علم البديع

الدكتور عبدالعزيز عتيق

علم البديع

المؤلف:

الدكتور عبدالعزيز عتيق


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٤٨

٣ ـ ثم ما طالت فقرته الثالثة نحو قوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ.)

٤ ـ ولا يحسن أن يؤتى بالفقرة الثانية أقصر من الأولى كثيرا ، لأن السجع قد استوفى أمده من الفقرة الأولى بحكم طوله ، ثم تجيء الفقرة الثانية قصيرة عن الأولى ، فتكون كالشيء المبتور فيبقى الإنسان عند سماعها كمن يريد الانتهاء عند غاية فيعثر دونها.

السجع من حيث الطول والقصر :

إن السجع على اختلاف أقسامه يأتي على ضربين من حيث القصر والطول.

فالسجع القصير هو ما تكون فيه كل واحدة من السجعتين مؤلفة من ألفاظ قليلة. وكلما قلت الألفاظ كان أحسن لقرب الفواصل أو الفقرات المسجوعة من سمع السامع. وهذا الضرب أوعر السجع مذهبا وأبعده متناولا ، ولا يكاد استعماله يقع إلا نادرا.

أما الضرب الثاني ، وأعني به السجع الطويل ، فهو ضد الأول لأنه أسهل تناولا ، وإنما كان القصير من السجع أوعر مسلكا من الطويل ، لأن المعنى إذا صيغ بألفاظ قصيرة عز تحقيق السجع فيه لقصر تلك الألفاظ ، وضيق المجال في استجلابه.

وأما الطويل فإن الألفاظ تطول فيه ، ويستجلب له السجع. وكل واحد من هذين الضربين تتفاوت درجاته في عدة ألفاظه.

وأحسن السجع القصير ما كان مؤلفا من لفظتين لفظتين ، كقوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ،) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا

٢٢١

 الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ، وَالرُّجْزَ (١) فَاهْجُرْ).

ومنه ما يكون مؤلفا من ثلاثة ألفاظ وأربعة وخمسة ، وكذلك إلى العشرة ، وما زاد على ذلك فهو من السجع الطويل. ومما جاء منه قوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ،) وقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ، وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ.)

وأما السجع الطويل فإن درجاته تتفاوت أيضا في الطول ، فمنه ما يقرب من السجع القصير ، وهو أن يكون تأليفه من إحدى عشرة إلى اثنتي عشرة لفظة ، وأكثره خمس عشرة لفظة ، كقوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي ، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.) فالفاصلة الأولى إحدى عشرة لفظة ، والثانية ثلاث عشرة لفظة».

ومن السجع الطويل ما يكون تأليفه من العشرين لفظة فما حولها ، كقوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً ، وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ، وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). ومن السجع الطويل ما تزيد الألفاظ في فقراته على هذا العدد.

__________________

(١) الرجز بضم الراء وكسرها : عبادة الأوثان ، والشرك ، وقيل : هو العمل الذي يؤدي إلى العذاب والعقاب.

٢٢٢

بناء الأسجاع :

هذا والأسجاع مبنية على سكون الاعجاز ، أي أواخر فواصل الفقرات ، لأن الغرض هو التواطؤ والمزاوجة بينها ، ولا يتم ذلك في كل صورة إلا بالوقف بالسكون ، كقولهم : «ما أبعد ما فات! وما أقرب ما هو آت!».

فلو لم نقف هنا على أواخر الفقرات بالسكون ووصلنا الكلام لاستدعى الأمر إجراء كل من الفقرتين على ما يقتضيه حكم الإعراب فتكون التاء الأولى مفتوحة والثانية مكسورة منونة ، وبذلك يفوت الغرض من السجع.

* * *

وبعد ... فلا تفوتنا الإشارة إلى اختلاف أرباب صناعة الكلام حول السجع وقيمته البلاغية. فمنهم من يعيبه ويعده من الأساليب التي تقوم أكثر ما تقوم على الصنعة والتكلف والتعسف. وهم يستدلون على وجهة نظرهم هذه بما آل إليه البيان العربي من تدهور وانحطاط في العصور التي شاع فيها استعمال السجع.

