علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فيكى

فإن «الضحك» هنا من جهة المعنى ليس بضد «البكاء» ، لأنه كناية عن كثرة الشيب ، ولكنه من جهة اللفظ يوهم المطابقة.

ومنه قول قريط بن أنيف :

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

«فالظلم» ليس بضد «المغفرة» وإنما يوهم بلفظه أنه ضد.

وقول شاعر آخر :

وأخذت أطرار الكلام فلم تدع

شتما يضر ولا مديحا ينفع

فضد المديح هو الهجاء وليس الشتم وإن كان قريبا من معناه ، ولهذا فاستعماله ضدا للمديح هو من قبيل إيهام التضاد.

* * *

 ظهور التضاد وخفاؤه :

والتضاد بين المعنيين قد يكون ظاهرا كما في الأمثلة السابقة ، وقد يكون خفيا كقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)(١) فإدخال النار ليس ضد الإغراق في المعنى ، ولكنه يستلزم ما يقابله وهو الإحراق ؛ فإن من دخل النار احترق ، والاحتراق ضد الغرق.

ومثله أيضا قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ). فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «أشداء ورحماء» فلفظة «رحماء» ليست ضدا في المعنى «لأشداء» ولكن الرحمة تستلزم

__________________

(١) مما خطاياهم : من أجل خطاياهم وبسببها.

٨١

اللين المقابل للشدة ، لأن من رحم لان قلبه ورق. ومن هذه الناحية الخفية صحت المطابقة.

ومنه شعرا قول الحماسي :

لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنى

وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (١)

ففي قوله «تتابع لي غنى» معنى الكثرة التي هي ضد القلة.

أما قول أبي الطيب المتنبي :

لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها

سرور محب أو إساءة مجرم؟

فهو من المطابقة الفاسدة ، لأن المجرم ليس بضد في المعنى للمحب بوجه ما ، وليس للمحب ضد إلا المبغض.

بلاغة المطابقة :

وبلاغة المطابقة لا يكفي فيها الإتيان بمجرد لفظين متضادين أو متقابلين معنى ، كقول الشاعر :

ولقد نزلت من الملوك بماجد

فقر الرجال إليه مفتاح الغنى

فمثل هذه المطابقة لا طائل من ورائها لأن مطابقة الضد بالضد على هذا النحو أمر سهل. وإنما جمال المطابقة في مثل هذه الحالة أن ترشح بنوع من أنواع البديع يشاركها في البهجة والرونق ، كقوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). ففي العطف بقوله تعالى : (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال

__________________

(١) الرفد : العطاء.

٨٢

العظيمة قدر على أن يرزق بغير حساب من شاء من عباده. وهذه مبالغة التكميل المشحونة بقدرة الله. فهنا اجتمعت المطابقة الحقيقية ومبالغة التكميل.

ومثله قول امرىء القيس :

مكر مفر مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطه السيل من عل

فالمطابقة في الإقبال والإدبار ، ولكنه لما قال «معا» زادها تكميلا ، فإن المراد بها قرب الحركة وسرعتها في حالتي الإقبال والإدبار ، وحالة الكر والفر. فلو ترك المطابقة مجردة من هذا التكميل ما حصل لها هذه البهجة ولا هذا الوقع الحسن في النفس.

ثم إنه استطرد بعد تمام المطابقة وكمال التكميل إلى التشبيه على سبيل الاستطراد (١) البديعي ، وبهذا اشتمل بيت امرىء القيس على المطابقة والتكميل والاستطراد.

وممن كسا المطابقة ديباجة التورية أبو الطيب المتنبي حيث قال :

برغم شبيب فارق السيف كفه

وكانا على العلات يصطحبان

كأن رقاب الناس قالت لسيفه :

رفيقك قيسيّ وأنت يماني (٢)

__________________

(١) الاستطراد البديعي أن يكون الشاعر في غرض من أغراض الشعر فيوهم أنه مستمر فيه ثم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ، على أن يكون المستطرد به آخر الكلام.

(٢) هو شبيب الخارجي ، خرج على كافور وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها. كان من قيس وبين قيس واليمن عداوات وحروب قديمة ، والسيف الجيد ينسب إلى اليمن فيقال له «يماني» ، ومراد المتنبي هنا أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه ، فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه. انظر المثل السائر ص ٢٥٨.

