علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

والطل في سلك الغصون كلؤلؤ

رطب يصافحه النسيم فيسقط

والطير يقرأ والغدير صحيفة

والريح تكتب والغمام ينقط

فالجمع بين كل أمر وما يناسبه في البيتين أوضح من أن يدل عليه.

تشابه الأطراف :

ومن مراعاة النظير ما يسميه بعضهم «تشابه الأطراف» ، وهو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى ، كقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر ، والخبرة تناسب من يدرك شيئا ، فإن من يدرك شيئا يكون خبيرا به.

ومنه قوله تعالى أيضا : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). قال : (الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) على أن ما له ليس لحاجة ، بل هو غني عنه جواد به ، فإذا جاد به حمده المنعم عليه.

إيهام التناسب :

ويقصد به الجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان وإن لم يكونا مقصودين ، ومن أجل ذلك يلحق بمراعاة النظير.

ومثال إيهام التناسب هذا قوله تعالى : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ). (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي بحساب معلوم وتقدير محكم دقيق ، (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ ،) النجم : النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول ، والشجر الذي له ساق. وسجودهما : انقيادهما لله فيما خلقا له.

فالنجم بمعنى النبات وإن لم يكن مناسبا للشمس والقمر ، فقد يكون بمعنى الكوكب وهو مناسب لهما. ولهذا سمي إيهام التناسب.

١٨١

أسلوب الحكيم

يقصد بأسلوب الحكيم تلقي المخاطب بغير ما يترقبه ، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله ، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد ، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.

ومن أمثلة ذلك : قيل لتاجر : «كم رأس مالك؟ فقال : إني أمين وثقة الناس بي عظيمة». وقيل لشيخ هرم : «كم سنك؟ فقال : إني أنعم بالعافية».

ففي السؤال الأول صرف التاجر سائله عن رأس ماله ببيان ما هو عليه من الأمانة وعظم ثقة الناس فيه ، إشعارا بأن هاتين الصفتين وأمثالهما أجلب للربح وأضمن لنجاح التجارة.

وفي السؤال الثاني ترك الشيخ الهرم الإجابة عن السؤال الموجه إليه ، وصرف سائله في رفق عن ذلك ، وأخبره أن صحته موفورة ، إشعارا للسائل بأن السؤال عن الصحة أولى وأجدر.

* * *

١٨٢

ولعل الجاحظ أول من فطن إلى هذا النوع من البديع المعنوي ، فقد عقد له بابا خاصا في كتابه البيان والتبيين (١) وأطلق عليه اسم «اللغز في الجواب» وأورد له أمثلة شتى منها :

سأل رجل بلالا مولى أبي بكر رحمه‌الله وقد أقبل من جهة الحلبة : من سبق؟ قال : سبق المقربون. قال : إنما أسألك عن الخيل. قال : وأنا أجيبك عن الخير. فترك بلال جواب لفظه إلى خبر هو أنفع له.

وقال الحجاج لرجل من الخوارج : أجمعت القرآن؟ قال : أمتفرقا كان فأجمعه؟ قال أتقرؤه ظاهرا؟ قال : بل أقرؤه وأنا أنظر إليه. قال : أفتحفظه؟ قال : أفخشيت فراره فأحفظه؟ قال ما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال لعنه الله ولعنك. قال : إنك مقتول فكيف تلقى الله؟ قال ألقى الله بعملي ، وتلقاه أنت بدمي.

وقالوا : كان الحطيئة يرعى غنما ، وفي يده عصا ، فمر به رجل فقال : يا راعي الغنم ما عندك ، قال : عجراء من سلم (٢) ، يعني عصاه ، قال : إني ضيف ، فقال الحطيئة : للضيفان أعددتها.

فمن هذه الشواهد ونظائرها يتضح أن هذا الأسلوب من الكلام والذي أطلق عليه الجاحظ «اللغز في الجواب» كان يستعمله العرب لأغراض مختلفة كالتظرف أو التخلص من إحراج السائل ، أو تقديم الأهم ، أو التهكم.