ومنهم من استحسنه ودافع عنه محتجا بأنه لو كان مذموما لما ورد في القرآن الكريم ، حيث لا تكاد سورة تخلو منه ، بل إن من سوره ما جاءت جميعها مسجوعة كسورة الرحمن وسورة القمر وغيرهما.

كذلك يحتجون بأن الصنعة والتكلف والتعسف ليست أمورا مقصورة على أسلوب السجع ، وإنما هي أمور من الجائز أن تلحق بالسجع كما تلحق بغيره من الأساليب. وليس العيب في السجع ذاته وإنما العيب فيمن يحاوله ثم يعجز عن حسن استخدامه.

٢٢٣

ولعل عبد القاهر الجرجاني خير من فصل في هذه القضية ، فهو يقرر في معرض الكلام عن التجنيس والسجع أنهما يختصان بالقبول والحسن عند ما يكون المعنى هو الذي يقود المتكلم نحوهما لا أن يقوداه إلى المعنى.

حتى أنه لو تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس ولا سجع فيه لنسب إليه ما ينسب إلى المتكلف للتجنيس المستكره والسجع النافر.

وفي ذلك يقول : «ولن تجد أيمن طائرا وأحسن أولا وآخرا ، وأهدى إلى الإحسان ، وأجلب إلى الاستحسان من أن ترسل المعاني على سجيتها ، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس منها إلا ما يليق بها ، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها.

فأما أن تضع في نفسك أنك لا بد من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه ، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذم. فإن ساعدك الجد كما ساعد المحدث ـ يعني أبا الفتح البستي ـ في قوله :

ناظراه فيما جنى ناظراه

أو دعاني أمت بما أودعاني

وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله :

وأنجدتمو من بعد اتهام داركم

فيا دمع أنجدني على ساكني نجد

فذاك. وإلا أطلقت ألسنة العيب ، وأفضى بك طلب الإحسان من حيث لم يحسن الطلب ، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب» (١).

رد العجز على الصدر

أول من تكلم عن هذا الفن البديعي اللفظي عبد الله بن المعتز ،

__________________

(١) كتاب أسرار البلاغة ص ٤ ـ ١٠.

٢٢٤

فقد عده في كتابه أحد فنون البديع الخمسة الكبرى ، وسماه «رد أعجاز الكلام على ما تقدمها» ، وقسمه ثلاثة أقسام ومثل له نثرا وشعرا للدلالة على أنه يرد في الكلام بنوعيه. وأقسامه عنده هي :

١ ـ ما يوافق آخر كلمة فيه آخر كلمة في نصفه مثل قول الشاعر :

تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما

في جيش رأى لا يفلّ عرمرم

٢ ـ ما يوافق آخر كلمة فيه أول كلمة في نصفه الأول ، كقول الشاعر :

سريع إلى ابن العم يشتم عرضه

وليس إلى داعي الندى بسريع

٣ ـ ما يوافق آخر كلمة فيه بعض ما فيه ، كقول الشاعر :

عميد بني سليم أقصدته

سهام الموت وهي له سهام

ومن هذا النوع عنده قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً). وقوله تعالى أيضا : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١).

* * *

أما المتأخرون من رجال البديع فمنهم من سمى هذا الفن «رد العجز على الصدر» ، ومنهم من سماه «التصدير» ، لأن هذه التسمية في نظرهم أدل على المطلوب وأليق بالمقام وأخف على المستمع.

والخطيب القزويني وهو من المتأخرين يقرر أن رد العجز على الصدر

__________________

(١) كتاب البديع لا بن المعتز ص ٤٧.

٢٢٥

يرد في النثر والشعر على السواء ، ثم يعرفه بقوله : «وهو في النثر أن يجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة والآخر في آخرها. وهو في النظم أن يكون أحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول أو آخره أو صدر المصراع الثاني».

واللفظان «المكرران» هما المتفقان في اللفظ والمعنى ، و «المتجانسان» هما المتشابهان في اللفظ دون المعنى ، و «الملحقان بهما» أي بالمتجانسين وهما اللفظان اللذان يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق.