٨٣

فالمطابقة هنا هي في الجمع بين «قيسي ويماني» وقيسي منسوب إلى قيس من عدنان ويماني منسوب إلى اليمن من قحطان وكان بينهما شقاق وتنازع واختلاف ، ومن هنا أتى التضاد بين «قيسي ويماني». والتورية في لفظة «يماني» لأن الشاعر يعني أن كف شبيب وسيفه متنافران فلا يجتمعان لأن شبيبا كان قيسيا والسيف يقال له : «يماني» فورّي به عن الرجل المنسوب إلى اليمن.

وقد أكثر الشعراء من استخدام المطابقة المجردة والارتفاع بجمالها وبلاغتها بما يضمونه إليها أو يكملونها أو يكسونها به من فنون البديع والبيان كالجناس واللف والنشر والتورية والتشبيه والاستعارة والتضمين.

المقابلة

يعد قدامة بن جعفر من أوائل من تكلموا عن «المقابلة» فقد ذكرها في معرض الحديث عن بعض الخصائص الأسلوبية التي تعلي من قيمة الشعر. قال قدامة : «والذي يسمى به الشعر فائقا ، ويكون إذا اجتمع فيه مستحسنا صحة المقابلة ، وحسن النظم ، وجزالة اللفظ ، واعتدال الوزن ، وإصابة التشبيه ، وجودة التفصيل ، وقلة التكلف ، والمشاكلة في المطابقة. وأضداد هذا كله معيبة تمجّها الآذان ، وتخرج عن وصف البيان» (١).

وقد عرفها في كتابه «نقد الشعر» بقوله : وصحة المقابلة أن يضع الشاعر معاني يريد التوفيق أو المخالفة بين بعضها وبعض ، فيأتي في الموافق بما يوافق ، وفي المخالف على الصحة ، أو يشرط شروطا أو يعدد أحوالا في أحد المعنيين ، فيجب أن يأتي فيما يوافقه بمثل الذي شرطه وعدده ، وفيما

__________________

(١) كتاب نقد النثر لقدامة ص ٨٤.

٨٤

يخالف بضد ذلك (١) ومن أمثلته على ذلك قول الشاعر :

أموت إذا ما صد عني بوجهه

ويفرح قلبي حين يرجع للوصل

وقد علّق قدامة على البيت بقوله : «فجعل ضد الموت فرح القلب ، وضد الصد بوجهه الوصل ، وهذه مقابلة قبيحة ، ولو قال :

أموت إذا ما صدّ عني بوجهه

وأحيا إذا مل الصدود وأقبلا

فجعل جزاء الموت الحياة ، وجزاء الصد بالوجه الإقبال لكان مصيبا» (٢).

وجاء أبو هلال العسكري بعد قدامة فعرف المقابلة بقوله : «هي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى واللفظ على وجه الموافقة أو المخالفة ، نحو قوله تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً ،) فالمكر من الله تعالى العذاب ، جعله الله عزوجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه وأهل طاعته» (٣).

وعرّف ابن رشيق القيرواني المقابلة بقوله : «هي ترتيب الكلام على ما يجب ، فيعطى أول الكلام ما يليق به أولا وآخره ما يليق به آخرا ، ويؤتي في الموافق بما يوافقه ، وفي المخالف بما يخالفه. وأكثر ما تجيء المقابلة في الأضداد ، فإذا جاوز الطباق ضدين كان مقابلة ، مثال ذلك ما أنشده قدامة لبعض الشعراء ، وهو :

فيا عجبا كيف اتفقنا فناصح

وفي ومطويّ على الغلّ غادر

__________________

(١) نقد الشعر ص ٩٥.

(٢) نقد النثر ص ٨٥.

(٣) كتاب الصناعتين ص ٣٣٧.

٨٥

فقابل بين النصح والوفاء بالغل والغدر ، وهكذا يجب أن تكون المقابلة الصحيحة» (١).

كذلك عرف الخطيب القزويني المقابلة في كتابه التلخيص بقوله : «هي أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو أكثر ثم بما يقابل ذلك على الترتيب» (٢) وهو يعني بالتوافق خلاف التقابل ، نحو قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً).

