع قاضب من قضبه قطعه ، والمعنى : يمدون للضرب يوم الحرب أيديا ضاربات للأعداء حاميات للأولياء صائلات على الأقران بسيوف قاتلة قاطعة.

(٢) القنابل : واحدها القنبلة والقنبل بفتح القاف فيهما : الجماعة من الناس أو الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه.

٢٠٧

وقول الخنساء وهو من أرق ما سمع في هذا الباب :

إن البكاء هو الشفا

ء من الجوى بين الجوانح

ومما تجدر ملاحظته هنا أن بين المطرف والمذيل التقاء من وجه وافتراقا من وجه ، فهما يلتقيان في أن كليهما زيادة في طرف أحد ركني الجناس ، ويفترقان في أن زيادة المطرّف حرف واحد ، أما المذيل فتكون الزيادة فيه بأكثر من حرف.

* * *

ج ـ وإن اختلف اللفظان في هيئة الحروف الحاصلة من الحركات والسكنات والنقط ، فإن الجناس يأتي فيه على ضربين : محرّف ، ومصحف.

١ ـ فالجناس المحرّف : هو ما اتفق ركناه ، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها ، واختلفا في الحركات فقط سواء كانا من اسمين أو فعلين أو من اسم وفعل أو من غير ذلك ، فإن القصد اختلاف الحركات.

ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ). ولا يقال هنا إن اللفظين متحدان في المعنى لأنهما من «الإنذار» فلا يكون بينهما جناس ، فاختلاف المعنى ظاهر ، إذ المراد باللفظ الأول (مُنْذِرِينَ) الفاعلون وهم الرسل ، وبالثاني (الْمُنْذَرِينَ) المفعولون ، وهم الذين وقع عليهم الإنذار.

ومنه قول الرسول صلوات الله عليه : «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي». ومنه قولهم : «جبة البرد جنة البرد» (١) وكذلك قولهم : «الجاهل إما مفرط أو مفرّط» الأول اسم فاعل من الإفراط وهو تجاوز

__________________

(١) وقع الاختلاف بين البرد والبرد ، لأن الباء في الأول مضمومة ويراد بها الثوب وفي الثاني مفتوحة وهو ضد الحر. والجنة بضم الجيم : الوقاية.

٢٠٨

الحد ، والثاني اسم فاعل من التفريط وهو التقصير ، وقولهم : «البدعة شرك الشرك».

ومن أمثلته شعرا قول المعري :

والحسن يظهر في بيتين رونقه

بيت من الشعر أو بيت من الشعر

الأول بالشين المكسورة والعين الساكنة ، والثاني بالشين والعين المفتوحتين ، والمراد منهما واضح.

وقول ابن الفارض :

هلا نهاك نهاك عن لوم امرىء

لم يلف غير منعم بشقاء

وقول عبد العزيز الحموي :

لعيني كل يوم فيك عبرة

تصيرني لأهل العشق عبرة (١)

ومن أبدع ما جاء فيه هذا النوع من الجناس قول جميل بثينة ، وبعضه من أنواع أخرى :

خليلي إن قالت بثينة : ما له

أتانا بلا وعد؟ فقولا لها لها

أتى وهو مشغول لعظم الذي به

ومن بات طول الليل يرعى السها سها

بثينة تزري بالغزالة في الضحى

إذا برزت لم تبق يوما بها بها

لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة

كأن أباها الظبي أو أمها مها

دهتني بود قاتل وهو متلفي

وكم قتلت بالود من ودها دها (٢)

__________________

(١) العبرة بفتح العين : الدمعة ، والعبرة بكسر العين : العظة.

(٢) «لها لها» الكلمة الأولى جار ومجرور والثانية فعل ماض من اللهو ، و «السها سها» الأولى اسم نجم والثانية فعل ماض من السهو ، و «بها بها» الأولى جار ومجرور والثانية اسم مقصور من البهاء بمعنى الحسن ، و «أمها مها» الأولى الأم المعروفة والثانية جمع مهاة وهي ـ

٢٠٩

فالجناس في البيت الأول «تام» ، وفي البيت الثاني والثالث والخامس «محرف» وفي البيت الرابع «مطرف».

٢ ـ والجناس المصحف : هو ما اتفق فيه ركنا الجناس ، أي لفظاه في عدد الحروف وترتيبها واختلفا في النقط فقط.

ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) وقوله تعالى أيضا : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه : «قصر ثوبك فإنه أنقى وأتقى وأبقى». وقول عمر بن الخطاب : «لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر إن فاتني ربحه لم تفتني ريحه». وقال أهل الأدب : «خلف الوعد خلق الوغد».

ومن أمثلة الجناس المصحف في الشعر قول الشاعر :

فإن حلوا فليس لهم مقر

وإن رحلوا فليس لهم مفر

وقول أبي فراس الحمداني :

من بحر جودك أغترف

وبفضل علمك أعترف

وقول البهاء زهير متغزلا :

وليس مشيبا ما ترون بعارضي

فلا تمنعوني أن أهيم وأطربا

__________________

ـ هنا بقرة الوحش ومن معاني المهاة أيضا «الدرة والبلورة الشديدة البياض» فإذا شبهت المرأة بالمهاة في البياض فإنما يعني بها الدرة أو البلورة ، فإذا شبهت بها في المقلتين أي العينين ، فإنما يعني بها بقرة الوحش وهو المراد هنا في بيت جميل. و «بالود من ودها دها» الكلمة الأولى اسم بمعنى الوداد ، والثانية فعل ماض بمعنى أحب ، وهذان ركنا الجناس أما الكلمة الأخيرة «دها» فاسم مقصور من الدهاء وهي خارجة عن الجناس.

٢١٠

وما هو إلا نور ثغر لثمته

تعلق في أطراف شعري فألهبا

وأعجبني التجنيس بيني وبينه

فلما تبدى أشنبا رحت أشيبا

فالشنب بفتحتين صفة حسن ورقة وعذوبة في الثغر ، يقال : ثغر أشنب ، أي طيب النكهة رقيق تبدو منه الثنايا بيضاء نقية ، والجناس هنا في «أشنبا» و «أشيبا» ، واللفظان متماثلان في كل شيء ولا يختلفان إلا في النقط فقط ، وكل جناس من هذا النوع يسمى «جناس التصحيف».

* * *

د ـ وإن اختلف اللفظان في ترتيب الحروف سمي «جناس القلب» ، وسماه قوم «جناس العكس». وهذا الجناس يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب. وهو يأتي على أربعة أضرب.

١ ـ قلب كل : وذلك إذا جاء أحد اللفظين عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها ، نحو قولهم : «حسامه فتح لأوليائه وحتف لأعدائه» ، وهذا المعنى مأخوذ من قول العباس بن الأحنف :

حسامك فيه للأحباب فتح

ورمحك فيه للأعداء حتف

ومنه قول الشاعر وقد جانس بين لفظي «راهب» و «بهار» بفتح الباء :

حكاني بهار الروض حين ألفته

وكل مشوق للبهار مصاحب (١)

__________________

(١) البهار بفتح الباب نبت طيب الريح له زهرة صفراء ينبت أيام الربيع ، وقيل هو العرار بفتح العين الذي يقال له عين البقر. قال الشاعر :

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من عرار

٢١١

فقلت له ما بال لونك شاحبا

فقال لأني حين أقلب راهب

فكل من «بهار» و «راهب» مقلوب الآخر أو عكسه في ترتيب حروفه كلها.

ومن بديع هذا النوع من الجناس قول جمال الدين بن نباتة في مدح الأمير شجاع الدين بهرام :

قيل كل القلوب من

رهب الحرب تضطرب

قلت هذا تخرص

قلب بهرام ما رهب (١)

فالجناس هنا بين «بهرام» و «ما رهب» وكلاهما عكس الآخر في ترتيب حروفه كلها.

٢ ـ قلب بعض : وهو ما اختلف فيه اللفظان في ترتيب بعض الحروف. ومن أمثلة هذا النوع قول الشاعر :

إن بين الضلوع مني نارا

تتلظى فكيف لي أن أطيقا؟

فبحقي عليك يا من سقاني

أرحيقا سقيتني أم حريقا؟

فالجناس بين «رحيقا» و «حريقا» فالاختلاف هو في ترتيب الحرفين الأولين منهما.