فمن أمثلة المكررين وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قوله تعالى : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

ومن المتجانسين ، أي المتشابهين لفظا لا معنى وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قول القائل : «سائل اللئيم يرجع ودمه سائل».

ومن اللفظين اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبهه ، وأحدهما في أول الفقرة والثاني في آخرها قوله تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) وقوله تعالى أيضا : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ،) ومنه حديث الرسول : «من مقت نفسه فقد آمنه الله من مقته».

ومن اللفظين اللذين يجمعهما شبه الاشتقاق قوله تعالى : (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ). فاللفظة الأولى هنا (قالَ) مشتقة من القول ، واللفظة الأخيرة واحدها (قالَ) بالتنوين اسم فاعل مشتق من القلي بكسر القاف وهو البغض ، فيجمع بينهما شبه الاشتقاق من جهة اللفظ لا المعنى.

* * *

 أما رد العجز على الصدر في الشعر فيرد على الصور التالية :

٢٢٦

أ ـ في اللفظين المكررين :

١ ـ ما يكون أحد اللفظين المكررين أي المتفقين لفظا ومعنى في آخر البيت والثاني صدر المصراع الأول. ومن أمثلته قول الشاعر :

تمنّت سليمى أن أموت صبابة

وأهون شيء عندنا ما تمنّت

وقول شاعر آخر :

سكران : سكر هوى وسكر مدامة

أنى يفيق فتى به سكران؟

ومنه البيت الثاني من شعر عمر بن أبي ربيعة :

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما تجد

واستبدت مرة واحدة

إنما العاجز من لا يستبد

٢ ـ ومنه ما يكون أحد اللفظين المكررين في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول ، كما في البيت الثاني من قول الصمة القشيري :

أقول لصاحبي والعيس تهوي

بنا بين المنيفة فالضمار

تمتع من شميم عرار نجد

فما بعد العشية من فرار (١)

ومنه قول جرير :

سقى الرمل صوب مستهل غمامه

وما ذاك إلا حبّ من حلّ بالرمل

٣ ـ ومنه ما يكون أحد المكررين في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول ، كقول أبي تمام :

__________________

(١) العرار : وردة ناعمة صفراء طيبة الرائحة ، وموضع «عرار» الثانية من الإعراب اسم «ما» التي بمعنى ليس ، و «من» زائدة.

٢٢٧

ومن كان بالبيض الكواعب مغرما

فإني بالبيض القواضب مغرما (١)

٤ ـ ومنه ما يكون أحد المكررين في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الثاني كالبيت الثاني من قول ذي الرمة :

ألما على الدار التي لو وجدتها

بها أهلها ما كان وحشا مقيلها

وإن لم يكن إلا معرج ساعة

قليلا فإني نافع لي قليلها (٢)

* * *

 ب ـ في اللفظين المتجانسين :

١ ـ ما يكون أحد اللفظين المتجانسين ، أي المتشابهين لفظا لا معنى في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول ، كقول القاضي الأرجاني :

دعاني من ملامكما سفاها

فداعي الشوق قبلكما دعاني (٣)

«دعاني» الأول فعل أمر بمعنى اتركاني ، و «دعاني» في آخر البيت فعل ماض من الدعاء بمعنى الطلب.

٢ ـ ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول ، كقول الثعالبي :

وإذا البلابل أفصحت بلغاتها

فانف البلابل باحتساء بلابل

__________________

(١) الكواعب : جمع كاعب وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهوض ، والبيض القواضب : السيوف القواطع.

(٢) ألما : أنزلا قليلا ، والتعريج على الشيء : الإقامة عليه و «معرج» خبر يكن واسمه ضمير الإلمام ، وقليلها مبتدأ مؤخر خبره «نافع» والضمير في «قليلها» للساعة ، أي قليل الساعة في التعريج ينفعني ويبل أوامي ويروي شوقي إلى أهل هذه الدار.

(٣) سفاها : طيشا.

