تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

الروم يحمل فيها الرخام والخشب والحديد مع باقوم إلى الكنيسة التى أحرقت بالحبشة ثم لما بلغت قريبا من مرسى جدة بعث الله عليها ريحا فحطتها قال القطبى فى تاريخه : قلت لا يعرف طريق بين الروم والحبشة تمر فيها على جدة إلا أن يكون ملك الروم طلب من ملك مصر مجهزها له من بندر السويس ، أو الطور ، أو نحو ذلك التنبيه الثانى قال التقى الفاسى : ذكر الفاكهى فى خبر بناء قريش الكعبة أمرين مستقرين أحدهما أنهم رفعوها فى السماء عشرين ذراعا وذلك فى خبر رواه بسنده إلى عثمان بن عفان ، والأمر الآخر أن قريشا لما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود فى موضعه ، وقضى فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قضى ورفعته قريش فى الثوب حتى وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، فرفعه إلى عبد المطلب وكان هو الذى وضعه بيده ووجه الغرابة فى الأول مخالفته لما ذكر الأزرقى والفاكهى وغيرهما أن قريشا جعلوا طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا ، وفى تاريخ الأزرقى عن أبى الطفيل ما يوافق ما ذكره الفاكهى عن عثمان من أن قريشا جعلوا طول عشرين ذراعا وقد ذكر هذا ابن حجر الهيثمي (١) فى رسالته مقدما له وحكى كونه ثمانية عشر ووجه الغرابة فى الثانى أن عبد المطلب لم يشهد بناء الكعبة لأن بناها إنما كان قبل الهجرة بخمس سنين أو خمس عشرة على ما هو المشهور فى ذلك وعبد المطلب مات والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عشر سنين هذا اكثر ما قيل فى سنه حين موت جده فكيف يحضر قصة حضرها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنه ما سبق بيانه انتهى كلام (٢) الفاسى وأخرج الأزرقى فى رواية أن طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعا فاقتصرت قريش منها على ثمانية عشر ذراعا ونقصوا من عرضها أذرعا أدخلوها فى الحجر وقد نقله ابن حجر فى رسالة ينقم عليه وقد اعترض بعض المتأخرين بأن بناء قريش ثابت على القول المشهور بعد بناء الخليل ـ وقد علمت فيما سبق أن الخليل صلوات الله وسلامه عليه ـ جعل طولها فى السماء تسعة أذرع كما تظافرت الأقوال وستقف على ذلك فى كلام الأزرقى أيضا عند ذكر بناء ابن الزبير ـ رضى الله عنهما ـ أيضا فما نقله من أن طول الكعبة كان سبعة وعشرين ذراعا إلى آخره فيه مناقضة لما يأتى عنه ولم يثبت من طريق صحيح أن أحدا بناها بعد الخيل وجعل طولها سبعة

__________________

(١) المناهل العذبة لوحة ٩.

(٢) شفاء الغرام ١ / ٩٢.

٢٤١

وعشرين ذراعا وما تقدم من بناء العمالقة وجرهم وقصى بعد الخليل إنما هو مجرد خبر محتمل ولم يتأيد بدليل ، وعلى تقدير الصحة فلم يذكر أحد مقدار ارتفاع بنائهم مطلقا على أن الأزرقى نفسه ذكر بناء العمالقة وجرهم ولم يبين مقدار ارتفاع بنائهم ثم نقل الفاسى ـ رحمه‌الله تعالى ـ عن الزبير بن بكار أن قصيا بنى الكعب بناء محكما على خمسة وعشرين ذراعا وسقفها بخشب الدوم وجريد النخل ثم قال فيه نظر لأنه إن أريد به أن قصيا جعل ارتفاع الكعبة خمسة وعشرين ذراعا كان مخالفا لما اشتهر من أن الخليل جعل طولها تسعة أذرع وإن أريد أن قصيا جعل عرضها خمسة وعشرين ذراعا فالمعروف أن عرضها خمسة وعشرين ذراعا فالمعروف أن عرضها من الجهة الشرقية والغربية لا ينقص عن ثلاثين فى بناء الخليل ومن الجهة الشامية واليمانية لا يبلغ خمسة وعشرين ذراعا وكل من بنى الكعبة بعد إبراهيم لم يبنها إلا على قواعده غير أن قريشا استقصرت عن عرضها فى الجهة الشرقية والغربية أذرعا فى بناء قصى على أن ارتفاع البيت فى السماء وإن كان يخالف المشهور فليس فيه دلالة لما رواه الأزرقى لنقصه ذراعين فيكون ما رواه الأزرقى مجرد رواية لم يعضدها شئ ولا يقول عليها والله الموفق انتهى.

التنبيه الثالث

اختلف فى سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بنت قريش الكعبة فقيل كان ابن خمسة وثلاثين وقد مر الإشارة إليه وحكى الأزرقى قولا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بنت قريش الكعبة كان غلاما وهو ضعيف جدا لمخالفة المشهور وقال الحافظ : ولعل عمدته ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى قال : لما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرها فى ثياب الكعبة فاحترقت فذكر القصة وقال التقى الفاسى : ورأيت فى منسك سليمان بن خليل المكى ما يقتضى أنه كان ابن ثلاثين سنة وهذا القول فيه غير معروف وأظن أنه سقط فى كلامه خمس من بين ابن وثلاثين والله أعلم وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن مجاهد أن ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة وكذا ابن عبد الله من طريق محمد بن جبير وبه حزم موسى بن عقبة فى مغازيه والذى جزم به ابن إسحاق أن بنيان قريش كان قبل المبعث بخمس سنين قال الحافظ وهو أشهر قال : ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع فى البناء وقيل ابن خمس وعشرين وغلط قائله.

