دلائل الصدق لنهج الحق - المقدمة

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - المقدمة

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-354-3
الصفحات: ٣٠٧

حليما ، وله وجاهة عند خربنده ملك التتر ، وله عدّة مصنّفات ».

وقصّته مع أولجايتوو انتقاله إلى مذهب الإمامية مشهورة.

قرأ رحمه‌الله على عدد كثير من العلماء كالخواجة نصير الدين الطوسي ، وابن ميثم البحراني ، وشمس الدين الكشّي الشافعي ، الذي كان يعترض عليه العلّامة أحيانا فيحير الشيخ بجوابه ويعترف له بالعجز.

وقد تتلمذ على يديه خلق كثير.

توفّي بالحلّة المزيدية (١) ، ونقل إلى النجف الأشرف فدفن في حجرة عن يمين الداخل إلى الحضرة الشريفة من جهة الشمال ، وقبره ظاهر معروف مزور إلى اليوم.

* * *

__________________

(١) المزيديّة : نسبة إلى سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي ، أوّل من عمرها ونزلها في سنة ٤٩٥ ه‍.

١٦١

الفضل بن روزبهان (١)

هو أبو الخير فضل الله بن روزبهان ـ القاضي بأصبهان ـ بن فضل الله الأمين بن أمين الدين ، الخنجي الأصل ، الأصبهاني الشيرازي الشافعي الصوفي ، الشهير ب‍ : خواجه مولانا ـ أو : خواجه ملّا ـ ، مؤرّخ ، مشارك في بعض العلوم.

ذكره السخاوي في الضوء اللامع فقال : « لازم جماعة كعميد الدين الشيرازي ، وتسلّك بالجمال الأردستاني وتجرّد معه ، وتقدّم في فنون من عربية ومعان وأصلين وغيرها ، مع حسن سلوك وتوجّه وتقشّف ولطف عشرة وانطراح (٢) وذوق وتقنّع.

قدم القاهرة فتوفّيت أمّه بها ، وزار بيت المقدس ، والخليل ، ومات شيخه الجمال ببيت المقدس فشهد دفنه ، وسافر إلى المدينة النبويّة فجاور بها أشهرا من سنة سبع وثمانين ، ولقيني بها فسرّ بعد أن تكدّر حين لم يجدني بالقاهرة ، مع إنّه حسن له الاجتماع بالخيضري فما انشرح به ، وقرأ عليّ البخاري بالروضة ، وسمع دروسا في الاصطلاح ، واغتبط بذلك كلّه ، وكان يبالغ في المدح بحيث عمل قصيدة بديعة يوم ختمه أنشدت

__________________

(١) انظر تفصيل ترجمته في : الضوء اللامع ٦ / ١٧١ رقم ٥٨٠ ، هديّة العارفين ٥ / ٨٢٠ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٦٢٣ رقم ١٠٨٢٩ ، مقدّمة « إحقاق الحقّ ».

(٢) الانطراح : أراد به هنا الانبساط مع الإخوان ورفع الكلفة ودماثة الخلق ، مأخوذ من الانطراح على الوسادة ؛ والأولى لغة أن يعبّر ب‍ « الانشراح ».

١٦٢

بحضرتنا في الروضة ، أوّلها :

روّى النسيم حديث الأحبّاء

فصحّ ممّا روى أسقام أحشائي (١)

وهي عندي بخطّه الحسن مع ما قيل نظما من غيره ، وكذا عمل أخرى في ختم مسلم ، وقد قرأه على أبي عبد الله محمّد بن أبي الفرج المراغي حينئذ ، أوّلها :

صحّحت عنكم حديثا في الهوى حسنا

أن ليس يعشق من لم يهجر الوسنا

وهي بخطّه أيضا في ترجمته من التاريخ الكبير ، وكتبت له إجازة حافلة ، افتتحتها بقولي :

أحمد الله ، ففضل الله لا يجحد ، وأشكره فحقّ له أن يشكر ويحمد ، وأصلّي على عبده المصطفى سيّدنا محمّد ..

ووصفته بما أثبتّه أيضا في التاريخ المذكور ..

وقال لي : إنّه جمع مناقب شيخه الأردستاني ، وإنّ مولده فما بين الخمسين إلى الستّين ، ثمّ لقيني بمكّة في موسمها ، فحجّ ورجع إلى بلاده مبلّغا إن شاء الله سائر مقاصده ومراده ، وبلغني في سنة سبع وتسعين أنّه كان كاتبا في ديوان السلطان يعقوب لبلاغته وحسن إشارته ».

