علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

فالبيت الثاني هنا فيه تقسيم بالتقطيع المسجوع. وقد أطلق قدامة على هذا النوع اسم «الترصيع» ، وفضله ، وأطنب كثيرا في وصفه.

والقدماء لم يكثروا من هذا النوع كراهة التكلف ، ومما ورد عندهم منه قول أبي المثلم في الرثاء :

هباط أودية حمال ألوية

شهاد أندية سرحان فتيان

يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه

من التلاد وهوب غير منان (١)

فالتقسيم بالتقطيع المسجوع هو هنا في البيت الأول كما يرى.

ومن التقسيم نوع يقال له «تقسيم الضد» ويكون بجعل كل شيء ضده ، كقول العباس بن الأحنف.

وصالكمو صرم ، وحبكمو قلى

وعطفكمو صد ، وسلمكمو حرب

حكى الصولي أن محمد بن موسى المنجم كان يحب التقسيم في الشعر وكان معجبا ببيت العباس بن الأحنف هذا ويقول : «أحسن والله فيما قسم حين جعل كل شيء ضده ، والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس» (٢)!.

عيوب التقسيم :

والتقسيم إذا استوعب جميع أقسام المعنى أو جميع أحواله فهو التقسيم الصحيح الذي يعد من فنون البديع المعنوي. ولكن التقسيم قد يعتريه بعض أمور تفسده وتنقص من قيمته ، ومن ذلك :

١ ـ عدم استيفاء كل أقسام المعنى ، كقول جرير :

__________________

(١) السرحان بالكسر : الذئب والأسد ، والتلاد والتالد والتليد : كل مال قديم ، وخلافه الطارف والطريف.

(٢) كتاب الصناعتين ج ٢ ص ٢٤.

١٤١

صارت حنيفة أثلاثا فثلثهم

من العبيد وثلث من موالينا

فهو بعد أن ذكر أنهم أقسام ثلاثة ذكر قسمين وسكت عن الثالث ، فالقسمة هنا رديئة. قيل : إن جريرا أنشد هذا البيت ورجل من حنيفة حاضر ، فقيل له : من أي قسم أنت؟ فقال : من الثلث الملغى ذكره!

ومن هذا النوع أيضا قول ابن القربة : «الناس ثلاثة : عاقل ، وأحمق ، وفاجر» ، فإن القسمة هنا رديئة لعدم استيفاء أقسامها ، لأن الفاجر يجوز أن يكون أحمق ، ويجوز أن يكون عاقلا ، والعاقل يجوز أن يكون فاجرا ، وكذلك الأحمق.

٢ ـ دخول أحد القسمين في الآخر ، كقول أمية بن أبي الصلت :

لله نعمتنا تبارك ربنا

ربّ الأنام ورب من يتأبّد

فالقسمة هنا فاسدة لأن «من يتأبد ويتوحش» داخل في «الأنام».

وكقول الآخر :

فما برحت تومي إليك بطرفها

وتومض أحيانا إذا طرفها غفل

فالقسمان في البيت متداخلان لأن «تومي وتومض» واحد.

وكقول جميل :

لو كان في قلبي كقدر قلامة

حبّا وصلتك أو أتتك رسائلي

فالبيت يوهم بالتقسيم ، ولكنه ليس كذلك لأن إتيان الرسائل داخل في الوصل.

الالتفات

لعل الأصمعي «٢١٤ ه‍» أول من ذكر «الالتفات» ، فقد حكى عن

١٤٢

إسحاق الموصلي أنه قال : قال لي الأصمعي : أتعرف التفات جرير؟ قلت :

وما هو؟ فأنشدني قوله :

أتنسى إذ تود عنا سليمى

بعود بشامة؟ سقي الغمام

أما تراه مقبلا على شعره ، إذ التفت إلى البشام فذكره فدعا له (١).

* * *

وقد عدّ ابن المعتز «الالتفات» من محاسن الكلام وبديعه ، فعرفه ومثل له بعدة أمثلة من القرآن الكريم والشعر. ففي تعريفه له يقول :

«الالتفات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار ، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك. ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر» (٢).

ثم مثل لانصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار ، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الخطاب إلى الغيبة بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.)

