علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

كذلك ذكرنا أن السكاكي عرف المبالغة المقبولة بقوله : «هي أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة والضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا».

وإذا تأملنا هذا التعريف وجدنا أنه ينطبق على نوعين فقط من أنواع المبالغة عند السكاكي هما : الغلو والإغراق. ذلك لأن الغلو هو المستحيل عقلا وعادة ، والإغراق هو المستبعد وقوعه عادة لا عقلا.

وعلى ذلك فالإغراق في اصطلاح البديعيين : هو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة ، أو بعبارة أخرى : هو الإفراط في وصف الشيء بما يمكن عقلا ويستبعد وقوعه عادة. ومن أمثلة ذلك قول عمير التغلبي السابق :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

فإكرامهم للجار مدة إقامته بينهم من الأخلاق الجميلة الموصوفة ، ومدّه بالكرم عند رحيله وجعل هذا الكرم يتبعه ويشمله حيث كان وفي كل جهة يميل إليها هو الإغراق هنا. وهذا أمر ممتنع عادة وإن كان غير ممتنع عقلا.

وكل من الإغراق والغلو لا يعدّ من محاسن القول وبديع المعنى إلا إذا دخل عليه أو اقترن به ما يقربه إلى الصحة والقبول ، نحو «قد» للاحتمال ، و «لو» و «لولا» للامتناع ، و «كاد» للمقاربة ، وما أشبه ذلك من أدوات التقريب.

ولم يقع شيء من الإغراق والغلو في القرآن الكريم ولا في الكلام الفصيح إلا بما يخرجه من باب الاستبعاد والاستحالة ويدخله في باب الإمكان ، نحو : كاد ولو وما يجري مجراهما.

ومن أمثلة ذلك في الإغراق قوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ

١٠١

 بِالْأَبْصارِ ،) إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار ، ولكنه يمتنع عادة. والذي زاد وجه الإغراق هنا جمالا هو تقريبه إلى الصحة بلفظة «يكاد» ، واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة ، فقلبت من الامتناع إلى الإمكان.

ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلفظة «لو» قول زهير :

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو «هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق» على حد قول ابن حجة الحموي.

ومما استشهد به أيضا على نوع الإغراق بلفظة «لو» التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل :

ولو أن ما بي من جوى وصبابة

على جمل لم يدخل النار كافر

وقبل الحديث عن الإغراق في هذا البيت نذكر أن فيه نظرا من طرف خفي إلى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) فالجمل له معنيان : الذكر من الإبل والحبل الغليظ ، وسم الخياط : ثقب الإبرة.

فالمعنى هنا أن المكذبين بآيات الله والمستكبرين عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ، أي لا تقبل دعواتهم ولا أعمالهم ، ولا يدخلون الجنة حتى يدخل الجمل بأي معنى من معنييه السابقين في ثقب الإبرة. وبما أن دخول الجمل المعروف أو الحبل الغليظ في ثقب الإبرة الضيق الصغير أمر بعيد فكذلك دخول هؤلاء المكذبين بآيات الله الجنة أمر مستبعد.

١٠٢

ولهذا المعنى نظر الشاعر في البيت السابق ، فهو يريد أن يقول : لو كان ما به من الحب بجمل لأصابه النحول والضمور والهزال إلى حد يمكّنه من الدخول في سم الخياط ، ولو تحقق دخول الجمل في سم الخياط لما بقي في النار كافر لزوال المانع لهم من دخول الجنة.

ودخول الجمل في سم الخياط لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة. فإن الله جلّت قدرته إذا شاء وسّع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل ، وإذا شاء رقق الجمل حتى يصير كالخيط الرفيع فيدخل في سم الخياط. ومن ذلك يتبين أن الأمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة ، وهذا غاية في الإغراق.

* * *

ومما استشهدوا به على الإغراق بغير أداة من أدوات التقريب قول امرىء القيس في وصف أنفاس صاحبته عند النهوض من النوم :

كأن المدام وصوب الغمام

وريح الخزامى ونشر القطر

يعل به برد أنيابها ...