ومن التعاريف السابقة يمكن القول بأن المقابلة هي : أن يؤتى بمعنيين متوافقين أو معان متوافقة ، ثم بما يقابلهما أو يقابلها على الترتيب.

والبلاغيون مختلفون في أمر المقابلة ، فمنهم من يجعلها نوعا من المطابقة ويدخلها في إيهام التضاد ، ومنهم من جعلها نوعا مستقلا من أنواع البديع ، وهذا هو الأصح ، لأن المقابلة أعم من المطابقة.

وصحة المقابلات تتمثل في توخي المتكلم بين الكلام على ما ينبغي ، فإذا أتى بأشياء في صدر كلامه أتى بأضدادها في عجزه على الترتيب ، بحيث يقابل الأول بالأول ، والثاني بالثاني ، لا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق. ومتى أخل بالترتيب كانت المقابلة فاسدة.

الفرق بين المطابقة والمقابلة :

والفرق بين المطابقة والمقابلة يأتي من وجهين : أحدهما أن المطابقة لا تكون إلا بالجمع بين ضدين ، أما المقابلة فتكون غالبا بالجمع بين أربعة أضداد : ضدان في صدر الكلام وضدان في عجزه. وقد تصل المقابلة إلى الجمع بين عشرة أضداد : خمسة في الصدر وخمسة في العجز.

__________________

(١) كتاب العمدة ج ٢ ص ١٤.

(٢) كتاب التلخيص ص ٣٥٢.

٨٦

والثاني : أن المطابقة لا تكون إلا بالأضداد ، على حين تكون المقابلة بالأضداد وغير الأضداد ، ولكنها بالأضداد تكون أعلى رتبة وأعظم موقعا ، نحو قوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

فانظر إلى مجيء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان ، ثم قابلهما بضدين : هما السكون والحركة على الترتيب ، ثم عبر عن الحركة بلفظ مرادف فاكتسب الكلام بذلك ضربا من المحاسن زائدا عن المقابلة ؛ ذلك أنه عدل عن لفظ الحركة إلى لفظ ابتغاء الفضل ، لكون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة ، وابتغاء الفضل حركة المصلحة دون المفسدة.

ومن أمثلة هذا النوع أيضا قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ). فقد أتى في كل صدر الكلام وعجزه بضدين ، ثم قابل الضدين في صدر الكلام بضدين لهما في العجز على الترتيب.

أنواع المقابلة :

والمقابلة تأتي على أربعة أنواع على النحو التالي :

١ ـ مقابلة اثنين باثنين : نحو قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً ،) ونحو قوله عليه‌السلام : (إن لله عبادا جعلهم مفاتيح الخير مغاليق الشر) ، وقوله أيضا للأنصار : (إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع). وكقول رجل يصف آخر : «ليس له صديق في السر ولا عدو في العلانية».

ومن مقابلة اثنين باثنين في الشعر قول النابغة الجعدي :

فتى كان فيه ما يسر صديقه

على أن فيه ما يسوء الأعاديا

٨٧

وقول المعري :

يا دهر يا منجز إيعاده

ومخلف المأمول من وعده

ومن مليح هذه المقابلة وخفيها قول العباس بن الأحنف :

اليوم مثل الحول حتى أرى

وجهك والساعة كالشهر

فقد قابل اليوم بالساعة ، والحول بالشهر ، لأن الساعة من اليوم كالشهر من الحول جزء من اثني عشر جزءا.

٢ ـ مقابلة ثلاثة بثلاثة : نحو قوله تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) وقول علي بن أبي طالب لعثمان بن عفان : «إن الحق ثقيل وبيّ ، والباطل خفيف مريّ».

ومن أمثلتها شعرا قول أبي دلامة :

ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا

وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

٣ ـ مقابلة أربعة بأربعة : نحو قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). وقوله : (اسْتَغْنى) مقابل لقوله : (اتَّقى) لأن معناه زهد فيما عنده واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة ، وذلك يتضمن عدم التقوى.

ومن مقابلة أربعة بأربعة أيضا قول أبي بكر الصديق في وصيته عند الموت : «هذا ما أوصى به أبو بكر عند آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وأول عهده بالآخرة داخلا فيها» ، فقابل : أوّلا بآخر ، والدنيا بالآخرة ، وخارجا بداخل ، ومنها بفيها.