٢٤٢

التنبيه الرابع

فى الكلام على ما ذكر فى القصة من بدو عورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نقل الحجارة وأنه كان عليه نمرة ضيقة فضاقت عليه فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها فنودى يا محمد : عورتك فلم ير عريانا بعد ذلك وقد تعدد له ذلك قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عما كان الله يحفظه فى صغره من أمر الجاهلية ومنه أنه قال لقد رأيتنى فى غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الصبيان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإنى لأقبل معهم وأدبر ، وإذا لكمنى لاكم لكمة شديدة ثم قال شد عليك إزارك قال فأخذته فشددته على ثم جعلت أنقل الحجارة على رقبتى وإزارى علىّ من بين أصحابى ، وهذه القصة شبيهة بما وقع عند بناء الكعبة.

روى الطبرانى والبيهقى فى الدلائل من طريق عمر بن قيس وابن جرير فى التهذيب من طريق هارون بن المغيرة وأبو نعيم فى المعرفة من طريق قيس بن الربيع ، وفى الدلائل من طريق شعيب بن خالد كلهم عن سماك بن حرب وأبو نعيم من طريق الحكم بن أبان كلاهما عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : حدثنى أبى العباس بن عبد المطلب قال : لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة فكنت أنا وابن أخى فجعلنا نأخذ آزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا فبينما هو أمامى إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء فقلت : يا ابن أخى ما شأنك قال : نهيت أن أمشى عريانا قال : فكتمته حتى أظهره الله بنبوته وودد من حديث جابر وأبى الطفيل قال العلامة المحدث الشامى فى سيرته وما ذكره ابن اسحاق من قصة تعريته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه فى صغره وأنه أمر بالستر قال السهيلى وتبعه بن كثير وأبو الفتح والحافظ إن صح حمل على أن هذا الأمر كان مرتين مرة حال صغره ومرة أول إكهاله عند بنيان الكعبة ، واستبعد ذلك مغلطة فى كتابيه الزهر دلائل النبوة بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نهى عن شىء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه وأيضا فى حديث العباس المذكور فى بناء البيت أنه لأول مرة نودى ، رواه بن سعد وإبراهيم وابن عساكر من طريق النضر بن عبد الرحمن عن ابن عباس قال كان أبو طالب يعالج زمزم وكان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينقل الحجارة

٢٤٣

ومر غلام يأخذ إزاره ويتقى به الحجارة فغشى عليه فلما أفاق سأله أبو طالب فقال أتانى آت عليه ثياب بيض فقال : بل استتر فكان أول شىء رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النبوة أن قيل له : استتر ، ومر غلام قال : فما رأيت عورته من يومه. فقد قال الحافظ فى الفتح : إن النضر ضعيف وقد ضبط فى إسناده وفى متنه فإنه جعل القصة فى معالجة زمزم ولم يذكر العباس وقد قدمنا أن عكرمة والحكم بن أبان روى القصة عن ابن عباس عن أبيه فى قصة بناء البيت انتهى ، أو رده العلامة المحدث الشامى فى سيرته ثم رأيت الزركشى ذكر فى الإعلام أنه قال البخارى فى صحيحه حدثنى عبد الله بن محمد بن أبى عاصم أخبرنى بن جريج أخبرنى عمرو بن دينار قال : سمعت جابر ـ رضى الله عنه ـ يقول : لما بنيت الكعبة ذهب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعباس رضى الله عنه ينقلان الحجارة فقال العباس ـ رضى الله عنه ـ للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل إزارك على رقبتك فخر صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء فقال : أرنى إزارى فرده عليه فذكر السهيلى فى بقية الحديث سقط مغشيا عليه فضمه العباس ـ رضى الله عنه ـ إلى نفسه وسأله عن شأنه ، فأخبر أنه نودى من السماء أن اشدد عليك إزارك يا محمد ، قال ابن الجوزى : ليس فيه دلالة على كشف العورة وإنما فيه كشف الجسد. انتهى ، ولهذا قال الحضرمى فى تفسير قوله تعالى (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) أنه لم تبد لغيرهما حتى لا يعلم غيرهما مكانه الجنابة كما علماه ولو بدت للأغيار لقال : بدت منهما وقد نقل إن آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عليه سبعمائة حلة وكانت عورتهما قبل ذلك مستورة ولما يعلما أن لهما عورة قال القتابى : لم يكونا رأيا عورتهما إلى ذلك الوقت ، وكان على سؤتيهما نور إذا نظرا إليها غلب ذلك النور على أبصارهما ومنعهما من أبصارهما أما لما ذهب ذلك النور أيضا فبدت لهما سؤاتهما فلما رأيا فزعا وحسبا أن غيرهما أيضا يرى ، فتأمل ، ثم أعلم أنه تقدم فى القصة أن الله بعث للحية طائرا فأخذها ، وألقاه إلى أحيائه قد ذكر بن جماعة أنه يروى أن هذه الحية هى الدابة التى تخرج عند قيام الساعة تكلم الناس قال العلامة الدميرى : واختلفوا فى كيفية الدابة التى هى من أشراط الساعة اختلافا كثيرا فقيل إنها على خلقة الآدميين وقيل جمعت خلق كل حيوان وعن ابن عباس أنها الثعبان الذى كان فى جوف الكعبة ، واختطفه العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام وأن الطائر حين اختطفها ألقاها بالحجون ثم يلقبها الأرض ، فهى الدابة التى تخرج تكلم الناس عند الصفا بمكة

٢٤٤

يتصدع لها الخيل والكائن إلى منى وقيل تخرج من الطائف وقيل من الحجر معها عصا موسى وخاتم سليمان ـ عليهما‌السلام ـ تضرب المؤمن بالعصى وتختم وجه الكافر بالخاتم فتنقش هذا الكافر روى السهيلى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ سأل ربه أن يريه الدابة التى تكلم الناس فأخرجها الله له من الأرض فرأى منظرا لها أفزعه فقال : يا رب ردها فردها ويروى أنها تخرج حين ينقطع الخير ولا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبق منيب ولا نائب والظاهر أنها واحدة وروى أنه يخرج من كل بلد دابة مما هو منسوب نوعها إلى الأرض وليست واحدة فتكون دابة اسم جنس وفى الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب أول الأشرط ولم يعين الأول منهما وكذا الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها وفى الميزان للذهب عن جابر الجعفى أنه كان يقول : دابة الأرض على بن أبى طالب وقال وكان جابر الجعفى شيعى يرى بالرجعة إلى أن على يرجع إلى الدنيا.

