تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

الأساس بمقدار ثلاث أصابع نقصوا منه عرض الجدار عن عرض الأساس الأول وهو القدر المسمى بالشاذروان فقد رده الإمام العلامة الخطيب ابن رشيق بضم الراء وفتح الشين المعجمة كما نقله عنه الدمامينى بأنه لم يأت به حديث صحيح ولا ورد من قول صاحب يصح سنده ولعل ذلك من كلام المؤرخين ، ولو صح هذا لاشتهر ونقل. وقد هدم عبد الله بن الزبير الكعبة هل بلغ بها الأرض وأتمها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟ وكون الحجاج لم يهدم مما بناه ابن الزبير إلا ناحية الحجر لكونه أدخله فى البيت أمر معلوم مقطوع به مجمع عليه منقول بالسنة الصحيحة فى الكتب المعتمدة لا يشك فيه أحد ، فإذا أثبت هذا فكيف يقال إن هذا القدر الظاهر الآن مما نقصته قريش عن عرض الجدار؟ وهل بقى لبناء قريش أثر؟ فالسهو والغلط فيما نقله ابن الصلاح مقطوع به والعصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والمنقول أن ابن الزبير لما هدم الكعبة وألصقها كلها بالأرض من جوانبها جميعا وظهرت أسسها وأشهد الناس عليها قال لهم ابن الزبير : «اشهدوا» ، ثم وضع البناء على الأساس وهذا الاسم الحادث أعنى الشاذروان اسم حادث على شئ صنع ليصان به الجدار خيفة إجحاف السيول ، وقد نص ابن تيمية على إنه ليس من البيت بل جعل عمادا للبيت ، ومما يؤيد ذلك أن داخل الحجر تحت حائط الكعبة شاذروان فيكون هذا الشاذروان ، نظيرا للشاذروان الذى هو خارج البيت ولم يقل أحد إن هذا له حكم الشاذروان ، فكون هذا الشاذروان مراعا فى الطواف لا دليل عليه ، ولو صح ما قاله الشافعية فى الشاذروان لنبه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحابة على ذلك لكونه مما تمس الحاجة إليه بقول أو فعل ولنقل ذلك مع توافر الدواعى على النقل ، ومثل هذا لا يثبت إلا بالإجماع الصحيح المتواتر النقل ، وكيف يمكن أن يغيب ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم فلا يتنبه أحد له مع تكرر الحج فى كل عام؟ إن هذا لمن الأمر البعيد الذى لا تسكن إليه نفس عاقل ، والمنصف لا يحتاج إلى مزيد البيان ، فقد انعقد الإجماع على أن البيت متمم على قواعد الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة الركنين اليمانيين ولذلك استلمهما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون الآخرين ؛ وأن ابن الزبير لما نقضه وبناه إنما زاد فيه من جهة الحجر وأقامه على الأسس الظاهرة التى عاينها العدول من الصحابة وكبراء التابعين ؛ ولذلك وقع الاتفاق على أن الحجاج لما نقض البيت بأمر عبد الملك لم ينقض إلا جهة الحجر

٢١

خاصة وأقام قوسا داخل الكعبة إلى ما كان عليه من الارتفاع ، وأغلق الباب الغربى وهو باق مسدود ، وترك الحجاج ما زاده ابن الزبير من ارتفاع البيت على حاله ، وليس للشاذروان فى هذا العمل كله ذكر ، ويدل على ذلك أن ابن الصباغ (١) الشافعى احتج على أبى حنيفة حيث قال فى الركن اليمانى : لا يستلم لأنه لا يقبل ولا يستلم الركنين الآخرين ، فقال ابن الصباغ : أما قياسه على الركنين الآخرين فى الجواب أن الركن اليمانى على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام بخلاف الركن الآخر فإنه لم يبن على قواعد إبراهيم ، فافترقا. فانظر كيف أمر ابن الصباغ فى التفرقة بين اليمانيين وغيرهما أن اليمانيين على قواعد إبراهيم فلو كان الشاذروان من البيت لكان الركن الذى فيه الحجر الأسود داخلا فى البيت ولم يكن مبنيا على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر أن الركن الذى فيه الحجر الأسود اختص بشيئين الاستلام والتقبيل للفضيلتين وأما اليمانى فيستلم ولا يقبل ؛ لأن فيه فضيلة واحدة وهو كونه على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما الركنان الآخران فلا يقبلان ولا يستلمان. وهذا النووى مصرح بأن اليمانيين متممان على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن أين نشأ الشاذروان؟ فما الحق فى هذه المسئلة على كلام الإمام الشافعى مع لزوم ذلك؟ وهل كان بناء الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمونه لجميعه أو لبعضه أولا؟ وهل كان بناء قريش كله بالحجر أو بعضه بالخشب الساج والبعض بالحجر؟ وهل يجب إعادة ما صلح من أحجاره وأخشابه؟ وما لم يصلح منه ما حكمه؟ وهل إذا احتاج البناء إلى حجر جديد أو خشب يكفى فيه أى حجر وأى خشب أو يتعين أن يكون فى الجبال الخمسة التي بنى منها الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو مما بنت منه قريش وابن الزبير رضى الله عنهما؟ وهل تنصبا عمدة وينصب عليها الستور حال البناء ليتمكن من الطواف بها والصلاة إليها وقت البناء وتكون العملة من داخل الستر أو من خارجه؟ وهل ينبغى قلة الكلام من العملة ومشيهم فى البيت ويجب احترامهم له؟ ومن المخاطب ببنائه وإصلاح (٢) ما وهى منه؟ هل هو الإمام الأعظم ومن أنابه عنه فى ذلك

__________________

(١) انظر كتاب تحصيل المرام بأخبار البيت الحرام ـ مخطوط ـ مكتبة الحرم لوحة رقم ٤.

(٢) للشيخ ابن حجر الهيثمى رسالة فى هذا الموضوع «المناهل العذبة فى إصلاح ما وهى من الكعبة» بمكتبة مكة المكرمة.

