تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

والصفائح التى عليها فتبقى على حالها ولا يصرف منها شيء ، وقول عمر رضى الله عنه : صفراء أو بيضاء يحتمل النوعين ولم ينقل إلينا صفتهما التى كانت ذلك الوقت ، وقد قيل : أول من ذهّب البيت فى الإسلام الوليد إلى آخر ما يأتى ، وسيأتى أنه يجب إدامة تعليق ما علق بالحجرة من القناديل ولا يجوز انفكاكه عن ذلك ؛ لأن التعليق وإن لم يكن فى الأصل واجبا ولا قربة إلا أنه صار شعارا ويحصل بسبب إزالتها تنقيص فيجب إدامتها ، كما ذكرناه فى كسوة الكعبة أن استدامتها واجبة وابتداءها غير واجب ، وحينئذ فيقال مثله فى تعليق قناديل الكعبة وعليه فيحرم تنزيلها ورهن شيء منها على ما يصرف فى عمارتها ، فتأمل هذا ، والذى يظهر أنه إن لم يكن بها شيء من ذلك فالمرجع لبيت المال ، لكن معلوم أن هناك أوقافا عليها محكوم بصحتها فمن يرى بصحة الوقف على الكعبة وبموجبه الرافع للخلاف ، وقد ذكر العراقى أن قول الواقف : وقفت هذا على الحرمين ، يدخل فيه الكعبة ، فتعمر من مثل ذلك فليراجع عبارته ، وقد صرح الإمام السبكى فى رسالته : تنزل السكينة على قناديل المدينة أن العمارة التى تحتاج لها الحجرة الشريفة أو الحرم إن كان هناك أوقاف يعمر منها وإلا فيقوم بها المسلمون من أموالهم ، إلى آخره كما سيأتى ، ومعلوم أنه إذا رجع الأمر إلى بيت المال فلا بد أن يكون من مال حلال خالص لا شبهة فيه بوجه ، فقد اشترطت ذلك قريش حين بنت البيت ووزعت مصرفه عليهم ، فعند هدمها تقدم عايذ بن عمران بن مخزوم وهو خال أبى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتناول حجرا من الكعبة فوثب من يده حتى يرجع إلى مكانه ، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا فى بنائها من مالكم إلا حلالا طيبا ليس فيه مهر بغى ولا رياء ولا مظلمة ، ثم لما قصرت النفقة الحلال التى أعدوها لعمارة البيت نقصوا من عرضها أذرعا من جهة الحجر كما يأتى بيانه ، وحيث كان كذلك فإن فقد ما تعمر به الكعبة من مالها المختص بها رجع الأمر فى ذلك إلى مال حلال يؤخذ من بيت المال وجهة المحل الخالص يمكن من مال موروث لا وارث له أو من مال الجزية الزائد عن المقررين فيما إذا أخذ من أهل الذمة من غير حيف ، وقد قال أكثر العلماء فى الجزية بما قال به عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ولم

٨١

يخالف أحد من الصحابة أنه يؤخذ من الغنى ثمانية وأربعون درهما ، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهما ، ومن الفقير المعتمل اثنا عشر ، وقال بذلك الإمام أبو حنيفة وأحمد فيما رواه أكثر الصحابة ، وقال الإمام مالك أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الفضة ، والمراد بالدينار المثقال الذهب الخالص فإنه الدينار الشرعى ، والمراد بالدرهم أن يكون من الفضة الخالصة ، والإمام الشافعى وإن قال بإجزاء دينار فقد قال أيضا : أنه ينبغى للإمام أن يماكسهم حتى يجعل على الفقير المعتمل دينارا ، وعلى المتوسط دينارين ، وعلى الغنى أربعة دنانير ، قال علماؤنا : فأخذ الأكثر منهم فى مثل هذا الزمن الذى طغوا فيه وتجبروا هو المتعين وهو من المال الحلال الطيب الذى لا ظلم فيه ولا عدوان ، وفى ذلك توسعة على بيت مال المسلمين ولا سيما فى مثل هذه الأوقات المحتاج للنفقة فى الجهاد فى سبيله ، وأما ما ذكره بعض أهل العصر من الشافعية من أن من وجوه المحل أن يؤخذ من مال خراج القرى المصرية فإنه حلال ، وهذا الكلام من هذا المنسوب للشافعية مشكل ، فإن وضع الخراج على الأراضى المصرية لا يقول به الشافعى رحمه‌الله تعالى ؛ لأن الصحيح كما حكاه النقلة الذين رجع إليهم فى نقل المذاهب أن مصر فتحت عنوة كما قاله ابن الرفعة ونقله الزركشى رحمهما‌الله تعالي ، وقيل : فتحت مرتين مرة صلحا ثم نكثوا ففتحت مرة ثانية عنوة ، وما فى وصية الشافعى رحمه‌الله من أن له أرضا بمصر مما يقتضى أنه يرى ملكها وأنها فتحت صلحا فقال بعضهم : يحتمل أنه أحيي الأرض المذكورة بعد أن كانت مواتا فلا دلالة فيه على ذلك ، وحيث فتحت عنوة كما هو القول الأشهر وقسمت بين الغانمين وبقيت فى أيديهم فهى عشرية لا خراج فيها ، والأرض تكون خراجية كما قاله أصحابنا ونقله فى الشرح والروضة فى صورتين : إحداهما : إذا فتحها الإمام قهرا ولم تقسم ، أو قسمت بين الغانمين ثم تعوضها ووقفها علينا وضرب عليها خراجها ، والثانية : إذا فتحت صلحا على أن تكون لنا ويسكنها الكفار بخراج معلوم فهى لنا والخراج عليها أجرة لا تسقط بإسلامهم ، فإن لم يشرط لكن سكنها الكفار بخراج فهى جزية تسقط بإسلامهم ، وأما البلاد التى فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين وتثبت فى أيديهم ، وكذا الذى أسلم أهلها عليها والأرض