ومنه قول القائل :

وألفيتهم يستعرضون حوائجا

إليهم ولو كانت عليهم جوائحا

فالجناس بين «حوائجا» و «جوائحا» وهو قلب جزئي في ترتيب بعض الحروف ومنه قول عبد الله بن رواحة في مدح الرسول :

__________________

(١) التخرص بتشديد الراء : الكذب.

٢١٢

تحمله الناقة الأدماء معتجرا

بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما (١)

فالجناس بين «البرد» وهو الثوب و «البدر».

وقول أبي تمام :

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب (٢)

فالجناس بين «الصفائح» وهي السيوف العريضة و «الصحائف».

وكذلك قول المتنبي :

ممنعة منعمة رداح

يكلف لفظها الطير الوقوعا (٣)

ففي كل هذه الأمثلة وقع الجناس بين لفظين مختلفين في ترتيب بعض الحروف ، ولهذا يقال إن الجناس فيها وفي نظائرها جناس «قلب بعض».

٣ ـ قلب مجنح : وهو ما كان فيه أحد اللفظين اللذين وقع بينهما القلب في أول البيت والثاني في آخره ، كأنهما جناحان للبيت.

ومن أمثلة ذلك قول الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف :

أسكرني باللفظ والمقلة ال

كحلاء والوجنة والكاس

ساق يريني قلبه قسوة

وكل ساق قلبه قاس

فالجناس هنا بين «ساق» في أول البيت و «قاس» في آخره ، ولهذا

__________________

(١) الناقة الأدماء : البيضاء بياضا واضحا ، ومعتجرا : من اعتجر العمامة لفها على رأسه.

(٢) الصفائح : جمع صفيحة ، وهي السيف العريض.

(٣) امرأة رداح : ضخمة العجيزة ثقيلة الأوراك.

٢١٣

يقال له جناس «قلب مجنح». وإذا نظرنا إلى مجيء أحد اللفظين عكس الآخر في جميع حروفه قلنا إن فيه جناس «قلب كل» أيضا.

ومنه كذلك قول الشاعر :

قد لاح أنوار الهدى

في كفه في كل حال

٤ ـ مستو : وهذا النوع سماه قوم المقلوب ، وسماه السكاكي مقلوب الكل ، وعرفه الحريري في مقاماته بما لا يستحيل بالانعكاس ، وهو أن يكون عكس لفظي الجناس كطردهما ، بمعنى أنه يمكن قراءتهما من اليمين والشمال دون أن يتغير المعنى ، نحو قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) فإنك لو عكست هذا التركيب فبدأت من الكاف في (فَلَكٍ) إلى الكاف في (كُلٌّ) كان هو بعينه.

وكذلك الشأن في قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ). ومنه قول الحريري : «ساكب كاس». ومن الغايات في هذا الباب قول القائل :

لبق أقبل فيه هيف

كل ما أملك إن غنى هبه

فهذا البيت كل كلمة منه بانضمامها إلى أختها تجانسها في القلب.

وأعلى من البيت السابق منزلة قول سيف الدين بن المشد :

ليل أضاء هلاله

أنى يضيء بكوكب

فكل كلمة في هذا البيت تقرأ مستوية ومقلوبة ، وهو مما لا يستحيل بالانعكاس.

* * *

وهناك نوع من الجناس غير الأنواع السابقة يسميه علماء البديع «الجناس الملفق».

٢١٤

وحدّ الملفق أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين ، وهذا هو الفرق بينه وبين «جناس التركيب» الذي أحد ركنيه كلمة مفردة والثاني مركب من كلمتين.

ومن الجناس الملفق في النظم قول الشاعر :

وكم لجباه الراغبين إليه من

مجال سجود في مجالس جود

ومنه قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين وقد ولى القضاء بالمعرة وهو ابن خمس وعشرين سنة وأقام في الحكم خمس سنين :

وليت الحكم خمسا وهي خمس

لعمري والصبا في العنفوان

فلم تضع الأعادي قدر شأني

ولا قالوا فلان قد رشاني

ومنه كذلك قول شرف الدين بن عنين :

خبروها بأنه «ما تصدى»

لسلو عنها ولو «مات صدا»

* * *

وهذا ومما تجدر الإشارة إليه أن أحد المتجانسين إذا ولى الآخر سمي «مزدوجا» و «مكررا» و «مرددا» ، نحو قوله تعالى : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ). ونحو قولهم : من طلب وجدّ وجد. وقولهم : من قرع بابا ولجّ ولج.

