علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

وخلطوا التكميل بالتتميم ، ولكن المتأخرين من أصحاب البديع عادوا بهذا الفن إلى تسمية قدامة له ، وذلك لما لحظوه من فرق بين الأمرين.

فالتتميم عندهم يرد على المعنى الناقص فيتمه ، والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله ، إذ الكمال أمر زائد على التمام. والتمام أيضا يكون متمما لمعاني النقص لا لأغراض الشعر ومقاصده ، والتكميل يكملها.

ولمزيد من الإيضاح نورد هنا مثالا للتكميل وهو لكثير عزة :

لو أن عزة حاكمت شمس الضحى

في الحسن عند موفق لقضى لها

فقوله : «عند موفق» تكميل حسن ، فإنه لو قال : «عند محكّم» لتمّ المعنى ، لكن في قوله : «عند موفق» زيادة تكميل بها حسن البيت ، والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى ، إذ ليس كل محكّم موفقا ، فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله.

وتجدر الإشارة بعد دراستنا لكل من التتميم والإيغال إلى أن هناك فارقا بينهما. فالتتميم كما ذكرنا يرد على المعنى الناقص فيتمه ، على حين يرد الإيغال على المعنى التام لختم الكلام شعرا أو نثرا مسجوعا بما يعطيه قافيته ، ويفيد في الوقت ذاته فائدة يتم المعنى بدونها كالمبالغة مثلا.

ولبيان أثر التتميم في تحسين المعنى وصحته وبلاغته نقارن هنا بين بيتين لطرفة بن العبد وذي الرمة في معنى واحد. فطرفة في دعائه لديار صاحبته بالسقيا يقول :

فسقى ديارك غير مفسدها

صوب الربيع وديمة تهمي

فقوله : «غير مفسدها» فيه إتمام للمعنى بما يفيد أنه يدعو لديار صاحبته بأن يسقيها الغيث أو المطر بالقدر المطلوب ، لا بالقدر الذي يزيد

١٢١

عن حاجتها فيصيبها بالتلف والإفساد. فهذا التتميم بالاحتراس من البديع حقا.

أما ذو الرمة ففي دعائه بالسقيا لدار صاحبته يقول :

ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى

ولا زال منهلا بجرعائك القطر (١)

فذو الرمة يدعو لدار صاحبته ميّ بالسلامة وبأن يظل المطر ينهل وينصبّ على جرعائها انصبابا شديدا. وهذا بالدعاء على دار صاحبته أشبه منه بالدعاء لها ، لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت. وهذا العيب ناشىء من أن الشاعر لم يتم معناه ، ولم يتحرّز فيه كما فعل طرفة في بيته.

التورية

التورية من فنون البديع المعنوي ، ويقال لها أيضا : الإيهام والتوجيه والتخيير ، ولكن لفظة «التورية» أولى في التسمية لقربها من مطابقة المسمّى ، لأنها مصدر ورّى بتضعيف الراء تورية ، يقال : ورّيت الخبر : جعلته ورائي وسترته وأظهرت غيره ، كأن المتكلم يجعله وراءه بحيث لا يظهر.

والتورية في اصطلاح رجال البديع : هي أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان ، قريب ظاهر غير مراد ، وبعيد خفي هو المراد.

ونحن نجد لها أكثر من تعريف لدى المتأخرين ، ولكن هذه

__________________

(١) الجرعاء والأجرع : الأرض ذات الحزونة تشاكل الرمل ، وقيل : هي الرملة السهلة المستوية لا تنبت شيئا ، والقطر : المطر.

١٢٢

التعريفات وإن اختلفت لفظا فإنها تتفق معنى ، ولا تخرج جميعها في مضمونها عن مضمون التعريف السابق الذي اصطلح عليه جمهور البديعيين.

فزكي الدين بن أبي الأصبع «٦٥٤ ه‍» قد عرفها في كتابه المسمى «تحرير التحبير» بقوله : «التورية وتسمى التوجيه هي أن يكون الكلام يحتمل معنيين فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر ، ومراده ما أهمله لا ما استعمله».

والخطيب القزويني «٧٣٩ ه‍» يعرفها في كتابه التلخيص بقوله : «ومن البديع التورية وتسمى الإيهام أيضا ، وهي أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ، وهي ضربان مجردة ومرشحة» ولم يزد على هذا القدر شيئا.