وما من شك في أن ما قدمه الجاحظ من أمثلة شتى في هذا الباب قد لفت أنظار البلاغيين من بعده لهذا النوع من الكلام ، وأعطاهم الأساس

__________________

(١) كتاب البيان والتبيين ج ٢ ص ١٤٨ ، ص ٢٨٢.

(٢) العجراء : الكثيرة العجر ، أي العقد ، والسلم بالتحريك : شجر.

١٨٣

للونين من ألوان البديع هما : اللغز وأسلوب الحكيم.

* * *

وقد أطلق عليه المتأخرون من البلاغيين اسم «القول بالموجب» ، ولهم فيه عبارات مختلفة. ومن هؤلاء ابن أبي الأصبع المصري فقد عرفه بقوله : «هو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من لفظه ما يوجب عكس معنى المتكلم». وذلك عين القول بالموجب لأن حقيقته رد الخصم كلام خصمه من فحوى لفظه.

وكلام ابن أبي الأصبع هذا يذكرنا إلى حد ما بكلام الجاحظ السابق ويوحي بأنه قد تأثر به في مفهومه لهذا النوع البديعي.

وقد قسم الخطيب القزويني «القول بالموجب» في تلخيصه وإيضاحه (١) قسمين :

١ ـ أحدهما أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فتثبت في كلامك تلك الصفة لغير ذلك الشيء من غير تعرض لثبوت ذلك الحكم أو انتفائه.

مثال ذلك قوله تعالى : (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ،) فإنهم كنوا «بالأعز» عن فريقهم ، و «بالأذل» عن فريق المؤمنين ، وأثبتوا للأعز «الإخراج» ، فأثبت الله في الرد عليهم صفة (الْعِزَّةُ) لله ولرسوله وللمؤمنين من غير تعرض لثبوت حكم الإخراج للموصوفين بصفة العزة ولا لنفيه عنهم.

__________________

(١) كتاب التلخيص ص ٣٨٦ ، وكتاب الإيضاح ص ٢٧٢.

١٨٤

ومنه أيضا ما جرى بين القبعثري والحجاج ، فقد توعده الحجاج بقوله : «ولأحملنك على الأدهم» فقال القبعثري : «مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب». فقال له الحجاج : «أردت الحديد» ، فقال القبعثري : «لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا». أراد الحجاج بالأدهم القيد ، وبالحديد المعدن المخصوص ، وحملهما القبعثري على الفرس الأدهم الذي ليس بليدا. فالكلام هنا قد حمله القبعثري على خلاف مراد الحجاج قائله.

* * *

٢ ـ والقسم الثاني من أسلوب الحكيم أو القول بالموجب عند صاحب التلخيص هو حمل لفظ وقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه. وهذا القسم هو الذي شاع تداوله بين الناس ونظمه أصحاب البديعيات ، كقول ابن حجاج (١) :

قال ثقّلت إذا أتيت مرارا

قلت ثقّلت كاهلي بالأيادي

قال طوّلت قلت أوليت طولا

قال أبرمت قلت حبل ودادي

فصاحب ابن حجاج يقول له : قد ثقلت عليك وحملتك المشقة بكثرة زياراتي فيصرفه الشاعر عن رأيه في أدب وظرف وينقل كلمته من معناها إلى معنى آخر ، ويقول له : إنك ثقلت كاهلي بما أغدقت عليّ من نعم.

وفي البيت الثاني يقول صاحبه : قد طولت إقامتي عندك وأبرمتك أي جعلتك برما ملولا ، فيرد الشاعر عليه مرة أخرى في أدب ولطف

__________________

(١) هو أبو عبد الله بن أحمد البغدادي ، شاعر يميل إلى المجون في شعره ، وله ديوان شعر كبير ، توفي سنة ٣٩١ ه‍.

١٨٥

وينقل كلامه من معناه إلى معنى آخر ، ويقول له : إنك تطولت وأنعمت علي وأحكمت وقويت حبل ودادي.