٨٢

التى أحياها المسلمون فكلها عشرية وأخذ الخراج منها ظلم انتهي ، وقال الزركشى فى خادم الشرح والروضة بعد أن ساق كلامهما فى صورتى الأرض الخراجية إلى آخره مقتصرا على عزو ذلك للشرح يريد أن هذه المسألة مفروضة فى أرض العراق أو فى أرض صالح الكفار المسلمون عليها بخراج يعطونه كل سنة ، وعلى هذا فأرض مصر ليست خراجية انتهي ، إذا تقرر ذلك فقد علمت منه أن مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه أن أراضى مصر لا خراج عليها ، وعلى تقدير أن يكون عليها خراج كما هو مذهب الإمام أبى حنيفة رضى الله عنه فغالب قراها إما وقف أو فيها حصة وقف ، وإذا حكم فى الأوقاف من يرى بعدم الخراج ارتفع الخلاف ، وغالب الأوقاف الحاكم فيها شافعى ومن موجب حكمه عدم الخراج فلا يجوز نقضه ولا مخالفته بوضع الخراج على أراضى الوقف لبيت المال ، وعلى تقدير عدم الحكم بها فما على الأراضى الموقوفة من الحمايات والمغارم زائد على الخراج بكثير بلا شبهة ، فأخذ زائد عليه ممتنع لا يجوز من وجوه الحل القرض عن طيب خاطر باطنا وظاهرا من مال لا شبهة فيه إلى غير ذلك من وجوه الحل ، وقضية ما قلناه من أن المرجع فى ذلك للمال المختص بالكعبة على الوجوه المذكورة ، فإن تعذر ذلك ففى بيت المال أنه لا يجب عند تعذر ما اختص بالكعبة من المال المذكور على المسلمين من أموالهم ، والذى صرح به السبكى فى رسالته تنزل السكينة على قناديل المدينة ، أن العمارة التى تحتاج إليها الحجرة الشريفة أو الحرم إن كان هناك أوقاف يعمر منها وإلا فيقوم بها المسلمون من أموالهم طيبة قلوبهم (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(١) وهو مقتضى أن تعمير الكعبة إذا تعذر مالها يكون على المسلمين من أموالهم ، ويمكن رده لما قلناه بحمله على ما إذا تعذر الصرف من بيت المال ، أو إن الصرف من أموال المؤمنين يصدق بالصرف من بيت المال فإنه لهم فتأمل ، ثم قال السبكى : وكنت سئلت عن بيع القناديل الذهب التى بالحجرة المعظمة الشريفة حين أراد بعض الناس بيعها لعمارة الحرم الشريف النبوى على سكانه أفضل الصلاة والسلام فأنكرته واستقبحته ، أما إنكاره فمن جهة الفقه لأن هذه القناديل إن كانت وقفا فلا يصح بيعها ، ومن يقول من الحنابلة ببيع

__________________

(١) الأحزاب (٦).

٨٣

الوقف عند خرابه أو من الحنفية القائلين بقول أبى يوسف فى الاستبدال إنما يقول ذلك إذا كان يحصل به غرض الواقف بقدر الإمكان ، أما هنا فقصد الواقف إبقاءها لمنفعة خاصة وهى التزيين فبيعها للعمارة مفوت لهذا الغرض ، وإن كانت ملكا للحجرة كالملك للمسجد فكذلك لما قدمناه أن قصد الآتى بها ادخارها لهذه الجهة وإن جهل حالها فيحمل على إحدى هاتين الجهتين فتمنع البيع أيضا ، وإن عرف لها مالك معين فأمرها له وليس لنا أن نتصرف فيها ، وإن علم أنها ملك لمن لا ترجى معرفته فتكون لبيت المال ، ومعاذ الله ليس ذلك واقعا وإنما ذكرناه لضرورة التقسيم حتى يعلم أنه لا تسلط على بيعها للعمارة بوجه من الوجوه ، ولو فرضنا أن هذه مما يجب الزكاة فيها ففى هذه المدد قد ملك الفقراء فى كل سنة ربع العشر فتكون قد استغرقت بالزكاة فيجب صرفها إليهم ولا تباع ، فعلى كل تقدير لا مساخ للبيع وهذا وجه إنكارى إياها.

وأما الاستقباح فلما يبلغ الملوك فى أقطار الأرض أنابعنا قناديل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمارة حرمه ونحن نقدر بأنفسنا فضلا عن أموالنا ، وما برحت الملوك يعمرون هذا الحرم الشريف ويفتخرون بذلك فهذه القناديل التى بالحجرة الشريفة المعظمة لا حق فيها لأحد من الفقراء كما لا حق لهم فى مال الكعبة ، وكذا لا حق فيها لما يحتاج إليه من عمارة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحرمه الخارج عن الحجرة لما ذكرنا من المغايرة بين الحجرة والمسجد ، فلا يكون الذى لأحدهما مستحقا للآخر ولا له حق فيه ، وأما الحجرة نفسها لو فرض احتياجها لعمارة أو نحوها هل يجوز أن يصرف من القناديل فيها؟ الذى يظهر المنع ، فليست القناديل كالمال المصكوك المعد للصرف الذى فى الكعبة ؛ لأن ذلك إنما أعد للصرف وأما القناديل فما أعدت للصرف ، وإنما أعدت للبقاء ليس قصد صاحبها الذى أتى بها إلا ذلك ، سواء أوقفها أم اقتصر على إهدائها فتبقى مستحقة لتلك المنفعة الخاصة وهى كونها معلقة يتزرمن بها والعمارة التى يحتاج إليها الحجرة الشريفة أو الحرم إن كان هناك أوقاف يعمر منها وإلا فيقوم بها المسلمون من أموالهم طيبة قلوبهم فا (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(١) والذى قالته الحنابلة إنها إذا بطل وقفها تصرف إلى مصالحه ليس صحيح قطعا ، والذى قاله أصحابنا من

__________________

(١) الأحزاب (٦).

٨٤

أن الموهوب للمسجد يصرف فى مصالحه لا يأتى هنا ؛ لأن ذلك فيما لا يقصد واهبه جهة معينة أما لو قصد جهة معينة فتتعين ، كما قالوا فى الإهداء لرتاج الكعبة أو لتطيبها أنه يتعين صرفه فى تلك الجهة وليس هذا كما إذا وهب لرجل درهما ليصرفه فى شيء عينه حتى يأتى فيه ذلك ؛ لأن ذلك فى الهبة لخصوص عقدها ولكونها لمعين آدمى يقتضى ذلك ، وهنا الإهداء لما يقصد من الجهات فأى جهة قصدها تعينت ولم يعدل عنها ، وحيث علقت هذه القناديل فى الحجرة وصارت لها بوقف أو هلك بإهداء أو نذر أو هبة لا يجوز إزالتها ؛ لأنها وإن لم يكن تعليقها فى الأول واجبا ولا قربة صارت مشعارا ويحصل بسبب إزالتها تنقيص فيجب إدامتها ، كما قدمناه فى كسوة الكعبة أن استدامتها واجبة وابتداءها غير واجب ، فلو لم يحصل وقف ولا تمليك ولكن أحضرها صاحبها وعلقها هناك مع بقائها على ملكه لقصد تعظيم المكان وانتسابه إليه فينبغى له أن لا يزيلها ما أمكنه عدم إزالتها ؛ لأن الشعار الحاصل لها والنقص الحاصل بزوالها موجود هنا كما هو موجود فى التى خرج عنها فليخشى عليه من تغييرها أو تغيير عقده من الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(١) هذا فى الباطن وإنما يمكن فى الظاهر منها إذا علم منه بأن كانت باقية فى يده أو أشهد عليه بذلك عند تسليمها ، وأما إذا لم يعلم وأحضرها لناظر المكان أو القيم عليه وتسلمها منه كما هو عادة النذور والهدايا وجاء يطلبها زاعما أنه لم يكن خرج عنها فلا يقبل قوله بعد ما اقتضاه فعله وقرائنه من الإهداء كما هو أهدى هدية وأقبضها ثم جاء يزعم أنه لم يكن قصد التملك ، فإن الفعل الظاهر من الدال عرف وعادة من القرائن كاللفظ الصريح.