فالالتفات في الآية الكريمة هو في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ،) وعن هذا الالتفات يقول ابن الأثير : «فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم.

__________________

(١) انظر كتاب العمدة ج ٢ ص ٤٤ ، وكتاب الصناعتين ص ٣٩٢ ، والبشام : شجر ذو ساق وأفنان وورق ولا ثمر له.

(٢) كتاب البديع ص ٥٨.

١٤٣

ولو أنه قال حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها ، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية ، لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة» (١).

ومثل ابن المعتز كذلك لانصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة ، أو بعبارة أخرى لانصرافه عن الغيبة إلى الخطاب بقول جرير :

طرب الحمام بذي الأراك فشاقني

لا زلت في علل وأيك ناضر (٢)

فجرير قد أخبر عن الغائب في الشطر الأول وهو «الحمام» ، ولكنه في الشطر الثاني انصرف عن الاستمرار في خطاب هذا الغائب والتفت إلى مخاطبته بقوله «لا زلت في علل وأيك ناضر» لزيادة فائدة في المعنى هي الدعاء للحمام.

أما النوع الثالث من الالتفات عند ابن المعتز وهو انصراف المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر فقد مثل له بقول أبي تمام :

وأنجدتمو من بعد اتهام داركم

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

فالشاعر ، وهو المتكلم هنا ، يخبر من يخاطبهم بأنه يعلم أنهم قد اتخذوا دارهم في نجد بعد أن كانت في تهامة ، ثم ينصرف أو يلتفت بعد ذلك إلى معنى آخر يتمثل في دعاء الدمع ومطالبته بأن يسعفه على ساكني نجد.

* * *

وجاء قدامة بن جعفر بعد ابن المعتز فعد «الالتفات» من نعوت

__________________

(١) المثل السائر ص ١٧٠.

(٢) العلل بفتح العين واللام : الشرب بعد الشرب تباعا ، والأيك : شجر ، الواحدة أيكة ، ويقال شجر من الأراك.

١٤٤

المعاني وعرّفه بقوله : «الالتفات أن يكون الشاعر آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه أو ظن بأن رادا يرد عليه قوله ، أو سائلا يسأله عن سببه فيعود راجعا إلى ما قدمه ، بمعنى يلتفت إليه بعد فراغه ، فإما أن يذكر سببه أو يجلي الشك فيه» (١).

ومن أمثلة ذلك عنده قول المعطل الهذلي :

تبين صلاة الحرب منا ومنهمو

إذا ما التقينا والمسالم بادن (٢)

فقوله : «والمسالم بادن» رجوع عن المعنى الذي قدمه حين بيّن أن علامة «صلاة الحرب» من غيرهم أن المسالم يكون بادنا والمحارب ضامرا.

ومن أمثلته أيضا قول الرماح بن ميادة :

فلا صرمه يبدو وفي اليأس راحة

ولا وصله يبدو لنا فنكارمه (٣)

فكأنه يقول : «وفي اليأس راحة» والتفت إلى المعنى لتقدير أن معارضا يقول له : وما تصنع بصرمه أي هجره؟ فيقول مبينا علة ما يرجوه من انكشاف صرمه وهجره : لأنه يؤدي إلى اليأس ، وفي اليأس راحة.

* * *

ومن يقارن مفهوم «الالتفات» عند ابن المعتز وقدامة ، ثم يتابع مفهومه عند غيرهم من أمثال أبي هلال العسكري ، وابن رشيق ، وفخر الدين الرازي والسكاكي ، يجد أن منهم من يستوحي مفهوم الالتفات عند

__________________

(١) كتاب نقد الشعر لقدامة ص ١٠٦.

(٢) تبين : تستبين صلاة الحرب بضم الصاد : الذين يقاسون حرها وشدتها وأهوالها جمع صال ، مثل : قاض وقضاة.

(٣) الصرم بفتح الصاد : ضد الوصل وهو الهجر والصد.

١٤٥

ابن المعتز أو قدامة ، ومنهم من يخلط بين هذا الفن البديعي والاعتراض.