٢٢

أو جميع المسلمين ويسقط بفعل بعضهم فيكون من فروض الكفاية؟ وهل يتعين فى مصروف عمارته مال مخصوص أو مرجعه بيت مال المسلمين؟ وهل يجوز بيع شىء من قناديله وحليه وصرفه فى العمارة أو رهنه لذلك أو لا؟ وهل ما فيه من القناديل يجب إدامة تعليقها به ويحرم تنزيلها وكذا قناديل الحجرة الشريفة أو لا؟ وما المراد بكنزه؟ وهل يدخل فيه كسوته وقناديله وحليه أو لا؟ وهل يجوز إحداث زخرفة وترخيم وتغيير فى بعض أجزائه كعتبته وبابه وميزابه من غير ضرورة تدعو لذلك ما عدا قصد التعظيم أولا؟ وهل كسوته بالحرير من داخله وخارجه جائزة من غير خلاف أو فيه خلاف؟ وهل كان الواجب كسوته فى الأصل أوجبت بعد ذلك؟ ومع القول بوجوبها بعد ذلك هل كانت كسوته قربة فى الأصل أو إنما صارت قربة بعد ورود الشرع أو ليس بواجب مطلقا؟ وهل إذا قلنا بعدم وجوبه مطلقا يكون قربة بعد ورود الشرع أو فى الأصل؟ وهل كسى البيت زمن الخليل وولده إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لا؟ ومن الكاسى له أولا ومن أى جهة كان يكسى قبل أن يوقف على كسوته شئ ومن الواقف عليها أولا؟ وما الحكم فى كسوته إذا غيرت من يأخذها؟ وهل يجوز أخذ شئ من طيبه أو شمعه أو زيته للتبرك أو لا؟ وهل يجوز لسدنة البيت أخذ أجرة من أحد على إدخاله البيت الشريف أو أخذ شئ من قناديله أو حليه إذا دعت الحاجة لذلك أو لا؟ وهل تصفيح البيت الشريف بالذهب والفضة المموه جائز من غير خلاف أو فى ذلك خلاف؟ وهل حكم المسجد الشريف الذى حول الكعبة فى التحلية تعليق والقناديل ونحوه وكذا مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسجد بيت المقدس حكم الكعبة فى جميع ذلك؟ والخلاف متحد أو لا؟ وما حكم باقى المساجد؟ وكيف هذا مع ما ورد من أن زخرفة المساجد من أشراط الساعة؟ وهل يجوز تعمد هدم ما بناه الحجاج فى البيت وإن لم يظهر به خلل لكونه لم يوضع بحق لمخالفته الحديث الشريف الذى تمسك به ابن الزبير رضى الله عنهما ، وحدثته به أم المؤمنين خالته عائشة رضى الله عنها ، وشهد له بسماعه منها الحارث لما وفد على عبد الملك فى خلافته وكان الحارث مصدقا لا يكذب؟

٢٣

وأن عبد الملك ندم على ما فعله حين شهد عنه الحارث بذلك ، وكذا لو انهدم الجانب الذى بناه الحجاج من غير صنع صانع كما فى هذه الحادثة فهل يتعين عوده لما كان عليه زمن الحجاج أو لما كان عليه زمن ابن الزبير رضى الله عنهما؟ ومن المصيب منهما هل هو سيدنا عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما أو الحجاج؟ فإن سيدنا عبد الله ابن الزبير رضى الله عنهما تمسك بالحديث الذى روته له عائشة رضى الله عنها فالحجر عنده من البيت الشريف ؛ ولهذا لا يصح عند الشافعى الطواف فيه ؛ لأن الطواف إنما هو بالبيت والطائف بالحجر طائف فى البيت لا بالبيت ، ومع هذا فقياس صحة إدخاله فى البيت ، وعدم صحة الطواف فيه أنه لو أدخل فى البيت أن يصح استقباله فى الصلاة على مذهب الشافعى مع أن الشافعى جعل للحجر حكم البيت فى عدم صحة الطواف فيه ولم يجعل له حكم البيت فى صحة استقباله فى الصلاة ، وحينئذ فما الفرق؟ وقضية مذهب الشافعى امتناع بناء البيت على ما بناه ابن الزبير من إدخال الحجر لما يلزم فى صحة الاستقبال له كما تقدم مع أنه لا يصح استقباله عنه ، ثم إن المنقول فى تاريخ الأزرقى (١) والفاسى (٢) أن الخليل جعل الحجر بكسر الحاء إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز ، وكان زربا لغنم إسماعيل ، ومقتضى ذلك أن الحجر بالكسر لم يكن داخلا فى الكعبة زمن الخليل فكيف هذا مع حديث عائشة رضى الله عنها ومع ما ذكره الشامى من أن الخليل أدخل الحجر وهو سبعة أذرع فى البيت وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل ، وأما شبهة الحجاج ومن وافقه فهى أن بناء قريش أقرّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعده من الخلفاء فلا يغير ، وإذا قلتم بأن الحجاج غير مصيب وأن الحق مع ابن الزبير رضى الله عنهما فى إدخاله القدر المختلف فيه من الحجر فى البيت الشريف ، فكيف أقر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل قريش الذى اقتدى به الحجاج مع أنه يلزم عليه التغيير فى بيت الله من جهة فتح باب فى علو جدار الكعبة وسد باب آخر و

__________________

(١) انظر أخبار مكة ١ / ٦٤

(٢) انظر شفاء الغرام ١ / ٦٠

٢٤

تغيير معالمها التي كانت عليه زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وهم وإن لم يكونوا مكلفين إذ ذاك بشرع لكن أقرهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك وكذا الخلفاء رضى الله عنهم مع أنه يلزم عليه أن يكون الاستطراق من ذلك الباب المفتوح من جدار الكعبة حراما ، حيث كان الفتح حراما ، وكذا الدخول فى أحد فتحتى الحجر ، وقد دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء من ذلك الباب الذى فى جدار الكعبة وأما دخوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحجر فهل ورد به حديث أولا؟ فإن الإمام (١) السبكى مع سعة اطلاعه قال فى رسالته منع الاستطراق من الباب والمستحق الإغلاق أنه لا يدرى هل دخله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لا؟ ومن جهة إخراج جانب من البيت وهو المقدار المختلف فيه الداخل فى الحجر ويلزم من إخراجه إفساد طواف من طاف من داخله ، وهل الحجر بسكون الجيم كان الداخل منه زمن الخليل فى البيت هذا المقدار من الأذرع الستة أو نحوها؟ والباقى كيف كان؟ هل كان فى المسجد أو كان له حكم آخر فى زمن الخليل وإسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وهل الجدار المميز للحجر من المسجد أحدثه أو لا هل هو سيدنا عمر رضى الله عنه كما أنه أول من عمل جدارا للمسجد الذى حول الكعبة أو قريش فعلت ذلك قبل الإسلام؟ وهل أساس الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم من داخل ذلك الجدار أو الجدار محاذيه؟ ومع هذا فقد نقل غير واحد أن قبر سيدنا إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر فى البلاطة الخضراء وذلك من رأسها إلى ناحية الركن الغربى مما يلى بنى سهم ستة أشبار فعند انتهائها يكون رأس إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما نص عليه عالم الحجاز المحب الطبرى ، وذكر الإمام الشامى من حديث أبى جهم أن إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى بمكة فدفن بالحجر مما يلى الكعبة وهناك قبر أمه هاجر دفن معها وكانت توفيت قبله ، ثم ذكر عن ابن الزبير رضى الله عنهما أنه لما كشف عن أساس إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده داخلا فى الحجر ستة أذرع وشيئا ، وأصاب قبرا فقال : «هذا قبر أم إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فاقتصر على الإخبار بأنه قبر أم إسماعيل ولم يقل : «قبر إسماعيل» مع أفضليته ، ونقل بعضهم أن قبر إسماعيل بالحطيم فما الأصح من ذلك؟ وهل المراد بالحطيم الحجر؟ وهل المراد أنهما مدفونان فى المقدار الذى كان داخلا فى البيت زمن

__________________

(١) انظر القول فى رسالة ابن حجر الهيثمى «المناهل القوية» ، لوحة ٦.