* * *

ومن أمثلته في القرآن الكريم قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.) فالسؤال هنا عن حقيقة الأهلة : لم تبد صغيرة ثم تزداد حتى يتكامل نورها ثم تتضاءل حتى لا ترى؟.

ولما كانت هذه القضية من قضايا علم الفلك وفهمها وقتئذ يحتاج إلى دراسة عويصة ، فإن القرآن قد عدل عن الإجابة عنها إلى بيان أن الأهلّة وسائل للتوقيت في المعاملات والعبادات. وفي هذه إشارة إلى أن ما كان ينبغي أن يسأل عنه هو فائدة الأهلّة لا حقيقتها ، إلى أن تتيسّر لهم الحقائق العلمية التي تعينهم على فهم هذه الظاهرة الكونية.

ومنه كذلك قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ، قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ).

فالمسلمون قد سألوا الرسول ما ذا ننفق من أموالنا ، فصرفهم عن هذا ببيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتد بها إن لم تقع موقعها.

ومن أمثلته شعرا قول شاعر راثيا :

ولما نعى الناعي سألناه خشية

وللعين خوف البين تسكب أمطار

أجاب قضى! قلنا قضى حاجة العلا

فقال مضى! قلنا بكل فخار

فأسلوب الحكيم في البيت الثاني هو في قوله : «قضى» ويريد بها «مات» ولكنهم حملوها على إنجاز الحاجات وقضائها ، وهذا ما لم يقصده. وكذلك في قوله : «مضى» أراد بها «مات» وأرادوا هم «ذهب بالفضل ولم يدع لأحد شيئا».

١٨٦

ومنه قول شاعر آخر :

ولقد أتيت لصاحبي وسألته

في قرض دينار لأمر كانا

فأجابني والله داري ما حوت

عينا فقلت له ولا إنسانا (١)

فالبيت الثاني جاء على أسلوب الحكيم ، لأن المخاطب أراد بكلمة «عينا» الذهب ، ولكن المتكلم حملها على العين الباصرة ، وهو ما لم يقصده المخاطب ، إشارة إلى أن منعه من القرض لا يجوز.

ومنه كذلك قول بعضهم :

طلبت منه درهما

يوما فأظهر العجب

وقال ذا من فضة

يصنع لا من الذهب

ففي البيت الثاني صرف لطيف عن طلب الدينار ، فإن الشاعر لم يجب السائل عن سؤاله ، وإنما أخذ يحدثه فيما يصنع منه الدينار وأنه من الفضة لا من الذهب ، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يطلب.

ومنه قول شاعر يجيب ابنا له سأله عن الروح والنفس :

جاءني ابني يوما وكنت أراه

لي ريحانة ومصدر أنس

قال : ما الروح؟ قلت : إنك روحي

قال : ما النفس؟ قلت : إنك نفسي

ففي البيت الثاني سأل الابن عن الروح والنفس وهما من الأمور التي حار العلماء والفلاسفة في تعريفهما وتحديدهما ، ولهذا صرف الشاعر ابنه عن ذلك ببيان منزلته منه ، إشعارا بأنه ما كان ينبغي له أن يتكلم في ذلك ، لقصوره عن أن يتكلم فيما دق من الأمور.

__________________

(١) العين : الذهب والباصرة ، والإنسان قد يراد به إنسان العين وقد يراد به أحد بني آدم.

١٨٧

وبعد فلعل في هذه الأمثلة ما يوضح ما سبق أن قلناه من أن أسلوب الحكيم أو القول بالموجب هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه ، إما بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله ، وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد ، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.

١٨٨

التجريد

وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة ، وذلك لكمال تلك الصفة في الأمر الآخر.

والتجريد أقسام :

١ ـ منها ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «من» التجريدية ، نحو قولهم : «لي من فلان صديق حميم» (١). أي بلغ فلان من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص من فلان هذا صديق آخر مثله في الصداقة.

٢ ـ ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «الباء» التجريدية الداخلة على المنتزع منه ، نحو قولهم : «لئن سألت فلانا لتسألنّ به البحر». وهذا القول يقال في مقام المبالغة في وصف «فلان» بالكرم ، حيث انتزع وجرد منه بحر في الكرم والسماحة.