وذكر السيّد نعمة الله الجزائري في مقاماته بأنّه كانت له بنت ، فلمّا بلغت مبلغ النساء خطبها منه شرفاء مكّة وعلماء الحرمين ، فقال : بنتي هذا (٢)

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، ووزنه : مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ، وصدره مختلّ الوزن ، ولكي يستقيم كان عليه أن يقول مثلا : « روّى النسيم أحاديث الأحبّاء » ..

ولكنّه موزون على طريقته في الشعر!

(٢) كذا.

١٦٣

لا كفو لها ، لأنّ سلطان العجم وإن كان علويا ـ أي السلطان الشاه إسماعيل الصفوي ـ إلّا أنّه من الرّفضة ، وسلطان الروم وإن كان من أهل السنّة إلّا أنّه ليس بعلويّ » .. إلى آخر ما قال.

وكان صاحب أسفار ، فسافر إلى الحرمين ، وبيت المقدس ، والقاهرة ، والخليل ، وما وراء النهر ـ سمرقند وبخارى ـ ، وكان يصحب معه أسرته ، وتولّى القضاء بمصر والحرمين.

له من المصنّفات :

« إبطال المنهج الباطل » في الردّ على ابن المطهّر ..

و « بديع الزمان » في قصّة حيّ بن يقظان ..

و « شرح الوصايا » لعبد الخالق الغجدواني ..

و « عالم آرا » في تاريخ الدولة البايندرية ـ فارسي ـ ..

وتعليقة على « إحياء العلوم » للغزّالي ..

وتعليقة على « تفسير الكشّاف » للزمخشري ..

وتعليقة على شرح المواقف ..

وتعليقة على شرح الطوالع ..

وتعليقة على تفسير البيضاوي ..

وشرح المقاصد في الكلام ..

وكتاب في الإجازات ..

وكتاب في ترجمة شيخه الأردستاني.

* * *

١٦٤

القاضي التستري (١)

هو السيّد الشريف نور الله بن شريف الدين عبد الله بن ضياء الدين نور الله بن محمّد شاه الحسيني المرعشي التستري ، المعروف ب‍ : الشهيد الثالث.

ولد في تستر بخوزستان سنة ٩٥٦ ه‍ ، ونشأ بها ، وأخذ العلوم الأوّلية عن أفاضل مدينة تستر ، ومنهم والده ، ثمّ انتقل إلى مشهد الإمام الرضا عليه‌السلام سنة ٩٧٩ وكان عمره نحو ٢٣ عاما ، وحضر دروس العلّامة المحقّق المولى عبد الواحد التستري وغيره ، بقي في مدينة مشهد نحو ١٤ عاما.

ثمّ انتقل سنة ٩٩٣ إلى البلاد الهندية ، وتقرّب إلى أبي الفتح ابن عبد الرزّاق الگيلاني وكان له جاه في بلاط أكبر شاه ( ٩٤٢ ـ ١٠٢٥ ه‍ ) فولّاه القضاء بمدينة لاهور ، فاستقلّ إلى أيّام جهانگير ، وكان يخفي مذهبه عن الناس تقيّة ، ويقضي على مذهبه بما وافقه من مذهب أهل السنّة.

وقال صاحب رياض العلماء : « هو أوّل من أظهر التشيّع في بلاد الهند من العلماء علانية ، وصدع بالحقّ الصريح والصدق الفصيح تقريرا

__________________

(١) راجع تفصيل ترجمته في : رياض العلماء ٤ / ٢٦٠ ، أمل الآمل ٢ / ٣٣٦ ، أعيان الشيعة ١٠ / ٢٢٨ ، شهداء الفضيلة : ١٧١ ، هديّة العارفين ٦ / ٤٩٨ ، الأعلام ٨ / ٥٢ ، معجم المؤلّفين ٤ / ٤٤ رقم ١٧٧٤٣.

١٦٥

وتحريرا ، نظما ونثرا ، وجاهد في إعلاء كلمة الله ، وجاهر بإمامة عترة رسول الله ، حتّى استشهد جورا في بلدة لاهور من بلاد الهند ، وقتل ظلما فيها لأجل تشيّعه وتأليفه إحقاق الحقّ ، وقصّة قتله مشهورة ، وذلك في عام ١٠١٩ ه‍ ».

مصنّفاته :

له سبعة وتسعون كتابا ورسالة ، أشهرها :

إحقاق الحقّ ؛ وهو الذي أوجب قتله ، ألّفه ردّا على الفضل بن روزبهان في كتابه « إبطال نهج الباطل » ..

مجالس المؤمنين ..

مصائب النواصب ..

الصوارم المهرقة في الردّ على الصواعق المحرقة ..

حاشية على تفسير البيضاوي ..

الحسن والقبح ..

وغيرها.