٢٥

الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فإن كان كذلك فكيف يقبر فى الكعبة الشريفة سيدنا إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه مات بعد بنائها وأما أمه هاجر فقد ماتت قبل بناء الكعبة؟ فإن أجيب بأن من خواص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أنهم يدفنون حيث يموتون وسيدنا إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ساكنا بالحجر كما فى حديث أبى جهمة أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سار بهاجر وولدها إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة انتهى إلى موضع البيت فعمد إلى موضع الحجر فأوى فيه هاجر وإسماعيل وأمرها أن تتخذ عريشا فى موضع الحجر من سمر وثمام ألقته عليه قال الشامى : «ولا يخالف ذلك» ما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما من أن إبراهيم (١) عليه‌السلام جاء بهاجر وبابنها إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى ترضعه حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم فى أعلى المسجد خلافا لما زعمه فى شفاء الغرام لاحتمال أن يكون إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلهما أولا عند الدوحة ثم نقلهما إلى موضع الحجر أو بالعكس والله تعالى أعلم انتهى. فكيف حكم الصلاة فى ذلك المحل مع كراهة الصلاة فى المقابر؟ وكيف طمس قبر سيدنا إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وكذا يقال فى أمر سيدنا عمر رضى الله عنه حيث أمر بطمس قبر سيدنا دانيال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ظهر فى زمان خلافته؟ وقد روى الإمام (٢) أحمد أن ما بين المقام إلى الركن إلى بئر زمزم إلى الحجر قبر سبعة وسبعين نبيا جاءوا حاجين فماتوا فقبروا هنالك ، وقد روى الطبرانى فى معجمه عن ابن عمر رضى الله عنهما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : «فى مسجد الخيف قبر سبعين نبيا» ، وروى أنه ما من نبى خرج بعد عذاب قومه إلا إلى مكة ودفن بها وإن بها ثلاثين ألفا من الأنبياء ، وقد (٤) نقل غير واحد أنه لم يعلم قبر نبى بيقين إلا قبر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط وبعضهم يزيد الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن أين علم أن قبر سيدنا إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر مع لزوم ذلك الوضع؟ وهل كان البيت الشريف زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدورا أو مربعا؟ وهل للمسجد المحيط بالكعبة حد معين زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأساس كان أسسه أو لا؟ وهل كانت عند البيت الشريف

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ٢٦٤.

(٢) انظر شفاء الغرام ١ / ٢٦٤.

(٣) انظر شفاء الغرام ١ / ٢٦٤.

( * ) أخبار مكة ٢ / ١٠٢.

٢٦

زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيوت مبنية أو لا؟ ومن بنى عنده دارا أو لا؟ وهل كانت الدور التى بنيت عنده ملاصقة له أو منفصلة عنه مدورة أو مربعة مرفوعة عليه فى البناء أو لا؟ وهل يحرم تعلية بناء عليه أو لا؟ وهل كان المسجد الشريف المحيط بالكعبة زمن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعده من الخلفاء محوطا مسقفا أو لا؟ ومن فعل له جدارا أو سقفا بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وكيف كان سعة المسجد زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ هل كان على ما أسس عليه الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أنقص؟ وكيف أدخل فيه المهدى العباسى جانبا من المسعى وحوّل المسعى إلى غيره على ما نقله الأزرقى (١) وغيره من كيفية فعله زمنه مع أن السعى بين الصفا والمروة من الأمور التعبدية التى أوجبها الله تعالى فى ذلك المكان المخصوص ولا يجوز لنا العدول عنه؟ وكيف يصير ذلك مسجدا يصح الاعتكاف فيه؟ وكيف أقره العلماء على ذلك فى زمن المهدى مع جلالتهم عنده؟ وهل صح أن سيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنه ولد بداخل الكعبة أو لا؟ وهل ولد بها أحد غيره أو لا؟ وهل يمتنع سكنى هذه البيوت التى بالحرم المجاورة للمسجد الشريف المفتوح لها أبواب فى سور المسجد ليتوصل منها إلى المسجد الشريف وإلى سطحه لحرمة فتح تلك الأبواب فى سور المسجد فيحرم الاستطراق أيضا منها أو يجوز سكناها مع حرمة الاستطراق وإن دعت لذلك حاجة ليلا؟ أو يفرق بين كون الجدار عريضا بحيث يحتاج إلى وضع القدم؟ وهل إحداث هذا البناء فى مصلى الأئمة جائر أو حرام ومن أحدثه؟ وهل يجوز أخذ الأجرة على سكنى دور مكة وما حكمها؟

المبحث الثانى

فى أن محل البيت هل خلق قبل السماء والأرض أو لا؟ وما السابق فى الخلق بعد ذلك هل هو السماء والأرض أو شئ آخر؟ وما الجواب عن الآيات المختلفة الدلالة على ذلك؟ وهل محل البيت فى وسط الأرض وأنها دحيت من تحته أو لا؟ وهل علو مكة من الأرض إلى السماء خمسمائة عام كسائر الأرض إلى السماء أم مكة أعلى؟ وهل تجاه الكعبة باب من السماء أو لا؟ وهل

__________________

(١) ج / ١ شفاء الغرام ص ٢٢٤

٢٧

السماء أفضل من الأرض التى بنى فيها البيت هل هى خمسة أو عشرة أو أحد عشر؟ وهل بناء الملائكة كان قبل بناء آدم أو بعده؟ وهل كان بناؤهم لجميعه أساسا وعلوا أو أساسا فقط ، وأما العلو فكان خيمة أنزلت ووضعت على أساسه وكانوا يطوفون بها ثم رفعت قبل هبوط آدم؟ وكذا سيدنا آدم هل بنى أساسه فقط إما تجديدا لبناء الملائكة أو إنشاء ولم يبن فى العلو شيئا وإنما أنزل الله عليه خيمة وضعت على الأساس بمقداره؟ وهل طولها كان على طول البيت زمن الخليل أو أزيد؟ وهل كان بها قناديل أو لا؟ وهل هذه الخيمة هى البيت المعمور أو غيره؟ أو الواقع أن آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع له بين البناء للأساس أو عليه ونزول الخيمة أو البيت المعمور ووضع ذلك قريبا من بنائه ليدوم أنسه بذلك ، وكان يطوف بهما إلى أن رفع البيت المعمور أو الخيمة؟ ومتى رفع ذلك هل بعد موته أو عند الطوفان؟ فإن الروايات مختلفة ففى بعضها أنها بقيت إلى زمن الطوفان وفى بعضها أنها رفعت بعد موتة ، فعلى رواية أنها استمرت إلى زمن الطوفان كيف يتأتى القول بأن ولده سيدنا شيث صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر البيت؟ وهل تمسك من ذهب إلى ان البيت بني قبل الخليل بقوله تعالى:

(واذ بوأثا لإبراهيم مكان البيت) (١) صحيح أو لا؟ وهل ما عدا بناء الخليل صلى الله عليه واله كان تجديدا او ترميماً أو البعض تجديداً كيناه قريش وابن الزبير والباقي ترميماً واصلاحاً؟ وهل الكعبة أفضل من المؤمن أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : (حرمة المؤمن أعظم عندالله حرمة منك (٢)؟ وهل كانت الكعبة قبلة لجميع الانبياء يصلون اليها في اي محل كانوا به او لم تكن قبلة لاحد منهم ما عدا سيدنا ابراهيم عليه السلام؟ وحينئذ فهل كان يصلي اليها وهو في بيت المقدس أيضاً وفي اي محل كان به او لا يصلي اليها الا اذا كان عندها؟ واما اذا لم يكن عندها فيكون له قبلة غيرها؟ وهل كان الانبياء يصلون في بيعهم وكنائهم او لا لقوله صلى الله عليه واله. (جعلت لي الارض مسجداً) الحديث؟

__________________

(١) سورة الحج أية (٢٦).

(٢) الترمذي : ٧/١٨٦.

٢٨

وهل جميع الأنبياء حجوا إليها أو تخلف البعض؟ وهل ثبت أن سيدنا موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج على ثور أو لا؟.

المبحث الثالث فى فضل الحجر الأسود

والمقام وما ورد فى شأنهما وما جرى عليهما من الحوادث السابقة وما يؤول إليه أمرهما فى الآخر ، وهل تسميته بالأسود وردت فى حديث؟ وهل ثبت له هذا الاسم زمن الخليل أو بعد أن اسوّد ، وهل المقام فى محله الآن الذى كان فيه زمن الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لا؟ فإن الإمام الشافعى ذكر فى سيرته أنه كان لاصقا بالبيت عن يمين الداخل فهل هو صحيح أو لا؟ ولشرع فى المقصود متوكلا على الحق المعبود فنقول : أما الجواب عن السؤال الأول من المبحث الأول وهو هل حفظ محل البيت الشريف من دخول الطوفان إلخ؟ فهو أنه قد ذكر ابن هشام (١) فى سيرته أن الماء لم يعل البيت المعظم زمن الطوفان ولكنه قام حوله وبقى هو فى هواء السماء ، وأن نوحا قال لأهل السفينة وهى تطوف بالبيت : إنكم فى حرم الله وحول بيته فأحرموا لله ولا يمسك أحدا امرأة ، وجعل بينهم وبين النساء حاجزا فتعدى حام فدعى نوح عليه أن يسود لون بنيه ، وذكر يحيى بن سلام عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : أول من عاذ بالكعبة حوت صغير من حوت كبير فعاذ منه بالكعبة وذلك فى أيام الطوفان وذكر صاحب الكشاف (٢) فى صورة إبراهيم عند قوله تعالى : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ما نصه : «أو لأنه حرم على الطوفان» أى : منع منه ، كما يسمى عتيقا لأنه أعتق منه فلم يستول عليه انتهى. فقول الكشاف : «فلم يستول عليه» محتمل لما قاله ابن هشام من أن المراد بالبيت البناء لا الخيمة ، وأنه بقى هو فى هواء السماء من غير أن يرفع البناء إلى السماء ، وأنه قام الطوفان حوله فيكون مراده أنه لم يستول على محله مع بقائه فى الهواء ، ثم المراد ببقائه فى هواء السماء أنه لم يزل مستقرا فى محله من غير أن يمسه الماء فيكون فى فضاء لجهة السماء لا فى ماء الطوفان ، لكن يبعد ما قاله ابن هشام من بقاء بناء البيت زمن الطوفان على الوجه المذكور ، وكان موضعه أكمة حمراء لا يعلو السيول

__________________

(١) السيرة ١ / ١٠٧

(٢) التفسير ـ للزمخشرى ١ / ١٢٠

٢٩

غير أن الناس كانوا يعلمون أن موضع البيت فيما هنالك من غير يقين محله ، وكانوا يحجون إلى موضعه حتى بوأه الله لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المرفوع هو البناء إلى السماء وأنه البيت المعمور كما يأتى وهذا كله ظاهر على القول فإن سيدنا آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بنى البيت ، وأما على القول بأنه لم يبنه وإنما أنزل عليه خيمة ثم رفعت زمن الطوفان إلى السماء فلا ضرورة لحمل عبارة الكشاف (١) فى سورة إبراهيم على ما قاله ابن هشام حينئذ ، بل تحمل على أنه الخيمة وأن موضعه منع منه الطوفان فاعتقد منه بأن رفعت الخيمة إلى السماء ولم يستول الطوفان على محلها أيضا. والذى يدل على مراد الكشاف فى سورة إبراهيم هذا المعنى اقتصاره فى سورة البقرة عليه حيث قال فى تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) الآية روى أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمردة شرقى وغربى وقال لآدم عليه‌السلام : أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشى ، فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا : بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام ، وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور انتهى.

وهذا أحد الأقوال فى البيت المعمور ، وقيل : إن البيت المعمور هو البيت الذى بناه آدم أول ما نزل إلى الأرض ـ كما سيأتى فى الكلام على البيت المعمور ـ ثم رفع إلى السماء أيام الطوفان ، وتسميه الملائكة الضراح ؛ لأنه ضرح عن الأرض إلى السماء بمعنى أبعد ، وقد نسب هذا القول للزمخشرى الشيخ ابن حجر فى رسالته ، ولعل الزمخشرى قاله فى غير الكشاف ، فأنا لم نطلع على أنه قال ذلك فى الكشاف ، وإذا صح ذلك فالمرفوع نفس البناء أيضا. وفى تاريخ النويرى (٢) فى قصة نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الطوفان لما عم الأرض أمر الله الملائكة أن يحتملوا البيت إلى السماء الدنيا وكان الحجر الأسود يومئذ أشد بياضا من الثلج ، فيقال إنه اسود من خوف الطوفان انتهى. فاستفيد منه وقت

__________________

(١) ٢ / ١٥٠.