__________________

(١) حميمك : قريبك الذي تهتم لأمره.

١٨٩

٣ ـ ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بلفظة «باء المعية» الداخلة على المنتزع ، نحو قول الشاعر :

وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى

بمستلئم مثل الفنيق المرحل (١)

فالمعنى : ورب فرس هذه صفتها تعدو بي لنجدة المستغيث في الحرب ومعي من نفسي آخر مستعد للحرب. فقد بالغ في اتصافه بالاستعداد حتى انتزع وجرّد من نفسه مستعدا آخر لابسا درعا.

٤ ـ ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدخول لفظة «في» على المنتزع منه ، نحو قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ ،) أي لهم في جهنم ، وهي دار الخلد ، لكنه انتزع دارا أخرى مثلها وجعلها معدة في جهنم لأجل الكفار تهويلا لأمرها ، ومبالغة في اتصافها بالشدة.

٥ ـ ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بدون توسط حرف ، كقول قتادة بن مسلمة الحنفي :

فلئن بقيت لأرحلنّ بغزوة

تحوي الغنائم أو يموت كريم

فالشاعر قد عنى «بالكريم» هنا نفسه ، فكأنه انتزع وجرّد من نفسه كريما مبالغة في كرمه. وقيل إن التقدير «أو يموت مني كريم» فيكون من قبيل : «لي من فلان صديق حميم» فلا يكون قسما آخر ، وإنما يكون من القسم الأول الذي يكون التجريد فيه حاصلا بدخول «من» التجريدية على المنتزع منه.

__________________

(١) وشوهاء : فرس شوهاء ، وشوهاء في هذا الموضع صفة محمودة ، ويراد بها سعة أشداق الفرس ، وصارخ الوغى : أي المستغيث في الحرب ، والمستلئم : لابس اللأمة وهي الدرع ، والفنيق : الفحل المكرم عند أهله ، والمرحل : من رحل البعير أشخصه من مكانه وأرسله.

١٩٠

٦ ـ ومنه ما يكون التجريد فيه حاصلا بطريق الكناية ، كقول الأعشى :

يا خير من يركب المطي ولا

يشرب كأسا بكف من بخلا

ففي البيت تجريد بطريق الكناية حيث انتزع وجرّد من الممدوح جوادا يشرب هو بكفه على طريق الكناية ، لأنه إذا نفى عنه الشرب بكف البخيل ، فقد أثبت له الشرب بكف كريم. ومعلوم أنه يشرب بكفه ، فهو ذلك الكريم.

٧ ـ ومن أقسام التجريد كذلك مخاطبة الإنسان نفسه ، وذلك بأن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر يوجه الخطاب إليه ، كقول المتنبي :

لا خيل عندك تهديها ولا مال

فليسعد النطق إن لم يسعد الحال (١)

فالشاعر هنا ينتزع من نفسه إنسانا آخر يخاطبه قائلا : ليس عندك من الخيل والمال ما تهديه إلى الممدوح جزاء له على إحسانه إليك ، فليسعدك ويعنك النطق ، أي فامدحه ، وجازه بالثناء عليه ، إن لم تعنك الحال على مجازاته بالمال أو الخيل.

ومثله في مخاطبة النفس قول الأعشى :

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وهل تطيق فراقا أيها الرجل؟

ومن لطيف التجريد قول المعري :

ماجت نمير فهاجت منك ذا لبد

والليث أفتك أفعالا من النمر

* * *

وقد عرض ضياء الدين بن الأثير للتجريد فعرفه أولا لغة بقوله :

__________________

(١) الإسعاد : الإعانة.

١٩١

«إن أصله في وضع اللغة من جردت السيف إذا نزعته من غمده ، وجرّدت فلانا إذا نزعت ثيابه. ومن ههنا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا مد ولا تجريد ، وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وأن تجرد ثيابه. وقد نقل هذا المعنى إلى نوع من أنواع البيان».