٢٢٨

«فالبلابل» الأول جمع بلبل وهو الطائر المعروف ، و «البلابل» الثاني جمع بلبال بفتح الباء وهو شدة الحزن والهم ، و «البلابل» الثالث جمع بلبلة وهو إبريق الخمر.

وموضع الشاهد هنا والمقصود بالتمثيل هو «البلابل» الثالث في آخر البيت بالنسبة إلى مجانسه الذي ورد في حشو المصراع الأول. فاللفظان كما ترى متجانسين ، أي متشابهين لفظا مختلفين معنى.

٣ ـ ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول كقول الحريري :

فمشغوف بآيات المثاني

ومفتون برنات المثاني (١)

فلفظ «المثاني» الأول يراد به القرآن الكريم ولفظ «المثاني» في آخر البيت يراد به المزامير ، فاللفظان متشابهان لفظا مختلفان معنى.

٤ ـ ومنه ما يكون أحد المتجانسين في آخر البيت والآخر في أول المصراع الثاني ، كقول القاضي الأرجاني :

أمّلتهم ثم تأمّلتهم

فلاح لي أن ليس فيهم فلاح

«فلاح» الأول فعل ماض بمعنى ظهر وبدا ، و «فلاح» في آخر البيت اسم من الإفلاح بمعنى الفوز ، فاللفظان متشابهان لفظا مختلفان معنى.

ج ـ في اللفظين الملحقين بالمتجانسين للاشتقاق :

١ ـ ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق

__________________

(١) المثاني من القرآن : قيل القرآن جميعه لاقتران آية الرحمة بآية العذاب ، وتسمى سورة الفاتحة مثاني لأنها يثنى في كل ركعة من ركعات الصلاة وتعاد في كل ركعة ، وهي المقصودة بالسبع المثاني في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) لأنها سبع آيات ، ورنات المثاني : نغمات المزامير.

٢٢٩

وأحدهما في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول كقول البحتري :

ضرائب أبدعتها في السماح

فلسنا نرى لك فيها ضريبا

«فالضرائب» جمع ضريبة وهي السجية والطبيعة والفطرة ، يقال : هذه ضريبته التي ضرب عليها ، أي طبع وفطر عليها ، ويقال : فلان ككريم الضريبة ، ولئيم الضريبة ، أي الطبيعة. و «الضريب» في آخر البيت : النظير والمثل ، «فالضريبة والضريب» راجعان إلى أصل واحد في الاشتقاق.

٢ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول ، كقول امرىء القيس :

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه

فليس على شيء سواه بخزان (١)

فالفعل «يخزن» وصيغة المبالغة «خزّان» في آخر البيت مما يرجعان في الاشتقاق إلى أصل واحد.

٣ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول ، كقول ابن عيينة المهلبي :

فدع الوعيد فما وعيدك ضائري

أطنين أجنحة الذباب يضير؟

«فضائر» و «يضير» مما يجمعهما الاشتقاق.

٤ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما الاشتقاق

__________________

(١) المعنى : إذا لم يخزن المرء لسانه على نفسه ولم يحفظه مما يعود ضرره إليه ، فلا يخزنه على غيره ولا يحفظه مما لا ضرر له فيه.

٢٣٠

وأحدهما في آخر البيت ، والآخر في صدر المصراع الثاني ، كقول أبي تمام في رثاء محمد بن نهشل حين استشهد :

وقد كانت البيض القواضب في الوغى

بواتر فهي الآن من بعده بتر (١)

«فالبواتر» و «البتر» بضم فسكون يرجعان في أصلهما إلى اشتقاق واحد.

د ـ في اللفظين الملحقين بالمتجانسين لشبه الاشتقاق :

١ ـ ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في صدر المصراع الأول ، كقول الحريري :

ولاح يلحى على جري العنان إلى

ملهى فسحقا له من لائح لاح

ف «لاح» الأول ماضي يلوح بمعنى ظهر ، و «لاح» في آخر البيت اسم فاعل من لحاه بمعنى أبعده ، فهما متجانسان لفظا مختلفان معنى ، ويجمعهما شبه الاشتقاق.