إذا غرد الطائر المستحر (١)

فامرؤ القيس يصف طيب رائحة فم صاحبته سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم بأنه شبيه بطيب الرائحة المنبعثة من روائح الخمر المشوبة بالماء النقي والخزامى والبخور مجتمعة. فإذا كانت هذه رائحة ثغرها عند نهوضها مبكرة من النوم ، فكيف تظن رائحة ثغرها في هوادي الليل

__________________

(١) المدام : الخمر يدام على شربها أو التي أديمت في دنها ، وصوب الغمام : مطر السحاب ، وريح الخزامى : رائحة هذا النبت الطيب الريح ، ونشر القطر بضم القاف والطاء : رائحة العود الذي يتبخر به ، يعل به برد أنيابها : يسقى به ثناياها الباردة مرة بعد مرة ، الطائر المستحر : المصوت في وقت السحر.

١٠٣

وأوائله؟. فالإغراق في تشبيه طيب رائحة فم امرأة عند تغير الأفواه بعد النوم بالرائحة الناشئة من اختلاط رائحة الخمر المشوبة بالماء النقي برائحة الخزامى والبخور ـ أمر غير مستحيل عقلا لكنه ممتنع عادة.

ومن الإغراق في الوصف أيضا بغير أداة تقريب قول الشاعر :

قد سمعتم أنينه من بعيد

فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين

فوصف الشخص بأنه لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه إغراق في الوصف ممتنع عادة ، لكنه غير مستحيل عقلا.

ونظير هذا المعنى قول ابن حجة الحموي :

وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى

وها أنا اليوم في الأوهام تخييل

ونظيره أيضا قول شرف الدين عمر بن الفارض :

كأني هلال الشك لو لا تأوهي

خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي

ومنه قول صفي الدين الحلي في وصف معترك :

في معرك لا تثير الخيل عثيره

مما تروى المواضي تربه بدم

فوصف المكان الذي يعترك فيه الفرسان بأن الخيل التي تحملهم وتعدو بهم هنا وهناك لا تثير غبارا فوقها لكثرة ما ارتوى به تراب المعترك من الدماء التي أراقتها السيوف المواضي ـ أقول هذا الوصف فيه إغراق شديد ، إذ لم تجر العادة أن ترتوي أرض معركة بالدم إلى هذا الحد ، لكنه أمر غير مستحيل عقلا.

* * *

من كل ما تقدم يتضح أن الإغراق ، وهو الوصف الممكن وقوعه عقلا لا عادة نوعان : إغراق في الوصف تدخل عليه أداة تقربه إلى

١٠٤

الصحة والقبول ، وإغراق في الوصف مجرد من أدوات التقريب.

ولا شك أن المقارنة بين النوعين وعلى ضوء الشواهد السابقة تظهر أن الإغراق المقترن بأداة التقريب هو الأبلغ في وضوح الدلالة على المعنى وفي الإضافة إليه معنويا بما يكسبه رونقا وبهاء وقبولا.

ولكن على الرغم من كل شيء يبقى الإغراق بنوعيه فنا قائما بذاته من فنون البديع المعنوية.

الغلو

الغلو في أصل الوضع اللغوي مجاوزة الحد والقدر في كل شيء والإفراط فيه. وهو مشتق من المغالاة ، ومن غلوة السهم بفتح الغين وسكون اللام ، وهي مدى رميته ، يقال : غاليت فلانا مغالاة وغلاء بكسر الغين ، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم.

وقد عرفنا مما سبق أن المبالغة بمعنى التبليغ هي إمكان الوصف المدعى عقلا وعادة ، وأن الإغراق هو إمكان الوصف المدعى عقلا لا عادة.

أما الغلو في اصطلاح البديعيين فهو : امتناع الوصف المدعى عقلا وعادة. وعلى هذا فإذا كان الإغراق فوق المبالغة بمعنى التبليغ في تجاوز الحد والإفراط في الصفة المدعاة ، فإن الغلو فوق المبالغة والإغراق من هذه الناحية.

ولعل ابن رشيق القيرواني (١) من أوائل من توسعوا في بحث

__________________

(١) انظر باب الغلو في كتاب العمدة لا بن رشيق ج ٢ ص ٥٧ ـ ٦٢.