* * *

١٦٦

الشيخ المظفّر (١)

نسبه وأسرته :

هو : العلّامة الحجّة الشيخ محمّد حسن بن الشيخ محمّد بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمّد بن الشيخ أحمد بن مظفّر الصيمري (٢) الجزائري (٣).

زعيم ديني كبير ، متكلّم وباحث قدير ، أديب وكاتب معروف ، وصاحب قريحة شعرية رقيقة.

يرجع نسب شيخنا المترجم إلى أسرة عريقة بالفضل والعلم ، عرفت في النجف الأشرف أواسط القرن الثاني عشر ، ولها فروع كثيرة وانتشر أفرادها في كثير من المدن ، كالبصرة ، والقرنة ، والمدينة ، والمحمّرة ، والأهواز ، وكربلاء ، والحيرة ، وعفك ، وبغداد ، ويسكن قسم منهم مدينة حلب.

__________________

(١) راجع في تفصيل ترجمته قدس‌سره : شعراء الغريّ ٧ / ٥٢٨ ـ ٥٣٩ وج ٢ / ٣٧٤ وج ٦ / ١٦١ ، ماضي النجف وحاضرها ٣ / ٣٦٩ رقم ١٣ ، معارف الرجال ٢ / ٢٤٦ ، أعيان الشيعة ٩ / ١٤٠ ، طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر في القرن الرابع عشر ـ ج ١ ـ ق ١ ـ/ ٤٣١ رقم ٨٥٤ ، الذريعة ٨ / ٢٥١ رقم ١٠٣٣ ، الأعلام ٦ / ٩٥ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٢٣٦ رقم ١٢٨٨٤ ، ديوان السيّد مصطفى جمال الدين : ٤٤١ ـ ٤٤٨ ، مقدّمة « دلائل الصدق » ط. القاهرة بقلم : الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي.

(٢) نسبة إلى الصيامر ، وهي قبيلة في رساتيق البصرة وضواحيها ، وقيل سمّي باسم نهر من أنهار البصرة القديمة.

(٣) نسبة إلى منطقة الجزائر في جنوب العراق.

١٦٧

ويرجع نسب آل المظفّر إلى آل مسروح من أصول آل علي المضريّين ، القاطنين في أرض العوالي بالحجاز ، ولا تزال بعض فروعها تسكن في عوالي المدينة المنوّرة حتّى يومنا هذا ، وقد كان لأحد أفراد الأسرة الماضين ـ وهو الشيخ يونس بن الشيخ أحمد ـ مراسلات معهم واتّصال وثيق بهم.

وقد هاجر مظفّر بن عطاء الله ـ جدّ الأسرة الأعلى ـ من مدينة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل القرن العاشر الهجري وقصد النجف الأشرف ، فقطن فيها واختلف على علمائها فاستفاد منهم ، أمّا وجودهم في البصرة والمدينة فيتّصل بالقرن الحادي عشر.

وقد نبغ من هذه الأسرة أعلام كثيرون ، أشهرهم الشيخ إبراهيم بن محمّد بن عبد الحسين ، المعروف بالجزائري ، المعاصر للشيخ جعفر الكبير ، رحل من النجف إلى الكاظمية فتوطّنها وقرأ على أساتذتها ، وله مؤلّفات ذهبت ضمن كتبه التي بيعت بعد وفاته ، وتوفّي بها فدفن في رواق المرقد الكاظمي ، وله مسجد فيها يعرف باسمه إلى اليوم ، وقد وجدت له أحكام ممضاة من علماء وقته.

والده :

ووالد المترجم هو العلّامة الشيخ محمّد المظفّر ، من كبار علماء الإمامية في مطلع القرن الرابع عشر ، وقد توفّي في أوّل ربيع الأوّل سنة ١٣٢٢ ه‍ في سنّ الستّين بمرض الوباء ، وله عدّة مصنّفات ، منها : توضيح الكلام في شرح شرائع الإسلام ، وهو دورة فقهية كاملة شرح فيها كتاب « شرائع الإسلام » للمحقّق الحلّي بإيجاز وتركيز ، وهو لا يزال مخطوطا.

١٦٨

والدته :

ويرجع نسبه من جهة الأمّ إلى عائلة الطريحي ، وهي عائلة عربية علمية استوطنت النجف الأشرف منذ عدّة قرون ، وتعدّ من أقدم العوائل العربية في النجف ، فأمّه الفاضلة ابنة الشيخ عبد الحسين الطريحي.

إخوته :

وللمترجم ثلاثة إخوة كانوا من العلماء الأعلام ، وهم :

١ ـ الحجّة الشيخ عبد النبيّ ، المتوفّى سنة ١٣٣٧ ه‍ ، وهو الذي تولّى رعاية شيخنا المترجم بعد وفاة والدهم.