وأما الجواب عن قوله : وهل يجوز إحداث زخرفة وترخيم إلى آخره؟ فنعم يجوز ذلك ويدل له قول المحب (٢) الطبرى بعد أن تكلم على حديث عائشة رضى الله تعالى عنها الآتى : ومدلول هذا الحديث تصريحا وتلويحا يبيح التغيير فى البيت بالعمارة إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة انتهي.

__________________

(١) الرعد (١١).

(٢) انظر القرى لقاصد أم القرى ص ٦٦.

٨٥

وقد تطابق الناس على ذلك فى الأعصار من غير نكير ، وممن استدل بذلك الإمام المجتهد السبكى وعبارته ، وقد قيل : إن أول من ذهّب البيت فى الإسلام الوليد بن عبد الملك وذلك لا ينفى أن يكون ذهّب فى الجاهلية وبقى إلى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، ويقال : إن الذى عمله الوليد بن عبد الملك على بابها صفائح فى الميزاب وعلى الأساطين التى فى بطنها والأركان ستة وثلاثون ألف دينار وأول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك ، ولما عمل الوليد ذلك كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين يحجون وينظرون ذلك ولا ينكرون على ممر الأعصار انتهي.

قال ابن حجر الهيثمى نزيل حرم الله : يؤخذ من كلام (١) السبكى هذا أنه يجوز أن يحدث فيها كل ما يليق بتعظيمها وأبهتها وجلالتها وإن لم يحتج إليه ، فإن فرش الرخام لا يحتاج إليه البتة وإنما فيه محض زينة وجلالة ، ويؤيده أن العلماء وغيرهم أقروا الملوك ونحوهم على تغيير بابها المرة بعد المرة مع الصلاحية وعدم الاحتياج للتغيير ، وكذلك غيروا عتبتها المرة بعد المرة وميزابها المرة بعد المرة كما سيأتى بيان ذلك وليس الحامل للفاعلين على ذلك إلا إظهار أبهة الكعبة وأنه لا يليق بجلالتها إبقاء ما خلق أو عتق فيها ؛ فلذلك حمدوا على تغيير تلك الأشياء وأقرهم العلماء وغيرهم على ذلك ولم ينكروا عليهم ، فإن قلت : يحتمل أن عدم إنكارهم لعلمهم بأن أولئك الملوك لا يمتثلون أوامرهم فحينئذ لا يستدل بسكوتهم.

قلت : هذا غفلة عما قاله الأئمة إنه يجب الأمر بالمعروف وإن علم من المأمور أنه لا يمتثل ، على أنه سيأتى عن السبكى أن الملوك إنما تصعب مراجعتهم فيما يتعلق بملكهم دون نحو هذا سيما وفى توفير لأموالهم وذلك محبب للنفوس والشح مطاع ، وقد قال السيد السمهورى رحمه‌الله فى فتاويه بعد كلام ساقه يتعلق بأمر السلطان فى قضية بشيء ظاهره يخالف الشرع : وينبغى أن يصان أمر ولاة المسلمين عن مثل ذلك ، بل هى محمولة على ما يسوغ شرعا انتهى ولئن تنزلنا ولم نتظر لذلك كله فالإنكار لم ينحصر فى ذلك بل من

__________________

(١) انظر المناهل العذبة لوحة ٩.

٨٦

جملته بيان حكم ذلك فى كتبهم وأنه منكر أو ممنوع مثلا ، ولو لا سبر السبكى لكتب الأئمة من لون الوليد وإلى وقته فلم ير أحدا من العلماء تعرض لإنكار ما فعله بقول ولا قلم لما استدل بما مر عنه ، ولما ساغ له أن يقول : ولما عمل الوليد ذلك كانت أئمة الإسلام والصالحون وسائر المسلمين يحجون وينظرون ذلك ولا ينكرونه على ممر الأعصار انتهي.

وأما الجواب عن كسوة البيت الشريف بالحرير وغيره فقد ذكر السبكى أنه جائز بالإجماع عليه ، وأما قول الشاش من أصحابنا القياس أنه لا يجوز فليس بصحيح وأى قياس يقتضى ذلك والقياس إنما يكون على منصوص من جهة الشرع ، ولم ينص الشرع على شيء يقاس عليه ذلك كيف ولم ينقل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أحد من الصحابة رضى الله عنهم أنكر ذلك؟ وقد كان عمر رضى الله عنه يكسوها من بيت المال وذلك من عمر دليل على وجوب كسوتها ؛ لأنه لا يصرف من بيت المال إلا فى واجب ، وقد كساها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا ينافى ذلك حديث عائشة رضى الله عنها أنها قالت : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بعض مغازيه وكنت أتحين قفوله فأخذت غطاء كان لنا فسترته على العرص ، فلما جاء استقبلته فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الحمد لله الذى أعزك وأكرمك ، فنظر إلى البيت فرأى النمط ، فلم يرد على شيئا ، ورأيت الكراهة فى وجهه ، فأتى النمط حتى هتكه ، ثم قال : إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسوا الحجارة واللبن ، قالت : فقطعته وجعلته وسادتين وحشوتهما ليفا ، فلم ينكر ذلك علىّ انتهى. قال النووى : واستدلوا به على أنه يمنع من ستر الحيطان ، وتنجيد البيوت بالثياب وموضع الكراهة تنزيه لا تحريم هذا هو الصحيح ، وقال الشيخ أبو الفتح المقدس من أصحابنا : هو حرام ، وليس فى هذا الحديث ما يقتضى تحريمه ؛ لأن حقيقة اللفظ أن الله تعالى لم يأمرنا بذلك وهذا يقتضى أنه ليس بواجب ولا مندوب ولا يقتضى التحريم انتهي ، وفى الروض كأصله يكره للرجال وغيرهم تزيين البيوت حتى مشاهد العلماء والصالحين بالثياب لحديث الباب ، ويحرم تزيينها بالحرير والصور لعموم الأخبار الواردة فيها ، نعم يجوز ستر الكعبة بالحرير وكذا المساجد على ما أفتى به الغزالى ، وكلام ابن عبد السلام فى فتاويه يميل إليه ، لكن الأصح كما قال ابن العماد عدم الجواز فيها وهو ، ما يقتضيه كلام اليمنى كأصله فى باب زكاة الذهب والفضة انتهي ، قال الإمام

٨٧

السبكى وليتنبه هنا لفائدة وهى أن الكعبة المشرفة بناها إبراهيم عليه‌السلام ولم تكن كسيت من زمانه إلى زمان تبع اليمانى فهو أول من كساها على الصحيح ، ويروى أنه لما كساها المسوح والأنطاع انتفضت ، فأزال ذلك عنها وكساها الحصر فانتفضت ، فأزال ذلك عنها فلما كساها الملا والوصايع قبلتها ، وقد ورد النهى عن سب أسعد الحميري (١) وهو تبع والكلام على أنه آمن بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتب له مكتوبا وهل هو بنى أو لا؟.