قال الإمام أبو حنيفة : ما لقيت أحد أكذب من جابر الجعفى ، ولا أفضل من عطاء بن أبى رباح وقال الشافعى : أخبرنى سفيان بن عيينة قال : كنا فى منزل جابر الجعفى فتكلم بشىء فترى لنا خوفا أن يقع علينا السقف ، ومع ذلك روى له أبو داود والترمذى وابن ماجة ووفاته سنة ٦٦ وكأنه انتهى وأما بنا ابن الزبير الثابت فى الصحيحين وغيرهما فهو صاحبى بن صاحبى ولده الزبير بن العوام القرش بن صفية عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحد الثمانية السابقين والستة أصحاب الشورى والعشرة المبشرين بالجنة والشجعان المشهورين لم يلحقه (كحمزة) وعلى أحد فى الشجاعة والغزو سنة وأما هو فعبد الله بن أبى حبيب وأبو بكر بن أسماء بن أبى بكر ذات النطاقين ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة بالمدينة وكان أول مولود بها واشتد فرح المهاجرين به لأن اليهود توعدوهم أنهم عملوا لهم ما أبطل نسلهم فلا يأتيهم ولد فلما ولد بان كذبهم وقد حنكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتمرة لاكها وسماه عبد الله وكناه أبا بكر باسم جده الصديق ـ رضى الله عنه ـ وكان ختوما يواصل الخمسة عشر يوم وأكثر قواما طويل الصلاة وصولا للرحم عظيم الشجاعة قوى قسم الليالى ثلاثة فليلة يصلى قياما إلى الصبح وليلة يصلى ويستمر راكع إلى الصبح وليلة يصلى ويظل ساجد إلى الصبح وكان أطلس لا لحية له من العرب المشهورين وشجاعتهم الموصوفين وأحد العباد

٢٤٥

الأربعة المتقاربين سناءا وعلما وذكاءا وفهما والثلاثة عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وليس فيهم ابن مسعود لأنه أكبر منهم سنا فليس من طبقتهم ، وقد روى عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثين حديث ولما احتمم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاه دمه فقال عينه أو غيبة فى موضع لا يراك فيه أحد فلما جاء إليه قال له : ما فعلت بالدم قال : شربته قال إذن لا تلج النار بطنك ويل لك من الناس وويل للناس منك فكان كذلك لأنه كان مما أبى البيعة ليزيد وفر إلى مكة وأطاعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ولم تخرج عن طاعته إلا أهل مصر والشام فإنهم بايعوا اليزيد فلما هلك أطاع أهلها عبد الله بن الزبير وخرج مروان بن الحكم فتغلب على مصر والشام إلى أن ولى عبد الملك فجهز جيشا كثيفا على ابن الزبير وأمر الحجاج بن يوسف الثقفى فحاصره ورمى عليه بالمنجنيق وخذل ابن الزبير أصحابه فخرج ابن الزبير وحده قاتل قتالا عظيم إلى أن استشهد ـ رضى الله عنه ـ فى سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وأنشد فيه النابغة :

حكيت لنا الصديق لما وليتنا

وعثمان والفاروق فرتاح معدما

وسويت بين الناس بالحق ماستوى

وعاد صباحا حالكا لو اشمم

فسببه نشأ عن تخلفه عن بيعة يزيد والدخول تحت طاعته ، وذلك لأن يزيد كان أمير سوء ، كما أشار إلى ذلك أبو هريرة ـ رضى الله عنه ـ لما قيل له من يخرجهم يعنى أهل المدينة منها فقال : أمراء السوء ولابن شيبة عنه والذى نفسى بيده يكونن بالمدينة ملحمة يقال لها الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين فأخرجوا من المدينة ولو على قدر بريدة ولابن أبى شيبة عنه اللهم ما لا تدركنى سنة ستين ولا أمره الصبية يشير إلى ولاية يزيد وكانت سنة ستين وإلى كانت الحرة فهى السبب فى ترك المدينة كما يشير إليه قول القرطبى متبعا لقيا من فلما انتهى حال المدينة كما لا وحسنا تناقض أمرها إلا أن أكفرت جهاتها ، وتوالت الفتن فيها فخاف أهلها ، وارتحلوا عنها ووجه إليها يزيد بن معاوية مسلم ابن عقبة المرسى فى جيش عظيم من أهل الشام فترك بالمدينة ليلة الأربعاء ليلتين بقيت من ذى الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة.