٢ ـ الشيخ محمّد حسين ، المتوفّى سنة ١٣٨١ ه‍ ، باحث عالم بالأدب والتاريخ ، له تصانيف عديدة منها : الإمام الصادق عليه‌السلام ، الإسلام نشوؤه وارتقاؤه ، تاريخ الشيعة ، ميثم التمّار ، مؤمن الطاق.

٣ ـ العلّامة الكبير الشيخ محمّد رضا ، المتوفّى سنة ١٣٨٤ ه‍ ، عميد كلّية الفقه في النجف الأشرف ، صاحب المصنّفات الجليلة : أصول الفقه ، المنطق ، عقائد الإمامية ، السقيفة ، والكتب الثلاثة الأولى من الكتب الأساسية في منهج الحوزات العلمية ، وعليها المدار اليوم في دروس مرحلة المقدّمات ، وهو مضافا إلى كونه عالما مجتهدا وفقيها أصوليا فقد كان أديبا وشاعرا مجيدا.

ولادته ونشأته وسجاياه :

ولد شيخنا المترجم له في النجف الأشرف في ١٢ صفر عام ١٣٠١ ،

١٦٩

ونشأ فيها ، وترعرع في أنديتها ومحافلها ، درس على والده وغيره النحو ، والصرف ، وعلوم البلاغة ، والمنطق ، والحساب ، والفلك ، وعلم الكلام ، والحديث ، والفقه وأصوله ، وعلوم الدين والأدب ، ونال منها حظّا وافرا.

حضر دروس الشيخ الآخوند محمّد كاظم الخراساني ، والسيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي ، وشيخ الشريعة الأصفهاني ، والشيخ علي ابن الشيخ باقر الجواهري ، وقد أجازه معظم هؤلاء المراجع العظام إجازة الاجتهاد عام ١٣٣٢ ه‍ ، كما أجازه بالرواية شيخه شيخ الشريعة ..

فاستقلّ برأيه وباشر في مواصلة الأبحاث الخارجية منذ ذلك الحين ، فأتمّ عشرات الدورات الفقهية والأصولية ، حضرها رعيل كبير من أهل الفضل والعلم ، وقد تخرّج على يديه جملة من الأفاضل.

وقد تنبّه إلى مقامه العلمي عشرات الرجال من أهل اليقين والمعرفة فقلّدوه مع وجود زعماء مشتهرين آنذاك ، أمثال الميرزا النائيني والسيّد أبو الحسن الأصفهاني ، وكان السيّد أبو الحسن يحترمه ويجلّه وقد رجاه غير مرّة أن يرجع إليه كلّ ما يتعلّق بالقضاء إليه ، ولكنّه رفض رفضا باتّا ، وآثر الانعزال والانصراف إلى التأليف والتدريس والعبادة ، كما كرّر عليه أن يقيم صلاة الجماعة بمكانه في الجامع الهندي فرفض أيضا ، ولم يخرج من العراق طيلة حياته إلّا مرّة واحدة سافر فيها إلى إيران عام ١٣٦٨ ه‍ لزيارة الإمام عليّ الرضا عليه‌السلام للاستشفاء بعد إجراء عملية جراحية أجريت له في النجف الأشرف.

وبعد وفاة السيّد أبو الحسن الأصفهاني سنة ١٣٦٥ ه‍ ظهر شيخنا المظفّر إماما مبرّزا ومرجعا من مراجع المسلمين ، رغم أنّه كان قد آثر العزلة.

١٧٠

وصفه الشيخ جعفر آل محبوبة بأنّه من العلماء الأبرار ، والمجتهدين الأخيار ، لم يناقش في ورعه وصلاحه ، وللناس فيه أتمّ الوثوق ، صلّى خلفه كثير من أهل الفهم والمعرفة ، ورجع إليه في التقليد جماعة من الناس ، تقرأ في غضون جبينه آثار الأبرار ، وتلوح على مخايله سمات أهل الورع ، يغلب عليه الهدوء والسكون.

ثمّ قال : رأيته رجلا صالحا نقي الضمير ، طاهر النفس ، متعفّفا ، صادقا في القول.