وصلاح الدين الصفدي «٧٦٤ ه‍» يعرفها في كتابه «فضّ الختام عن التورية والاستخدام» بقوله : «التورية هي أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنيين ، قريب وبعيد ، فيذكر لفظا يوهم القريب إلى أن يجيء بقرينة يظهر منها أن مراده البعيد».

وتقي الدين بن حجة الحموي «٨٣٧ ه‍» يعرّفها في كتابه «خزانة الأدب» بقوله : «التورية أن يذكر المتكلم لفظا مفردا له معنيان حقيقيان أو حقيقة ومجاز ، أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة ، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية ، فيريد المتكلم المعنى البعيد ، ويورّى عنه بالمعنى القريب ، فيتوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك ، ولأجل هذا سمى هذا النوع إيهاما» (١).

__________________

(١) انظر في كل هذه التعريفات كتاب خزانة الأدب لابن حجة الحموي ٢٣٩ ـ ٢٤٢.

١٢٣

ومن أمثلة التورية قول سراج الدين الورّاق (١) :

أصون أديم وجهي عن أناس

لقاء الموت عندهم الأديب

ورب الشعر عندهم بغيض

ولو وافى به لهم «حبيب»

فالتورية في لفظة «حبيب» ، ولها معنيان : أحدهما المحبوب ، وهذا هو المعنى القريب الذي يتبادر إلى الذهن أول وهلة بسبب التمهيد له بكلمة «بغيض» ، والمعنى الثاني اسم أبي تمام الشاعر وهو حبيب بن أوس ، وهذا هو المعنى البعيد الذي أراده الشاعر ولكنه تلطف فورّى عنه وستره بالمعنى القريب.

ومن أمثلتها أيضا قول بدر الدين الذهبي :

يا عاذلي فيه قل لي

إذا بدا كيف أسلو؟

يمر بي كل وقت

وكلما «مر» يحلو

فالتورية هنا كلمة «مرّ» ، فإن لها معنيين : أحدهما أنها مأخوذة من المرارة وهو المعنى القريب بدليل مقابلتها بكلمة «يحلو» ، وهذا المعنى القريب الظاهر غير مراد ، والمعنى الثاني أنها مأخوذة من المرور ، وهذا هو المعنى البعيد الذي يريده الشاعر.

ومنها كذلك قول بدر الدين الحمّاميّ :

جودوا لنسجع بالمدي

ح على علاكم سرمدا

فالطير أحسن ما تغر

د عند ما يقع الندى (٢)

فالتورية هنا في كلمة «الندى» ، فمعناها القريب الظاهر غير المراد

__________________

(١) شاعر مصري أولع بالبديع في شعره وتوفي سنة ٦٥٩ ه‍.

(٢) من معاني الندى : الجود ، وما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف.

١٢٤

هو ما يسقط آخر الليل من بلل ومطر خفيف ، بدليل التمهيد له بذكر الطير والتغريد والوقوع ، ومعناها البعيد هو الجود وهذا هو الذي أراده الشاعر.

وقوله أيضا :

أبيات شعرك كالقص

ور ولا قصور بها يعوق

ومن العجائب لفظها

حرّ ومعناها «رقيق»

والتورية في هذا المثال هي كلمة «رقيق» ولها معنيان : أولهما قريب ظاهر غير مراد ، وهو العبد المملوك ، وسبب قربه وتبادره إلى الذهن ما سبقه من كلمة «حر» ، والمعنى الثاني بعيد وهو اللطيف السهل الدّمث من المعاني. وهذا هو الذي يريده الشاعر بعد أن ستره وأخفاه في ظل المعنى القريب.

ومما ورد منها في القرآن الكريم قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ)(١). فلفظة التورية في الآية الكريمة هي (جَرَحْتُمْ) ولها معنيان : أولهما قريب ظاهر غير مراد وهو إحداث تمزّق في الجسم ، والثاني بعيد خفي مراد وهو ارتكاب الذنوب واقترافها.

ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية وأنها تتمثل دائما في لفظ مفرد له معنيان : قريب ظاهر غير مراد ، وبعيد خفي هو المراد.

ومن الأمثلة السابقة تتضح حقيقة التورية ، وأن القصد من لفظ التورية أن يكون مشتركا بين معنيين : أحدهما قريب ودلالة اللفظ عليه ظاهرة ، والآخر بعيد ودلالة اللفظ عليه خفية ، فيريد المتكلم المعنى البعيد

__________________

(١) جرحتم : أصل معنى الجرح إحداث تمزق في الجسم ، ولهذا سميت السباع جوارح لأنها تجرح.