٢٤٦

فقاتل أهلها فهزمهم وقتلهم بحرة المدينة قتلا ذريعا واستباح المدينة ثلاثة أيام فسميت «وقعة الحرة» لذلك ويقال لها مرة زهرة وكانت الواقعة فى موضع يعرف بواقم على ميل من المسجد النبوى فقتل بقايا المهاجرين والأنصار وخيار التابعين وهم ١٧٠٠ قتل من أخلاط الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان وقتل من حملة القرآن سبعمائة رجل قال وقال الإمام بن حزم فى المرتبة الرابعة وجالت الخيل فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالت وراثت بين القبر والمنبر ـ أدام الله تشرفيهما ـ ولم يصل أحد فى المسجد تلك الأيام ولما كان فيه أحد حاشا سعيد بن المسيب لم يفارق المسجد ولو لا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان ومروان بن الحكم له عند مسلم بن عقبة بأنه مجنون لقتله وهتك مسلم حرمة المدينة ونهبها واستخف بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومدت الأيدى إليهم ونتف لحية أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله عنه ـ وكان مما لزم بيته فأخذوا جميع ما فى داره حتى سوط الفرس حتى أخذوا زوجين من حمام كان صبيانه يلعبون بهما وأكره الناس أن يبايعوا يزيد على أنهم عبيد له إن شاء باع وإن شاء أعتق .. وذكر له يزيد بن عبد الله بن زمعة البيعى على حكم القواعد والسنة فأمر بقتله فضربت عنقه وأمه حاضرة ولم يرع حرمتها وكانت من المهاجرات الأوائل فهى زينب بنت أم سلمة ربيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهى التى دخلت على رسول الله وهى طفلة وهو يغتسل فنفخ الماء فى وجهها فلم يزل كالشباب فى وجهها حتى عجزت وقاربت المائة فدعت على مسلم بن عقبة هذا وذكر الأخباريون أنها قلت من أهلها وبقيت ثمارها للقوافى وبالت الطلاب على سوارى المسجد. انتهى كلام القرطبى ـ عليه رحمة الله تعالى ـ. وسبب أمر يزيد بذلك على ما ذكره ابن الجوزى أنه ولى عثمان بن محمد بن أبى سفيان المدينة فبعث إليه وفدا منها فلما رجعوا قالوا قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب وإنا نشهدكم أنا قد خلفناه مع أحشائه جائزتهم فخلفوه عند المنبر وبايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار وعبد الله بن مطيع على قريش وأخرجوا عاملة عثمان وكان بن حنظلة يقول ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء وفى كتاب الواقدى أن ابن سينا كان عاملا على حوافى المدينة وبها يومئذ صواف كثيرة حتى كان معاوية ـ رضى الله عنه ـ يجىء من المدينة وأعراضها مائة ألف وسق وخمسين

٢٤٧

ألف وسق ويحصد مائة ألف وسق حنطة فأقبل ابن سينا يسرع من الحرة يريد الأموال فلما انتهى إلى الحارث منعوه فأعلم أمير المدينة عثمان بذلك فأرسل إليه ثلاث من الحراس فأجابوه ففدا ابن سينا فذبوه فرجع إليه الأمير فقال ارجع لهم وبعث بعض جنده معهم فرضت قريش للأنصار ، وتغاتم الأمير فكتب عثمان إلى يزيد بذلك وحرضه على أهل المدينة فقال : والله لأبعثن إليهم الجيوش لأوطئنها الخيل ، فبعث مسلم بن عقبة فى إثنى عشر ألفا وذكر الزركشى فى الإعلام أنه بعثه فى عشرة آلاف فارس وسبعة آلاف رجل وقال له : ادعو القدوم ثلاثا فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثا للجند ، وأجهز على حركتهم ، واقتل مدبرهم ، وإياك أن تبقى عليهم وإن لم يعرضوا لك فامض إلى ابن الزبير فما تربوا تشاوروا أهل المدينة فى خندق رسول الله وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية وعملوا فى الخندق خمسة عشر يوما فلما وصل القوم عسكروا بالجرف وبعثوا رجالا أحرقوا المدينة فلم يجدوا مدخلا والناس علي أفواه الخنادق يرمون بالنبل وجلس مسلم بناصية راكم فرأى أمرا مهولا فاستعان بمروان وكان أهل المدينة قد أخرجوه وأهله من بنى أمية فلقى مسلم فرجع معهم وكلم مروان رجلا من بنى حارثة ورغبا فى الضيع وقال له : تفتح لنا طريقا فأكتب بذلك إلى يزيد فيحسن جائرتك ففتح لهم طريقا من قبلهم حتى أدخل له الرجال من بنى حارثة إلى بنى عبد الأشهل قال محمود بن لبيد : حفرت يومئذ فإنما أبتنا فى قومنا بنى حارثة وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : جاءت تأويل هذه الآية من سورة الأحزاب على رأس ستين سنة «ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها» يعنى إدخال بنى الحارثة أهل الشام على أهل المدينة فى دمعة الحرة قال يعقوب وكانت الوقعة سنة ثلاث وستين ولابن أبى خيثمة سند صحيح إلى أسماء قال سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية ـ رضى الله عنه ـ لما احتضر دعا يزيد فقال له لو أن لك من أهل المدينة يوما فإن فعلوا فأمرهم بمسلم بن عقبة فإنى عرفت نصيحته فلما ولى يزيد وفد علبة بن حنظلة وجماعة فأكرمهم فرجع فحرص الناس على يزيد ودعى الناس إلى خلعة فأجابوه فبلغه فجهز مسلم بن عقبة فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة فلما نشب القتال سمعوا فى جوف المدينة التكبير وذلك أن بنى حارثة أدخلوا قوما

٢٤٨

من الشامين من جانب المدينة فترك أهل المدينة القتال ودخلوا خوفا على أهلهم فكانت الهزيمة وتابع مسلم الناس على أنهم خولا ليزيد يحكم فى دماءهم وأموالهم وأهليهم بما شاء. انتهى. ورد المجد وغيره أنهم سبوا الذرية واستأجروا الفروج وأنه كان يقال لأولئك الأولاد من النساء اللاتى حملن أولاد الحرة. ولابن الجوزى عن هشام بن حسان ولدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج وممن قتل من الصحابة يومئذ صبرا عبد الله بن حنظلة الغسيل مع ثمانية من بينه وعبد الله بن زيد حاكى وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعقل بن سفيان الأشجعى وكان شهد فتح مكة وكان معه راية قوم يقول الشاعر :