ووصفه صاحب شعراء الغريّ بقوله : عرفته معرفة حقّة ، واتّصلت بشخصه ـ شأن غيري ممّن اتّخذوا العلم صفة لهم ـ فوجدته إنسانا فذّا قد حصل على كافّة الصفات الطيّبة والخلال الحميدة ، قد نزّه عن كلّ ما يوصم به المرء من زهو وتدليس أو حبّ للظهور والغطرسة ، يتواضع للكبير والصغير بصورة لم تفقده قوّة الشخصية ، وجلال الزعيم ، ولطف مزاجه حتّى عاد كالزجاجة الصافية التي لا درن عليها أو غبار ، وبهذا أخذ بمجامع قلوب مختلف الطبقات ورجال الدين ، وقلّ من حاز على رضا الناس إلّا هو وأفراد يعدّون بالأصابع قد تجرّدوا عن زهو الحياة وزخرفها ، وابتعدوا عن كلّ ما يوجد الريبة والشكّ ، وتمشّى باحتياطه في سيرته حتّى لا يكاد أن يتطرّق الوهم إلى نفسه ، فقد بلغ مرتبة من الصفاء والتجرّد أهّلته أن يرتفع في جوّه الذي زخر بالأصفياء والأولياء ارتفاعا بيّنا ، ويظهر في مجتمعه الذي كثر فيه مراجع الدين ظهورا دون أن يرغب به أو يقصده ، وكم جاءه المال فتغاضى عنه ، واتّبعته الزعامة فأعرض عنها ، وهو بقية السلف الصالح الّذين تتواتر عنهم القصص والأخبار بهذا الشأن.

ثمّ قال : عرفته معرفة جعلتني أكبر مقامه لا لغاية ، وأحبّه لا لقصد ،

١٧١

سوى ما احتفظ به من شخصية رصينة محكمة الروح والعقل ، محكمة الدين والخلق ، لهذه الصفات أحببته وأحبّه الآلاف مثلي من الّذين لم يحترموا إلّا الحقّ والعدل والدين ، ولهذه الصفات أكبرته ؛ لأنّه سخر بالزعامات المزيّفة ، والشخصيات المرهّلة ، والنفسيّات التي أتعبت هواها فقادها إلى مصير مظلم وهوّة عميقة من محاسبة الله والضمير ، ولهذه الصفات عرفت أنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، ... ليعيد إلى النفوس الساخطة اطمئنانها ، والقلوب المرتبكة سكونها ، والعقائد المتزلزلة إرجاعها ، لهذه الصفات أصبح المترجم له علما من أعلام الدين ، لا يرجع له إلّا من عرف الله وتبع تعاليم الدين الصحيحة.

وقال في حقّه الشيخ محمّد شيخ الشريعة ـ من علماء باكستان ، بمناسبة ذكرى مرور أربعين يوما على وفاة شيخنا الفقيد ، والتي أقيمت في النجف الأشرف ـ : اعتدت ألّا أكتب إلّا ما يترجم شعوري ، وأبتدئ بإرضاء ضميري قبل غيري ، فحقّا أقول : إنّا فقدنا بارتحال شيخنا الأعظم آية الله المظفّر أطهر وأطيب وأزكى شخص عرفته في حياتي ، وأعتقد أنّ الهيئة العلمية الدينية النجفية والجامعة الإسلامية العامّة قد انثلمت بوفاة فقيدنا الأكبر ، فقد كان منهلا لروّاد العلم ، ومقتدى للمؤمنين ، وأبا بارّا للمسلمين.

ثمّ قال : لا يجتمع التواضع والمرونة مع الكبرياء ولكنّهما يجامعان العظمة ، فقد كان رحمه‌الله عظيما متواضعا ، مهاب الجانب محبوبا ، يغمر جليسه بعظمته الروحية الأخلاقية ، ويصهره حتّى يصبح منطق الجليس نزيها عاريا من الغمز واللمز ، فلم تكن ترى في مجلسه غير الأدب الديني من دون أن يحدّد أحدا في منطقه ، إذا ذهبت إليه بحاجة كان يتضاءل كأنّه

١٧٢

المحتاج ولم تتركه إلّا وأنت راض عنه سواء أجابك أم ردّك ، وإن قلّ الأخير.

كان جوادا بذولا ، في شخصيّته وماله ، وكلّ ما أوتي ، فقد كان رحمه‌الله يعتقد أنّ شخصيّته ملك للمسلمين يجب أن ينتفعوا بها ، ولم يبخل بها على أحد ، وأعتقد أنّ التصدّق بالشخصية أعظم وأصعب على الرجل من التصدّق بماله ، بل أشدّ من التصدّق بنفسه بمراتب.

وقال الشيخ محمّد طاهر آل راضي : كلّ يعلم علقة آل المظفّر بجمعية منتدى النشر ، وقد آزر المرحوم جميع خطوات الجمعية ، لا لأنّ إخوانه منسوبون إليها ، بل لاعتقاده أنّ تلك الحركة خطوة إصلاحية للدين والمجتمع.