٢ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في حشو المصراع الأول ، كقول المعري :

لو اختصرتم من الإحسان زرتكمو

والعذب يهجر للإفراط في الخصر (٢)

__________________

(١) البيض القواضب : السيوف القواطع جمع قاضب ، والبواتر : صفة أخرى هنا للسيوف بمعنى القواطع أيضا لحسن استعماله إياها ، وبتر بضم فسكون : جمع أبتر ، أي مقطوع الفائدة.

(٢) العذب هنا : يعني العذب من الماء ، والخصر بفتحتين : البرودة ، والمعنى : أن بعدي عنكم إنما هو لكثرة ما أنعمتم عليّ وطوقتموني من الإحسان.

٢٣١

فلفظ «اختصر» الوارد في حشو المصراع الأول هو فعل ماض بمعنى قلّل ، ولفظ «الخصر» بفتحتين في آخر البيت هو اسم بمعنى البرودة ، فاللفظان متجانسان لفظا مختلفان معنى ، ولهذا يجمعهما شبه الاشتقاق.

٣ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والثاني في آخر المصراع الأول ، كقول الحريري أيضا :

ومضطلع بتلخيص المعاني

ومطلع إلى تخليص عاني (١)

فاللفظ الأول «المعاني» من عنى يعني ، والثاني «عاني» اسم فاعل من عنا يعنو ، فالجامع بينهما شبه الاشتقاق.

٤ ـ ومنه ما يكون اللفظان الملحقان بالمتجانسين يجمعهما شبه الاشتقاق وأحدهما في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الثاني ، كقول شاعر :

لعمري لقد كان الثريا مكانه

ثراء فأضحى الآن مثواه في الثرى

فاللفظ الأول «ثراء» واوي من الثروة وفعله «ثرا» يقال : ثرا المال يثرو : كثر ، واللفظ الثاني في آخر البيت «الثرى» بمعنى التراب يائي ، فعله «ثري» بكسر الراء ، فاللفظان متجانسان لفظا مختلفان معنى ، ولكن يجمعهما شبه الاشتقاق.

لزوم ما لا يلزم

هذا النوع من البديع اللفظي سماه قوم «الالتزام» و «لزوم ما لا

__________________

(١) المضطلع في الشيء : القوي فيه الناهض به ، وتخليص العاني : فكاك الأسير.

٢٣٢

يلزم» ، وقد عده ابن المعتز من محاسن الكلام ومثل له ، وعرفه بأنه «إعنات الشاعر في القوافي وتكلفه من ذلك ما ليس له».

ومن أمثلته عنده قول الشاعر :

يقولون في البستان للعين لذة

وفي الخمر والماء الذي غير آسن

فإن شئت أن تلقى المحاسن كلها

ففي وجه من تهوى جميع المحاسن

وقد عرف القزويني لزوم ما لا يلزم بقوله : «هو أن يجيء قبل حرف الروي أو ما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في السجع». ومعنى هذا أن يلتزم الناثر في نثره أو الناظم في نظمه بحرف قبل حرف الروي أو بأكثر من حرف بالنسبة إلى قدرته مع عدم التكلف.

ولزوم ما لا يلزم من فنون البديع اللفظي الذي يرد في النثر والنظم على السواء ، وقد ورد في القرآن الكريم شيء منه إلا أنه يسير جدا.

فمن ذلك قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) وقوله تعالى : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) وكالفاصلتين الأخيرتين من قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ). وعلى هذا النحو قوله تعالى : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ).

ومن أمثلته نثرا قول ابن الأثير في مستهل كتاب إلى بعض الإخوان : «الخادم يهدي من دعائه وثنائه ما يسلك أحدهما سماء والآخر أرضا ، ويصون أحدهما نفسا والآخر عرضا» فاللزوم هنا في الراء والضاد.

٢٣٣

ومنه قول الحريري في المقامة الوبرية : «حكى الحارث بن همام ، قال : ملت في ريّق زماني الذي غبر ، إلى مجاورة أهل الوبر ، لآخذ أخذ نفوسهم الأبية ، وألسنتهم العربية ، فأوطنوني أمنع جناب ، وفلّوا عني حد كل ناب ...» (١).