(٢) ج / ١ شفاء الغرام ١ / ١٦٩.

٣٠

مبتدأ اسوداد الحجر وإن العلة خوف الطوفان ، لكن فى كون العلة ذلك لا يناسب ما فى الحديث من قوله إنما سوده خطايا بنى آدم ، ثم رأيت بعض المصنفين من العلماء من أرباب الولاية ذكر أن القاضى اعترض هذا القول بأن موضع التشريف هو تلك الجهة المعنية والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة ـ والعياذ بالله ـ لو انهدمت ونقلت أحجارها وأخشابها وترابها إلى موضع آخر لم يكن لها شرف البتة ويكون شرف تلك الجهة باقيا بعد الانهدام ويجب على كل مسلم أن يصلى إلى تلك الجهة بعينها ، وإذا كان كذلك فلا فائدة فى نقل تلك الجدران إلى السماء ، ولقائل أن يقول : لما صارت تلك الأحجار ونحوها منسوبة لتلك الجهة اكتسبت منها مزيد الشرف فلهذا نقلت بأمر الله تعالى إلى السماء زمن الطوفان ، وحينئذ فنقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على نهاية تعظيم تلك الجهة بحيث ينقل إلى السماء ما كان مستقرا بها ألا ترى أن بناءها يزف يوم القيامة إلى الجنة ويكون بها هذا كله محصل كلام هذا المصنف ، ولم أدر مراده بالقاضى الذى نسب له هذا الاعتراض وأجاب عنه ، هل هو القاضى البيضاوى فى تفسيره أو فى بعض كتبه ، أو القاضى عياض؟ ومع هذا فلم نقف على ذلك فى كلام القاضى البيضاوى (١) فى تفسير سورة آل عمران عند الكلام على قوله تعالى : «إن أول بيت وضع للناس» الآية بعد حكاية بعض الأقوال ، وقيل : كان فى موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح تطوف به الملائكة فلما أهبط آدم أمر بأن يحجه ويطوف حوله ، ورفع فى الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به ملائكة السموات ، وهو لا يلائم ظاهر الآية ، انتهى كلام القاضى البيضاوى. فقوله : «وقيل كان فى موضعه قبل آدم بيت» قال المحسن شيخ الإسلام زكريا الأنصارى ـ نفعنا الله ببركاته ـ بنته الملائكة ، وقوله : «وهو لا يلائم ظاهر الآية» ، قال شيخ الإسلام المذكور : أى القول بأنه قبله بموضعه بيت فرفع إلى السماء لا يلائم ظاهر الآية. كما لا يخفى مع أن موضع التشريف هو تلك الجهة المعينة والجهة لا يمكن رفعها انتهى.

فأنت تراه إنما اعترض القول بأنه كان بموضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح ، وأنه استمر حتى حجه آدم ودام إلى أن رفع زمان الطوفان ، وكلام القاضى

__________________

(١) انظر تفسيره ١ / ٣٢٠.

٣١

مجمل فعين شيخ الإسلام أن ذلك البيت بنته الملائكة ، وأنه هو المرفوع زمن الطوفان ، وذكر أن وجه عدم ملائمة هذا القول لظاهر الآية ظاهر ، وزاد أن موضع التشريف هو تلك الجهة المعينة والجهة لا يمكن رفعها ، وهذا من تصرفات شيخ الإسلام ، وحمل لعبارة القاضى بما لا يتعين أنه مراده لجواز أن يكون كلامه محمولا على الخيمة التي كانت قبل آدم يطوف بها الملائكة ، وأن وجه عدم ملائمة ذلك لظاهر الآية إما لما قاله القصام فى حواشى القاضى من أنه لم يكن حينئذ وضع للناس بل للملائكة ، وإنما قال : «ظاهر الآية» لأنه يمكن تصحيحه بأنه أيضا للناس إلا أنه تتبرك به الملائكة قبل آدم ولم يكن وضعه لهم انتهى. أو لما قاله الكازرونى من أنه يدل حينئذ على أن الذى ببكة هو أول بيت وضع للناس هو الضراح الذى رفع فى زمن الطوفان انتهى. فتأمل.

ثم رأيت فى كلام بعض المحققين من شراح الحديث أنه روى أن الله أوحى إلى آدم عليه‌السلام : «إنى أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشى» فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا : «برّ حجك يا آدم ، فقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام» يعنى فى السماء انتهى. فهذا تأويل يمنع من حج الملائكة لما أهبط إلى آدم فى الأرض قبل وجود آدم وأنهم حجوه قبله فى السماء ، وهذا يقتضى عدم هبوط بيت لهم فى الأرض قبل آدم وعدم بنائهم له قبله أيضا فيكون أول هبوط ذلك البيت زمن آدم لا قبله فيلائم ظاهر الآية عن قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) ثم اعلم أنه لا يشكل على ما تقدم من أن الطوفان لم يستول على البيت الشريف ولا على محله ما ذكره العلماء من أن طينة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سرة الأرض بمكة يعنى الكعبة ، وأنه لما خاطب الله السموات والأرض بقوله : «ائتيا طوعا أو كرها» أجاب من الأرض موضع الكعبة ومن السماء ما يحاذيها ، وأن المجيب من الأرض ذرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن الكعبة دحيت الأرض ولم يكن مدفنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ؛ لأنه لما تموج ماء الطوفان رمى الزبد إلى النواحى فوقعت جوهرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ما يحاذى تربته بالمدينة واستقرت بها ، فإن ظاهر هذا الكلام أن الطوفان دخل الكعبة وأخذ منها ذرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألقاها بمحل قبره الشريف ؛ لأنا نمنع ذلك لجواز أن ذرته الشريفة حملتها