ألا تكلم الأنصار تبكى

مراتها وأشجع تبكى معقل بن سفيان

ولابن الجوزى عن سعيد بن المسيب

لقد رأيتى ليالى الحرة

ما فى المسجد أحد من خلق الله غيرى وأن أهل الشام ليدخلون زمرا زمرا يقولون : انظروا إلى هذا الشيخ. المجنون ولا يأتى وقت صلاة إلا سمعت أذانا من القبر الشريف ثم أقيمت الصلاة فتقدمت وصليت وما فى المسجد أحد غيرى ويسمى مسلم بن عقبة مسرفا لإسرافه فى مثل أهل المدينة وكذا مجرما لعظيم إجرامه وروى أبو يعلى بن حسين مع غيظة عليه فلما رآه ارتعد وقام له وأقعده إلى جانبه وقال له اسئلنى حوائج فلم يسله شيئا واحدا قدم للسيف إلا شقق فيه وانصرف فقيل لعلى رأيناك تحرك شفتاك فما الذى قلت قال قلت اللهم رب السموات السبع وما أظللن والأرضين السبع وما أقللن ورب العرش العظيم رب محمد وإله الطاهرين أعوذ بك من شره وأدرأ بك فى نحره وأسئلك أن تأتينى خيره وتكفينى شره وقيل لمسلم رأيناك تسب هذا الكلام وتسفه فلما أوتى به إليك دفعت منزلته قال ما كان ذلك برأى منى ولقد ملاء قلبى رعبا وطاسا من المدينة لقتال بن الزبير ـ أهلكه الله ـ فى الطريق ابتلاه الله بالماء الأصفر فى بطنه فمات بقديد وقيل بهرشه بعد الوقعة بثلاث ليال وهو ينبح كالكلب وكان قد قال الحصين بن نمير أمير المؤمنين ولك بعدى فأسرع المسير لابن الزبير وأمره أن ينصب المجانيق على مكة ومضى الجيش لمكة وحصل رمى الكعبة بالمجانيق وأخذ رجل قبسا فى رأس رمح فطاء الرمح

٢٤٩

فاخترق البيت فجاءهم نعى يزيد هلال ربيع الآخر وكان بين الحرة وموته ثلاثة أشهر وأودوتها فإنه توفى بالذبحة وذات الجنب بجوارين من الشم سنة أربع وستين فى نصف ربيع الأول ، وحمل إلى دمشق وقبل عليه أخوه خالد ، ودفن فى قبره باب الصغير وقد بلغ ثلاثا وستين سنة وكانت ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر واثنى عشر يوما وكانت وقعة الحرة وقتل الحسين ورمى الكعبة من أشنع ما جرى فى زمن يزيد وللواقدى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج سفرا من أسفاره فلما ربحره زهرة وقف واسترجع فسىء بذلك من معه وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم فقال عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ يا رسول الله ما الذى رأيت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما إن ذلك ليس من سفركم هذا قالوا : فما هو يا رسول الله؟ قال : يقتل فى هذه الحرة خيارا منى بعد الصحابة وله أيضا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أشرف على بنى عبد الأشهل أشار بيده فقال يقتل نبذة الحرة خيارا منى وعمر كعب قال : نجد فى التوراة أن فى حرة شرقى المدينة مقتلة تفنى وجوههم يوم القيامة ضعفاء ويقال للحرة : حرة وأقم أيضا وقال عبد الرحمن بن سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين رضى الله عنهم.

قال : تقتلونا يوم حرة راقم

فنحن على الإسلام أول من قتل

ونحن قتلناكم بيد راذلة

وأبنا بأسلاب لنا منكم نقل

فإن ينج منا عايذ البيت سالما

فكل الذى قدنا لنا منكم حلل

يعنى بعايذ البيت عبد الله بن الزبير ـ رضى الله عنهما ـ ولما قدم الحصين بن نمير لمكة ومعه الجيش من قبل يزيد معاوية لقتال ابن الزبير جمع ابن الزبير أصحابه فتحصن بهم فى المسجد الحرام حول حول الكعبة ونصبت فيه خياما يستظلون فيها من الشمس وكان الحصين قد نصب المنجنيق على أخشبى مكة وهما أبو قبيس ذا الأحمر الذى يقابله فصار يرمى به على ابن الزبير وأصحابه فتصيب الأحجار الكعبة قال الزركشى وأول حجر من حجارة المنجنيق أصاب وجه الكعبة سمع لها أنين وتأوه شديد فوهنت لذلك وتحزقت عليها وصارت كأنما جيوب التشائم أن رجلا من أصحاب ابن الزبير ـ رضى الله عنهما ـ أو قد نارا فى بعض تلك الخيام مما يلى الصفا بين الركن الأسود واليمانى والمسجد يومئذ صغير وكان فى ذلك اليوم رياح شديدة والكعبة إذ ذاك مبنية بناء قريش مدماك من ساج ومدماك من حجارة فطارت الريح بشرارة من تلك النار

٢٥٠

فتعلقت بكسوة الكعبة فاحترقت واحترق السارج الذى بين البناء فازداد تصدع البيت وضعفت جدرانه وتصدع الحجر الأسود أيضا حتى ربطه بعد ذلك بالغضبة ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام أعنى الحصينة وجماعته ، وذكر الفاكهى أن سبب حريق البيت إنما كان من بعض أهل الشام ، وأحرق على باب بنى جميع وفى المسجد وفيه خيام تمشى الحريق حتى أخذه فى البيت ، وظن الفريقان أنهم هالكون وهذا يخالف ما ذكر من أن السبب فى ذلك إنما هو من بعض أصحاب ابن الزبير ولعل ما ذكره القاضى أصوب على أنه يمكن الجميع بوقوع كل من ذلك فيكون السبب مركب وقد أخرج الأزرقى عن محمد بن الجنينة أنه قال : أول ما تكلم فى القدر حين احترقت الكعبة فقال : رجل احترقت ثياب الكعبة وهذا من قدر الله وقال الآخر ، قدر الله هذا ثم جابر نعى يزيد بعد ذلك بتسعة وعشرين يوما والحصين مستمر على حصار ابن الزبير فأرسل ابن الزبير إلى الحصين جماعة من قريش فكلموه ، وعظموا عليه ما أصاب الكعبة ، وقالوا له : إن هذا من ريبكم فأنكر ذلك ، ثم زل راجعا إلى الشام فعند ذلك ترك ابن الزبير البيت على ما هو عليه ، حتى قدم الناس الوسم إن يخذلهم على أهل الشام فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس أشيروا على فأشار عليه بالقليل من الناس بذلك وأبى الكثير وكان أشدهم إباء عبد الله بن عباس فإنه قال : قد حرق لى فيها رامى أرى أن تصلح ما وهى فيها وتدع بيتا وأحجارا أسلم عليها الناس وبعثا عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : دعها عليها أقر يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنى أخشى أن يأتى بعدك من يهدمها فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس بحرمتها ولكن أرفعها فقال ابن الزبير : والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه فكيف أرقع بيت الله واستقر رأيه على هدمها رجاء أن يكون هو الذى يردها على قواعد الخليل صلوات الله وسلامه عليه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة رضى الله عنها ألم تر أن قومك حين بنوا الكعبة انتصروا عن قواعد إبراهيم فقلت يا رسول الله : لا تردها على قواعد إبراهيم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا حدثان قومك بالكف» ر فقال عبد الله بن عمر رضى الله تعالى عنهما ليت كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك استلام الركنين الشاميين الذين يليان الحجر إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفى رواية قالت : قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ثم بنيته على أساس إبراهيم فإن قريتنا اقتصرت بناء