وقد تكفلنا ببيانه فى تراجم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ثم إن الناس كسوها فى الجاهلية ثم كساها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضى الله عنهم ، وكان المأمون يكسوها ثلاث مرات الديباج الأحمر يوم التروية ، والقباطى أول رجب ، والديباج الأبيض فى سابع وعشرين من رمضان ، وقيل : إن إسماعيل عليه‌السلام كساها.

ففى تلك المدد لا نقول إن كسوتها كانت واجبة إذ لو كانت واجبة لما تركها الأنبياء ولكن لما كساها تبع وكان من الأفعال الحسنة واستمر ذلك كان شعارا لها وصار حقالها وقربة يصح نذره وواجبا كيلا يكون فى إزالته تنقيص من حرمتها فيقاس عليه إزالة ما فيها والعياذ بالله تعالى من صفائح الذهب والرخام ونحوه ، ونقول : إنه يحرم إزالته ولا يمتنع أن يكون ابتداء الشيء غير واجب واستدامته واجبة ، ومرادى وجوب سترها دائما لإبقاء كل سترة ، ثم قال السبكى : إن قول الرافعى : إن ستر الكعبة وتطييبها من القربات فصحيح الآن بعد الشرع ، وأما قبل ذلك فقد قلنا إنه لم يكن واجبا وإن السترة صارت واجبة بعد أن لم تكن ، وأما كونها قربة من الأصل أو صارت قربة ففيه نظر ، وأما الطيب فالظاهر أنه ليس بواجب بل قربة ، والظاهر أنه قربة فى الأصل فيها وفى كل المساجد ، وإن كان فيها أعظم ، ثم قال : إن السترة التى تكساها من بيت المال تصير مستحقة لها بكسوتها ولا يجوز نزعها للإمام ولا لغيره حتى يأتى بكسوة أخرى ، فتلك الكسوة القديمة ما يكون حكمها؟ قال ابن عبد إن من أصحابنا لا يجوز بيعها ولا شراءها ولا نقلها ولا وضع شيء منها بين أوراق المصحف ، ومن عمل من ذلك شيئا لزمه رده خلاف ما يتوهمه العامة ويشتدونه من بنى شيبة ، وحكى الرافعى ذلك ولم يعترض عليه ، وقال ابن

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٥.

٨٨

القاص من أصحابنا : لا يجوز بيع كسوة الكعبة ، وقال الحليمى : لا ينبغى أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء ، وقال ابن الصلاح : الأمر فيها إلى الإمام يصرفها فى بعض مصاريف بيت المال بيعا وعطاء ، واحتج بما روى الأزرقى أن عمر رضى الله عنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيوزعها على الحاج ، قال النووى : وهذا أحسن ، وعن ابن عباس وعائشة رضى الله عنها وألا تباع كسوتها ويجعل ثمنها فى سبيل الله والمساكين وابن السبيل ، قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة رضى الله عنهم : لا بأس أن تلبس كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما وهذا كله ، فما إذا كانت من بيت المال فلو كانت موقوفة فينبغى أن لا تزال عن الوقف وتبقى ، وإنما اختلف الفقهاء على ما ذكرناه لأن العرف فيها ذلك ولا معنى لبقائها بعد نزعها وهى غير موقوفة ، وقد قالوا : إن الطيب لا يجوز أخذ شيء منه لا للتبرك ولا لغيره ومن أخذ شيئا منه لزمه رده ولم يذكروا فى ذلك خلافا ، فإذا كان فى الطيب فما ظنك بالذهب والفضة كالصفائح والقناديل ونحوهما مما يقصد بقاؤه ولا يتلف فلا يتأتى ذلك فيه بلا خلاف بل تبقى ، قالوا : وإذا أراد أن يأخذ شيئا من الطيب للتبرك فطريقه أن يأتى بطيب من عنده فيمسحها به ثم يأخذه ، والذى استحسنه النووى رحمه‌الله فى الكسوة : لا بأس به ، وكذا ما نقل عن ابن عباس وعائشة رضى الله عنهم ، ولا بأس بتفويض ذلك إلى بنى شيبة فإنهم حجبتها ولهم اختصاص بها فإن أخذوه لأنفسهم أو لغيرهم لم أربه بأسا لاقتضاء العرف ذلك وكونهم من مصالح الكعبة ، وأما لو أراد الإمام أخذها وجعلها من جملة أموال بيت المال كما اقتضاه إطلاق ابن الصلاح ولا وجه لذلك أصلا ولكن له ولاية التفرقة على من يخص بالتفرقة ، وبنو شيبة قائمون مقامه ، انتهى كلام السبكى. وكلام الحنفية صريح فى جواز بيع ثياب الكعبة إذا استغنت عنه وقال به جماعة من الشافعية وغيرهم ، ويجوز الشراء من بنى شيبة ؛ لأن الأمر مفوض إليهم من قبل الإمام نص عليه الطرسوسى الحنفى من شرح منظومته ووافقه السبكى من الشافعية ، ثم قال : وعليه عمل الناس ، والمنقول عن ابن الصلاح أن الأمر فيها إلى الإمام يصرفها فى بعض بيت المال بيعا وعطاء واستدل بما تقدم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، قال بعض العلماء : إنه

٨٩

لا يتردد الآن فى جواز البيع من بنى شيبة لأجل وقف الإمام ضيعة معينة على أن يصرف ريعها فى كسوة الكعبة والوقف بعد استقرار هذه العادة والعلم بها فينزل لفظ الواقف عليها ، واستحسن النووى الجواز أيضا ، وقال بعض علماء الشافعية : هذا واضح فى الكسوة الظاهرة أما الداخلة فلا تزال بل تبقى على ما هى عليه ؛ لأن الكلام إنما هو فى الستور التى جرت العادة بأن تغير فى كل عام فلو قدر جريان العادة بمثل ذلك فى الستور الباطنة سلك بها مسلك الظاهرة انتهى. هذا وأول من كساها الديباج الأسود الناصر العباسى فاستمر ذلك إلى يومنا ، وكان الناصر العباسى كساها ديباجا أخضر قبل الأسود ، وقد ذكر بعضهم حكمة حسنة فى سواد كسوة الكعبة فقال : كان البيت يشير إلى أنه فقد أناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عليهم. وقد كسته أم العباس بن عبد المطلب الحرير حين ضل العباس وهو صغير ، فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة ، فوفت بذلك ، وهى أول عربية كسته الحرير ، ولم تزل الملوك يتداولون كسوتها إلى أن وقف عليها الصالح إسماعيل بن الناصر بن قلاوون قرية فى ضواحى القاهرة وذلك فى سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.

فائدة : لو سرق شىء من ستر الكعبة أو من فضة بابها لا يقطع لعدم الحرز.