٣٢

الرياح وألقتها فى ماء الطوفان الذى حول البيت ثم تموج الماء بها إلى أن جاء إلى محل القبر الشريف ، وحينئذ فلعل الفرق بين الطوفان والسيول أن الطوفان كان عذابا بخلاف السيول التى تقع جهة البيت الشريف لما سيأتى من أنها علامة على الخصب للجانب الذى تحصل فيه حتى لوعم جوانبه كان الخصب عاما لتلك الجهات كلها ، ولكن تبقى الحكمة فى عدم استيلاء السيول على محله فيما بين زمن نوح وإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع استيلائها على بنائه فى هذا الزمن وهل الحكمة فى ذلك الوفاء بما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من انهدامه بعده مرتين ورفعه فى الثالثة؟ ولم يكن ليهدمه المسلمون فسلط الله عليه السيل ليهدمه تصديقا لهذا الخبر الصادق واتعاظا لهذه الأمة وتنسيبها لها ليزدادوا من الاستمتاع به ؛ لأنه على جناح مسافر لقرب الساعة ووقوع بعض أشراطها ، ثم فى دعاء سيدنا نوح صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ولده حام الذى تعدى فى الحرم بسواد لون بنيه تنبيه على أن معصية الآباء ولو كانوا ممن لا يعقل ، يضر الأبناء وطاعتهم تنفع الذرية ، ونظير ذلك ما ذكره الزركشى فى حمام الحرم أنه احترم لبيض أصله على نسج العنكبوت ؛ فلذلك احترم حمام الحرم وهو من جنس قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً)(١) قيل : جدهما السابع فحفظ الأعقاب رعاية للأسلاف وإن طالت الأحقاب ، وضد هذا ما أمر به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قتل الوزغ لما قيل : إنها كانت تنفخ النار على إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأما الجواب ما ذكره الزركشى وابن عطية (٢) من عدم دخول سيل الحل فى الحرم فقد ذكره العلامة المؤرخ الفاسى (٣) عن الأزرقى ما يخالف كلام الزركشى فإنه قال : ذكر الأزرقى (٤)(٥) للحرم علامة ؛ لأنه قال : «وكل واد فى الحرم فهو يسيل فى الحل ولا يسيل واد من الحل فى الحرم إلا فى موضع واحد عند التنعيم عند بيوت نفاد». انتهى.

__________________

(١) سورة الكهف آية (٨٢).

(٢) تفسير ابن عطية ٣ / ١٤٠

(٣) شفاء الغرام ٢ / ٥٠

(٤) أخبار مكة ٢ / ٧٠

(٤) شفاء الغرام ج / ١ ص ٥٤

٣٣

وذكر الفاكهى ما يقتضى أن سيل الحل يدخل إلى الحرم من عدة مواضع ؛ لأنه قال : «ذكر ما يسكب من أودية الحل إلى الحرم» وبين هذه المواضع وذكرنا ذلك فى أصل هذا الكتاب ، انتهى كلام الفاسى. ثم اعترض ما ذكره جده من الأبيات التى فى تحديد الحرم ومن جملتها.

ومن يمن سبع بتقديم سينها

كذلك سيل الحل لم يعد بنيانه

قال : وهذه الفائدة ذكرها غير واحد من العلماء إلا أنها معترضة بما ذكره الأزرقى من أن سيل الحل يدخل الحرم من جهة التنعيم فقط ، وقد سبق كلام الأزرقى فى هذا المعنى ويعارضها أيضا ما سبق عن الفاكهى والله أعلم انتهى كلامه وقال الفاضل السمين فى تفسير قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أن من جملة الآيات حمايته من السيول ، ولعل المراد بالسيول سيول الحل لا مطلقا فإن السيول دخلته فتأمل اسمى هذا.

وفى تعليل ابن عطية (١) منع دخول سيل الحل فى الحرم بأنه ربوة وفى حكمها ليكون أصون له نظر ؛ إذ مقتضاه أن أرض الحرم أرفع من أرض الحل ؛ فلهذا لا يدخلها الماء ، وقد روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : «لو لا الهجرة لسكنت مكة ، إنى لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة ، ولم يطمئن قلبى ببلد قط ما اطمأن بمكة ، ولم أر القمر بمكان قط أحسن منه بمكة» أخرجه (٢) الأزرقى. وهذا لا يدل صريحا على أن أرض الحرم أعلى من أرض الحل وإنما يدل على أن مكة بتمامها أقرب إلى السماء من باقى الأرض ، ومع هذا فرواية عائشة ـ رضى الله عنها ـ يعارضها ما ذكره كعب الأحبار ـ رضى الله عنه ـ فى قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أنه ينادى من بيت المقدس من الصخرة وهى أوسط الأرض وهى أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا انتهى.

ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال : إن فى كلام كعب هذا نظر ، أو لم يبينه ولعل وجهه رواية عائشة ـ رضى الله عنها ـ المتقدمة الدالة على أن مكة أرفع إلى جهة السماء من غيرها ، ثم رأيت فى كتاب إعلام الساجد (٣) بأحكام المساجد

__________________

(١) شفاء الغرام ١ / ٥٤

(٢) أخبار مكة ٢ / ١٠٢

(٣) انظر ص ـ ٨٥

٣٤

نقلا عن القشيرى أنه قال فى تفسير قوله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ)(١) قال : ينادى المنادى وهو صاحب الصور من الصخرة من أعلا بيت المقدس وهى أقرب إلى الأرض باثنى عشر ميلا انتهى.

فقوله : «أقرب إلى الأرض» عكس قول كعب : «أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا» فليتأمل وذكر القاضى البيضاوى فى تفسير قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ)(٢) من سورة المؤمنين أى أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة ، أو دمشق ، أو رملة فلسطين ، أو معرفان قراها على الربا انتهى. لكن ما ذكره القاضى من أن الربوة دمشق اعترضه ابن العماد حيث قال : الصحيح أن الربوة التى أدى إليها المسيح وأمه مدينة البهنساوية فى موضع يعرف الآن بمسجد الديوان أوى به هو وأمه سبع سنين ، قال : وأما الربوة التي بدمشق فموضع مبارك تره مليح النظر فى لحف جبل وليست الربوة التى ذكر الله عزوجل فى كتابه ؛ لأن عيسى عليه‌السلام ما دخل دمشق ولا وطئ أرض الشام ، بل الربوة هى مصر. وقيل : هى الرملة انتهى المقصود منه. واعلم أن نظير ما ذكر من عدم استيلاء السيول على محله فيما تقدم مع استيلائه عليه فى مثل هذا الزمن فإنه استعلى على بنيانه فى هذا الزمن ، وخالف العادة ما ذكره الحافظ وجزم به أبو عتبة البكرى من أن الفرقة من الطير وغيره تقبل حتى إذا كادت تبلغ الكعبة انفرقت فرقتين فلم يعل ظهرها شئ منها ، وذكر مكى وغيره أن الطير لا يعلوه وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض يستشفى بالبيت ، قال ابن عطية : وهذا عندى ضعيف والطير يعاين يعلوه وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جدره وتلك كانت من آياته انتهى قال (٣) الزركشى : وليس فى هذا ما ينافى كلام مكى انتهى.

ووجه عدم المنافاة ظاهر وذلك لأن ما عوين من ذلك جاز أن يكون للاستشفاء وأما العقاب فعلوه إنما هو لأخذ الحية المذكورة ، وقال بعض

__________________

(١) سورة (ق) آية (٤١).

(٢) سورة المؤمنون آية (٥٠).

(٣) أعلام المساجد ص ٨٦.