ومنه شعرا قول أبي تمام :

٨٨

يا أمة كان قبح الجور يسخطها

دهرا فأصبح حسن العدل يرضيها

وقول جرير :

وباسط خير فيكم بيمينه

وقابض شر عنكم بشماله

وقول ابن حجة الحموي :

قابلتهم بالرضا والسلم منشرحا

ولوا غضابا فواحربي لغيظهمو

فالمقابلة هنا بين «قابلتهم وولوا» و «الرضى والغضب» و «السلم والحرب» و «الانشراح والغيظ».

٤ ـ ومن مقابلة خمسة بخمسة : قول الشاعر :

بواطىء فوق خد الصبح مشتهر

وطائر تحت ذيل الليل مكتتم

فالمقابلة هنا بين «واطىء وطائر» لأن الواطىء هو الماشي على الأرض ، والطائر هو السائر في الفضاء ، وبين «فوق وتخت» و «خد وذيل» لما بينهما من معنى العلو والسفل ، و «الصبح والليل» و «مشتهر ومكتتم».

ومنه قول صفي الدين الحلي :

كان الرضا بدنوي من خواطرهم

فصار سخطي لبعدي عن جوارهمو

فالمقابلة بين «كان وصار» و «الرضا والسخط» و «الدنو والبعد» و «من وعن» و «خواطرهم وجوارهم» على مذهب من يرى أن المقابلة تجوز بالأضداد وغيرها.

ومنه أيضا قول أبي الطيب المتنبي :

أزورهم وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

ومقابلة «الليل بالصبح» لا تحسب إلا على المذهب القائل بجواز

٨٩

المقابلة بين الأضداد وغيرها. أما على المذهب القائل بقصر المقابلة على الأضداد فقط فإن المقابلة بين «الليل والصبح» تكون غير تامة ؛ لأن ضد الليل المحض النهار لا الصبح.

٥ ـ ومن مقابلة ستة بستة : قول الصاحب شرف الدين الأربلي :

على رأس عبد تاج عز يزينه

وفي رجل حر قيد ذل يشينه

فالمقابلة هنا بين «على وفي» و «رأس ورجل» و «عبد وحر» و «تاج وقيد» و «عز وذل» و «يزينه ويشينه».

ويرى علماء البديع أن أعلى رتب المقابلة وأبلغها هو ما كثر فيه عدد المقابلات شريطة ألا تؤدي هذه الكثرة إلى التكلف أو توحي به.

كذلك يرون أن المقابلة بالأضداد أفضل وأتم ، وهذا هو مذهب السكاكي ؛ فالمقابلة عنده : أن تجمع بين شيئين فأكثر ثم تقابل ذلك بالأضداد ، وإذا شرطت في أحد الشيئين أو الأشياء شرطا شرطت فيما يقابله ضده.

* * *

وبعد فلعلنا أدركنا الآن على ضوء دراستنا لكل من المطابقة والمقابلة مدى أثرهما في بلاغة الكلام. فكل منهما يضفي على القول رونقا وبهجة ويقوي الصلة بين الألفاظ والمعاني ، ويجلو الأفكار ويوضحها شريطة أن تجري المطابقة أو المقابلة مجرى الطبع. أما إذا تكلفها الشاعر أو الأديب فإنها تكون سببا من أسباب اضطراب الأسلوب وتعقيده.

ومن صفات الأدب الجيد تلاحم أجزائه وائتلاف ألفاظه حتى كأن الكلام بأسره من حسن الجوار وشدة التلاحم كلمة واحدة ، وحتى كأن الكلمة بأسرها حرف واحد. وكما يتم هذا التلاحم عن طريق التشابه يتم

٩٠

كذلك عن طريق التضاد ، لأن المعاني يستدعي بعضها بعضا ، فمنها ما يستدعي شبيهه ، ومنها ما يستدعي مقابله ، بل إن الضد أكثر خطورا على البال من الشبيه وأوضح في الدلالة على المعنى منه.

وعلى هذا كلما ظهرت المطابقة أو المقابلة في الكلام بدعوة من المعنى لا تطفلا عليه ، كانت أنجح في أداء دورها المنوط بها في تحسين المعنى.