ثمّ قال : أقسم بالله ـ وهو عليّ شهيد ـ إنّي مع قربي بجواره وحظوتي بمجالسته ـ سفرا وحضرا ـ ما وجدّته نصر الجمعية أو جهات أخرى بدوافع الانتماءات الفردية والتعصّبات الخاصّة ، بل لم يكن يفهم التعصّبات القبلية أو القومية ، ولا أغال إن قلت : إنّ أخاه وأيّ مسلم آخر كان عنده سيّان إلّا بما ميّز الشارع بينهما ، وكان التمايز عنده بالتقوى لا بالبياض والسواد ، وكان مجبولا على هذا الخلق الكريم ، لا أنّه يعمل به إطاعة للشرع الحنيف فقط.

وكمال الدين أن تصبح الأحكام أخلاقا مزيجا بدم الرجل ولحمه.

كان فردا عامّا محذوفا عنه جميع الإضافات الخاصّة ، ولمثله الحقّ أن يكون على رأس أمّة إسلامية عالمية ، مع إنّه كان قدوة في التقوى ، بعيدا عن التقشّف والرياء ، يحضر على المائدة الفخمة ، ويشارك الفقراء في مآكلهم البسيطة ، لا ينكر الأوّل تقشّفا ، ولا الثاني تكبّرا ، يبتسم للفقير ،

١٧٣

ولا يخضع لذوي الجاه والسلطان ، متواضع مع الأوّل وعظيم مع الثاني ، وكان عظيما مع الناس أكثر من عظمته عند نفسه على حدّ قول إمامنا السجّاد عليه‌السلام : « ولا ترفعني في الناس درجة إلّا حططتني عند نفسي مثلها ».

ثمّ قال : وإنّي لأحفظ له كلمة ، وكم له من كلمات خالدة! وهي :

« إنّ الرياء في زماننا لا معنى له ؛ لأنّ سوء الظنّ بلغ بالناس حدّا يتوهّمون العبادة الخالصة من المؤمن رياء ، فلا فائدة للمرائي ، ورياؤه لا ينخدع به الناس ».

ثمّ قال الشيخ محمّد طاهر آل راضي في كلمته : ولا تظنّ أنّه لدماثة أخلاقه كان ممّن تقتحمه العين ، فلقد كانت له هيبة تكاد أن ترتعد لها الفرائص ، وتصطكّ لها الأخامص ، ويخفق لها القلب.

كلّ ذلك في ما أعتقد سرّ هيبته الطاعة ، وعلوّ مكانته منها ، من غير أن يكون في شيء من ذلك متكلّفا أو متزمّتا ، فإنّه المجبول على الترسّل والتبسّط ، ولكنّه خلق خيّرا زكيّا.

ثمّ قال : وقد ذكر لي بعض ثقات أقاربه ، وكان أكبر من شيخنا سنّا : إنّ الشيخ لمّا كان صبيّا ما كانت له بطبعه هواية أن يلهو أو يلعب ، بل كان يحشر نفسه مع الصبيان ، ولكنّه يقف منهم على كثب فلا يشاركهم لعبهم ولهوهم ، فكأنّه خلق على الاتّزان ، وطبع على الوقار.

وإنّي كنت أجتمع به ، وأعدّ اجتماعي به من توفيقاتي ، كمن يجتمع مع ملك من ملائكة الله ، ولم أسمع منه مدّة العمر أن تعرّض لأحد إلّا بالخير والإطراء إذا كان ممّن يستحقّ ذلك ، وإلّا فلا يتعرّض له ، وربّما يتعرّض غيره له فتكون خطّته خطّة الدفاع عنه وحمله على الصحّة.

١٧٤

وهو ميمون النقيبة ، مبارك الذات والفعل ، أمّا بركة ذاته فلطهارتها بالطاعة والمعرفة والفناء في مرضاة الله مع علمه البالغ وفضله العظيم الجمّ ، وأمّا بركة الفعل فقد شاهدته عقد الزواج لشابّ على فتاة ، وبعد العقد ابتلي الزوج بداء كان منه على أشدّ نواحي الخطر ، يكاد أن يكون ميؤسا منه ، ثمّ عافاه الله وعاد إلى الصحّة الكاملة ، وتزوّج الزوجة التي عقدها الشيخ له ، فاتّفق أن اجتمعت بأحد العلماء فتذاكرنا ما جرى لهذا الشابّ فقال لي : أمّا أنا فكنت على رجاء قوي ، لم أيأس كما يئس الناس ؛ لأنّ العاقد له كان الشيخ ، فإنّه الميمون المبارك ، قد جرّب أنّه ما عقد لشخص فخاب زواجه.

وكان ـ طاب مثواه ـ حليما ، يسعني أن أقول : إنّه ما رئي غضب لنفسه أو لأمر من أمور الدنيا ، ولكنّه كان يتأجّج نارا ويتميّز غيظا إذا هتكت عصمة من عصم الدين.