السجع

هو توافق الفاصلتين من النثر على حرف واحد. وهذا هو معنى قول السكاكي : «السجع في النثر كالقافية في الشعر».

والأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام ، والاعتدال

٢١٥

مطلوب في جميع الأشياء والنفس تميل إليه بالطبع ، ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط ، ولا عند توافق الفواصل على حرف واحد هو المراد من السجع ، إذ لو كان الأمر كذلك لكان كل أديب من الأدباء سجاعا.

وإنما ينبغي في السجع بالإضافة إلى ما تقدم أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة لا غثة ولا باردة. والمراد بغثاثة الألفاظ وبرودتها أن صاحبها يصرف النظر إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة وتراكيبها وما يشترط لكليهما من صفة الحسن.

فإذا صفّي الكلام المسجوع من الغثاثة والبرودة فإن وراء ذلك مطلوبا آخر ، وهو أن يكون اللفظ فيه تابعا للمعنى لا أن يكون المعنى فيه تابعا للفظ ، وإلا كان كظاهر مموّه على باطن مشوّه.

فإذا توافرت هذه الأمور فإن وراءها مطلوبا آخر ، وهو أن تكون كل واحدة من الفقرتين أو السجعتين المزدوجتين دالة على معنى غير المعنى الذي اشتملت عليه الأخرى. فإن كان المعنى فيهما سواء فذاك هو التطويل بعينه ، لأن التطويل إنما هو الدلالة على المعنى بألفاظ يمكن الدلالة عليه بدونها ، وإذا وردت سجعتان يدلان على معنى واحد كانت إحداهما كافية في الدلالة عليه.

وإذا رجعنا إلى كلام أعلام الكتاب المشهود لهم بالتفوق في النثر الفني من أمثال الصابي وابن العميد وابن عباد والحريري في مقاماته وابن نباتة في خطبه وجدنا أكثر المسجوع من كلامهم كذلك والأقل منه هو المستوفي لشروط السجع الحسن.

وهذه الشروط ، كما يقول ابن الأثير ، تتمثل في ثلاثة أمور : الأول

٢١٦

اختيار مفردات الألفاظ المسجوعة والتراكيب ، بحيث تكون بعيدة عن الغثاثة والبرودة ، والثاني أن يكون اللفظ في الكلام المسجوع تابعا للمعنى لا المعنى تابعا للفظ ، والثالث أن تكون كل واحدة من الفقرتين المسجوعتين دالة على معنى غير المعنى الذي دلت عليه أختها.

ومن السجع الحسن المستوفي لهذه الشروط قول ابن الأثير من كتاب يتضمن العناية ببعض الناس ، قال : «الكريم من أوجب لسائله حقا ، وجعل كواذب آماله صدقا ، وكان خرق العطايا منه خلقا ، ولم ير بين ذممه ورحمه فرقا. وكل ذلك موجود في كرم مولانا أجراه الله من فضله على وتيرة ، وجعل هممه على تمام كل نقص قديرة».

ومن السجع الذي خرج إلى التطويل والتكرار لاتفاق السجعتين في معنى واحد وإن اختلفت الألفاظ قول الصابي من تحميد في كتاب :

«الحمد لله الذي لا تدركه العيون بألحاظها ، ولا تحده الألسن بألفاظها ، ولا تخلقه العصور بمرورها ، ولا تهرمه الدهور بكرورها ، ثم الصلاة على النبي الذي لم ير للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه ، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه».

فلا فرق هنا بين مرور العصور وكر الدهور ، وكذلك لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم.

أقسام السجع

والسجع ليس صورة واحدة ، وإنما هو يأتي في الكلام على أربعة أضرب أو أقسام : المطرّف ، والمرصع ، والمتوازي ، والمشطر.

١ ـ فالمطرّف : هو ما اختلفت فيه الفاصلتان أو الفواصل وزنا واتفقت رويا ، وذلك بأن يرد في أجزاء الكلام سجعات غير موزونة

٢١٧

عروضيا وبشرط أن يكون رويها روي القافية ، نحو قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً ، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً.)