ثم عرفه اصطلاحا بقوله : «التجريد هو أن تطلق الخطاب على غيرك ولا يكون هو المراد وإنما المراد نفسك».

وللتجريد عنده فائدتان إحداهما أبلغ من الأخرى ، فالأولى طلب التوسع في الكلام ، فإنه إذا كان ظاهره خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك فإن ذلك من باب التوسع. وهو يظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات.

والفائدة الثانية هي الأبلغ عنده ، وذلك أن المخاطب يتمكن بالتجريد من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه ، إذ يكون مخاطبا بها غيره فيكون أعذر وأبرأ فيما يقوله غير محجور عليه.

* * *

وعنده أن التجريد يأتي على ضربين :

١ ـ تجريد محض : وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك ، كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له :

إلام يراك المجد في زي شاعر

وقد نحلت شوقا فروع المنابر؟

كتمت بعيب الشعر حلما وحكمة

ببعضهما تنقاد صعب المفاخر

أما وأبيك الخير إنك فارس ال

مقال ومحيي الدارسات الغوابر

وإنك أعييت المسامع والنهى

بقولك عما في بطون الدفاتر

١٩٢

ثم يعلّق على ذلك بقوله : «فهذا من محاسن التجريد. ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه ، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة ، وعد ما عده من الصفات التائهة (١)؟ وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض».

٢ ـ وتجريد غير محض : وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لنفسك لا لغيرك. ثم يستطرد ابن الأثير فيقول : «ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر».

والفرق عنده ظاهر بين هذين الضربين من التجريد ، فالأول وهو المحض يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به ، أما الثاني وهو غير المحض فهو نصف تجريد ، لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا ، وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك. ومن أمثلة التجريد غير المحض عنده قول عمر بن الأطنابة :

أقول لها وقد جشأت وجاشت

رويدك تحمدي أو تستريحي

ومنه قول شاعر آخر :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يدي أصابتني ولم ترد

وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول ، وإنما المتكلم هو المخاطب بعينه ، وليس ثم شيء خارج عنه.

* * *

أما التجريد الذي قصد به التوسع خاصة ، وهو ما كان ظاهره

__________________

(١) التائهة هنا : صفة مشتقة من التيه بمعنى الصلف والكبر والزهو ، وليست مشتقة من «التيه» مصدر تاه يتيه في الأرض بمعنى ضل فيها وتحير.

١٩٣

خطابا لغيرك وباطنه خطابا لنفسك ، فقد مثل له ابن الأثير بقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة وهو :

حننت إلى ريا ونفسك باعدت

مزارك من ريا وشعباكما معا

فما حسن أن تأتي الأمر طائعا

وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني

على كبدي من خشية أن تصدعا

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الرّبا

وما أحسن المصطاف والمتربعا!

فالبيتان الأولان يدلان على أن المراد بالتجريد فيهما هو التوسع ، لأن الخطاب فيهما تجريدي إذ وجه الخطاب إلى غيره وهو يريد شخصه ، ثم انتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس في البيتين الأخيرين.

ولو استمر على الحالة الأولى لما قضى عليه بالتوسع ، وإنما كان يقضي عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر ، وكان يتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أنه ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق لما في ذلك من الشهرة والغضاضة. لكنه قد أزال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولا إلى خطاب النفس (١).

__________________

(١) انظر في موضوع التجريد كتاب المثل السائر لابن الأثير ص ١٦٥ ـ ١٦٧.

١٩٤

المحسنات البديعية اللفظية

الجناس

الجناس من فنون البديع اللفظية. ومن أوائل من فطنوا إليه عبد الله بن المعتز ، فقد عده في كتابه ثاني أبواب البديع الخمسة الكبرى عنده وعرفه ومثل للحسن والمعيب منه بأمثلة شتى.

وهو يعرفه بقوله : «التجنيس أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر وكلام ، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها».

فمفهوم الجناس عند ابن المعتز مقصور كما نرى على تشابه الكلمات في تأليف حروفها ، من غير إفصاح

عما إذا كان هذا التشابه يمتد إلى معاني الكلمات المتشابهة الحروف أم لا.