المبالغة

إذا نظرنا إلى المبالغة من الناحية التاريخية فإننا نجد أن عبد الله بن المعتز هو أول من تحدث عنها ، فقد عدّها في كتابه «البديع» من محاسن الكلام والشعر ، وعرّفها بأنها «الإفراط في الصفة» ، ومثّل لها.

ويفهم من الأمثلة التي أوردها أن الإفراط في الصفة يأتي عنده على ضربين : ضرب فيه ملاحة وقبول ، وآخر فيه إسراف وخروج بالصفة عن حد الإنسان.

فمن النوع الأول عنده قول إبراهيم بن العباس الصولي :

يا أخا لم أر في الناس خلّا

مثله أسرع هجرا ووصلا

كنت لي في صدر يومي صديقا

فعلى عهدك أمسيت أم لا؟

ومن النوع الآخر المسرف قول الخثعميّ :

يدلي يديه إلى القليب فيستقي

في سرجه بدل الرّشاء المكرب

وقول آخر يهجو رجلا :

تبكي السموات إذا ما دعا

وتستعيذ الأرض من سجدته

٩١

إذا اشتهى يوما لحوم القطا

صرّعها في الجو من نكهته (١)

* * *

ثم جاء بعد ابن المعتز قدامة بن جعفر فتحدث عن إفراط الصفة وعدّه من نعوت المعاني ، وكان أول من أطلق عليه اسم «المبالغة».

وقد عرّفها بقوله : «المبالغة أن يذكر الشاعر حالا من الأحوال في شعر ، لو وقف عليها لأجزأه ذلك في الغرض الذي قصده ، فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره من تلك الحال ما يكون أبلغ فيما قصد ، وذلك مثل قول عمير التغلبي :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث كانا

فإكرامهم للجار ما كان فيهم ـ أي مدة إقامته بينهم ـ من الأخلاق الجميلة الموصوفة ، واتباعهم الكرامة حيث كان من المبالغة ...» (٢) ثم أورد بعض أمثلة أخرى للمحبوب منها والمكروه.

وفي كتابه «نقد النثر» تحدث عن الإسراف في المبالغة فقال : «ومما أسرف فيه الشاعر حتى أخرجه إلى الكذب والمحال ، وهو مع ذلك مستحسن قول أبي نواس :

تغطيت من دهري بظل جناحه

فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام عني ما درت

وأين مكاني ما عرفن مكاني» (٣)

* * *

__________________

(١) كتاب البديع لا بن المعتز ص ٥٨ ـ ٦٦. والنكهة : ريح الفم.

(٢) كتاب نقد الشعر لقدامة ص ١٠١ ـ ١٠٣.

(٣) كتاب «نقد النثر» ص ٩٠.

٩٢

ومن بعد قدامة جاء أبو هلال العسكري فعرّف المبالغة بقوله : «المبالغة أن تبلغ بالمعنى أقصى غاياته ، وأبعد نهاياته ، ولا تقتصر في العبارة عنه على أدنى منازله وأقرب مراتبه ، ومثاله من القرآن قول الله تعالى : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى). ولو قال : تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسنا وبلاغة كاملة ، وإنما خصّ المرضعة للمبالغة ، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها ، وأشغف به لقربه منها ولزومها له ، لا يفارقها ليلا ولا نهارا ، وعلى حسب القرب تكون المحبة والألف ... وقوله تعالى : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ،) لو قال يحسبه الرائي لكان جيدا ، ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن ، لأن حاجته إلى الماء أشد ، وهو على الماء أحرص (١).

وبعد أن أورد أبو هلال بعض أمثلة من الشعر للمبالغة ، تحدث عن نوع آخر منها فقال : «ومن المبالغة نوع آخر ، وهو أن يذكر المتكلم حالا لوقف عليها أجزأته في غرضه منها ، فيجاوز ذلك حتى يزيد في المعنى زيادة تؤكده ، ويلحق به لاحقة تؤيده ، كقول عمير التغلبي :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

فإكرامهم الجار ما دام فيهم مكرمة ، واتباعهم إياه الكرامة حيث مال من المبالغة» (٢).

وكلام أبي هلال هذا عن النوع الآخر من المبالغة هو في الواقع ترديد لرأي قدامة السابق في المبالغة واستشهاد ببعض أمثلته.

* * *

__________________

(١) كتاب الصناعتين ص ٣٦٥.