ذكر تطييب الكعبة

روى عن عائشة (١) رضى الله عنها أنها قالت : طيبوا البيت فإن ذلك من تطهيره ؛ ولأن أطيب الكعبة أحب إلى من أن أهدى لها ذهبا ، ولما فرغ ابن الزبير رضى الله عنهما من بنائها خلق باطنها وظاهرها بالعنبر والمسك من أعلاها إلى أسفلها ، ثم كساها ، وكان يجمرها فى كل يوم برطل من الطيب وفى يوم الجمعة برطلين ، وأجرى لها معاوية الطيب كل صلاة ، وكان يبعث به فى الموسم وفى رجب ، وأخدمها عبيدا بعث بهم إليها ، وهو أول من أجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت المال ، وقد ضمخها المهدى بالغالية والمسك والعنبر ، وقيل : إن ما فى أحجارها من السمرة إنما حصلت من آثار تلك الغالية.

وأما الجواب عن جواز تصفيح باب البيت الشريف بالذهب المموه وما يتعلق

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ١٠٦.

٩٠

بذلك مما هو مذكور جميعا فى السؤال فهو أن الإمام الرافعى ذكر فى تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما وجهين مرويين فى الحاوى وغيره ، أحدهما : الجواز تعظيما كما فى المصحف وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج وأظهرها المنع ، ويحكى عن ابن إسحاق إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف وحكم الزكاة مبنى على الوجهين ثم لو جعل المتخذ وقفا فلا زكاة فيه بحال ، انتهى ما ذكره الرافعى رحمه‌الله. واعترض السبكى من وجوه ، أما أولا فعلى تسويته بين الكعبة والمساجد فى إجراء الخلاف وهذا لا ينبغى لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد ألا ترى أن ستر الكعبة بالحرير وغيره مجمع عليه وفى ستر المساجد خلاف فحينئذ الخلاف فى الكعبة مشكل ، وترجيح المنع فيها أشكل ، وأما تعليل الرافعى بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف فعجيب ؛ لأن هذه العلة لا تقتضى التحريم وقصاراها أنها تقتضى أنه ليس بسنة أو مكروه كراهة تنزيه أما التحريم فلا وليس لنا أن نحرم بمثل ذلك حتى يرد نهى من الشارع ، وكيف يكون ذلك وقد فعل فى صدر هذه الأمة وقد تولى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه عمارة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوليد وذهب سقفه ، فإن قيل : إن ذلك امتثال أمر الوليد فأقول : إن الوليد وأمثالهم من الملوك إنما تصعب مخالفتهم فيما لهم فيه غرض يتعلق بملكهم ونحوه ، أما مثل هذا ففيه توفير عليهم فى أموالهم فلا تصعب مراجعتهم فيه فسكوت عمر بن عبد العزيز وأمثاله وأكبر منه مثل سعيد بن المسيب وبقية فقهاء المدينة وغيرها دليل لجواز ذلك ، بل ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد ذلك وأراد أن يزيل ما فى جامع بنى أمية من الذهب فقيل له إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكه فتركه ، والصفائح التى على الكعبة يتحصل منها شيء كثير ، فلو كان فعلها حراما لأزالها فى خلافته لأنه إمام هدى رضى الله عنه ، فلما سكت عنها وتركها وجب القطع بجوازها ومعه جميع الناس الذين يحجون كل عام ويرونها ، فالقول بمنعها عجيب جدا ، وقد قيل : إن أول من ذهب البيت فى الإسلام الوليد ابن عبد الملك وذلك لا ينفى أن يكون ذهب فى الجاهلية وبقى إلى عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ ويقال : إن الذى عمله الوليد بن عبد الملك على (١)

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ١١١.

٩١

بابها صفائح والميزاب وعلى الأساطين التى فى بطنها والأركان ستة وثلاثون ألف دينار بعث بها إلى خالد بن عبد العزيز والى مكة المشرفة وفى خلافة الأمين زيد عليها ثمانية عشر ألف دينار ، وأول من فرشها الوليد بن عبد الملك ولما عمل الوليد ذلك كانت أئمة الإسلام من التابعين موجودين وبقايا الصحابة رضى الله عنهم ، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه أنكر ذلك ثم جميع علماء الإسلام والصالحين وسائر المسلمين يحجون ويبصرون ذلك ولا ينكرون على ممر الأعصار فالقول بمنع ذلك عجيب جدا ، على أنه قل من تعرض لذكر هذا الحكم فى الكعبة بخصوصها ، ورأيتها أيضا فى كتب المالكية فى الذخيرة القرافية وليس فى كلامه تصريح بالتحريم وهذا الذى قلته كله فى تحلية الكعبة بخصوصها بصفائح الذهب والفضة ونحوهما فليضبط ذلك ولا يتعدى ، ولا أمنع من جريان الخلاف فى التمويه والزخرفة فيها ؛ لأن التمويه يزيل مالية النقدين الذين هما قيم الأشياء ، وتضييق النقدين محذور لتضييقه المعايش وإعلائه الأسعار وإفساد المالية ، ولا أمنع من جريان الخلاف أيضا فى سائر المساجد فى القسمين جميعا التمويه والتحلية ؛ لأن القاضى حسين جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل الذهب ونحوها ، وأن حكمها حكم الحلى المباح ، وهذا أرجح مما قاله الرافعى ؛ لأنه ليس على تحريمها دليل ، والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له والأكل والشرب ونحوهما من الاستعمال من أوانيه وليس فى تحلية المسجد بالقناديل الذهب ونحوها شيء من ذلك ، وقد قال الغزالى رحمه‌الله فى الفتاوى : الذى يتبين لى أن من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ولا زكاة فيه عليه ، فلم يثبت فى الذهب إلا تحريمه على ذكور الأمة فيما ينسب إلى الذكور وهذا لا ينسب إلى الذكور ، فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف ، فإن كل ذلك حرام. وليس فيه ما ينسب إلى الذكور حتى يحكم بالتحريم ، ولست أقول هذا عن رأى مجرد ، لكن رأيت فى كلام بعض الأصحاب ما دل على جوازه ، فهذا كلام الغزالى فى الكتابة بالذهب ، وفى ذلك ما ذكرناه من تضييق النقدين لزوال مالية الذهب بالكلية بخلاف التحلية بذهب باق ، فقد ظهر بهذا أن تحلية الكعبة بالذهب والفضة جائز والمنع منه بعيد شاذ

٩٢

غريب فى المذاهب كلها قل من ذكره منهم ولا وجه له ولا دليل يعضده وقد رأيت فى القناديل شيئا آخر فإنه ورد فى الحديث فى أرواح الشهداء تأوى إلى قناديل معلقة بالعرش ولعل من هنا جعلت القناديل فى المساجد وإلا كان يكفى لها مسرجة أو مسارج تنور وكأنها محل النور فلما كان النور مطلوبا فى المساجد للمصلين جعلت فيه.

قلت وأنسب من ذلك أنه يتمسك بما ورد أن الله أنزل إلى آدم عليه‌السلام خيمة من خيام الجنة ووضعها له موضع البيت وكانت تلك الخيمة ياقوتة حمراء من يواقيت الجنة فيها ثلاث قناديل من ذهب من سرج الجنة فيها نور يلتهب من نور الجنة انتهي.

وهذا أنسب مما استدله الإمام السبكى فتأمله.