١٢٥

ويورّى عنه بالمعنى القريب ، فيوهم السامع أول وهلة أنه يريد القريب وليس كذلك. ولهذا سمي هذا النوع إيهاما.

* * *

 أنواع التورية :

والتورية أربعة أنواع : مجردة ، ومرشحة ، ومبيّنة ، ومهيّأة.

١ ـ التورية المجردة : وهي التي لم يذكر فيها لازم من لوازم المورّى به ، وهو المعنى القريب ، ولا من لوازم المورّى عنه ، وهو المعنى البعيد.

وأعظم أمثلة هذا النوع قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فكلمة التورية هي (اسْتَوى) والاستواء ، كما يقول الزمخشري ، على معنيين : أحدهما الاستقرار في المكان ، وهو المعنى القريب المورّى به غير المقصود ، والثاني الاستيلاء والملك ، وهو المعنى البعيد المورّى عنه ، وهو المراد ، لأن الحق سبحانه منزّه عن المعنى الأول. ولم يذكر من لوازم هذا أو ذاك شيء ، فالتورية مجردة بهذا الاعتبار.

ومن هذا النوع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خروجه إلى بدر ، وقد قيل له : ممن أنتم؟ فلم يرد أن يعلم السائل ، فقال : «من ماء» ، وأراد : أنا مخلوقون من ماء. فورّى عنه بقبيلة من العرب يقال لها : ماء.

ومن ذلك قول أبي بكر الصديق في الهجرة عند ما سأله سائل عن النبي قائلا : «من هذا؟» فقال أبو بكر : «هاد يهديني». أراد أبو بكر هو هاد يهديني إلى الإسلام فورّى عنه بهادي الطريق الذي هو الدليل في السفر.

ومنه شعرا قول القاضي عياض في سنة كان فيها شهر كانون معتدلا فأزهرت فيه الأرض :

١٢٦

كأن نيسان أهدى من ملابسه

لشهر كانون أنواعا من الحلل

أو الغزالة من طول المدى خرفت

فما تفرّق بين الجدي والحمل (١)

فالتورية هنا مجرّدة ، والشاهد في الغزالة والجدي والحمل ، فإن الشاعر لم يذكر قبل الغزالة ولا بعدها شيئا من لوازم المورّى به ، كالأوصاف المختصة بالغزالة الوحشية من طول العنق ، وسرعة الالتفات ، وسرعة النفرة ، وسواد العين ، ولا من أوصاف المورّى عنه كالأوصاف المختصة بالغزالة الشمسية من الإشراق والسمو والطلوع والغروب.

٢ ـ والتورية المرشحة : هي التي يذكر فيها لازم المورّى به ، وهو المعنى القريب ، وسميت مرشحة لتقويتها بذكر لازم المورى به. ثم تارة يذكر اللازم قبل لفظ التورية وتارة بعده ، فهي بهذا الاعتبار قسمان :

أ ـ فالقسم الأول منها : هو ما ذكر لازمه قبل لفظ التورية. وأعظم أمثلته قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) فإن قوله : (بِأَيْدٍ) يحتمل اليد الجارجة ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به ، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح «البنيان» ، ويحتمل القوة وعظمة الخالق ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه ، وهو المراد لأن الله سبحانه منزه عن المعنى الأول.

ومنه قول يحيى بن منصور من شعراء الحماسة :

فلما نأت عنا العشيرة كلّها

أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة

ولا نحن أغضينا الجفون على وقر

فالشاهد لفظة «الجفون» فإنها تحتمل جفون العين ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به ، وقد تقدم لازم من لوازمه على جهة الترشيح وهو

__________________

(١) من معاني الغزالة : الشمس.

١٢٧

«الإغضاء» لأنه من لوازم العين ، وتحتمل أن تكون جفون السيوف أي أغمادها ، وهذا هو المعنى البعيد المراد المورى عنه.

ب ـ والقسم الثاني : هو ما ذكر لازم المورى به بعد لفظ التورية. ومن أمثلته اللطيفة قول الشاعر :

مذ همت من وجدي في خالها

ولم أصل منه إلى اللثم (١)

قالت : قفوا واستمعوا ما جرى

خالي قد هام به عمي!