ومنه قول بديع الزمان الهمذاني في مقامته الجاحظية التي ينقد فيها كلام الجاحظ على لسان عيسى بن هشام : «فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات ، قليل الاستعارات ، قريب العبارات ، منقاد لعريان الكلام يستعمله ، نفور من معتاصه يهمله ، فهل سمعتهم له لفظة مصنوعة أو كلمة مسموعة؟» (٢). فمن كلام الحريري وبديع الزمان ما التزم فيه بحرف أو أكثر قبل حرف الروي.

ومن أمثلة لزوم ما لا يلزم في الشعر قول شاعر جاهلي :

عصاني قومي والرشاد الذي به

أمرت ومن يعص المجرب يندم

فصبرا بني بكر على الموت إنني

أرى عارضا ينهل بالموت والدم

فاللزوم هنا في الميم والدال.

ومنه قول أبي تمام :

خدم العلا فخدمته وهي التي

لا تخدم إلا قوام ما لم تخدم

فإذا ارتقى في قلة من سودد

قالت له الأخرى : بلغت تقدم

__________________

(١) مقامات الحريري ص ١٩٦ ، وريق زماني : أوله ، وغبر : مضى وتقدم ، وأهل الوير : هم أهل البدو ، لآخذ أخذ نفوسهم : لأقتدي بهم ، وأوطنوني : أنزلوني وأحلوني ، وفلوا : كسروا.

(٢) مقامات بديع الزمان ص ٧٥ ، وعريان الكلام : ما لا يكسوه ثوب الصنعة ، ومعتاص الكلام : ممتنعه مما تكثر فيه الصنعة فتبعده عن أذهان العامة.

٢٣٤

وقوله أيضا :

ولو جربتني لوجدت خرقا

يصافي الأكرمين ولا يصادي (١)

جديرا أن يكر الطرف شزرا

إلى بعض الموارد وهو صادي

فاللزوم في المثال الأول لأبي تمام في الميم والدال ، وفي المثال الثاني في الدال والألف والصاد.

ومن الشعر العذب الذي لا كلفة عليه في باب اللزوم قول الحماسي :

إن التي زعمت فؤادك ملها

خلقت هواك كما خلقت هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها

بلباقة فأدقها ... وأجلها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي

ما كان أكثرها لنا وأقلها!

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها

فاللزوم في الهاء واللام.

ومن الشعراء المتقدمين الذين مالوا إلى اللزوم في شعرهم كثير عزة ، ومن شعره الذي التزم فيه ما لا يلزم قصيدة تربو على عشرين بيتا منها :

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا

قلوصيكما ثم احللا حيث حلت

وما كنت أدري قبل عزة ما الهوى

ولا موجعات الحزن حتى تولت

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزة من أعراضنا ما استحلت

فما أنا بالداعي لعزة بالجوى

ولا شامت إن نعل عزة زلت

وإني وتهيامي بعزة بعد ما

تخليت مما بيننا ... وتخلت

__________________

(١) الخرق بكسر الخاء : الكريم المتخرق في الكرم المغالى فيه ، ولا يصادي : أي ولا يداجي ولا يداري ويساتر.

٢٣٥

لكالمرتجي ظل الغمامة كلما

تبوأ منها للمقيل اضمحلت

كأني وإياها سحابة ممحل

رجاها فلما جاوزته استهلت

فإن سأل الواشون : فيم هجرتها؟

فقل : نفس حر سلّيت فتسلت (١)

وممن مالوا إلى اللزوم من المتقدمين أيضا عبد الله بن الزبير الأسدي ، وذلك كقوله من قصيدة في مدح عمرو بن عثمان بن عفان :

سأشكر عمرا ما تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلت (٢)

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت (٣)

رأى خلّتي من حيث يخفي مكانها

فكانت قذى عينيه حتى تجلت (٤)

فاللزوم في شعر كثير عزة وابن الزبير الأسدي هو في التاء واللام المشددة.