هذا والذى ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الذهب والحرير : «هذان حرام على ذكور أمتى حل لإناثها» لا يدل على تحريم تعليق القناديل ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشربوا فى آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا فى صحافها ، فإنها لهم فى الدنيا ولكم فى الآخرة» وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم غير الأكل والشرب منها ؛ لأن الحديث إنما اقتضى لفظه ذلك ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة إنما يجرجر فى بطنه نار جهنم» (١) وقاس أكثر العلماء غير الأكل والشرب عليهما والمقتضية لقياس غير الذهب والفضة عليهما ، فمنهم من قال التشبه بالأعاجم ورد عليه بأن هذه العلة تقتضى الكراهة لا التحريم ، واستند من علل بالعلة المذكورة إلى قوله فى الحديث : «فإنها لهم فى الدنيا ولكم فى الآخرة» وتأملت فوجدت هذه العلة ليست بمشروعية التحريم بل هى تسلية للمخاطبين عن منعهم عنها وعلة لانتهائهم بمجازاتهم بها فى الآخرة لتنشط نفوسهم كما يقول القائل : لا تأخذ هذا فى هذا الوقت فإنى أؤخره لك فى وقت أنفع لك من الآن ، فلذلك لم تكن هذه علة التحريم ، ولو كانت علة منصوصة لم يجز تعديها ، وقال بعضهم : العلة السرف والخيلاء ، أو كسر قلوب الفقراء ، أو تضييق النقدين كما قدمنا الإشارة إليه ، وجميع هذه العلل بالنسبة

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب اللباس والزينة.

٩٣

إلى ما يستعمله الشخص كالأكل والشرب أما تحلية المساجد تعظيما لها فليس فيه شيء من هذه العلل وهكذا القناديل من الذهب والفضة ؛ لأن الشخص إذا اتخذها للمسجد لم يقصد استعمالها ولا أن تزين بها هو ولا أحد من جهته والذى حرم اتخاذها على أصح الوجهين ، إنما حرم ذلك لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرم وذلك إذا كانت له ، وأما إذا جعلها للمسجد فلا تدعو النفس إلى استعمال حرام أصلا فكيف تحرم وهى لا تسمى أواني؟

ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد وجعلوها من الأوانى أو مقيسة عليها وليس بصحيح ؛ لأنها ليست أوانى ولا فى معنى الأوانى ، هذا فى الكعبة شرفها الله تعالى أما غيرها من المساجد فلا ينتهى إليها فلا يبعد جريان الخلاف فيه ، والأرجح فيه الجواز كما قاله القاضى حسين ، ولا أقول إنه ينتهى إلى حد القربة ؛ ولهذا استمر الناس على خلافه فى الأكثر هذا ما يتعلق بمذهب الشافعى فى اتخاذها من غير وقف فإن وقف المتخذ من ذلك من القناديل أو الصفائح ونحوها ، فقط قطع القاضى حسين والرافعى بأنه لا زكاة فيه ، فأما قطع القاضى حسين فلا يرد عليه شىء لأنه يقول بإباحتها ومقتضاه صحة وقفها وإذا صح فلا زكاة ، وأما الرافعى فقد رجح تحريمها ، ومقتضاه أنه لا يصح وقفها ، لهذا الغرض وإذا لم يصح وقفها تكون باقية على ملك مالكها ، وتكون زكاتها مبنية على الوجهين فيما إذا لم تكن موقوفة فلعل مراد الرافعى إذا وقفت على قصد صحيح أو وقفت وفرعنا على صحة وقفها ، فإن قلت : قد قال المتولى من الشافعية : لو وقف فهل تجصيص المسجد وتلوينه ونقشه هل يجوز؟ على وجهين : أحدهما ، يجوز لأن فيه تعظيم المسجد وإعزاز الدين ، والثانى : لا ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر أن تزيين المساجد من أشراط الساعة وألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. قلت : أما كونه من أشراط الساعة فلا يدل على التحريم ، وأما كونه ألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فالذى ورد : «لتزخرفنها ثم لا تعمرونها إلا قليلا» فالمذموم عدم العمارة بالعبادة أو الجمع بينه وبين الزخرفة أو الزخرفة الملهية عن الصلاة فى المكروهة ، أما التجصيص ففيه

٩٤

تحسين للمساجد وقد فعله الصحابة رضى الله عنهم ومنهم عثمان فمن بعده ولا شك أن بناء المساجد من أفضل القرب وتحسينها من باب إحسان الأعمال الصالحة فهو صفة القربة وقد رآه المسلمون حسنا ، وقال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» فكل ذلك حسن ، ولا يكره منه إلا ما يشغل خواطر المصلين ، فلا شك أنه يكره كراهة تنزيه لا تحريم ، هذا ما يتعلق بمذهبنا مذهب الشافعي.

وأما الحنفية فعند أبى حنيفة لا بأس بنقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب إذا كان من مال نفسه ، وكذا فى سقف البيوت وتمويهها بماء الذهب ، وكرهه أبو يوسف وعلى قول الحنفية المصحف أولى بالجواز وكذا المسجد ، واختلفت الحنفية هل نقش المسجد قربة أم لا؟ والصحيح أنه ليس بقربة لكنه مباح فالذى تقتضيه قواعد أبى حنيفة أن تحلية المسجد وتعليق قناديل الذهب فيه جائز ، وقال صاحب الكافى : لا بأس ، يدل على أن المستحب غيره ، قال : وأصحابنا جوزوا ذلك ولم يستحسنوه ومراده بأصحابهم الجميع فأبو يوسف ما يخالف فى المسجد وإنما يخالف فى البيوت ، وقال القدورى فى شرح مختصر الكرخى : إن أبا حنيفة رحمه‌الله جوز تمويه السقف بالذهب وإن أبا يوسف كره ذلك ، قال : فعلى قول أبى حنيفة رحمه‌الله المصحف أولى بذلك وكذا المسجد ، وفى الكافى قيل : يكره ، وقيل : هو قربة ؛ لأن العباس زين المسجد الحرام فى الجاهلية والإسلام ، وكسى عمر رضى الله عنه الكعبة ، وبنى داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد القدس من الرخام والمرمر ووضع فيه على رأس القبة كبريتا أحمر يضيء اثنى عشر ميلا وزينة مسجد دمشق شيء عظيم وفى ذلك ترغيب الناس فى الجماعة وتعظيم بيت الله ، وكونه من أشراط الساعة لا يدل على قبحه على أن المراد تزيين المساجد وتضييع الصلوات هذا كلام صاحب الكافى فى الحنفية ، قال : فإن اجتمعت أموال المسجد ، وخاف الضياع بطمع الظلمة فيها فلا بأس به حينئذ يعنى من مال المسجد ، وفى غير هذه الحالة لا يباح من مال المسجد وإنما تباح من مال نفسه ، وفى قنية المنية من كتبهم : لو اشترى من مال المسجد شمعا فى رمضان يضمن ، وهذا محمول على ما إذا لم يكن بشرط الواقف ولا جرت