فلفظة التورية هنا «خالها» فإنها تحتمل خال النسب وهو المعنى القريب المورّى به وقد ذكر لازمه بعد لفظ التورية على جهة الترشيح وهو «العم» ، وتحتمل أن تكون الشامة السوداء التي تظهر غالبا في الوجه وتكون علامة حسن ، وهذا هو المعنى البعيد الخفيّ المورّى عنه.

٣ ـ التورية المبيّنة : وهي ما ذكر فيها لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية أو بعده. فهي بهذا الاعتبار قسمان :

أ ـ فالقسم الأول : ما ذكر لازم المورّى عنه قبل لفظ التورية ، واستشهدوا عليه بقول البحتري :

ووراء تسدية الوشاح ملية

بالحسن تملح في القلوب وتعذب

فالشاهد هنا في «تملح» فإنه يحتمل أن يكون من الملوحة التي هي صد العذوبة ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به وغير المراد ، ويحتمل أن يكون من الملاحة التي هي عبارة عن الحسن ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد. وقد تقدم من لوازمه على التبيين «مليّة بالحسن».

__________________

(١) من معاني الخال : خال النسب وهو أخو الأم ، والخال الذي يكون في الجسد ، وهو شامة أو نكتة سوداء في البدن ، وأكثر ما يكون في الوجه ، وهو علامة حسن وإن لم يكن هو حسنا في ذاته.

١٢٨

ومن أحسن الشواهد على هذا القسم قول شرف الدين بن عبد العزيز :

قالوا : أما في جلق نزهة

تنسيك من أنت به مغرى

يا عاذلي دونك من لحظه

سهما ومن عارضه سطرا

الشاهد هنا في موضعين وهما «السهم وسطر» فإن المعنى البعيد هما الموضعان المشهوران بمتنزهات دمشق ، وذكر النزهة بجلّق قبلهما هو المبين لهما ، وأما المعنى القريب غير المراد فسهم اللحظ وسطر العارض.

ب ـ والقسم الثاني ، من التورية المبينة : هو الذي ذكر فيه لازم المورّى عنه بعد لفظ التورية. ومن أمثلته البديعة قول الشاعر :

أرى ذنب السّرحان في الأفق طالعا

فهل ممكن أن الغزالة تطلع؟

فالبيت فيه توريتان إحداهما «ذنب السرحان» فإنه يحتمل أول ضوء النهار ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه ، وهو مراد الشاعر ، وقد بيّنه بذكر لازمه بعده بقوله : «طالعا». ويحتمل ذنب الحيوان المعروف وهو الذئب أو الأسد ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والتورية الثانية في «الغزالة» فإنه يحتمل أن يكون المراد بها الشمس ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه ، وهو مقصود الشاعر وقد بيّنه بذكر لازمه بعد بقوله : «تطلع». ويحتمل أن يكون المراد بها الغزالة الوحشية المعروفة ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به والذي لم يقصده الشاعر.

٤ ـ التورية المهيّأة : وهي التي لا تقع فيها التورية ولا تتهيأ إلا باللفظ الذي قبلها ، أو باللفظ الذي بعدها ، أو تكون التورية في لفظين لو لا كل منهما لما تهيأت التورية في الآخر. فالمهيّأ على هذا الاعتبار ثلاثة أقسام.

١٢٩

أ ـ فالقسم الأول من التورية المهيأة : هو الذي تتهيأ فيه التورية من قبل. واستشهدوا على ذلك بقول ابن سناء الملك يمدح الملك المظفر صاحب حماة :

وسيرك فينا سيرة عمرية

فروحت عن قلب وأفرجت عن كرب

وأظهرت فينا من سميك سنة

فأظهرت ذاك الفرض من ذلك الندب

فالشاهد هنا في «الفرض والندب» وهما يحتملان أن يكونا من الأحكام الشرعية ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به ، ويحتمل أن يكون الفرض بمعنى العطاء والندب صفة الرجل السريع في قضاء الحوائج الماضي في الأمور ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه. ولو لا ذكر «السنّة» لما تهيأت التورية فيهما ولا فهم من الفرض والندب الحكمان الشرعيان اللذان صحت بهما التورية.

ب ـ والقسم الثاني من التورية المهيأة : هو الذي تتهيأ فيه التورية بلفظة من بعده. ومن أمثلته نثرا قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الأشعث بن قيس : «إنه كان يحوك «الشمال» (١) باليمين» ، فالشمال يحتمل أن يكون جمع شملة وهي الكساء يشتمل به ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه ، ويحتمل أن يراد بها الشمال التي هي إحدى اليدين ونقيض اليمين ، وهذا هو المعنى القريب المورّى به. ولو لا ذكر اليمين بعد الشمال لما تنبه السامع لمعنى اليد.