* * *

والتزام ما لا يلزم لدى المتقدمين كما يبدو من شعرهم يأتي عفو الخاطر غير مقصود ولا متعمد ، ولذلك لا يرى عليه من أثر الكلفة أو الصنعة شيء.

أما المتأخرون فتوسعوا فيه وأكثروا منه ، ومنهم من تعمده وقصد إليه قصدا ، كأنما يريد أن يدل بذلك على مقدرته في النظم وسعة إحاطته باللغة ومفرداتها.

ومن أولئك الشعراء أبو العلاء المعري فله في هذا النوع من الشعر

__________________

(١) أمالي القالي ج ٢ ص ١٠٧.

(٢) لم تمنن : أي لم تقطع ولم تخلط بمنة.

(٣) إذا النعل زلت : زلة القدم والنعل كناية عن نزول الشر والمحنة.

(٤) خلتي : الخلة بفتح الخاء : الخصاصة والفقر.

٢٣٦

ديوان كامل سماه «اللزوميات» أتى فيه بالجيد الذي يحمد ، والرديء الذي يذم.

ومن شعره الذي التزم في قافيته ما لا يلتزم قوله :

أرى الدنيا وما وصفت ببر

إذا أغنت فقيرا أرهقته

إذا خشيت لشر عجلته

وإن رجيت لخير عوقته

حياة كالحبالة ذات مكر

ونفس المرء صيدا أعلقته

فلا يخدع بحيلتها أريب

وإن هي سورته ونطقته

أذاقته شهيا من جناها

وصدت فاه عما ذوقته

فاللزوم هنا في الهاء والتاء والقاف.

ومنه أيضا قوله :

تنازع في الدنيا سواك وماله

ولا لك شيء بالحقيقة فيها

ولكنها ملك لرب مقدر

يعير جنوب الأرض مرتد فيها

ولم تحظ من ذاك النزاع بطائل

من الأمر إلا أن تعد سفيها

فيا نفس لا تعظم عليك خطوبها

فمتفقوها مثل مختلفيها

تداعوا إلى النزر القيل فجالدوا

عليه وخلوها لمغترفيها

وما أمّ صلّ أو حليلة ضيغم

بأظلم من دنياك فاعترفيها (١)

تلاقي الوفود القادميها بفرحة

وتبكي على آثار منصرفيها

فأطبق فما عنها وكفا ومقلة

وقل لغوي القوم : فاك لفيها (٢)

__________________

(١) فاعترفيها : أي فاسأليها أيتها النفس ، وربما وضعوا اعترف بمعنى عرف ، وعلى هذا يكون المعنى فاعترفيها : أي اعرفي حقيقة دنياك يا نفس.

(٢) فاك لفيها : كلمة تستعملها العرب عند الدعاء بالمكروه والشماتة ، وأصل ذاك أن السباع إذا تهارشت صرفت أفواهها بعضها لبعض.

٢٣٧

فاللزوم هنا في الهاء والياء والفاء ، وقد التزم مع حرف الروي بحرفين.

ويجدر التنبيه هنا إلى الفرق بين لزوم ما يلزم ولزوم ما لا يلزم في القوافي. فمن باب لزوم ما يلزم قول الشاعر :

في شعاب النسيان أفردت وحدي

فعبرت الأيام حيا كميت

أجد الغدر والعقوق من النا

س وألقى الظلام في عقر بيتي

والعذاب الروحي في ليلي الدا

ئم أورى دمي وأنضب زيتي

فتعالي ... وفي يديك انطلاق

من فجاج النسيان أما أتيت

فحرف القافية هنا هو التاء والياء قبلها حرف ردف يلتزم به الشاعر في جميع أبيات القصيدة والعدول عنه إلى أي حرف آخر كأن يقول مثلا «حضرت» بدل «أتيت» يعد عيبا في القافية.

أما في لزوم ما لا يلزم ، كما هو الشأن في قوافي الأبيات السابقة لكثير عزة ، وابن الزبير الأسدي والمعري ، فاللازم هو حرف القافية فقط ، أما ما عداه مما ألزم الشاعر به نفسه حرفا كان أو أكثر فهذا يجوز للشاعر أن يلتزمه أو يعدل عنه ولا يعد في الوقت ذاته عيبا من عيوب القافية.