(٢) كتاب الصناعتين ص ٣٦٦.

٩٣

كذلك عرض ابن رشيق القيرواني للمبالغة ، فذكر أنها ضروب كثيرة ، وأن الناس فيها مختلفون : منهم من يؤثرها ويقول بتفضيلها ، ويراها الغاية القصوى في الجودة ، وذلك مشهور من مذهب نابغة بني ذبيان ، وهو القائل : أشعر الناس من استجيد كذبه وضحك من رديئه.

ومنهم من يعيبها وينكرها ويراها عيبا وهجنة في الكلام ، وقد قال بعض حذاق نقد الشعر : إن المبالغة ربما أحالت المعنى ، ولبّسته على السامع ، فليست لذلك من أحسن الكلام ولا أفخره ، لأنها لا تقع موقع القبول كما يقع الاقتصاد وما قاربه ، لأنه ينبغي أن يكون من أهم أغراض الشاعر والمتكلم أيضا الإبانة والإفصاح ، وتقريب المعنى على السامع.

فإن العرب إنما فضلت بالبيان والفصاحة ، وحلا منطقها في الصدور ، وقبلته النفوس لأساليب حسنة ، وإشارات لطيفة تكسبه بيانا ، وتصوره في القلوب تصويرا. ولو كان الشعر هو المبالغة لكان المحدثون أشعر من القدماء ، وقد رأيناهم احتالوا للكلام حتى قرّبوه من فهم السامع بالاستعارات والمجازات التي استعملوها وبالتشكيك في الشبهين ، كما قال ذو الرمة :

فيا ظبية الوعساء بين جلاجل

وبين النقا آأنت أم أمّ سالم؟

فلو قال : أنت أم سالم ، على نفي الشك بل لو قال : أنت أحسن من الظبية ، لما حل من القلوب محل الشك ، وكما قال جرير :

فإنك لو رأيت عبيد تيم

وتيما قلت : أيهم العبيد؟

فلو قال : «عبيدهم» أو «خير منهم» لما ظنّ به الصدق ، فاحتال في تقريب المشابهة ، لأن في قربها لطافة تقع في القلوب ، وتدعو إلى التصديق.

والمبالغة في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر ، إذا أعياه إيراد

٩٤

معنى بالغ ، فيشغل الإسماع بما هو محال ، ويهوّل مع ذلك على السامعين ، وإنما يقصدها من ليس بمتمكن من محاسن الكلام.

ويعلق ابن رشيق على الرأي السابق الذي أورده لأحد الحذاق بنقد الشعر قائلا : «وفي هذا الكلام كفاية وبلاغ ، إلا أنه فيما يظهر من فحواه لم يرد إلا ما كان فيه بعد ، وليس كل مبالغة كذلك.

فالغلو هو الذي ينكره من ينكر المبالغة من سائر أنواعها ويقع فيه الخلاف لا ما سواه ... ولو بطلت المبالغة كلها وعيبت لبطل التشبيه وعيّبت الاستعارة ، إلى كثير من محاسن الكلام ...» (١).

* * *

أما السكاكي ومن جاراه من أمثال الخطيب القزويني فيعدون «المبالغة المقبولة» من محاسن الكلام وبديعه ، ويعرفونها بقولهم : «والمبالغة أن يدّعى لوصف بلوغه في الشدة أو الضعف حدا مستحيلا أو مستبعدا ، لئلا يظن أنه غير متناه فيه» (٢) ، أي لئلا يتوهم أن أحدا من العقلاء يظن أن الوصف المدعى غير متناه في الشدة والضعف.

والسكاكي إذ يقيد المبالغة «بالمقبولة» إنما يشير بهذا القيد إلى الرد على من زعم أن المبالغة مردودة مطلقا ، محتجا بأن خير الكلام ما خرج مخرج الحق ، وكان على منهج الصدق ، كقول حسان بن ثابت :

وإنما الشعر لب المرء يعرضه

على المجالس إن كيسا وإن حمقا

وإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وإلى الرد كذلك على من زعم أنها مقبولة مطلقا ، وأن الفضل

__________________

(١) كتاب العمدة ج ٢ ص ٥٠ ـ ٥٢.

(٢) كتاب التلخيص للقزويني ص ٣٧٠.