١٠٥

«الغلو» ، فقد تناوله في كتابه العمدة من جوانب متعددة ألّم فيها ببعض آراء سابقيه ومعاصريه وعلق عليها بما عنّ له شخصيا من آراء وأفكار.

فهو أولا يعارض من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو ، ولا يرى ذلك إلا محالا ، لمخالفته الحقيقة وخروجه عن الواجب والمتعارف.

وهو يوافق الحذاق القائلين : «خير الكلام الحقائق ، فإن لم تكن فما قاربها وناسبها ، وأنشد المبرد قول الأعشى :

فلو أن ما أبقين مني معلقا

بعود ثمام ما تأوّد عودها

فقال : هذا متجاوز ، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذ شبّه ، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه».

وأصح الكلام عند ابن رشيق ما قام عليه الدليل ، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله ، فقد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق ، فقال جلّ من قائل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ.)

كما أتى على تعريف قدامة «للغلو» وهو : تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه ، وليس خارجا عن طباعه. وعلى هذا تأويل أصحاب التفسير قوله تعالى : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ،) أي : كادت ...

كذلك أورد رأي القاضي الجرجاني (١) في الإفراط ، وخلاصته أن الإفراط مذهب عام في المحدثين وموجود كذلك لدى الأوائل ، وأن الناس مختلفون فيه : من مستحسن قابل ، ومستقبح راد ، وأن له رسوما متى وقف الشاعر عندها ، ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم ، ومتى تجاوزها اتسعت له

__________________

(١) هو أبو الحسن علي بن عبد العزيز الشهير بالقاضي الجرجاني المتوفى سنة ٣٦٦ ه‍ ، وصاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه.

١٠٦

الغاية ، وأدته الحال إلى الإحالة ، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط ، وشعبة من الإغراق.

وللحاتمي (١) في الغلو رأي ذكره ابن رشيق وهو : «وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق ، ويختلفون في استحسانها واستهجانها ، ويعجب بعض منهم بها ، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره ، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له ، فيقولون : أحسن الشعر أكذبه ، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط ، وقالوا : إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت ، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل : من أشعر الناس؟ فقال : من استجيد كذبه وأضحك رديئه. وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة ، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة».

ويعلق ابن رشيق على زعم القائلين بأن أبا تمام هو الذي توسع في باب الغلو وتبعه الناس بعد فيقول : «وأين أبو تمام مما نحن فيه؟ فإذا صرت إلى أبي الطيب ـ المتنبي ـ صرت إلى أكثر الناس غلوا ، وأبعدهم فيه همة ، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا ، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنيّ ، وله في غيره مندوحة كقوله :

يترشفن من فمي رشفات

هنّ فيه أحلى من التوحيد

وإن كان له في هذا تأويل ومخرج بجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه ...» (٢).

__________________

(١) هو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي. كاتب شاعر ناقد له عدة كتب في النقد والأدب واللغة والتراجم ، توفي سنة ٣٨٨ ه‍.

(٢) كتاب العمدة ج ٢ ص ٥٧ ـ ٦٢.

١٠٧

بعد هذه المقتبسات من كتاب العمدة لا بن رشيق والتي تعرض فيها للغلو من بعض الجوانب نذكر أن رجال البديع يقسمون الغلو قسمين : مقبول وغير مقبول :

١ ـ فالغلو الحسن المقبول عندهم هو ما دخل عليه أو اقترن به أداة من الأدوات التي تقربه إلى الصحة والقبول من نحو : «قد» للاحتمال ، و «لو» و «لولا» للامتناع ، و «كأنّ» للتشبيه ، و «يكاد» للمقاربة ، وما أشبه ذلك.

ومن أمثلة الغلو الحسن المقبول لاقترانه بأداة من أدوات التقريب قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ،) فإن إضاءة الزيت من غير مسّ نار مستحيلة عقلا ، ولكن لفظة «يكاد» قربته فصار مقبولا. ولهذا يجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة.