٢٥١

وجعلت له خلفا» قال هشام : يعنى بابا متفق عليه قال الدمامينى فى كتابة تعليق المصابيح. على أبواب الجامع الصحيح : قوله خلقا بخاء معجمه مفتوحة ولام ساكنة أبى بابا عن خلقه يقابل هذا الباب الذى هو مقدم قلت تفسير خلقا بذلك وقع من متن البخارى وعليه فتعين كون جعلت مسندا إلى خير المتكلم وهو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا إلى ضمير يعود إلى قريش كما قاله الزركشى فتأمله. انتهى كلامه فرض رواية البخارى لو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت البيت فهدم ، فأدخلت ما خرج فيه ، وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم فذاك الذى حمل ابن الزبير على هدمه قال يزيد : هو ابن رومان وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه ، وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير بن أبى حازم : فقلت له : يعنى لزيد بن رومان أين موضعه قال : أريكه الآن فدخلت سعة الحجر فأشار إلى بناء مكان وقال : ههنا قال : جرير فحرزت من الحجر ستة أذرع أو نحوها وفى بداية لمسلم عن سعيد ابن مينا قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتنى خالتى يعنى عائشة قالت : قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها ما بين بابا شرقيا وبابا غربيا فزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنيت الكعبة قال ابن بطال : فيه أنه قد يترك سير من الأمر بالمعروف إذا خشى فيه أن يكون سببا لفتنة قوم ينكرون دفنه أن النفوس تحب أن تساس كما تساس إليه فى دين الله عن غير الفرائض ، قال أبو الزناد : إنما خشى أن ينكره قلوب الناس لقرب عهدهم بالكفر ويظنون أنه إنما فعل ذلك ليتفرد بالفخر دونهم وقد روى أن قريشا حين بنت البيت فى الجاهلية تنازعت فيمن يجعل الحجر الأسود فى موضعه ، فحكموا أول رجل يطلع عليهم ، فطلع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأى أن يوضع الحجر فى ثوب وأمر كل قبيلة أن يأخذ بطرف الثوب لئلا ينفرد واحد منهم بالفخر فلما ارتفعت الشبهة فعل ابن الزبير فيه ، قال النووى : فيه دليل القواعد فيها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه‌السلام ولكن عارضه مفسدة أعظم فيه وهو خوف فتنته بعض من أسلم قريشا كما كانوا يرون تغييرها عظيما ، فتركها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنها نكر ولى الأمر فى مصالح

٢٥٢

رعيته واجتناب ما يخاف فيه تولد ضرر عليهم فى دين أو دنيا إلا الأمور الشرعية كافة الزكاة وإقامة الحد ومنها تألف قلوبهم وحسن حياتهم لا ينفرد أولا أو لا يتعرض لما يخاف تنفيذهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعى ثم أنه استخار ربه ثلاثة أيام فلما مضت أجمع أمره على نقضها ، ثم إنه ـ رضى الله عنه ـ أمر بهدم الكعبة وكان ذلك فى يوم السبت النصف من جمادى الأخرة سنة أربع وستين من الهجرة أخرجه الأزرقى وقيل سنة خمس وستين فلم يجرؤ على ذلك أحدو أخرج أهل مكة إلى منى وأقاموا بها ثلاثا خوفا من أن ينزل عليهم عذاب بسبب ذلك ، وخرج عبد الله بن عباس إلى الطائف فلما رأى ذلك ابن الزبير علاها بنفسه وأخذ المعول وجعل يهدمها فلما رأوا أنه لم يصبه شىء صعدوا معه وهدموه كذا ذكره جمع ، ولم يذكر الشامى أنه رمى بنفسه وإنما ذكر أنه معه صعد رجل فألقى منه حجارة ، فلما يره الناس أصابه شىء تابعوه ثم أن ابن الزبير أرقى عبيدا من الجيش يهدمونها ، رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشى ص ١٤٢ الذى قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرب الكعبة ذو السويقتين فى الحبشة قال بعض العلماء وإنما صغره ذو السويقتين لأن فى سيقان الحبشة دقة وحموشة بالحاء المهملة والشين المعجمة قال فى الصحاح رجل حمش الساقين دقيقهما فيه العطف تفسيرى وتقدم ما لنا فى ذلك من البحث فإن هدم الجيش الذى أجربه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما هو بعد سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم مبسوطا ـ لما انتهى ابن الزبير ـ رضى الله عنه ـ من هدم الكعبة حفر عن الأساس من نحو الحجر بكسر الحاء ليقف من قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يصب شيئا فشق عليه ذلك فبالغ فى الحفر ، ونزل بنفسه ، فكشفوا له عن قواعد إبراهيم فإذا بين صخرا مثال الحلف مثل الإبل عن بن طا أنه قال كنت فى الأمنا الذين جمعوا على حفرة محفورة قامة ونصف فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد وعروق المروة فحركوها بالعقل فتحركت قواعد البيت وارتجعت مكة بأسرها ، ورأوه بنيانا مربوطا بعضه ببعض فحمد الله بن الزبير وكبر ثم أصغى الناس وأمرهم بالإشراف منزلا وشاهدوا ذلك فى تاريخ الأزرقى أن ابن الزبير لما هدم الكعبة وسواها بالأرض كشف عن أساس إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده داخلا فى الحجر ستة أذرع ومشيا وحجار ذلك الأساس كأنما أعناق الإبل حجارة حمر أخذ بعضها فى بعض مشبكة كتشبيك الأصابع وأصاب فيه قبرا فقال هذا قبر أم إسماعيل عليه الصلاة