٩٥

مقصور عليها ، والمحاسن كلها منسوبة إليها ، محتجا بأن أحسن الشعر أكذبه ، وخير الكلام ما بولغ فيه.

وتنحصر المبالغة عند السكاكي في التبليغ والإغراق والغلو ؛ لأن الوصف المدعى إن كان ممكنا عقلا وعادة فتبليغ كقول امرىء القيس في وصف فرسه :

فعادى عداء بين ثورة ونعجة

دراكا ولم ينضح بماء فيغسل

فقد وصف فرسه بأنه طارد ثورا ونعجة من بقر الوحش وأنه أدركهما وقتلهما في طلق وشوط واحد من غير أن يعرق عرقا مفرطا يغسل جسده ، أي أدركهما وصادهما دون معاناة مشقة ومقاساة شدة ، وذلك أمر ممكن عقلا وعادة.

وإن كان الوصف ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق ، كقول عمير التغلبي :

ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا

فالشاعر يدعي أن جاره لا يميل عنه إلى أي جهة إلا ويتبعه الكرامة. وهذا أمر ممكن عقلا لا عادة ، أي أنه ممتنع عادة وإن كان غير ممتنع عقلا.

وعند السكاكي ومدرسته أن هذين النوعين من المبالغة ، أي التبليغ والإغراق مقبولان. أما إذا كان الوصف المدعى غير ممكن عقلا وعادة فهو الغلو ، كقول أبي نواس :

وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النطف التي لم تخلق

فالغلو هنا هو في إسناد الخوف إلى النّطف غير المخلوقة ، وهذا أمر ممتنع عقلا وعادة.

٩٦

ويرى السكاكي أن من الغلو أصنافا مقبولة ، منها ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة نحو لفظة «يكاد» التي تفيد عدم التصريح بوقوع المحال ، نحو قوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ،) فإن إضاءة الزيت كإضاءة المصباح من غير أن تمسه النار محال عقلا. ولكن إدخال «يكاد» هنا أفاد أن المحال لم يقع ولكن قرب من الوقوع مبالغة.

ومن الغلو المقبول عنده أيضا ما تضمن نوعا حسنا من التخييل ، كقول المتنبي يمدح ابن عمار :

أقبلت تبسم والجياد عوابس

يخببن بالحلق المضاعف والقنا

عقدت سنابكها عليه عثيرا

لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (١)

فالمتنبي في البيت الثاني هنا ادّعى تراكم الغبار الكثيف المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها ، بحيث صار أيضا يمكن سيرها عليها. وهذا ممتنع عقلا وعادة ، لكنه تخيّل حسن.

وقد اجتمع الأمران ؛ أي إدخال ما يقرب الغلو إلى الصحة وتضمن التخييل الحسن في قول القاضي الأرّجاني :

يخيّل لي أن سمّر الشهب في الدجى

وشدّت بأهداب إليهن أجفاني

فالأرجاني يصف الليل هنا بالطول ، فيقول : يخيل لي أن الشهب محكمة بالمسامير في الظلام لا تنتقل من مكانها ، وأن أجفان عينيّ قد شدت بأهدابها إلى الشهب لطول سهري في ذلك الليل. وهذا تخييل حسن ، ولفظ «يخيل» يزيده حسنا.

__________________

(١) يخببن : يسرن سير الخبب ، وهو ضرب من العدو والجري ، والحلق المضاعف : الدروع الكثيرة ، والقنا : الرماح ، والسنابك : جمع سنبك ، وهو طرف مقدم الحافر ، والعثير : الغبار ، والعنق بفتح العين والنون : ضرب من السير السريع.

٩٧

ومن الغلو المقبول أيضا ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة ، كقول القائل :

أسكر بالأمس إن عزمت على الشر

ب غدا إن ذا من العجب!

* * *

ومن كلام السكاكي السابق يتضح أن المبالغة المقبولة عنده هو ومن لفّ لفّه تنحصر في التبليغ ، والإغراق ، والغلو.

فإذا كان الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة فهو التبليغ ، وإذا كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق ، وإذا كان ممتنعا عقلا وعادة فهو الغلو.

كما يتضح أنه يرى أن هناك أصنافا من الغلو مقبولة ، منها ما أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة نحو لفظة «يكاد» ، ومنها ما تضمن نوعا حسنا من التخييل ، ومنها ما اجتمع فيه الأمران ، ومنها ما أخرج مخرج الهزل والخلاعة.