ومن أمثلة الغلو المقبول أيضا قول المعري :

تكاد قسيّه من غير رام

تمكن من قلوبهم النبالا

تكاد سيوفه من غير سل

تجد إلى رقابهم انسلالا

فالقسي التي تسدد نبالها إلى القلوب من غير رام ، والسيوف التي تنسل إلى الرقاب فتعمل فيها من غير أن تسلّ من أغمادها أمران مستحيلان عقلا وعادة ، ولكن الذي حسّن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول لفظة «تكاد» التي صيرت ما بعدها قريب الوقوع لا واقعا فعلا كما كان الشأن قبل تدخلها.

وعلى هذا النحو يمكن تفسير الغلو الحسن المقبول الذي دخلت عليه «يكاد» في قول ابن حمديس يصف فرسا :

١٠٨

ويكاد يخرج سرعة من ظله

لو كان يرغب في فراق رفيق

وقول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه :

يكاد يمسكه عرفان راحته

ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

وقول أبي صخر :

تكاد يدي تندي إذا ما لمستها

وينبت في أطرافها الورق النّضر

ومن الغلو الحسن المقبول لدخول أداة الامتناع «لو» عليه قول البحتري في مدح الخليفة المتوكل :

ولو أن مشتاقا تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليه المنبر

فسعى المنبر إلى الخليفة الممدوح تعبيرا عن اشتياقه له عند ما يعلوه ليخطب في الناس إفراط في الغلو قرّبه إلى الصحة والقبول لفظة «لو».

ومن هذا الضرب من الغلو المقبول قول أبي الطيب في ممدوحه :

لو تعقل الشجر التي قابلتها

مدت محيّيه إليك الأغصنا

فمد الأشجار أغصانها تحية للممدوح عند مروره بها أمر مستحيل لامتناعه عقلا وعادة ، لكن الذي حسّن هذا الغلو وجعله مقبولا هو دخول «لو» التي أفادت امتناع وقوع هذا الأمر المستحيل لامتناع أن تعقل الأشجار.

والمتنبي كما يقول ابن رشيق من أكثر الشعراء ولعا بالغلو وأبعدهم فيه همة ، حتى لو قدر ما أخلى منه بيتا واحدا. ومما جاء عنده أيضا من هذا الغلو المقبول لدخول «لو» عليه ، قوله مخاطبا طللا :

لو كنت تنطق قلت معتذرا

بي غير ما بك أيها الرجل

١٠٩

وقوله مفتخرا :

ولو برز الزمان إليّ شخصا

لخضب شعر مفرقه حسامي (١)

وقوله في قبيلة الممدوح :

ولو يممتهم في الحشر تجدو

لأعطوك الذي صلوا وصاموا (٢)

ومن الغلو المقبول والأداة المقربة إلى الصحة «لو لا» قول أبي العلاء المعري يصف سيف ممدوحه :

يذيب الرعب منه كلّ عضب

فلو لا الغمد يمسكه لسالا (٣)

فالمعنى هنا أولا : أن سيفك أيها الممدوح تهابه السيوف وتصاب بالرعب والفزع منه كما يهابك الرجال ويصابون بالرعب والفزع منك ، وأشد ما يجوز على السيف أن يسيل حديده ولو لا الغمد يمسكه لظهر سيلانه.

فذوبان كل سيف إلى حد السيلان في غمده بباعث الرعب من سيف الممدوح أمر ممتنع عقلا وعادة. ولكن تدخّل «لو لا» التي أفادت امتناع سيلان هذا السيف الذائب لوجود غمده الذي يمسكه عن السيلان قد جعلت هذا الغلو المفرط في المعنى مقبولا.

* * *

__________________

(١) المفرق : وسط الرأس ، والحسام : السيف القاطع. يقول : إن الزمان الذي هو محل النكبات والنوائب لو كان شخصا ثم برز إلي محاربا لخضب شعر رأسه سيفي.

(٢) يممتهم : قصدتهم ، وتجدو : تطلب جدواهم وعطاءهم. يقول : إن أبناء قبيلة الممدوح لجودهم وكرمهم لا يردون سائلا حتى لو قصدهم سائل يوم القيامة لأعطوه صلاتهم وصيامهم.

(٣) العضب : السيف.