وخير من عرض لموضوع «الالتفات» في نظرنا هو ضياء الدين ابن الأثير ، فقد عالجه بوضوح وفهم لأسراره البلاغية ، ولهذا آثرنا أن ننقل هنا خلاصة لكلامه عن «الالتفات» توضح حقيقته ووظيفته البلاغية ، وتجنبنا الخلط الكثير الذي وقع فيه غيره من البلاغيين.

يستهل ابن الأثير كلامه ، عن هذا الفن من فنون البديع المعنوي ببيان حقيقته فيقول : «وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله ، فهو يقيل بوجهة تارة كذا وتارة كذا ، وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة ، لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة كالانتقالات من خطاب حاضر إلى غائب ، أو من خطاب غائب إلى حاضر ، أو من فعل ماض إلى مستقبل ، أو من مستقبل إلى ماض ، أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلا.

ويسمى أيضا «شجاعة العربية» ، وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام ، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ، ويتورد ما لا يتورده سواه ، وكذلك هذا الالتفات في الكلام ، فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات» (١).

أقسام الالتفات

ثم يقسم ابن الأثير الالتفات ثلاثة أقسام هي :

١ ـ القسم الأول : في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغيبة.

__________________

(١) كتاب المثل السائر ص ١٦٧ ، ويتورد ما لا يتورد سواه : أي يعلو قرنه بما لا يعلوه سواه.

١٤٦

٢ ـ القسم الثاني : في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر ، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر.

٣ ـ القسم الثالث : في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل ، وعن المستقبل بالفعل الماضي.

وفيما يلي خلاصة لكلام ابن الأثير عن كل قسم من هذه الأقسام.

* * *

١ ـ فعن القسم الأول ، وهو الخاص بالرجوع من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة يورد ابن الأثير أولا آراء بعض علماء البلاغة في السبب الذي قصدت العرب إليه من وراء استعمال هذا الأسلوب ، ثم يعقب عليها برأيه.

فعامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبة قالوا : كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامهم. وهذا القول عنده عكاز العميان كما يقال.

كذلك لم يرتض جواب الزمخشري عن هذا السؤال بأن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه.

وعند ابن الأثير أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته. وتلك الفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ، غير أنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط ، لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها.

فالانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد يكون الغرض منه تعظيم شأن المخاطب ، وقد يستعمل ذات الغرض للضد ، أي للانتقال من الخطاب

١٤٧

إلى الغيبة ، ومن ذلك يفهم أن الغرض الموجب لاستعمال «الالتفات» لا يجري على وتيرة واحدة ، وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود ، وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر ، وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه. وفي الأمثلة التالية توضيح ذلك.

أ ـ فمن الالتفات بالرجوع والعدول عن الغيبة إلى الخطاب قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا)(١). وإنما قيل : (لَقَدْ جِئْتُمْ) وهو خطاب للحاضر بعد قوله (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة ، وهي زيادة التسجيل على قائلي هذا القول بالجرأة على الله ، والتعرض لسخطه ، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه ، كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبخا لهم.

ومن هذا النوع أيضا ، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الغيبة إلى الخطاب قول القاضي الأرّجاني :

وهل هي إلا مهجة يطلبونها؟

فإن أرضت الأحباب فهي لهم فدى

إذا رمتمو قتلي وأنتم أحبتي

فماذا الذي أخشى إذا كنتمو عدى؟

فالبيت الثاني قد جاء وهو خطاب للحاضر بعد البيت الأول وهو خطاب للغائب. فالغرض البلاغي من وراء الالتفات بالعدول عن الاستمرار في الإخبار عن الغائب إلى مخاطبته هو تمثل أحبابه الغائبين في البيت الأول كأنهم حاضرون أمامه ليقرّعهم ويلومهم على عدم معاملته بالمثل ، وذلك بالمقابلة بين مشاعرهم نحوه : هو على أتم استعداد لأن يفديهم بمهجته إن أرضاهم ذلك ، وهم يرومون قتله بالتمادي في هجرانه

__________________

(١) الإدّ بكسر الهمزة وتشديد الدال : الأمر الفظيع المنكر ، وأده الأمر بتشديد الدال : أثقله وعظم عليه.

١٤٨

والإعراض عنه كما لو كان عدوا لهم.

* * *

ومما ينخرط في هذا السلك الالتفات بالرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس ، كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ، وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.)