ومن هذا النوع من التورية المهيأة شعرا قول الشاعر :

لو لا التطير بالخلاف وأنهم

قالوا : مريض لا يعود مريضا

لقضيت نحبي في جنابك خدمة

لأكون «مندوبا» قضى مفروضا

__________________

(١) الشمال : جمع شملة ، وهي كساء يشتمل ويتلفع به.

١٣٠

«فالمندوب» هنا يحتمل الميت الذي يبكى عليه ، وهذا هو المعنى البعيد المورّى عنه وهو المراد ، ويحتمل أن يكون أحدا لأحكام الشرعية ، وهو المعنى القريب المورى به. ولو لا ذكر «المفروض» بعده لم يتنبّه السامع لمعنى المندوب ، ولكنه لما ذكر تهيّأت التورية بذكره.

ج ـ والقسم الثالث من التورية المهيّأة : هو الذي تقع التورية فيه في لفظين لو لا كل منهما لما تهيّأت التورية في الآخر. واستشهدوا على ذلك بقول عمر بن أبي ربيعة :

أيها المنكح الثريا سهيلا

عمرك الله كيف يلتقيان؟

هي شامية إذا ما استقلت

وسهيل إذا استقل يماني (١)

وموضع الشاهد هنا هو «الثريا وسهيل» ، فإن «الثريا» يحتمل أن يكون الشاعر أراد بها بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر ، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه وهو المراد ، ويحتمل أن يكون أراد بها نجم الثريا ، وهذا هو المعنى القريب المورى به. و «سهيل» يحتمل أيضا أن يكون سهيل بن عبد الرحمن بن عوف وقيل كان رجلا مشهورا من اليمن ، وهذا هو المعنى البعيد المورى عنه ، ويحتمل أن يكون النجم المعروف بسهيل ، وهذا هو المعنى القريب المورى به. ولو لا ذكر «الثريا» التي هي النجم لم يتنبه السامع لسهيل. وكل واحد منهما صالح للتورية.

ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن التورية هنا لا تصلح أن تكون مرشحة ولا مبيّنة ؛ لأن الترشيح والتبيين لا يكون كل منهما إلا بلازم

__________________

(١) سبب نظم البيتين أن سهيلا المذكور تزوج الثريا المذكورة ، وكان بينهما بون شاسع فالثريا مشهورة في زمانها بالجمال وسهيل مشهور بالعكس. وهذا مراد الناظم بقوله : «كيف يلتقيان؟» ، وأيضا هي شامية الدار وسهيل يماني.

١٣١

خاص. والفرق بين اللفظ الذي تتهيأ به التورية ، واللفظ الذي تترشح به ، واللفظ الذي تتبيّن به ـ أن اللفظ الذي تقع به التورية مهيّأة لو لم يذكر لما تهيأت التورية أصلا ، وأن اللفظ المرشح واللفظ المبين إنما هما مقويان للتورية ، فلو لم يذكرا لكانت التورية موجودة.

* * *

والتورية التي هي نوع من البديع المعنوي لم يتنبه لمحاسنها إلا المتأخرون من حذّاق الشعر وأعيان الكتاب. وهؤلاء نظروا إليها على أنها من أغلى فنون الأدب وأعلاها رتبة ، ولهذا نرى الكثيرين جدا من شعراء مصر والشام خاصة في القرن السادس والسابع والثامن للهجرة يتوسعون ويفتنون في استعمالها ، ويأتون فيها بالعجيب الرائع الذي يدل على صفاء الطبع والقدرة على التلاعب في أساليب الكلام.

والقاضي الفاضل (١) «٥٩٦ ه‍ «يعد أول من فتح باب التورية لأهل عصره ومن بعدهم بما أودع منها في نظمه ونثره. وقد تأثر به في الولع بالتورية كثيرون من شعراء مصر من أمثال ابن سناء الملك ، والسرّاج ، والورّاق ، والجزار ، والحمامي ، وابن دانيال ، ومحيي الدين بن عبد الظاهر ، وجمال الدين بن نباته ، وصلاح الدين الصفدي.