لقد كان أعلى الله مقامه مضرب المثل في التقوى والعدالة عند الناس ، حتّى إنّي كنت أتصوّره أنّه معصوم غير واجب العصمة ، والناظر إليه يحسّ أنّه يواجه وجها تنطق أساريره بمعنوية الهداية ونور الهدى ، وكنت أقصده للائتمام به في الصلاة ، فإنّه ـ مضافا إلى كونه في أقصى درجات العدالة ـ فقد كانت له في الصلاة نغمة ، ولا سيّما في قنوته ، فكأنّها تأخذ بيدك فترفعك إلى نور معرفة الله ، وكأنّك ترى الجنّة والنار ماثلتين بين عينيك بإيحاء من تأثير صوته الخاشع ، وعذوبة لهجته ، وكمال معرفته ، ومعراجيّة نفسه ، واتّصالها به تبارك وتعالى فناء وعرفانا.

وكان ـ رحمه‌الله ـ من المجتهدين القلائل الّذين تلقّوا حوادث تطوّر الزمن بنفس متفتّحة بعيدة عن التزمّت ، فنظر بذلك إلى الحياة نظرة سمحاء ، ومتى واتاه الدليل أو قامت عنده الحجّة الشرعية أجاز ما يسهّل

١٧٥

على الناس أمر حياتهم ..

فمثلا كان يرى طهارة الكتابيّين وجواز الزواج منهم ..

كما كان يرى أنّ الأدلّة غير متوفّرة على إنّ المتنجّس ينجّس ..

وكان أعلى الله مقامه يرى لزوم ترتيب الأثر في ما تعلّق بإثبات الأهلّة على وفق حكم الحاكم الشرعي ؛ معلّلا بأنّ الحاكم بالهلال مجتهد أهل للحكم إذا تمّت الموازين ، وقد رتّب الأثر على ذلك في بعض أهلّة عيد فطر شهر رمضان ، عند ما حكم بالهلال بعض المراجع وخالفه الآخرون ، لقد نظر شيخنا في ذلك إلى الواقع دون أن يلتفت إلى زاوية غير الحقّ ، وفي نفس الوقت فإنّ هذه الحادثة تكشف عن فنائه في ذات الله وتجرّده وبعده عن الأنانية.

وله من أمثال ذلك الكثير ، يترصّد الحقّ دائما ولا يحيد عنه ، ولا تصدّه عنه نزوة من حبّ الذات وخلجاتها ، ولا نزعة من نزعات الكبرياء وتخيّلاتها.

وكان شيخنا من مشايخ التدريس ، دقيق النظر ، عميق التفكير والتحقيق ، حسن الأسلوب في التفهيم ، فقد كان يحرّر المسألة بتحرير واضح يتبيّن فيه موضع الخلاف جليّا ، لئلّا تلتبس الآراء من حيث تداخل بعض المصاديق ببعض ، ثمّ يبدي رأيه معتضدا بالحجّة ، ذابّا عمّا اختاره في تفنيد ما قيل أو يمكن أن يقال على خلافه ، مؤيّدا بالذوق الصحيح العالي ، والفطرة السليمة الحرّة ، غير مأخوذ بما يستدعي اتّباع المشهور لكونه مشهورا من دون أن تسانده الأدلّة.

وبالإمكان مراجعة كتبه الاستدلالية ـ ومنها كتابه المطبوع في مباحث

١٧٦

الحجّ ـ لتجد أسلوبه بارزا في عرض الأدلّة ومناقشتها ، والانتهاء إلى الرأي السديد.

شعره :

والمترجم له بالإضافة إلى تفوّقه في الفقه والأصول ، وسموّه في فهمها ، فقد نال حظوة كبرى في الأدب والنظم ، وله مع الشيخ جواد الشبيبي رحمه‌الله ـ الذي صاهره على ابنته الكبرى ـ مساجلات أدبية .. ومنها قول الشبيبي من أبيات مطلعها :

فخرت بأعمامي وطلت بأخوالي

فزاحمت في الأفلاك كوكبها العالي

فأجابه شيخنا المظفّر ، وذلك في ٢٦ رمضان ١٣٥٢ بقصيدة ، منها :