فالآية مثال للالتفات بالعدول عن الغيبة إلى خطاب النفس ، فإنه قال (وَزَيَّنَّا) بعد قوله (ثُمَّ اسْتَوى) وقوله (فَقَضاهُنَ) ـ (وَأَوْحى.)

والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا ، وأنها ليست حفظا ولا رجوما ، فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس لأنه مهمة من مهمات الاعتقاد ، وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانه.

* * *

ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن مخاطبة النفس إلى مخاطبة الجماعة ، قوله تعالى : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.) وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم ، لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة ، وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح ، حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه. وقد وضع قوله (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) مكان قوله «وما لكم لا تعبدون الذي فطركم» بدليل قوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.) ولو لا أنه قصد ذلك لقال «الذي فطرني وإليه أرجع».

* * *

١٤٩

ب ـ ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الخطاب إلى الغيبة ، قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ ، فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ.)

فإنه إنما قال : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ولم يقل : «فآمنوا بالله وبي» عطفا على قوله : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه. وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان أنا أو غيري ، إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب. فقرر أولا في صدر الآية أني رسول الله إلى الناس ، ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين : الأول منهما إجراء تلك الصفات عليه ، والثاني الخروج من تهمة التعصب.

ومن هذا النوع ، أي من الالتفات بالرجوع أو العدول عن الخطاب إلى الغيبة قول ابن النبيه :

من سحر عينيك الأمان الأمان

قتلت ربّ السيف والطيلسان

أسمر كالرمح له مقلة

لو لم تكن كحلاء كانت سنان

فقد عدل عن الخطاب في البيت الأول إلى الغيبة في البيت الثاني لغرض بلاغي قد يكون التفنن في الأسلوب ، وقد يكون التمكن من بناء التشبيه الذي يشبه فيه القوام بالرمح ، مع المحافظة على سلامة الوزن الشعري.

* * *

والقسم الثاني من الالتفات ، هو الخاص بالرجوع أو العدول عن

١٥٠

الفعل المستقبل إلى فعل الأمر ، وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر.

ويقول ابن الأثير إن هذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلبا للتوسع في أساليب الكلام فقط ، بل الأمر وراء ذلك. وإنما يقصد إليه تعظيما لحال من أجرى عليه الفعل المستقبل وتفخيما لأمره ، وبالضد من ذلك فيمن أجرى عليه فعل الأمر.

فمن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر قوله تعالى : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ. وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ. وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ. وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.)

فإنه إنما قال : (أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) ولم يقل : «وأشهدكم» ليكون موازنا له وبمعناه ، لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت ، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم ، ولذلك عدل به عن لفظ الأول ـ المستقبل ـ لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر ، كما يقول الرجل لمن ساءت علاقته به : أشهد عليّ أني أحبك ، تهكما به واستهانة بحاله.

* * *

ومن الالتفات بالرجوع أو العدول عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر بغرض التوكيد لما أجرى عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقه قوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.)

وكان تقدير الكلام : أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد ، فعدل عن ذلك بالالتفات إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في

١٥١

نفوسهم ، فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده ، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب ، إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأعمال بالنيات».

* * *

أما القسم الثالث والأخير من أقسام الالتفات فهو الخاص بالإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالفعل الماضي.

فالأول هنا ، هو «الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل». وبيان ذلك أن الفعل المستقبل إذا أتى في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي. والسبب في ذلك أن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضي.

وليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض يجري هذا المجرى.

وتفصيل ذلك أن عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين : أحدهما بلاغي وهو إخبار عن الفعل الماضي بمستقبل ، والآخر ليس بلاغيا. وليس إخبارا عن فعل ماض بمستقبل ، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ، ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض.

فالضرب الأول كقوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.) فإنما قال (فَتُثِيرُ) مستقبلا وما قبله وما بعده ماض ، وذلك حكاية للحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب ، واستحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة ... وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تميز وخصوصية ، كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك.

١٥٢

ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ.) فقال أولا (خَرَّ مِنَ السَّماءِ) بلفظ الماضي ، ثم عطف عليه المستقبل وهو «فتخطفه وتهوي» ، وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهويّ الريح به في مكان سحيق.