وممن اشتهر بالتوسع في استعمال التورية من شعراء الشام شرف الدين عبد العزيز الأنصاري ، ومجير الدين بن تميم ، وبدر الدين يوسف الذهبي ، ومحيي الدين الحموي ، وشمس الدين بن العفيف ، وعلاء الدين

__________________

(١) هو عبد الرحيم بن علي وزير السلطان صلاح الدين ، اشتهر بالقاضي الفاضل ، وهو من أئمة الإنشاء وتعرف طريقته في الكتابة بالطريقة الفاضلية وقد تأثر بها وقلّدها من جاء بعده من المنشئين.

١٣٢

الكندي الشهير بالوداعي ، والذي يقال : إنه أشهر من «قفا نبك» في نظم التورية!

ولعل تقي الدين بن حجة الحموي من أكثر رجال البديع المتأخرين اهتماما بالتورية. نقول ذلك لأن ما استشهد به عليها من شعر شعراء البديع بمصر والشام من عصر القاضي الفاضل إلى عصره يمثل في الواقع ربع كتابه «خزانة الأدب» الذي يشتمل على ٤٦٧ صفحة.

وهو ينبئنا عن سبب اهتمامه بالتورية إلى هذا الحد بأنه كان ينوي بعد الفراغ من تأليف «خزانة الأدب» أن يؤلف كتابا خاصا بالتورية والاستخدام يسميه «كشف اللثام عن وجه التورية والاستخدام» (١).

* * *

وإذا ألقينا نظرة على نشأة هذا النوع من البديع المعنوي فإننا نرى أن المتقدمين لم يحفلوا كثيرا بالتورية. وأن المرء ليحس فيما يلقاه منها في أدبهم أنها كانت تقع لهم عفوا من غير قصد.

ويقال إن المتنبي هو أول من التفت إليها واستخدمها في شعره على نحو ظاهر ، ولكن التحقيق يظهر أن شعراء البديع في العصر العباسي الأول والثاني من أمثال أبي نواس ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري قد سبقوه إليها.

ثم أخذ الاهتمام بها ابتداء من عصر المتنبي يزداد شيئا فشيئا حتى وصلت إلى عصر القاضي الفاضل فتلقفها وتوسع في استعمالها في شعره ونثره إلى الحد الذي لفت الأنظار إليها. ومن ثم جاراه فيها شعراء مصر

__________________

(١) خزانة الأدب ص ٢٧٧.

١٣٣

والشام خاصة في عصره وبعد عصره ، وقد أدى الإعجاب بها والمبالغة في استعمالها والإكثار منها والتكلف فيها إلى إفساد الكثير من شعر المتأخرين وإحالته إلى رياضة ذهنية وحيل لفظية ينطبق عليها قول القائل :

وما مثله إلا كفارغ بندق

خلى من المعنى ولكن يفرقع!

التقسيم

التقسيم فن من فنون البديع المعنوي ، وهو في اللغة مصدر قسمت الشيء إذا جزّأته. أما في الاصطلاح فاختلفت فيه العبارات ، والكل راجع إلى مقصود واحد.

ومن أوائل من عرض له أبو هلال العسكري وفسره بقوله : «التقسيم الصحيح : أن تقسم الكلام قسمة مستوية تحتوي على جميع أنواعه ، ولا يخرج منها جنس من أجناسه ، فمن ذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً ،) وهذا أحسن تقسيم لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع ، ليس فيهم ثالث» (١) وقد قدم الخوف على الطمع لأن الأمر المخوف من البرق يقع في أول برقه ، والأمر المطمع إنما يقع من البرق بعد الأمر المخوف. وذلك ليكون الطمع ناسخا للخوف ، لمجيء الفرج بعد الشدة.

وذكر ابن رشيق القيرواني أن الناس مختلفون فيه : «فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به ، كقول بشار يصف هزيمة :

بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه

وتدرك من نجى الفرار مثالبه

فراحوا : فريق في الأسار ، ومثله

قتيل ، ومثل لاذ بالبحر هاربه

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٣٤١.

١٣٤

فالبيت الأول قسمان : إما موت ، وإما حياة تورث عارا ومثلبة ، والبيت الثاني ثلاثة أقسام : أسير ، وقتيل ، وهارب ، فاستقصى جميع الأقسام ، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر» (١).

وعرفه الخطيب القزويني في كتابه التلخيص بقوله : «والتقسيم ذكر متعدد ، ثم إضافة ما لكل إليه التعيين ، كقول المتلمس :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد (٢)

فقد ذكر الشاعر العير والوتد ، ثم أضاف إلى الأول الربط مع الخسف ، وإلى الثاني الشج على التعيين.