٢٥٣

والسلام ودعى ابن الزبير خمسين رجلا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهرهم على ذلك الأساس وأدخل عبد الله بن مطيع العدوى عتلة كانت بيده فى ركن من أركان البيت ، فتدعدعت الأركان كلها وارتجت جوانب البيت ورجفت مكة بأسرها رجفة شديدة ، وخافوا خوفا شديدا وطارت من الحجر قطعة فأخذها بيده ، فإذا فيها نور مثل نار فطارت فيه برمة فلم يبق دارا من دور مكة إلا دخل ففزعوا ، فقال ابن الزبير : اشهدوا ثم وضع البناء علي ذلك الأساس فشرع حيئذ فى أمر البناء وأراد أن يبنيها بالورش وقيل له : إن الورش ولكن ابنها بالقصة وأخبر أن قصة صنعا أجور فأرسل بأربعمائة دينار يشترى بها ذلك ، وفى الزهر الباسم أنه بناها بالرصاص المذاب بالورش ، ثم أن يسأل رجلا من أهل العلم بمكة من أين أخذت قريش حجارتها فأخبروه بمقامها فنقل ما احتاج إليه وعزل من حجارة البيت ما يصلح أن تعاد فيه ثم بنى على تلك القواعد بعد أن جعل أعمدة من الخشب وستر عليها المستور ليطوف الناس من قيامها ويصلون إليها حتى ارتفع البناء قال الزركشى فى الأعلام : لو هدمت الكعبة العياذ بالله تعالى فصلى فى عرضا ولا شاخص لم يصح بالصلاة على سطحها ، لأنه صلى فى البيت لا إليه ولهذا لما هدم ابن الزبير رضى الله عنهما الكعبة ووضع أعمدة فستر عليها الستور لاستقبال المستقبلين وطوف الطائفين قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ له : إن كنت هادمها فلا تدع الناس لا قبلة لهم وهذا يدل على أن بقعة البيت ما كانت تنزل عندهما منزلة البيت لكن خالفهما عن ذلك جابر ـ رضى الله عنه ـ وقال : صلوا إلى موضعها وخالف ابن شريح فى الصلاة من العرضية فجوز ذلك قال الرافعى : رخصه بعضهم عند بصورة العرضيته وقال الإمام : لا شك أنه يجريه فى العرضة وبه صرح البغوى نقلا عنه فلا فرق انتهى وأما الصلاة إلى أرض الكعبة فيجوز ويجزيه ذلك بلا خلاف عندنا سواء منها شاخص أم لا ومذهب مالك أن المقصود بالاستقبال إلينا لا البقعة كذا نقله فى شرح مسلم فى الحج وما ادعاه فى معنى الخلاف باطل ، فنفى الاستدراك للدار فهى لفظه ، وأما الصلاة إليه إذا انهدم فمن أصحابنا من قال لا يجوز الصحيح أنه يجوز انتهى والصواب تخصيصه عن ابن شريح بالعرضة كما فى الروضة وأخرج الأزرقى أن البناء لما صار ثمانية عشرة ذراعا فى السماء وكان هذا طولها يوم هدمها قصرت حينئذ لأجل الزيادة التى

٢٥٤

زادها من الحجر فلم يعجب ابن الزبير وذلك فصارت عريضة لا طول لها فقال قد كانت قبل قريش تسعة أذرع وزادت قريش تسعة أذرع وأنا ص ١٤٣ أزيد تسعة أخرى فبناها سبعة وعشرين ذراعا فى السماء إلى سبعة وعشرين مدماكا وعرض الجدار ذراعا وجعل فيها ثلاث دعايم فى صف واحد وكانت قريش جعلت فيها ست دعايم فى صفين وأرسل إلى صنعاء فأتى برخام منها يقال له البلق فجعله فى الزورات التى فى سقفها للضوء. انتهى ، وهذا مخالف لما تقدم عن الأزرقى من أن طول البيت كان سبعة وعشرين ذراعا فاقتصرت قريش إلى آخر ، وكما سبق فيه فتأمل وجعل ابن الزبير البيت بابين متقابلين أحدهما يدخل منه والآخر تخرج منه وفى شفاء الغرام أنهما لاصقان بالأرض قال الحافظ ابن حجر جميع الروايات التى جمعتها فى هذه القصة مخفقة على ابن الزبير جعل الباب ما الأرض ومقتضيا أن يكون الباب الذى زاده على قسمته وقد ذكر الأزرقى أن جملة ما غيره : المخارج الجدار الذى من جهة الحجر والباب المشدود الذى فى الجانب الغربى عن يمين الداخل الركن اليمانى وما تحت عتب الباب الأصلى وهو أربعة أذرع وشبر وهذا موافق لما فى الروايات المذكورة لكن المشاهد الآن فى ظهر الكعبة باب مسدود يقابل الباب الأصلى وهو فى الارتفاع مثله ومقتضاه أن يكون الباب الذى فى عهد ابن الزبير لم يكن لاصقا بالأرض فيحتمل أن يكون لاصقا كما صرحت به الروايات الحجاج لما غيره رفعه ورفع الباب الذى يقابله أيضا ثم بداله فسد الباب المجدد ولكن لم أر النقل بذلك صريحا ثم قال : وذكر الفاكهى أنه شاهد هذا الباب المسدود من داخل الكعبة فى سنة ثلاث وستين ومائتين فإذا هو يقابل باب الكعبة وهو يقدره فى الطول والعرض وفى أعلاه كلاليب ثلاثة كما فى الباب الموجود سواء والله أعلم انتهى واعترضه بعض المتأخرين بأن فى قوله ويحتمل أن يكون لا صقا كما صرحت به الروايات فيه بعد إذ مشاهدة البناء فى أسفل الباب وارتبط بعضه ببعض يقضى بخلاف ذلك وعليه فكيف ما وقع فى سيرة الشامى حيث ذكر القصة وذكر فيها أن ابن الزبير جعل لها بابين ملتصقين بالأرض ، هذا وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعا واحدا فجعله مصراعين ، طولهما أحد عشر ذراعا وجعل الباب الآخر زائه على هيئته وجعل لها درجا من خشبة معوجة وصعدتها إلى طهرها وقد نقص الحجاج من طول الباب خمسة