١١٠

٢ ـ أما الغلو غير المقبول فيتمثل في المعنى الذي يمتنع عقلا وعادة مع خلوه من أدوات التقريب التي تدنيه إلى الصحة والقبول. فمن أمثلة ذلك قول المتنبي مادحا :

فتى ألف جزء رأيه في زمانه

أقل جزيىء بعضه الرأي أجمع (١)

فعلى ما في البيت من بعض التعقيد الناشىء عن التقديم والتأخير الذي اقتضاه الوزن يريد المتنبي أن يقول : إن هذا الممدوح فتى رأيه في أحوال زمانه بقدر ألف جزء ، وأقل جزء من هذه الأجزاء يعادل جزء منه كل ما لدى الناس من الرأي.

فوجود إنسان رأيه على النحو الذي صوره الشاعر ممتنع عقلا وعادة ، وهو غلو غث لا يدعو إلى الإعجاب به بل إلى التعجب منه!

ومنه أيضا مادحا :

ونفس دون مطلبها الثريا

وكف دونها فيض البحار

ومنه قول أبي نواس في وصف الخمر :

فلما شربناها ودب دبيبها

إلى موضع الأسرار قلت لها : قفي

مخافة أن يسطو علي شعاعها

فيطلع ندماني على سري الخفي

فسطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفّافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة ، فهو غلو مفرط.

* * *

ومراتب القبول في الغلو تتفاوت إلى الحد الذي تؤول بقائلها إلى الكفر ، فمن ذلك قول أبي نواس مادحا :

__________________

(١) ترتيب البيت هكذا : فتى رأيه في زمانه ألف جزء أقل جزء من هذه الأجزاء بعضه ـ أي بعض جزيء من رأيه الرأي الذي في أيدي الناس كله.

١١١

وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النّطف التي لم تخلق

وهذا كما لا يخفى أمر مستحيل ، لأن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة.

ومنه قول ابن هانىء الأندلسي في مطلع قصيدة يمدح بها المعز لدين الله الفاطميّ :

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

فادعاء أن مشيئة المعز فوق مشيئة الأقدار وأنه هو الواحد القهار غلو يوهم الكفر.

ومنه قول المتنبي في مدح سيف الدولة :

تجاوزت مقدار الشجاعة والنهى

إلى قول قوم أنت بالغيب عالم

فعلم الغيب مما استأثر الله به ، فالزعم بأن إنسانا كائنا من كان يعلم الغيب إفراط في الغلو يؤول بقائله إلى الكفر.

الإيغال

والإيغال ضرب من المبالغة ، إلّا أنه في القوافي خاصة لا يعدوها.

والإيغال مشتق من الإبعاد ، يقال : أوغل في الأرض إذا أبعد فيها. وقيل إنه سرعة الدخول في الشيء يقال :

أوغل في الأمر إذا دخل فيه بسرعة.

فعلى القول الأول كأن الشاعر قد أبعد في المبالغة وذهب فيها كل الذهاب ، وعلى القول الثاني كأنه أسرع الدخول في المبالغة بمبادرته القافية.

والإيغال الذي هو ضرب من المبالغة مقصور على القوافي يعني أن

١١٢

الشاعر إذا انتهى إلى آخر البيت استخرج قافية يريد بها معنى زائدا ، فكأنه قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه ، وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد.

وهذا النوع من المبالغة مما فرّعه قدامة بن جعفر وعرّفه بقوله : «هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته ، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرا أفاد بها معنى زائدا على معنى البيت» (١).

وعرف أبو هلال العسكري الإيغال بقوله : «هو أن يستوفي معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ، ثم يأتي بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا حسنا» (٢).

سئل الأصمعي : من أشعر الناس؟ قال : الذي يجعل المعنى الخسيس بلفظه كبيرا ، أو يأتي إلى المعنى الكبير فيجعله خسيسا ، أو ينقضي كلامه قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى ، فسئل : نحو من؟ فقال :

نحو الأعشى إذ يقول :

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل (٣)

فقد تم المثل ـ أي التشبيه ـ بقوله : «وأوهى قرنه» فلما احتاج إلى القافية قال «الوعل». فسئل : وكيف صار الوعل مفضلا على كل ما ينطح؟ قال : لأنه ينحط من قنّة الجبل على قرنه فلا يضيره.