وقبله عرّفه السكاكي بقوله : «هو أن تذكر شيئا ذا جزأين أو أكثر ثم تضيف إلى كل واحد من أجزائه ما هو له عندك ، كقوله :

أديبان في بلخ لا يأكلان

إذا صحبا المرء غير الكبد

فهذا طويل كظل القناة

وهذا قصير كظل الوتد (٣)

كذلك عرفه زكي الدين بن أبي الأصبع بقوله : «التقسيم عبارة عن استيفاء المتكلم أقسام المعنى الذي هو آخذ فيه» (٤) وقد مثل لتعريفه بقوله

__________________

(١) كتاب العمدة ج ٢ ص ٢٠.

(٢) كتاب التلخيص للقزويني ص ٣٦٤ ، والضيم : الظلم ، والعير : الحمار غلب على الوحش ، والمناسب هنا الحمار الأهلي ، والخسف : الذل ، الرمة : القطعة من الحبل ، والشج : الدق والكسر.

(٣) خزانة الأدب ص ٣٦٢.

(٤) خزانة الأدب ص ٣٦٢.

١٣٥

تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ ،) فاستوفت الآية الكريمة جميع الهيئات الممكنة.

وكذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ،) فاستوفت الآية الكريمة جميع الأقسام التي يمكن وجودها ؛ فإن العالم جميعه لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة.

وبقوله تعالى أيضا : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ،) فالآية الشريفة جامعة لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها ، والمراد الحال والماضي والمستقبل. فله ما بين أيدينا المراد به المستقبل ، وما خلفنا المراد به الماضي ، وما بين ذلك الحال.

ومما ينطبق على تعريف ابن أبي الأصبع وهو من أشرف المنثور قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وألبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت؟» ، فلم يبق الرسول قسما رابعا لو طلب لوجد.

وقول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : «أنعم على من شئت تكن أميره ، واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره».

فالإمام علي قد استوعب هنا أقسام الدرجات وأقسام أحوال الإنسان بين الفضل والكفاف والنقص.

ومنه أن شابا قدم مع بعض وفود العرب على عمر بن عبد العزيز ثم قام وتقدم المجلس قائلا : «يا أمير المؤمنين أصابتنا سنون : سنة أذابت الشحم ، وسنة أكلت اللحم ، وسنة أنقت العظم (١) ، وفي أيديكم فضول

__________________

(١) أنقت العظم : استخرجت نقوه بكسر النون ، أي مخه.

١٣٦

أموال ؛ فإن كانت لنا لا تمنعونا ، وإن كانت لله ففرقوها على عباده ، وإن كانت لكم فتصدقوا. إن الله يجزي المتصدقين». فقال عمر بن عبد العزيز : «ما ترك لنا الأعرابي في واحدة عذرا».

* * *

ومن التعريفات والأمثلة السابقة يمكن القول بأن التقسيم يطلق على أمور :

أحدها : استيفاء جميع أقسام المعنى ، وقد ينقسم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما ، أو إلى ثلاثة لا رابع لها ، أو إلى أربعة لا خامس لها ، وهكذا ..

ومن تقسيم المعنى إلى اثنين لا ثالث لهما بالإضافة إلى بعض الأمثلة السابقة قول ثابت البناني : «الحمد لله وأستغفر الله» ، ولما سئل : لم خصهما؟ قال : لأني بين نعمة وذنب ، فأحمد الله على النعمة ، وأستغفره من الذنوب.

ومنه قول الشماخ يصف صلابة سنابك الحمار :

متى ما تقع أرساغه مطمئنة

على حجر يرفض أو يتدحرج (١)

فالوطء الشديد إذا صادف الموطوء رخوا ارفض وتفرق منه ، أو صلبا تدحرج عنه ، ولهذا لم يبق الشماخ قسما ثالثا.

ومن تقسيم المعنى إلى ثلاثة لا رابع لها قول زهير :

فإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء (٢)

__________________

(١) مطمئنة : ساكنة ، ويرفض : يتفرق ، والأرساغ : جمع رسغ وهو من الدواب الموضع المستدق بين الحافر.

(٢) النفار : المنافرة والتحاكم ، والجلاء : البيّنة التي تجلو وتكشف حقيقة الأمر.

١٣٧

فذلكم مقاطع كل حق

ثلاث كلهن لكم شفاء

وكان عمر رضي‌الله‌عنه يتعجب من صحة هذا التقسيم ويقول : «لو أدركت زهيرا لوليته القضاء لمعرفته».