فالسكاكي ومعه الخطيب القزويني يعدان المبالغة بأنواعها الثلاثة من تبليغ وإغراق وغلو فنا واحدا من فنون البديع المعنوي.

ولكننا نرى أن المتأخرين من أصحاب البديع يعدون كلا من المبالغة بمعنى التبليغ ، والإغراق ، والغلو فنا بديعيا قائما بذاته.

ولذلك فهم يقصرون المبالغة على التبليغ بمفهومه عند السكاكي ، أي إمكان وقوع الوصف المدعى عقلا وعادة ، أو كما يقولون في تعريفهم : هي الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة.

واعتبار المتأخرين للمبالغة بأنواعها على أنها ثلاثة فنون بديعية مستقلة فيه تطوير لمفهوم ، المبالغة ، وهو أولى بالاتباع لأنه يميز كل فن عن الآخر ، ويحول دون اختلاطها وتداخل بعضها في بعض.

٩٨

ومن أجل ذلك يجدر بنا أن ندرس كلا منها على حدة للخروج بصورة واضحة المعالم لكل فن من هذه الفنون البديعية الثلاثة. والآن وقد تتبعنا تاريخ المبالغة وتطورها وفصلنا القول عن المبالغة بمعنى التبليغ ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة ، فإننا نأتي على بعض أمثلة أخرى لها تزيدها وضوحا ، ثم ننتقل إلى دراسة كل من الإغراق والغلو على أنه فن بديعي مستقل بذاته.

فمن أمثلة المبالغة بمعنى التبليغ ، أو بمعنى الإفراط في وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة ، قوله تعالى في وصف أعمال الكافرين : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها).

فلو وقف الكلام عند (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ) لكان المعنى تاما بليغا ، ولكن ترادف الصفات بعد ذلك والإفراط فيها أضاف للمعنى ظلالا زادت من درجة الهول الذي يطالعنا من خلال هذه الصورة التي لونتها المبالغة تلوينا يرفعها في البلاغة إلى ذروة الإعجاز.

ومن الأمثلة أيضا قول ابن نباته السعدي في سيف الدولة :

لم يبق جودك لي شيئا أؤمله

تركتني أصحب الدنيا بلا أمل

ومنه قول ابن الرومي مبالغة في البخل :

لو أن قصرك يا ابن يوسف ممتل

إبرا يضيق بها فناء المنزل

وأتاك يوسف يستعيرك إبرة

ليخيط قدّ قميصه لم تفعل!

وقوله أيضا :

فتى على خبزه ونائله

أشفق من والد على ولده

رغيفه منه حين تسأله

مكان روح الجبان من جسده

٩٩

ومنه قول زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان :

يطعنهم ما ارتموا حتى إذا أطعنوا

ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا (١)

فزهير جعل لممدوحه على أعدائه في كل حال من أحوال البسالة والشجاعة فضلا ومبالغة.

ومنه قول أبي فراس الحمداني مفتخرا :

وإني لجرار لكل كتيبة

معوّدة ألا يخل بها النصر

وإني لنزال بكل مخوفة

كثير إلى نزالها النظر الشزر

فاظمأ حتى ترتوي البيض والقنا

وأسغب حتى يشبع الذئب والنسر

ونحن أناس لا توسط عندنا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

ومنه قول المتنبي مفتخرا :

إذا صلت لم أترك مصالا لصائل

وإن قلت لم أترك مقالا لقائل

وقول آخر مادحا لآل المهلب :

نزلت على آل المهلب شاتيا

بعيدا عن الأوطان في زمن المحل

فما زال بي إكرامهم وافتقادهم

وإحسانهم حتى حسبتهم أهلي

الإغراق

ذكرنا فيما سبق أن المبالغة المقبولة عند السكاكي تنحصر في التبليغ والإغراق والغلو. فإذا كان الوصف المدعى ممكنا عقلا وعادة فهو التبليغ ، وإذا كان ممكنا عقلا لا عادة فهو الإغراق ، وإن كان ممتنعا عقلا وعادة فهو الغلو.

__________________

(١) يصف الممدوح بأنه يزيد على أعدائه في كل حال من أحوال الحرب.

١٠٠