٣٥

المتأخرين : المعروف عند أهل مكة المشرفة قبل وقتنا هذا ما قاله مكى وابن (١) جماعة وغيرهما ، وأما فى وقتنا هذا فما قاله ابن عطية فإن الطيور الآن تعلوه كثيرا ويتكرر ذلك فى الساعة الواحدة ، وهذا مشاهد لا ينكر قال : ولعل حدوثه كذلك بسبب ما وقع من نقض السقف والتغييرات الواقعة على بعض المتأخرين يحتمل أنه كان فى السقف المنقوض وفيما غير شئ من الأرصاد يمنع ذلك فزال عند النقض والتغيير ، قلت هذا غير مناسب إذ من المعلوم أن السقف حادث بعد الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم والظاهر أن هذا الاحترام ثابت له قديما ولو كان ذلك بسبب رصد لم يكن له مزية ذاتية ، إذ هذا القدر موجود فى غيره بل نقله الزركشى أن بالجامع الأزهر طلسما لا يسكنه عصفور ولا يفرخ فيه ، وقد ذكر التورنسى فى شرح المصابيح أنه قال : ولقد شاهدت من كرامة البيت أيام مجاورتى بمكة أن الطير كان لا يمر فوقه وكنت كثيرا أتدبر تحليق الطيور فى ذلك الجو فأجدها مجتنبة عن محاذاة البيت ، وربما انقضت من الجو حتى تدانت فطافت به مرارا ثم ارتفعت : ثم قال أيضا : ومن آيات الله البينة فى كرامة البيت أن حمامات الحرم إذا نهضت للطيران طافت حوله مرارا من غير أن تعلوه ، فإذا وقفت عن الطيران وقعت على شرفات المسجد أو على بعض الأسطحة التى حول المسجد ولا تقع على ظهر البيت مع خلوها عما ينفرها ، وقد كنا نرى الحمامة إذا مرضت وتساقط ريشها وتناثر ترتفع من الأرض حتى إذا دنت من ظهر البيت ألقت بنفسها على الميزاب أو على طرف ركن من الأركان فتبقى زمانا طويلا كهيئة المتخشع ثم تنصرف بعد حين من غير أن تعلو شيئا من سقف البيت انتهى.

لكن روى أن طيرا من أقبلا فى الجاهلية كأنهما نعامتان يسيران كل يوم ميلا أو بريدا حتى أتيا مكة فوقعا على الكعبة ، وكانت قريش تطعمهما وتسقيهما فإذا خف الطواف من الناس نزلا فدفيا حول الكعبة ، حتي إذا اجتمع الناس طارا فوقعا على الكعبة فمكثا كذلك شهرا أو نحوه ثم ذهبا ، ومعنى دفيا : سارا ، ومنه يدفون إليك دفوف النشور ، قال فى الصحاح : الدفيف الدبيب وهو السير اللين.

وأما الجواب عن أنه هل تقدم حصول سيل يقرب من هذا أو لا؟ فنقول :

__________________

(١) انظر كتابه المناسك ٢ / ١٠٣

٣٦

ذكر السهيلى (١) أنه قد قيل أن البيت الشريف بنى فى أيام جرهم مرة أو مرتين لأن السيل قد صدع .... ولم يكن ذلك بنيانا وإنما كان إصلاحا لما ..... وجدارا بنى بينه وبين السيل.

قلت : فى حديث أبى جهم بن حذيفة رضى الله عنه أن البيت فى زمن جرهم دخله السيل من أعلا مكة فانهدم فأعادته جرهم على بناء إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعلت له مصراعين وقفلا انتهى.

وذكره السيد السمهودى أنه فى شهر ذى القعدة الحرام سنة سبع وثمانين وثمانمائة قبل دخول الحاج مكة أرسل الله سيلا عظيما بمكة ملأ ما بين الجبلين ، وعلا جدار أبواب المعلاه ، وارتفع فى جوف الكعبة أزيد من قامة وهدم دورا كثيرا وذهب فيه من الأموال والأنفس مالا يحصيه إلا الله تعالى ووجد تحت الردم بالمسجد الحرام فقط عند تنظيفه نحو ثمانين نفسا ومائة ، ولم أقف فى سيول الجاهلية والإسلام على مثله ، ولم يتأت إخراج ذلك الردم بعد جمعه بالمسجد الحرام كالأرام حتى قدم الحجاج وشاهدوا هذه الآية. وقد عقد الإمام الفاسى (٢) بابا فى ذكر شئ من أمطار مكة وسيولها الواقعة فى الجاهلية والإسلام وشئ من خبر الصواعق بمكة ، قال رحمه‌الله : روينا عن الأزرقى قال سيول وادى مكة فى الجاهلية حدثنى محمد بن يحيى حدثنا عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز أن وادى مكة سال فى الجاهلية سيلا عظيما وخزاعة تلى الكعبة وأن ذلك السيل هجم على أهل مكة ودخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة ورمى بالشجر بأسفل مكة ، وجاء برجل وامرأة ميتين فغرقت المرأة وكانت تكون بأعلى مكة يقال لها فارة ولم يعرف الرجل فبنت خزاعة حول البيت بناء أدارته عليه وأدخلوا الحجر فيه ليحصنوا البيت من السيل فلم يزل ذلك البناء على حاله حتى بنت قريش الكعبة فسمى ذلك السيل سيل فارة وسمعت أنها امرأة من بنى بكر.

__________________

(١) فى الروض الأنف ١ / ١٠٥

(٢) انظر شفاء الغرام ٢ / ٤٥

٣٧

وروى الأزرقى (١) بسنده عن سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده قال : جاء سيل فى الجاهلية كسى ما بين الجبلين ، ثم ذكر الأزرقى سيول مكة فى الإسلام فمنها على ما ذكر السيل المعروف بسيل أم نهشل بنت عبيد بن سعيد بن العاص بن أمية لذهابه بها ، ودخل هذا السيل المسجد الحرام من الوادى ومن أعلى مكة من طريق الردم ، وذهب بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى وجد بأسفل مكة فأتى به وربط عن الكعبة بأستارها ، وأخبر عمر بن الخطاب بذلك فأقبل فزعا حتى وصل إلى مكة ورد المقام إلى موضعه وعمل الردم الذى بأعلى مكة صونا للمسجد بناه بالظفاير والصخر العظام وردمته بالتراب وهو معروف عند الناس إلى اليوم ، ولما ردم هذا المكان صار السيل إذا وصل من أعلى مكة لا يعلو هذا المكان بل كان ينحرف عنه إلى جهة الشمال المستقبل للبيت الشريف للبناء الذى بناه عمر رضى الله عنه فلا يصل هذا السيل إلى وادى إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكاد يمنع جريان هذا السيل إلى أسفل مكة سيل آخر يعترضه يسمى سيل لفيم يجتمع من الجهات التى فى جنوب مكة وينصب من محلة حياة ويمر عريضا إلى أن يصدم الركن اليمانى من المسجد وينحرف إلى أسفل مكة ، وقوة جريانه تمنع من جريان سيل وادى إبراهيم فيقف ويتراكم ويدخل المسجد الحرام ، وتقع مثل هذه السيول عليه من كل عشرة أعوام تقريبا مرة ، فيدخل المسجد الحرام ويحتاج إلى تبديل وتنظيف الحصى ونحو ذلك ، وقد عمل المتقدمون والمتأخرون لذلك ، طرقا واهتموا غاية الاهتمام ، فاندرست أعمالهم بطول الزمان ، ولم يتفطن الملوك بعدهم لذلك ، واستمرت السيول العظيمة بعد كل مدة تدخل إلى المسجد.