سهرت الليالي في أمان وآمال

فإنّ الأماني بعدكم رأس أموالي

وكم جبت ليل البين أقطع جوّه

بسيّارة للفكر تحمل أثقالي

أقول لعين الشمس : لا تبزغي به

فقد سار بي فكري على برق آمالي

تبشّرني يا شمس أن سوف نلتقي

وأحظى برؤيا كوكب الشرف العالي

وأنت إذا وافيت واستتر الدجى

وأنجمه من يخبر الندب عن حالي

١٧٧

وإنّي لا أرضى لضوئك منّة

إذا بزغت شمس العلى فوق أطلالي

بغرّتها نور الجلالة ساطع

بها يهتدي الساري إلى المفخر العالي

أضاءت على أفق الكمال مطلّة

وجرّت بروض الفضل فاضل أذيال

وألقت سناها في خمائل للعلى

فزانت بلاد الشرق في الحسب الغالي

وبدر الهدى أنواره يستفيدها

لأبنائه من نورها الساطع الحالي

جلا اليوم ذكراها لنفس تفيدها

نفائس فخر لا نفائس أموال

* * *

وكتب من مدينة القرنة إلى صديقه الشيخ محمّد رضا الخزاعي في صدر كتاب عام ١٣٢٩ ه‍ :

صبوت وقد سقاني الشوق صابا

ولم أر صبوتي إلّا صوابا

وبنت ولي فؤاد مستهام

يرى عذب السلوّ له عذابا

رحلت وقلبي المعمود آبا

إليك ، فقلت : ترجع؟ قال : آبى

وقد أودعته لك فارع فيه

ودادي ، إنّه لهواك ذابا

فأمست تحسد القلب المعنّى

عيوني كي يعاني ذا الجنابا

فيا قلبي ألا أبلغه حالي

وقل : ودّعته صبّا مصابا

١٧٨

يبيت مسهّدا سهران طرف

قريح الجفن ينسكب انسكابا

فمن لي لو يحلّ سواد عيني

كما هو في سويدا القلب ذابا

وتجمعني وخير أخ ودود

ديار أخصبت فيه جنابا

فأشهد واحدا في العزّ فردا

فتى طابت مآثره وطابا

حليف الفضل والإفضال قدما

ومن ملأت أياديه الرحابا

محمّد الرضا الزاكي أصولا

رضيّ الفرع ندبا مستطابا

ألا يا نسمة الأسحار هبّي

لمن ملكت مواهبه الرقابا

وعنّي بلّغيه سلام عان

به حضرت مودّته وغابا

* * *

وله قصيدة يخاطب بها أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام :

دهتني الهموم ولا منجد

وقلبي بها متهم منجد

ولاك فم الضرّ قلبي وقد

طوى صبري الزمن الأنكد

فأقوت معالمه بعد ما

وهى عن قوى جلدي الجلمد

ولمّا هفا كبدي للضنى

وأجهده الشجن المكمد

ربطت فؤادي بكفّ المنى

زمانا وما لي سواها يد

فمذ خاب ظنّي وردت الأمير

وما طاب لي غيره مورد

فيا رحمة الله عطفا فقد

تجهّمني الصاحب المسعد

عهدتك للملتجي جنّة

إذا ما دهى جلل مجهد

وقد كنت مقصد أهل الرجا

لدى الضرّ إذ عزّ من يقصد

ولولاك غاضت بحار الندى

وما كان رفد ولا مرفد

ولولاك ما درّ درّ الحيا

ولا دار في أفقه فرقد

١٧٩

فحقّق رجاي بما أبتغي

فقد حقّ لي منكم الموعد

أترضى بأنّي أشقى وفي

فؤادي لظى شجني توقد؟!

وترضى أبيت ليالي الأسى

وعين الرجا طرفها أرمد؟!

وترضى أضلّ ومنك الرشاد

وأنت لما نابني تشهد؟!

ولولاك ما سار فلك الهدى

ولا بان رشد ولا مرشد!

فإن لم يسعنا مدى فضلكم

وضاق بنا فلمن نقصد؟!

وحاشا يضيق وأنت الجواد

وآية جودك لا تجحد

أتغضي وأنت الوليّ الذي

يحلّ بأمرك ما يعقد؟!

أتغضي وأنت القدير الذي

لك الأمر والنهي والسؤدد

فإن لم تغث فلمن نلتجي

وما في الورى مقصد يحمد؟!

بباب الرجا عكفت همّتي

ويصرخ في نبئي المذود

إلى المصطفى وإليك انتهى

رجائي وحقّا به أسعد

* * *

وله يرثي الإمام الحسن السبط عليه‌السلام بقوله :

الرّسل تفخر والأملاك والأمم

بالطاهر المجتبى والبيت والحرم

والأرض تخضع إجلالا لهيبته

والعقل يخدمه واللّوح والقلم

ما الإنس والجنّ والأملاك قاطبة

إلّا له خلقوا قدما وإن عظموا

من معشر أحدقت بالعرش مشرقة

أنوارهم وهم الأسحار والكلم

١٨٠