ومنه شعرا على الرأي القائل بأن السجع غير مختص بالنثر ، وإنما هو يدخل النثر والشعر معا ـ قول أبي تمام :

تجلى به رشدي وأثرت به يدي

وفاض به ثمدي وأورى به زندي (١)

٢ ـ الترصيع : وهو عبارة عن مقابلة كل لفظة من فقرة النثر أو صدر البيت بلفظة على وزنها ورويها.

ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ،) وقوله تعالى أيضا : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ). ومنه قول الحريري في المقامات : «يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه».

ومن أمثلته الشعرية قول أبي فراس الحمداني :

وأفعالنا للراغبين كرامة

وأموالنا للطالبين نهاب

ومنه قول الشاعر :

فيا يومها كم من مناف منافق

ويا ليلها كم من مواف موافق

والمبرز في هذا النوع يجرد نظم بيته من الحشو ، والحشو في الترصيع عبارة عن تكرار الألفاظ التي ليست منه ، بحيث لا يأتي في صدر بيته

__________________

(١) تجلى به رشدي : أي ظهر بهذا الممدوح بلوغ المقاصد ، وأثرت به يدي : صارت ذات ثراء ، والثمد بكسر الثاء وسكون الميم : هو في الأصل الماء القليل ، والمراد به هنا المال القليل ، وأورى به زندي بفتح الزاي : أي صار ذا وري ، وهذا كناية عن الظفر بالمطلوب.

٢١٨

بلفظة إلا ولها أخت تقابلها في العجز ، حتى في العروض والضرب ، كقول ابن النبيه الشاعر :

فحريق جمرة سيفه للمعتدي

ورحيق خمرة سيبه للمعتفي

فهذا البيت وقع الترصيع في جميع ألفاظه ، فإن المقابلة فيه حاصلة بين حريق ورحيق ، وبين جمرة وخمرة ، وبين سيفه وسيبه ، وبين المعتدي والمعتفي.

وبيت أبي فراس السابق خال من تصريع العروض والضرب ، والشاهد الثاني كرر فيه ناظمه حرف النداء فدخل عليه الحشو.

٣ ـ المتوازي : وهو أن تتفق اللفظة الأخيرة من القرينة (١) أي الفقرة مع نظيرتها في الوزن والروي ، كقوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ، وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ).

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا».

ومنه قول الحريري في المقامات : «الجأني حكم دهر قاسط إلى أن أنتجع أرض واسط» ، وقوله : «وأودى بي الناطق والصامت ، ورثى لي الحاسد والشامت».

ومن أمثلته شعرا قول المتنبي :

فنحن في جذل والروم في وجل

والبر في شغل والبحر في خجل (٢)

__________________

(١) القرينة : الفقرة ، وسميت الفقرة كذلك ، لأنها تقارن أختها.

(٢) الجذل : الفرح ، والوجل : الخوف ، والمعنى : نحن المسلمين فرحون بانتصاره ، والروم في خوف منه لغاراته وغزواته ، والبر مشتغل بجيشه لا يتفرغ لغيره ، والبحر في خجل من غزارة كرمه وندى يديه.

٢١٩

٤ ـ المشطور : ويسمى أيضا التشطير ، وهو أن يكون لكل شطر من البيت قافيتان مغايرتان لقافية الشطر الثاني. وهذا القسم خاص بالشعر ، كقول أبي تمام :

تدبير معتصم بالله منتقم

لله مرتغب في الله مرتقب (١)

فالشطر الأول كما ترى سجعة مبنية على قافية الميم ، والشطر الثاني سجعة مبنية على قافية الباء.

* * *

 أحسن السجع :

١ ـ وأحسن السجع وأشرفه منزلة للاعتدال الذي فيه هو ما تساوت فقراته في عدد الكلمات ، نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ،) وقوله تعالى أيضا : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ).

٢ ـ ثم ما طالت به الفقرة الثانية عن الأولى طولا لا يخرج بها عن الاعتدال كثيرا وذلك لئلا يبعد على السامع وجود القافية فتذهب اللذة ، نحو قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ،) وكذلك قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)(٢) ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا فإن الفقرة الأولى ثمان لفظات والثانية تسع.

__________________

(١) المرتغب في الله : الراغب فيما يقربه من رضوانه ، والمرتقب : المنتظر الثواب الخائف العقاب.

(٢) الإدّ بكسر الهمزة : الأمر الفظيع المنكر.

٢٢٠