ونقل الأزرقى (٢) عن جده أنه جاء بعد ذلك أسيال عظائم فلم يعمل ، منها سيل هذا الردم ، ومنها السيل المعروف بسيل الجحاف فى سنة ثمانين من الهجرة بينما الحجاج نازلون بوادى مكة وقد ضربوا الأبنية أتاهم فى غبش يوم التروية قبل صلاة الصبح سيل ذهب بهم وبمتاعهم ، ودخل المسجد الحرام ، وأحاط بالكعبة ، وهدم الدور الشارعة على الوادى ، وقتل الهدم أناسا كثيرا ورقى

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ١١٥.

(٢) أخبار مكة ١ / ١١٥.

٣٨

الناس الجبال ، واعتصموا بها ، فسمى بذلك الجحاف ولما بلغ الخبر عبد الملك بن مروان فزع لذلك وبعث بمال عظيم لعمل ظفاير الدور الشارعة على الوادى ولعمل ردم على أفواه السكك ليحصن بها دور الناس فعمل ذلك ، ومنها سيل يقال له : سيل المخبل ؛ لأنه أصاب الناس بعده شبه الخبل لمرض شديد فى أجسامهم وألسنتهم ، وكان سيلا عظيما دخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة وذلك فى سنة أربع وثمانين ومائة ، ومنها فى هذه السنة سيل عظيم دخل المسجد الحرام وذهب بالناس وأمتعتهم وغرق الوادى فى أثره ، ومنها سيل فى خلافة المأمون سنة اثنين ومائتين ودخل هذا السيل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة ، وكان دون الحجر الأسود بذراع ، وخيف منه على المقام فرفع ، وهدم للناس دورا وذهب بكثير من الناس ، وأصاب الناس بعده مرض شديد من وباء وموت فاشى ، وسمى هذا السيل سيل ابن حنظلة ؛ لأنه جاء فى ولايته على مكة لحمدون بن على بن عيسى بن ماهان ، ومنها سيل فى خلافة المأمون أيضا فى شوال سنة ثمان ومائتين دخل المسجد الحرام وبلغ الحجر الأسود ، ورفع المقام من موضعه خوفا عليه من ذهابه به ، وكبس المسجد والوادى بالطين والبطحاء ، وقلع صناديق الأسواق ومقاعدهم وألقاها بأسفل مكة وهدم دورا كثيرة مشرفة على الوادى وذهب بناس كثير.

هذا ما ذكره (١) الأزرقى فى سيول مكة فى الجاهلية والإسلام وهى فى كتابه أبسط من هذا.

وذكر (٢) الفاكهى السيول التى ذكرها الأزرقى أقصر مما ذكره وذكر فى ذلك ما لم يذكره الأزرقى ، لأنه ذكر أن السيل الذى يقال له المخبل كان فى ولاية حماد البربرى على مكة وهذا لا يفهم من كلام الأزرقى ، وذكر أن السيل الذى يقال له : سيل ابن حنظلة ، كان عظيما ملأ الوادى وعلاه قيد رمح وهذا أيضا لا يفهم من كلام الأزرقى.

ونقل الفاكهى هذا عن أبيه إسحق بن العباس.

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ١١٥

(٢) أخبار مكة ١ / ٩٥

٣٩

ومن أمطار مكة وسيولها فى الإسلام مما لم يذكره الأزرقى مع إمكانه لذكره لوقوع ذلك قبل موته بكثير سيل كان فى سنة ثمان وثمانين من الهجرة وفى تاريخ ابن جرير (١) الطبرى شئ من خبر هذا السيل ؛ لأنه ذكر أن الإمام العادل عمر بن عبد العزيز قدم مكة للحج فى هذه السنة ومعه نفر من قريش ، فلما قربوا من مكة لقيهم بعض أهلها وأخبروهم بقلة الماء بها وأنه يخشى على الحجاج العطش ، فدعا عمر ومن معه وألحوا فى الدعاء ، قال صالح ابن كيسان فما وصلت إلى البيت ذلك اليوم إلا مع المطر ، حتى كان مع الليل وسكنت السماء جاء سيل الوادى ، فجاء أمر خافه أهل مكة ، ومطرت عرفة ومنى وجمع ، فما كانت إلا عين ، قال : وكانت مكة تلك السنة مخصبة ، ومنها سيل أبى شاكر فى ولاية هشام بن عبد الملك فى سنة عشرين ومائة ولم يبين الفاكهى (٢) تسمية هذا السيل بأبى شاكر ؛ وذلك لأن أبا شاكر حج بالناس سنة تسع عشرة ومائة على ما ذكر العتيقى وغيره ، وجاء هذا السيل عقيب حج أبى شاكر فسمى به والله أعلم.

ومنها سيل الكبرى فى خلافة المهدى العباسى سنة ستين ومائة وكان هذا السيل ليومين بقيا من المحرم ذكر هذين السيلين الفاكهى بمعنى ما ذكرناه.

ومن أمطار مكة وسيولها فى عصر الأزرقى (٣) أو بعده بقليل سيل كان فى سنة ثلاث وخمسين ومائتين دخل المسجد الحرام وأحاط بالكعبة وبلغ قريبا من الركن الأسود ورمى بالدور بأسفل مكة ، وذهب بأمتعة الناس وقرب منازلهم ، وملأ المسجد عشا وترابا حتى جرما فى المسجد من التراب بالعجل ، ومنها فى سنة اثنين وستين ومائتين سيل عظيم ذهب بحصباء المسجد الحرام حتى عرى منها.

ومنها سيل فى سنة ثلاث وستين ومائتين وذلك أن مكة مطرت مطرا شديدا حتى سال الوادى ودخل السيل من أبواب المسجد ، فامتلأ المسجد وبلغ قريبا من

__________________

(١) ١ / ١٢٠

(٢) أخبار مكة ١ / ٩٥

(٣) أخبار مكة ١ / ١٠٥

٤٠