ومنه كذلك قول تأبط شرا :

بأني قد لقيت الغول تهوي

بشهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران (١)

فتأبط شرا قصد في هذين البيتين أن يصوّر لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يريهم إياها مشاهدة ماثلة أمام أعينهم للتعجب من جرأته على ذلك الهول. ولو قال : «فضربتها» عطفا على الفعل الماضي قبله وهو «لقيت» لزال الغرض البلاغي المذكور.

أما الضرب الثاني ، وهو الفعل المستقبل الذي يدل على معنى مستقبل غير ماض ، ويراد به أنه فعل مستمر الوجود لم يمض فكقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فإنه إنما عطف الفعل المستقبل (يَصُدُّونَ) على الماضي (كَفَرُوا) لأن كفرهم كان

__________________

(١) الغول بالضم : الحية ، والسعلاة ، والداهية ، وكل ما اغتال الإنسان وأهلكه فهو غول ، وكانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات والصحارى تتراءى للناس فتتغول تغولا ، أي تتلون تلونا في صور شتى فتضلهم عن الطريق وتهلكهم. وعلى هذا المعنى تكون الغول التي ورد ذكرها في البيت قد تمثلت لتأبط شرا في صورة ناقة أو جمل.

والصحصحان : الأرض المستوية الواسعة ، والجران بكسر الجيم : مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره ، وإذا برك البعير ومد عنقه على الأرض قيل : ألقى جرانه بالأرض.

١٥٣

ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا ، وصدهم عن سبيل الله متجدد على الأيام لم يمض وجوده ، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين.

ومن هذا الضرب أيضا قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.) فهنا عدل عن لفظ الماضي إلى المستقبل فقال : (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ولم يقل «فأصبحت» عطفا على «أنزل» وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان. فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض.

وهذا كما تقول : «أنعم عليّ فلان فأروح وأغدو شاكرا له» ولو قلت : «فرحت وغدوت شاكرا له» لم يقع ذلك الموقع ، لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى.

* * *

وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل ، فهو عكس ما تقدم ذكره ، وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر عن المستقبل الذي لم يوجد بعد ، كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده ، لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد.

وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها. والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته ليكون السامع كأنه يشاهدها ، والغرض بالإخبار بالماضي عن المستقبل هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد.

فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ،) فإنه إنما قال

١٥٤

(فَفَزِعَ) بلفظ الماضي بعد قوله (يُنْفَخُ) وهو مستقبل ، للإشعار بتحقيق الفزع ، وأنه كائن لا محالة ، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.

ومن أمثلة الالتفات بالإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل أيضا قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً.) وإنما قيل (وَحَشَرْناهُمْ) ماضيا بعد «نسيّر وترى» وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال ، كأنه قال : وحشرناهم قبل ذلك لأن الحشر هو المهم ، لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم ، ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي.

فالعدول بالالتفات عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة لا يكون ، كما رأينا ، إلا لنوع من الخصوصية اقتضت ذلك. وهذه أمر لا يتوخاه في كلامه إلا المتمرس بفن القول والعارف بأسرار الفصاحة والبلاغة (١).

الجمع

الجمع : هو أن يجمع بين متعدد في حكم واحد ، أو هو أن يجمع المتكلم بين شيئين فأكثر في حكم واحد ، كقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ،) فقد جمع الله سبحانه وتعالى المال والبنون في الزينة.

ومنه قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ)(٢). فجمع بين الشمس والقمر في الحسبان أي الحساب

__________________

(١) انظر في هذا الموضوع كتاب المثل السائر لا بن الأثير ص ١٦٧ ـ ١٧٣.

(٢) الحسبان بضم الحاء كالغفران : الحساب الدقيق ، والنجم هنا : النبات الذي ينجم أي يظهر من الأرض ولا ساق له ، والشجر : النبات الذي له ساق وله أغصان ، ويسجدان : أي ينقادان لما أراده الله سبحانه منهما.

١٥٥

الدقيق ، وجمع بين النجم والشجر في السجود أي الانقياد لإرادة الله سبحانه.

ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أصبح آمنا في سربه ، معافى في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (١). فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حكم واحد هو حيازة الدنيا وامتلاكها بحذافيرها أي من جميع نواحيها.