٩٥

به عادة ، ولكن الوقف وقال السروجى فى الغاية شرح الهداية : ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب وكذا تحلية المصحف بالذهب والفضة ، وقيل : هو قربة ، وفى الجامع الصغير لقاضى خان منهم من استحسن ذلك ومنهم من كرهه ، وذكر فى الزعامة عن أحمد أن المسجد يصان عن الزخرفة ، وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين فى الكعبة ذكر ذلك صاحب الطراز من المالكية ، وأما الحنابلة ففى المغنى من كتبهم لا يجوز تحلية المصحف ولا المحاريب وقناديل الذهب والفضة لأنها بمنزلة الآنية ، وإن وقفها على مسجد ونحوه لم تصح ويكون بمنزلة الصدقة فتكسر وتصرف فى مصلحة المسجد ، وهو مردود ، وأما قولهم : إنها بمنزلة الآنية ، فليس بصحيح لما قدمناه ، وأما قولهم : إنه إذا لم يصح وقفها تكون بمنزلة الصدقة فليس بصحيح ؛ لأن واقفها إنما خرج عنها على أن تكون وقفا دائما وله قصد فى ذلك فإذا لم يصح ينبغى رجوعها إليه.

وأما مذهب مالك رحمه‌الله ففى التهذيب من كتبهم ليس فى حلية السيف والمصحف والخاتم زكاة ، وفى النوادر لابن أبى زيد روى ابن عبد الحكم عن ابن القاسم عن مالك أنه إن كان ما فى السيف والمصحف من الحلية يبقى له فلا زكاة ، وفى كتاب ابن القرطبى يزكى ما حلابه خلا المصحف وسيف وخاتم وحلى النساء وأجزاء من القرآن وذكر غير ذلك ، وقال : فلا زكاة فيه ، ثم قال : وما كان فى جدار من ذهب أو فضة لو تكلف إخراجه أخرج منه بعد أجره من يعمله شيء فليزكه وإن لم يخرج منه شيء إلا قدر أجرة عمله فلا شيء فيه ، وفى النوادر عن مالك لا بأس أن يحل المصحف بالفضة ولقد نهيت عبد الصمد أن يكتب مصحف بالذهب وذكر أنه يباع المصحف وفيه الشيء من الحلى من الفضة والسيف وفيه مثل ذلك ، ولم يزل على هذا بيوع الناس بينهم يبيعونها ويتبايعونها جائزة بينهم ، وقال القرافى فى الذخيرة أما تحلية الكعبة والمساجد والقناديل والعلاليق والصفائح على الأبواب والجدر من الذهب والورق ، فقال سحنون : يزكيه الإمام كل عام كالعين المحتبسة ، وقال أبو الطاهر : وحلية الحلى المحذور كالمعدودة والمباحة فيها ثلاثة أقوال : أحدها : تزكى كالصكوك ، والثانى : كالعرض إذا بيعت وجبت الزكاة حينئذ فيكمل بها النصاب هنا ،

٩٦

والثالث : يتخرج على القول بأن الحلى الجواهر يجعل مكان العين فيكمل بها النصاب هنا ، واعلم أن بين الكعبة والمساجد اشتراكا وافترقا ، أما الاشتراك فلإطلاق المسجد على الكعبة لأنها بيت الله والمساجد بيوت الله ، وأما الافتراق فالمسجد بيت لذكر الله والصلاة فيها والكعبة بيت للصلاة إليها واختلاف العلماء فى الصلاة فيها ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» فالمسجد الحرام الذى تشد الرجال إليه يصح أن يقال إنه الكعبة ويصح أن يقال إنه الذى حولها الذى هو محل الصلاة وفيه مقام إبراهيم ، قال الله تعالي : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى)(١) فالحرم كله شريف ومكة أشرفه ، والحرم المحيط بالكعبة الذى هو مسجد أشرفها والكعبة أشرفه ، وإن كانت ليست محل الصلاة فهى من جهة التعظيم والتبجيل أزيد ، وهو من جهة إقامة الصلاة أزيد ، وتلك الجهة أعظم من هذه فلا جرم كانت فى الحلية بالذهب والفضة أحق فمن المسجد لضعف الخلاف فيها وقوى فيه أعنى فى التحلية التى استمرت الأعصار عليها ، وأما القناديل فالمقصود منها التنوير على المصلين وهم ليسوا داخل الكعبة من هذه الجهة كان المسجد بالقناديل أحق ، لكن فى الكعبة ما ذكرناه من الرجحان فى التعظيم والتبجيل فاعتد لا بالنسبة إلى القناديل فالتسوية بينهما فى القناديل لا بأس به وإلا صح منه على ما اخترناه الجواز وعلى ما قاله الرافعى التحريم ولا دليل له ؛ لأنها لا أوانى ، ولا مشتبهة بالأوانى ولم يرد فيها نهى ولا فيها معنى ما نهى عنه لا فى المساجد ولا فى الكعبة فكان القول بتحريمها فيهما باطلا لما ذكر الرافعى وغيره الكعبة والمساجد أطلقوا ، ولا شك أن أفضل المساجد ثلاثة المسجد الحرام ومسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد بيت المقدس ، ومن يقول بجواز التحلية والقناديل الذهبية فى سائر المساجد فلا شك أنه يقول بهما فى المساجد الثلاثة بطريق الأولى ، ومن يقول بالمنع فى سائر المساجد لم يصرحوا فى المساجد الثلاثة بشىء لكن إطلاقهم محتمل لها ، وعموم كلامهم يشملها ، وكلامى هذا لا يختص بمسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ، بل يعم الثلاثة ؛ لأن الكعبة غير المسجد المحيط بها فصار هو من جملة المساجد المعطوفة عليها ، وينبغى أن يرتب الخلاف فيقال : فى سائر المساجد غير

__________________

(١) البقرة (١٢٥).