ولكن لعل فيما ذكره من تعريف الخليل بن أحمد للجنس ما يوضح هذا الأمر. قال الخليل : «الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو ، فمنه ما تكون الكلمة تجانس أخرى في تأليف حروفها ومعناها ويشتق منها مثل قول الشاعر :

يوم خلجت على الخليج نفوسهم ..» (١).

__________________

(١) كتاب البديع ص ٢٥.

١٩٥

أو يكون تجانسها في تأليف الحروف دون المعنى مثل قوله تعالى : «وأسلمت مع سليمان لرب العالمين» (١).

فإن صح الاستنباط من هذا التعريف كان مفهوم الجناس عند الخليل بالأصالة وابن المعتز بالتبعية مفهوما عاما يشمل الكلمات المتجانسة الحروف سواء تجانست معنى أم اختلفت.

والواقع أن الجناس من أكثر فنون البديع التي تصرف فيها العلماء من أرباب هذه الصناعة ، فقد ألفوا فيه كتبا شتى ، وجعلوه أبوابا متعددة واختلفوا في ذلك ، وأدخلوا بعض تلك الأبواب في بعض. ومن هؤلاء ابن المعتز السابق الذكر ، وقدامة بن جعفر الكاتب ، والقاضي الجرجاني ، والحاتمي وغيرهم.

* * *

ومن العلماء من يسمي هذا الفن من البديع اللفظي تجنيسا ، ومن يسميه مجانسا ، ومن يسميه جناسا ، أسماء مختلفة والمسمى واحد. وسبب هذه التسمية راجع إلى أن حروف ألفاظه يكون تركيبها من جنس واحد.

وحقيقة الجناس عند ابن الأثير أن يكون اللفظ واحدا والمعنى مختلفا ، وذلك يعني أنه هو اللفظ المشترك ، وما عداه فليس من التجنيس الحقيقي في شيء.

وعلى هذا فالجناس هو : تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى. وهذان اللفظان المتشابهان نطقا المختلفان معنى يسميان «ركني الجناس». ولا يشترط في الجناس تشابه جميع الحروف ، بل يكفي في التشابه ما نعرف به المجانسة.

__________________

(١) خلجت نفوسهم : طعنتها بالرمح.

١٩٦

أقسام الجناس

والجناس ينقسم قسمين : تام وغير تام ، فالجناس التام : هو ما اتفق فيه اللفظان في أربعة أمور هي : أنواع الحروف ، وأعدادها ، وهيئتها الحاصلة من الحركات والسكنات ، وترتيبها. وهذا هو أكمل أنواع الجناس إبداعا وأسماها رتبة.

أقسام الجناس التام :

وهذا النوع من الجناس ينقسم بدوره ثلاثة أقسام هي : المماثل ، والمستوفى بفتح الفاء ، وجناس التركيب. وفيما يلي بيان كل ذلك مفصلا وموضحا بالأمثلة.

١ ـ الجناس المماثل : وهو ما كان ركناه أي لفظاه من نوع واحد من أنواع الكلمة ، بمعنى أن يكونا اسمين ، أو فعلين ، أو حرفين.

فمن أمثلة الجناس المماثل بين «اسمين» قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ).

١٩٧

فالجناس هنا بين اسمين متماثلين في كل شيء هما (السَّاعَةُ) و (ساعَةٍ) الأول بمعنى القيامة ، والثاني بمعنى مطلق الوقت.

ومثله قوله تعالى : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ). (الْأَبْصارِ) الأولى جمع «بصر» وهو حاسة الرؤية ، و (الْأَبْصارِ) الثانية جمع «بصر» وهو العلم ، فأولو الأبصار : أصحاب العلم.

ومنه شعرا قول أبي نواس :

عباس عباس إذا احتدم الوغى

والفضل فضل والربيع ربيع

ومنه قول المعري :

تقول أنت امرؤ جاف مغالطة

فقلت : لا هوّمت أجفان أجفانا

فأجفان الأولى اسم ، وهو جمع واحده جفن وهو غطاء العين ، والثاني اسم تفضيل بمعنى أكثرنا جفاء. فالجناس بين متماثلين لفظا مختلفين معنى.