ثم سئل : نحو من؟ قال : نحو ذي الرّمة بقوله :

__________________

(١) خزانة الأدب لابن حجة الحموي ص ٢٣٤.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٨٠.

(٣) الوعل بكسر العين : ذكر الشاة الجبلية.

١١٣

قف العيس في أطلال مية واسأل

رسوما كأخلاق الرداء المسلسل

أظن الذي يجدي عليك سؤالها

دموعا كتبديد الجمان المفصل (١)

ففي البيت الأول تمم الشاعر كلامه بقوله «كأخلاق الرداء» ثم احتاج إلى القافية ، فقال «المسلسل» فزاد شيئا على المعنى.

وفي البيت الثاني تمّ كلامه بقوله «كتبديد الجمان» ثم احتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدا وهو «المفصل» (٢).

ويقال : إن امرأ القيس أول من ابتكر هذا المعنى ، أي الإيغال ، وذلك بقوله يصف الفرس :

إذا ما جرى شأوين وابتل عطفه

تقول هزيز الريح مرت بأثأب (٣)

فالمعنى هنا أن الفرس إذا أجرى شوطين وابتلّ جانبه من العرق سمعت له صوتا وخفقا كخفق الريح إذا مرّت بشجر الأثأب. فالشاعر بالغ في وصف الفرس وجعله على هذه الصفة بعد أن يجري شوطين ويبتل عطفه بالعرق ، وقد تم المعنى بقوله «مرت» ثم زاد إيغالا في صفته بذكر الأثأب الذي يكون للريح في أضعاف أغصانه حفيف عظيم وشدة صوت.

وعلى هذا فإذا كانت لفظة «أثأب» قد استدعتها القافية ليكون الكلام شعرا ، فإنها في الوقت ذاته أفادت معنى زائدا ، وهو المبالغة في شدة

__________________

(١) أخلاق : جمع خلق بفتح الخاء واللام : الثوب البالي ، المسلسل : المهلهل دموعا كتبديد الجمان المفصل : أي دموعا تتبدد وتتناثر كتبديد وتناثر عقد الفضة المفصل ، أي الذي يجعل فيه خرزة بين كل حبتين من الجمان أي الفضة.

(٢) كتاب العمدة ج ٢ ص ٥٤.

(٣) الأثأب : شجر كالائل يشتد صوت الريح وهزيزه فيه ، والعطف بكسر العين : الجانب.

١١٤

حفيف الفرس بتشبيهه بهزيز الريح المنبعث من اصطدامها بأغصان هذا الشجر عند مرورها من خلاله.

ومن الإيغال قول امرىء القيس أيضا :

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

فهنا شبه الشاعر عيون الوحش لما فيهن من السواد والبياض بالجزع ، وهو الخرز الأسود المشوب بالبياض ، ولما كانت عيون الوحش لا ثقوب فيها كانت أشبه بالخرز الذي لم يثقب. فمعنى التشبيه تمّ بقوله «الجزع» وقوله «الذي لم يثقب» إيغال في التشبيه زوّد البيت بالقافية وأفاد معنى زائدا هو تأكيده التشبيه ، لأن عيون الوحش غير مثقبة. ولا يخفى ما في هذه الزيادة من حسن.

ومن الإيغال في التشبيه كذلك قول زهير :

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حبّ الفنا لم يحطم (١)

والمعنى الذي عبر عنه زهير انتهى عند قوله «حب الفنا» وزيادة المعنى في قوله «لم يحطم». فزهير شبه ما تفتت وتساقط من العهن أو الصوف الملون بحب الفنا الأحمر ، ولما قال بعد تمام بيته «لم يحطم» أراد أن يكون حب الفنا صحيحا لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة. فهذا البيت شبيه ببيت امرىء القيس السابق من حيث أن الإيغال فيه زوّد البيت بالقافية ، وأفاد معنى زائدا في المشبه به.