٩٧

الثلاثة وجهان : أصحهما الجواز كما قاله القاضى حسين ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز ، والمسجدان مسجد مكة ومسجد المدينة أولى من مسجد بيت المقدس بالجواز ، ثم المسجدان على الخلاف بين مالك وغيره فمالك يقول : المدينة أفضل فيكون أولى بالجواز من مسجد مكة ، وغيره يقول : مكة أفضل ، فقد يقول : إن مسجدها أولى بالجواز ، وقد يقول : إن مسجد المدينة انضاف إليه مجاورة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصد تعظيمه بما فى مسجده من الحلية والقناديل وهذه كلها مباحث والمنقول ما قدمناه فى مذهبنا وبه يتبين أن الفرق الذى ذكره الرافعى رحمه‌الله يستغنى عنه وأنه ليس بصحيح ، وأن قوله : إن ستر الكعبة وتطييبها من القربات صحيح الآن بعد الشرع وأما قبل ذلك فقد قلنا إنه لم يكن واجبا وإن السترة صارت واجبة بعد أن لم تكن ، وأما كونها قربة من الأصل أو صارت قربة ففيه نظر ، وأما الطيب فالظاهر أنه ليس بواجب بل قربة ، والظاهر أنه قربة من الأصل فيها وفى كل المساجد وإن كان فيها أعظم ، هذا ما يتعلق بمذهبنا فى اتخاذها من غير وقف ، فإن وقف المتخذ من ذلك من القناديل أو الصفائح ونحوهما فقد قطع القاضى حسين والرافعى بأنه لا زكاة فيه ، فأما قطع القاضى حسين فلا يرد عليه شيء ؛ لأنه يقول بإباحتها ومقتضاه صحة وقفها وإذا صح وقفها فلا زكاة ، وأما الرافعى رحمه‌الله فقد رجح تحريمها ، ومقتضاه أنه لا يصح وقفها لهذا الفرض وإذا لم يصح وقفها تكون باقية على ملك مالكها وتكون زكاتها مبنية على الوجهين فيما إذا لم تكن موقوفة ، فلعل مراد الرافعى رحمه‌الله إذا وقفت على قصد صحيح أو وقفت وفرعنا على صحة وقفها ، ثم قال السبكى : هذا ما يتعلق بمكة شرفها الله تعالى : فننتقل إلى المدينة الشريفة دار الهجرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فنقول : فيها المسجد والحجرة المعظمة ، أما المسجد فقد ذكرنا حكم المساجد فى التحلية وتعليق القناديل الذهب والفضة فيها وقلنا : إن مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بذلك من سائر المساجد التى لا تشد الرحال إليها ومن مسجد بيت المقدس وإن كانت الرحال تشد إليه ومن مسجد مكة عند مالك رضى الله عنه بلا إشكال ، وقلنا إنه يحتمل أن يقال بأولويته على مذهب من يقول بتفضيل مكة أيضا لما يختص به هذا المسجد الشريف من مجاورة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولذلك كان عمر ابن الخطاب رضى الله عنه يمنع من رفع الصوت فيه ولم يكن يفعل

٩٨

ذلك فى مسجد مكة ، وما ذلك إلا للأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجوب معاملته الآن كما يجب أن يعامل به لما كان بين أظهرنا ، وكانت عائشة رضى الله عنها تسمع الوتد يوتد والمسمار يضرب فى البيوت المطيفة به فتقول : «لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فمن هذا الوجه يستحق التعظمة والتوقير ما لا يستحقه غيره ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة فى مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» فعند مالك رحمه‌الله يكون أفضل من المسجد الحرام بما دون الألف ، وعندنا وعند الحنفية والحنابلة الصلاة فى المسجد الحرام أفضل من الصلاة فى غيره ، واختلفوا إذا وسع عما كان عليه فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غيره ، واختلفوا إذا وسع عما كان عليه فى زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل تثبت هذه الفضيلة أو يختص بالقدر الذى كان فى زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فمن رأى الاختصاص النووى رضى الله عنه للإشارة إليه بقوله : مسجدى هذا ، ورأى جماعة عدم الاختصاص وأنه لو وسع مهما وسع فهو مسجده كما فى مسجد مكة شرفها الله تعالى إذا وسع ، فإن تلك الفضيلة ثابتة له ، وقد قيل : إن مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى حياته سبعون ذراعا فى ستين ذراعا ولم يزد فيه أبو بكر رضى الله عنه شيئا ، وزاد فيه عمر رضى الله عنه ولم يغير صفة بنائه ، ثم زاد فيه عثمان رضى الله عنه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة وهى الجص وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج ، ثم زاد فيه الوليد فى ولاية عمر بن عبد العزيز (١) رضى الله عنه على المدينة ومباشرته وعمل سقفه بالساج وماء الذهب ، وكان الوليد أرسل إلى ملك الروم إنى أريد أن أبنى مسجد نبينا ، فأرسل إليه بأربعين ألف دينار وأربعين روميا وأربعين قبطيا عمالا وشيئا من آلات العمارة ، وعمر بن عبد العزيز رحمه‌الله تعالى أول من عمل محرابا وشرفات فى سنة إحدى وسبعين ، ثم وسعه المهدى ، وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل الذهب فيها أمر معتاد من زمان فلا شك أنها أولى بذلك من غيرها ، والذين ذكروا الخلاف فى المساجد لم يذكروها ولا تعرضوا لها ، كما لم يتعرضوا لمسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكم من عالم وصالح من أقطار الأرض قد أتاها للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار للقناديل الذهب التى هناك فهذا وجه كاف

__________________

(١) أخبار مكة للأزرقى ١ / ٢١٠.

٩٩

فى العلم بالجواز مع الأدلة التى قدمناها عليه مع استقراء الأدلة الشرعية فلم يوجد فيها ما يدل على المنع منه فنحن نقطع بجواز ذلك ، ومن منع أورام إثبات خلاف فيه فليبينه ، والمسجد وإن فضلت الصلاة فيه فالحجرة لها فضل آخر يختص بها يزيد شرفها به ، فحكم أحدهما غير حكم الآخر ، والحجرة الشريفة هى مكان المدفن الشريف فى بيت عائشة رضى الله عنها وما حوله ، ومسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسع وأدخلت حجر نسائه التسع فيه ، وحجرة حفصة رضى الله عنها هى الموضع الذى يقف فيه الناس اليوم للسلام على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت مجاورة لحجرة عائشة رضى الله عنها التى دفن فيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيتها ، وتلك الحجر كلها دخلت فى المسجد ، وأما ما كان غير بيت عائشة رضى الله عنها فكان للنسوة الثمان به اختصاص ولهن فى تلك البيوت حق السكن فى حياتهن ، فيتحمل أن يقال : إن البيوت التسعة كانت للنساء التسع لقوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ)(١) ، ويحتمل أن يقال : إنها للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (بُيُوتَ النَّبِيِ)(٢) وهذا هو الأولى ، ثم بعد هذا هل تكون بعده صدقة ويكون لهن فيها حق السكنى ، أو كيف يكون الحال؟ والظاهر الأول ، ويحتمل أن يقال : إنها لهن بعده ويكون قد دخلت بالشراء والوقف فى المسجد كغيره من الأماكن ، وإن كان الأول فيكون أدخلت فى المسجد إن لم يكن لها حكمة ، وحكم صدقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم جار عليها ومن جملة صدقته انتفاع المسلمين بالصلاة والجلوس فيها هذا كله فى غير المدفن الشريف ، أما المدفن الشريف فلما يشمله حكم المسجد بل هو أشرف من المسجد وأشرف من مسجد مكة وأشرف من كل البقاع كما حكى القاضى عياض رحمه‌الله تعالى الإجماع على ذلك أن الموضع الذى ضم أعضاء النبى ، لا خلاف فى كونه أفضل ، وأنه يستثنى من قول الشافعية والحنفية والحنابلة وغيرهم أن مكة أفضل من المدينة ، ورأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع ، وقال له قاضى القضاة شمس الدين السروجى الحنفى رحمه‌الله : طالعت فى مذهبنا خمسين مصنفا لم أجد فيها تعرضا لذلك وقال لى : ذكر الشيخ عز الدين ابن عبد السلام لنا ولكم أدلة فى تفضيل مكة

__________________

(١) سورة الأحزاب : آية (٣٤).

(٢) سورة الأحزاب : آية (٥٣).

١٠٠