ومنه شعرا قول أبي العتاهية :

إن الفراغ والشباب والجدة

مفسدة للمرء أي مفسدة

فجمع الشاعر بين الفراغ والشباب والجدة أي الاستغناء في حكم واحد هو المفسدة ، أي أن هذه الأمور تؤدي بصاحبها إلى الفساد.

التفريق

التفريق في اللغة ضد الاجتماع.

والتفريق في اصطلاح البديعيين هو إيقاع تباين بين أمرين من نوع ، في المدح وغيره. وهذا معناه أن المتكلم أو الناظم يأتي إلى شيئين من نوع واحد فيوقع بينهما تباينا وتفريقا بفرق يفيد زيادة وترجيحا فيما هو بصدده من مدح أو ذم أو نسيب أو غيره من الأغراض الأدبية.

ومن أمثلة التفريق قول رشيد الدين الوطواط :

__________________

(١) السرب بكسر السين وسكون الراء : النفس وهو المراد هنا ، ومن معانيها أيضا : الجماعة من النساء والبقر والقطا والشاء والوحش ، والجمع أسراب ، والحذافير : النواحي ، واحدها حذفار.

١٥٦

ما نوال الغمام وقت ربيع

كنوال الأمير يوم سخاء

فنوال الأمير بدرة عين (١)

ونوال الغمام قطرة ماء

فالشاعر هنا قد أوقع التباين بين النوالين أي العطائين : نوال الغمام ونوال الأمير ، مع أنهما من نوع واحد وهو مطلق نوال.

ومن أمثلة التفريق أيضا قول الشاعر :

من قاس جدواك بالغمام فما

أنصف في الحكم بين شكلين

أنت إذا جدت ضاحك أبدا

وهو إذا جاد دامع العين

فهنا شيئان من نوع واحد هما جدوى الممدوح وجدوى الغمام ، أي عطاؤهما ، وقد أوقع الشاعر تباينا بينهما بفرق يفيد زيادة وترجيحا لكفة عطاء الممدوح ، فهو يعطي ضاحكا فرحا بالعطاء ، على حين يعطي الغمام دامع العين ، كأنما هناك قوة تدفعه إلى العطاء على غير إرادة منه.

ومنه قول الشاعر :

قاسوك بالغصن في التثني

قياس جهل بلا انتصاف

هذاك غصن الخلاف يدعى

وأنت غصن بلا خلاف

فالشاعر أتى هنا بشيئين من نوع واحد على التشبيه هما : غصن شجر الخلاف أي الصفصاف ، وقوام صاحبته الذي يشبه الغصن في التثني ، ثم أوقع التباين والتفريق بينهما لفائدة معنوية ادعاها ، وهي تفضيل قوام صاحبته على غصن الخلاف ، لأن الأخير تنفر النفس عنه لاسمه «الخلاف»

__________________

(١) العين : من معانيها النقد عامة من دراهم ودنانير وغيرها وهو المقصود هنا ، والبدرة : كيس فيه ألف أو عشرة آلاف ، وهذا الكيس يصنع من جلد ولد الضأن إذا فطم ، فبدرة عين : كيس مملوء بالدراهم أو الدنانير أو غيرها ، والنوال : العطاء.

١٥٧

أما الأول وهو قوام صاحبته فغصن لا خلاف ولا شك فيه. وفي «خلاف» و «خلاف» جناس تام لتشابه اللفظين نطقا لا معنى ، واتفاق حروفهما هيئة ونوعا وعددا وترتيبا.

ومن التفريق أيضا قول صفي الدين الحلي في مدح الرسول :

فجود كفيه لم تقلع سحائبه

عن العباد وجود السحب لم يدم

ففي البيت شيئان من نوع واحد هما : جود كفي الرسول صلوات الله عليه وجود السحب ، وقد أوقع الشاعر تباينا بينهما مع أنهما من نوع واحد وهو مطلق جود.

وقد قصد الشاعر من وراء هذا التباين أو التفريق بين الشيئين من نوع واحد إلى غرض بلاغي هو ترجيح وتفضيل جود كفي الرسول على جود السحب ، فجود كفي الرسول على العباد متصل دائم وجود السحب منقطع غير دائم.