ومن الإيغال البليغ باتفاق البديعيين قول الخنساء في أخيها صخر :

__________________

(١) العهن بكسر العين وسكون الهاء : الصوف المصبوغ أي لون كان ، وفتات العهن : ما تساقط من الصوف المصبوغ ألوانا ، والفنا : شجر ثمره حب أحمر ، وقال الفراء : هو عنب الثعلب.

١١٥

وإن صخرا لتأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

فإن معنى جملة البيت كامل من غير القافية ، ووجودها زيادة لم تكن له قبلها. فالخنساء لم ترض لأخيها أن يأتمّ به جهّال الناس حتى جعلته يأتمّ به أئمة الناس ، ولم ترض تشبيهه بالعلم ، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية ، حتى جعلت في رأسه نارا. فهذا الإيغال البديع أكمل معنى المشبه به ، وزوّد البيت بالقافية.

ومن بديع إيغال المحدثين قول مروان بن أبي حفصة :

همو القوم : إن قالوا أصابوا ، وإن دعوا

أجابوا ، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا

فقوله «وأجزلوا» إيغال في نهاية الحسن.

* * *

والإيغال ليس مقصورا على الشعر ، وإنما هو يجيء في الشعر والنثر على حد سواء. ومجيئه في النثر المسجوع أكثر وذلك لإتمام الفواصل وزيادة المعنى. ومن أمثلته قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.) فإن الكلام تمّ بقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة أو الفاصلة الأولى ، فلما أتى بها وهي (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أفاد بها معنى زائدا ، وذلك لأنه لا يعلم أن حكم الله أحسن من كل حكم إلا من أيقن أنه سبحانه حكيم عادل.

ومثله قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ. إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ.) فإن المعنى تم بقوله تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ثم ورد ما بعد ذلك وهو (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) لإتمام الكلام بالفاصلة ولإفادة معنى زائد ، هو المبالغة في

١١٦

إعراض الكفار الذين شبّهوا بالموتى في عدم انتفاعهم بالأدلة.

والإيغال الذي يعد من البديع حقا هو ما يستدعيه المعنى ويتطلبه الكلام استكمالا للشعر بالقافية وللسجع بالفاصلة. وليس من بديع المعنى في شيء كل إيغال يتكلفه الشاعر أو الناثر.

التتميم

أول من ذكر التتميم وعده من محاسن الكلام عبد الله بن المعتز في كتابه البديع (١). وقد سماه «اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه ثم يعود إليه فيتممه في بيت واحد» ، ومثّل له بثلاثة أبيات من الشعر منها :

لو أن الباخلين ، وأنت منهم

رأوك تعلموا منك المطالا

فمبادرة الشاعر إلى الاعتراض بقوله «وأنت منهم» قبل تمام معنى الكلام هو في الواقع تتميم قصد به المبالغة في بخل المخاطبة وأن الباخلين وهي واحدة منهم جديرون بأن يتعلموا منها المطال.

ومن بعد ابن المعتز جاء قدامة بن جعفر فأطلق على هذا المحسن البديعي اسم «التتميم» وعده من نعوت المعاني وعرفه بقوله : «هو أن يذكر الشاعر المعنى فلا يدع من الأحوال التي تتم بها صحته وتكمل معها جودته شيئا إلا أتى به».

وقد استشهد عليه بأربعة عشر بيتا من الشعر ، منها قول نافع بن خليفة الغنوي :

رجال إذا لم يقبل الحق منهم

ويعطوه عاذوا بالسيوف القواطع (٢)

__________________

(١) كتاب البديع ص ٥٩.

(٢) كتاب نقد الشعر لقدامة ص ٩٨ ، وعاذوا : التجأوا ، والقواطع : جمع قاطعة ، أي حادة ماضية.

١١٧

ثم يعلق على البيت قائلا : «فما تمت جودة المعنى إلا بقوله «يعطوه» ، وإلا كان المعنى منقوص الصحة» (١).

ويبدو أن تعريف قدامة لهذا الفن البديعي لاقى استحسان البلاغيين من بعده أكثر من تعريف ابن المعتز.

فأبو هلال العسكري اعتمد تعريف قدامة وأضاف إليه فأسماه «التتميم والتكميل» وعرفه على حسب مفهومه له ، وأورد عليه أمثلة كثيرة من القرآن الكريم والنثر والشعر.