وقول البحتري :

إذا العين راحت وهي عين على الهوى

فليس بسر ما تسر الأضالع

العين الأولى الباصرة ، والثانية الجاسوس.

وقول أبي تمام :

إذا الخيل جابت قسطل الحرب صدعوا

صدور العوالي في صدور الكتائب

فلفظ «الصدور» في هذا البيت واحد والمعنى مختلفه.

وقوله أيضا مادحا :

١٩٨

من القوم جعد أبيض الوجه والندى

وليس بنان يجتدي منه بالجعد

فالجعد السيد ، والبنان الجعد ضد البسيط ، فأحدهما يوصف به الكريم السخي والآخر يوصف به البخيل الشحيح.

ومن أمثلة الجناس المماثل بين «فعلين» ، قول أبي محمد الخازن :

قوم لو أنهمو ارتاضوا لما قرضوا

أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا

«فشعروا» الأولى بمعنى أحسوا ، و «شعروا» الثانية بمعنى نظموا الشعر.

وقول شاعر :

يا إخوتي مذ بانت النجب

وجب الفؤاد وكان لا يجب

فارقتكم وبقيت بعد كمو

ما هكذا كان الذي يجب

فيجب في آخر البيت الأول من الوجيب وهو الارتجاف والاضطراب ، وفي آخر البيت الثاني من الوجوب وهو اللزوم والثبوت.

ومن أمثلة الجناس المماثل بين «حرفين» ، نحو قولك : «فلان يعيش بالقلم الحر الجريء فتفتح له أبواب النجاح به». فالباء في «بالقلم» هي الداخلة على آلة الفعل فتفيد معنى الاستعانة ، أي أنه يستعين بالقلم على العيش ، والباء في «به» هي باء السببية ، بمعنى أن أبواب النجاح تفتح له بسبب قلمه الحر الجريء. ففي البائين جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى.

ومثل قولك : «قد ينزل المطر شتاء وقد ينزل صيفا» فلفظة «قد» الأولى للتكثير والأخرى للتقليل ، لأن المطر يكثر نزوله شتاء ويقل صيفا.

ونحو قولك أيضا : «من الناس من يعمل من شروق الشمس إلى ما

١٩٩

بعد غروبها بساعات» فلفظة من في «من الناس» تفيد معنى التبعيض ، أي بعض الناس ، ولفظة من في «من شروق الشمس» تفيد معنى الابتداء أي ابتداء من شروق الشمس ، فبين الحرفين كما ترى جناس لتماثلهما لفظا واختلافهما معنى.

* * *

٢ ـ الجناس المستوفى : هو ما كان ركناه ، أي لفظاه ، من نوعين مختلفين من أنواع الكلمة ، بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا ، أو بأن يكون أحدهما حرفا والآخر اسما أو فعلا.

فمن أمثلة الجناس المستوفى بين الاسم والفعل قول محمد بن كناسة في رثاء ابن له :

وسميته يحيى ليحيا ولم يكن

إلى رد أمر الله فيه سبيل

تيممت فيه الفأل حين رزقته

ولم أدر أن الفأل فيه يفيل (١)

فالجناس هنا بين «يحيى» الاسم و «ويحيا» الفعل ، وهما متشابهان لفظا مختلفان معنى ونوعا.

ومن أمثلته وفي نفس اللفظين السابقين قول أبي تمام :

ما مات من كرم الزمان فإنه

يحيا لدى يحيى بن عبد الله

ومنه قول الشاعر :

إذا رماك الدهر في معشر

وأجمع الناس على بغضهم

فدارهم ما دمت في دارهم

وأرضهم ما دمت في أرضهم

__________________

(١) الفأل : ضد الطيرة ، وهو لا يكون إلا فيما يستحب ، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء ، ويفيل ، يخطىء.

٢٠٠