الجمع مع التقسيم

الجمع مع التقسيم : هو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه ، أو العكس أي تقسيم متعدد ثم جمعه تحت حكم.

فالأول وهو جمع المتعدد ثم تقسيمه كقول المتنبي من قصيدة يصف فيها موقعة دارت بين الروم والعرب بقيادة سيف الدولة بالقرب من بحيرة الحدث :

حتى أقام على أرباض خرشنة

تشقى به الروم والصلبان والبيع (١)

__________________

(١) الأرباض : جمع ربض بفتحتين ، وهو ما حول المدينة ، وخرشنة : بلد من بلاد الروم ، وفيها يقول أبو فراس الحمداني : ـ

١٥٨

للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا

فالمتنبي هنا جمع الروم ممثلين في نسائهم وأولادهم وأموالهم وزرعهم تحت حكم واحد هو الشقاء ، ثم قسم ذلك الحكم إلى سبي وقتل ونهب وإحراق ، وأرجع إلى كل قسم من هذه الأقسام ما يلائمه ويناسبه ، فأرجع للسبي ما نكحوا ، وللقتل ما ولدوا ، وللنهب ما جمعوا ، وللنار ما زرعوا ، أي إتلاف مزارعهم بالإحراق.

ومع أن الصلبان والبيع تشترك بالعطف مع الروم في الحكم عليها بالشقاء إلا أن التقسيم خصّ بالروم وقصر عليهم وحدهم.

والثاني : هو التقسيم ثم الجمع ، أو بعبارة أخرى هو تقديم التقسيم وتأخير الجمع في الحكم عليه. ومن أمثلته قول حسان بن ثابت :

قوم إذا حاربوا ضروا عدوهمو

أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا

سجية تلك منهم غير محدثة

إن الخلائق فاعلم شرّها البدع (١)

قسم الشاعر في البيت الأول صفة الممدوحين إلى ضر الأعداء في الحرب ونفع الأشياع والأولياء ، ثم عاد فجمعها في البيت الثاني حيث قال : «سجية تلك».

والنوع الأول هنا كما يبدو أحسن وأوقع في القلوب من الثاني ، وعليه مشى أصحاب البديعيات.

__________________

إن زرت «خرشنة» أسيرا

فلكم أحطت بها مغيرا

ولقد رأيت النار تن

تهب المنازل والقصورا

ولئن لقيت الحزن في

ك فقد لقيت بك السرورا

(١) البدع : جمع بدعة ، وهي الحدث في الدين بعد الكمال ، والمراد بها هنا محدثات الأخلاق.

١٥٩

ومن النوع الأول أيضا وهو الجمع ثم التقسيم قول صفي الدين الحلي :

أبادهم فلبيت المال ما جمعوا

والروح للسيف والأجساد للرخم (١)

فكما يفهم من البيت جمع الشاعر المتمردين على السلطان تحت حكم واحد هو الإبادة ، ثم قسم ذلك الحكم إلى المال والروح والأجساد ، وأرجع إلى كل واحد من هذه الأقسام ما يناسبه ، فأرجع لبيت المال ما جمعوا ، وللسيف الروح وللرخم الأجساد.

ويلاحظ على هذا البيت أن صفي الدين الحلي قد استوحى معناه من معنى المتنبي السابق ، ولكن شتان بين صياغة وصياغة ، وبين شاعر مبتدع وآخر مقلد.

الجمع مع التفريق

يعرفه علماء البديع بأنه الجمع بين شيئين في حكم واحد ثم التفريق بينهما في ذلك الحكم.

ومن أمثلته قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً.) فالمعنى أولا أن الله سبحانه جعل الليل والنهار آيتين ، أي دليلين على قدرته وحكمته ، والمراد بمحو آية خلقها ممحوا ضوءها ، أي جعلها مظلمة كما جعل آية النهار مبصرة.

على هذا جمع بين الليل والنهار في حكم واحد هو أنهما آيتان ودليلان على القدرة والحكمة ، ثم فرق بينهما في ذلك الحكم من جهة أن الليل يكون مظلما والنهار يكون مضيئا.

__________________

(١) الرخم : الطيور ، جمع رخمة بفتحتين.

١٦٠