والتتميم والتكميل عند أبي هلال هو : أن توفي المعنى حظه من الجودة ، وتعطيه نصيبه من الصحة ، ثم لا تغادر معنى يكون فيه تمامه إلا تورده ، أو لفظا يكون فيه توكيده إلا تذكره (٢).

* * *

وقد عرفه بعض رجال البديع بقوله : «والتتميم عبارة عن الإتيان في النظم والنثر بكلمة إذا طرحت من الكلام نقص حسنه ومعناه».

أقسام التتميم :

والتتميم يأتي على ضربين : ضرب في المعنى وضرب في الألفاظ.

١ ـ فالتتميم المعنوي : هو تتميم المعنى ، وهو المراد هنا ، ويجيء للمبالغة والاحتراس. ومجيئه في المقاطع والحشو ، وأكثر مجيئه في الحشو. ومن أمثلة مجيئه للاحتراس قول الله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً.)

__________________

(١) نقد الشعر لقدامة ص ٩٨.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٨٩.

١١٨

فقوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) تتميم وقوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) تتميم ثان في غاية البلاغة ، فبذكر هذين التتميمين تم معنى الكلام وجرى على الصحة. ولو حذف أحدهما أو كلاهما لنقص معنى الكلام واختل حسن البناء.

ومنه قول الرسول عليه‌السلام : «ما من مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفرائض إلا بنى الله له بيتا في الجنة».

ففي هذا الحديث وقع التتميم في أربعة مواضع هي : قوله «مسلم» وقوله «الله» وقوله «كل يوم» وقوله «من غير الفرائض». فحذف أي من هذه التتميمات ينقص من معنى الحديث الشريف ويقلل من قيمته البلاغية.

ومما ورد فيه التتميم المعنوي للاحتراس من النثر قول أعرابية : «كبت الله كل عدو لك إلا نفسك» فبقولها : «نفسك» تمّ الدعاء ؛ لأن نفس الإنسان تجري مجرى العدوّ له ، يعني أنها تورّطه وتدعوه إلى ما يوبقه ويهلكه.

ومن أمثلته شعرا قول عمرو بن برّاق :

فلا تأمنن الدهر حرا ظلمته

فما ليل مظلوم كريم بنائم

فقوله : «كريم» تتميم ؛ لأن اللئيم يغضي على العار ، وينام عن الثأر ، ولا يكون منه دون المظالم تكبّر.

ومنه أيضا قول طرفة :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي

فقوله : «غير مفسدها إتمام للمعنى بالاحتراس والتحرز».

١١٩

ومثال ما جاء منه للمبالغة قول زهير بن أبي سلمى :

من يلق يوما على علاته هرما

يلق السماحة منه والندى طرقا

فقوله : «على علاته» تتميم للمبالغة.

ومن أبلغ ما ورد من التتميم للمبالغة قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) فقوله : (عَلى حُبِّهِ) تتميم للمبالغة التي تعجز عنها قدرة المخلوقين.

٢ ـ والتتميم اللفظي : يقصد به التتميم الذي يؤتى به لإقامة الوزن ، بحيث أنه لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها. وهذا النوع على ضربين أيضا : كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن ، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضربا من المحاسن ، فالأولى من العيوب ، والثانية من النعوت والمحاسن.

والتتميم في الألفاظ الذي يفيد مع إقامة الوزن ضربا من البديع هو المراد هنا ، ومثاله قول المتنبي :

وخفوق قلب لو رأيت لهيبه

يا جنتي لظننت فيه جهنما

فإنه جاء بقوله : «يا جنتي» لإقامة الوزن ، ولكنها في الوقت ذاته أفادت تتميم المطابقة بين «الجنة» و «جهنم».

* * *

لقد ذكرنا فيما سبق أن قدامة هو أول من أطلق اسم «التتميم» على هذا النوع من البديع المعنوي ، وأن أبا هلال العسكري استحسن هذه التسمية فاعتمدها وأضاف إليها «التكميل».

وقد جارى بعض البلاغيين أبا هلال في تسميته لهذا الفن البديعي ،

١٢٠