فلو التزم الشاعر حرف الراء مثلا قبل القافية في قصيدة بعض كلمات قافيتها مثل «شرق ، وفرق وبرق» فإنه يجوز له أن يبقى على هذا الالتزام ، كما يجوز له أن يعدل عنه ويقول : «شرق ، وسبق ، وخلق» دون أن يعد ذلك عيبا في القافية.

* * *

ولزوم ما لا يلزم هو ، كما يقول ابن الأثير ، من أشق هذه الصناعة مذهبا وأبعدها مسلكا ، وذلك لأن مؤلفه يلتزم ما لا يلزمه. فإن اللازم في

٢٣٨

هذا الموضوع وما جرى مجراه إنما هو السجع الذي هو تساوي أجزاء الفواصل من الكلام المنثور في قوافيها. وهذا فيه زيادة على ذلك وهو أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا ، وهو في الشعر أن تتساوى الحروف التي قبل روي الأبيات الشعرية (١).

ومما لا ريب فيه أن هذا النوع من أصعب أنواع البديع اللفظي استخراجا ، ولكن مما لا ريب فيه أيضا أنه يعد من محاسن الكلام ، إذا وفق فيه الأديب فجاءه عفو الخاطر بدون تكلف ولا تعمل ، وكان المعنى هو الذي يقود إليه ويستدعيه ، وليس هو الذي يقود إلى المعنى.

الموازنة

الموازنة نوع من أنواع البديع اللفظي يقع في النثر والنظم : وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التقفية ، نحو قوله تعالى : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ).

فلفظا «مصفوفة ومبثوثة» متساويان في الوزن لا في التقفية ، لأن الأول على الفاء والثاني على الثاء ، ولا عبرة لتاء التأنيث لما هو معروف في علم القوافي.

وقد فصّل ابن الأثير الكلام عن الموازنة بعض الشيء فقال : «هي أن تكون ألفاظ الفواصل في الكلام المنقور متساوية في الوزن ، وأن يكون صدر البيت الشعري وعجزه متساوي الألفاظ وزنا. وللكلام بذلك طلاوة ورونق وسببه الاعتدال ، لأنه مطلوب في جميع الأشياء ، وإذا كانت مقاطع الكلام معتدلة وقعت من النفس موقع الاستحسان وهذا لا مراء فيه لوضوحه.

__________________

(١) المثل السائر ص ١٠٦.

٢٣٩

وهذا النوع من الكلام أخو السجع في المعادلة دون المماثلة ، لأن في السجع اعتدالا وزيادة على الاعتدال ، هي تماثل أجزاء الفواصل لورودها على حرف واحد.

وأما الموازنة ففيها الاعتدال الموجود في السجع ولا تماثل في فواصلها ، فيقال إذن : «كل سجع موازنة ، وليس كل موازنة سجعا ، وعلى هذا فالسجع أخص من الموازنة» (١).

ومما ورد من الموازنة في القرآن الكريم قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ ، وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فالمستبين والمستقيم موازنة ، لأنهما تساويا في الوزن دون التقفية.

ومنها كذلك قوله تعالى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا. فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا). فالموازنة هنا بين «عزا وضدا» وبين «أزا وعدا» فقد جاء كل زوج على وزن واحد ، وإن اختلفت أحرف التقفية أو المقاطع التي هي فواصلها. وأمثال هذا في القرآن كثير بل معظم آياته جارية على هذا النهج ، حتى إنه لا يكاد يخرج منه شيء من السجع والموازنة.

ومن أمثلة الموازنة شعرا قول ربيعة بن ذؤابة :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

بأشدهم بأسا على أصحابه

وأعزهم فقدا على الأصحاب

فالبيت الثاني هو المختص بالموازنة فإن «بأسا» و «فقدا» على وزن واحد ، دون التقفية.

__________________

(١) المثل السائر ص ١١١.

٢٤٠