ومنه قول نصيب :

فقال فريق القوم : لا ، وفريقهم :

نعم ، وفريق قال : ويحك ما ندري

فليس في أقسام الإجابة عن المطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام الثلاثة.

وقول عمر بن أبي ربيعة :

وهبها كشيء لم يكن أو كنازح

به الدار أو من غيبته المقابر

فلم يبق ابن ربيعة مما يعبر به عن إنسان مفقود قسما إلا أتى به في هذا البيت.

وقول زهير :

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

فالبيت جامع لأقسام الزمان الثلاثة ولا رابع لها.

* * *

والأمر الثاني الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في ذكر أحوال الشيء مضافا إلى كل حالة ما يلائمها ويليق بها. ومن أمثلة ذلك قول أبي الطيب المتنبي :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهم من طول ما التثموا مرد

١٣٨

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا

كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا (١)

فالشاعر قد أضاف هنا كل حال ما يلائمها ، بأن أضاف إلى الثقل حال ملاقاتهم الأعداء ، وإلى الخفة حال دعوتهم إلى الحرب ، وإلى الكثرة حال شدهم وهجومهم على الأعداء في الحرب ، وإلى القلة حال عدّهم وإحصائهم ، لأنهم إذا غلبوا أعداءهم في قلة عددهم ، كان هذا أفخر لهم من الكثرة.

ومنه قول زهير :

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا

ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا

فزهير قد أتى في هذا البيت بجميع ما استعمله الممدوح مع أعدائه في وقت الهياج والحرب مضيفا إلى كل حال ما يلائمها ، وذلك بأن أضاف إلى طعن الممدوح لأعدائه حالة ارتمائهم ، وإلى ضربه إياهم حالة طعنهم ، وإلى اعتناقه حالة مضاربتهم. فهو في كل حال يتقدم خطوة على أقرانه.

ومنه قول طريح الثقفي :

إن يسمعوا الخير يخفوه وإن سمعوا

شرا أذاعوا ، وإن لم يسمعوا كذبوا

فهنا أضاف الشاعر إلى سماع الخير حالة إخفائه ، وإلى سماع الشر حالة إذاعته ، وإلى عدم سماعهم خيرا أو شرا حالة الكذب.

* * *

والأمر الثالث الذي قد يطلق التقسيم عليه يتمثل في التقطيع ، ويقصد به تقطيع ألفاظ البيت الواحد من الشعر إلى أقسام تمثل تفعيلاته

__________________

(١) القنا : الرماح ، كنى بها الشاعر عن نفسه ، وبالمشايخ عن أصحابه ، لا يفارقهم اللثام ولا ترى لحاهم فكأنهم مرد. واللثام في الحرب عادة العرب ، لئلا تسقط عمائمهم.

١٣٩

العروضية ، أو إلى مقاطع متساوية في الوزن. ويسمى التقسيم حينئذ «التقسيم بالتقطيع».

ومن أمثلة ذلك وهو من بحر الطويل قول المتنبي :

فيا شوق ما أبقى ويالي من النوى

ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبا

فقد جاء المتنبي بهذا البيت مقسما على تقطيع الوزن ، كل لفظتين ربع بيت.

ومنه وهو من بحر البسيط قول المتنبي أيضا :

للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا

والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا

فقد جاء البيت مقسما مقطعا إلى أربعة مقاطع متساوية في الوزن.

ومنه وهو من بحر الخفيف قول البحتري :

قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا

أو معينا أو عاذرا أو عدولا

فالبيت هنا مقسم مقطّع إلى ستة مقاطع كل واحد منها يمثل تفعيلة من تفعيلات بحر الخفيف.

وقد يجيء التقسيم بالتقطيع مسجوعا ، كقول مسلم بن الوليد :

كأنه قمر أو ضيغم هصر

أو حية ذكر أو عارض هطل

وكقول أبي تمام من قصيدة يمدح فيها المعتصم ويذكر فتح عمورية :

لم يعلم الكفر كم من أعصر كمنت

له المنية بين السّمر والقضب (١)

تدبير معتصم بالله منتقم ..

لله مرتقب في الله مرتغب

__________________

(١) السمر : الرماح ، والقضب : السيوف ، وعمورية إحدى مدن الروم الشهيرة وكانت عندهم أشرف من القسطنطينية ، وقد فتحها المعتصم في معركة شهيرة.

١٤٠