٢٥٥

أذرع ، وسد الباب الغربى الذى فتح وترك سائرها على بنيان ابن الزبير إلا الجدار الذى فى الحجر وموضع سد الباب الغربى فإنه فى بنيان الحجاج وغير تلك الدرج التى فى جوفها وكان ابن الزبير لما هدم البيت أخذ الحجر الأسود ، وجعله فى وشاجه وأدخله فى تابوت ، وأقفل عليه وأدخله دار الندوة وعمد إلى ما كان فى الكعبة من حلى وثياب وطيب ، فوضعه فى خزانة الكعبة فى دار شيبة بن عثمان فلما انتهى إلينا إلى موضع الحجر أمر فنقر بين حجرين أحدهما المدراك الذي تحته ، والآخر من الذى فوقه وطبق ما بينهما ولما انتهى إلى موضع الحجر الأسود تحرى عقله الناس نصف النهار فى يوم صائف وجاء بالحجر الأسود هو وولده وجبير بن شيبة ووضعوه بأيديهم ، كما فى الزهر الباسم وقيل بل الحمية قواعد والوضع الركن فلما دخل ابن الزبير فأخذ بها فى الثوب فرفعه معهم وقيل : بل وضعه ابن الزبير نفسه وشده بالقصة وقيل : وضعه عباد بن عبد الله بن الزبير وجبير بن شيبة أمرهما عبد الله بن الزبير أن يجعلا الركن فى ثوب ويخرجانه وهو يصلى بالناس الظهر على غفلة من الناس لئلا يعلموا بذلك فيتنافسوا فى وضعه وقلل لهما : إذا فرغتما فكبرا حتى أسمعكما فى صلاتى فلما وضعه هو فى موضعه كبرا فتسامع الناس بذلك فغضب رجال من قريش حيث لم يحضرهم ابن الزبير وقالوا : ما رفعته قريش فى الجاهلية حتى يحكموا أول من دخل عليهم مكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول داخل أخرجه الأزرقى وقيل وضعه صخرة ابنه وحده بأمر أبيه نقله السهيلى والله أعلم بالصواب وكان الحجر قد تصدع من الحريق وانفرق ثلاث فرق قال ابن جدعون : فنظرت ص ١٣٠ إلى جوف الحجر حين انفلق كأنه الفضة وانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد الحريق بدهر طويل فشده ابن الزبير بالقصة إلا تلك الشظية وموضعها بين فى أعلى الركن ثم تزلزت تلك القصة بعد ذلك ، وتفلقت حتى خيف على الحجر فلما اعتمرها روى هارون الرشيد فى سنة تسع وثمانية كأنه أمر بنقب الأحجار التى فوق الحجر والتى تحته فنقبت بالمأسر من فوقها ومن تحتها ، ثم أفرغ فيها القصة ولما فرغ ابن الزبير ـ رضى الله عنهما ـ من بناء الكعبة وذلك فى سابع عشرة رجب من سنة خمس وستين خلق جوفها بالعنبر والمسك ولطخ جدرانها بها من خارج بذلك من أعلاها إلى أسفلها ، وسترها بالديباج وقيل بالقباطى وفى فضل من الحجارة فرشها حول البيت وقال من كانت لى عليه

٢٥٦

طاعة فليعتمر من التنعيم شكرا لله عزوجل من قدر أن ينحر بدنة فليفعل ، ومن لم يقدر علي بدنة فليذبح شاة ، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله ، ثم خرج ماشيا حافيا وخرج معه رجال من قريش مشاة حفاة عبد الله بن صفوان وعبيد بن عمر ما حرم بن أكمة إمام مسجد عائشة ـ رضى الله عنها ـ بمقدار علوة مقارب المسجد المنسوب لعلى ـ رضى الله عنه ـ وجعل طريقة على تنبيه الحجون ودخل فى أعلا مكة وطاف بالبيت واستلم الأركان الأربعة وقال : إنما ترك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الركنين يعنى الشامى والغربى لأن البيت لم يكن تاما يعنى على قواعد إبراهيم وصارت هذه العمرة سنة عند أهل مكة فى هذا اليوم يعتمرونها فى كل سنة إلى يومنا هذا ، وأهدى ابن الزبير فى تلك العمرة مائة بدنة نحرها من جهة التنعيم ، وبعض طرق الحى ولم يبق من أشراف مكة وذوى الاستطاعة بها إلا أهدى ، وأقاموا أياما يتطاعمون ويتهادون شكرا لله تعالى على الإيمان والتيسير على بناء بيته الحرام بالصفة التى كان عليها مدة الخليل عليه‌السلام ، ولم يزل البيت علي بناء ابن الزبير تسلم الأركان كلها ويدخل من باب ويخرج من باب حتى قتل ابن الزبير انتهى تنبيه تقدم فى القصة أن الحجر الأسود تصدع من الحريق وهذا لا ينافى ما ذكروه فى وصفة وقد قال الإمام بدر الدين أحمد بن محمد الشهير بابن الصاحب : فإن قلت : ما الحكمة من كون الحجر من ياقوت الجنة دون غيرها من جواهرها؟ قلت : غريب نبهت عليه فى كتاب كشف أغطية الكنوز قرانا حتين بذلك ولكن الوّح هنا بشىء من فتوره وذلك أن الشمس فى الفلك الرابع المتوسط لو لم يكن أوسط الأشياء أصفها ما اختارت الشمس من أفلاكها الوسط ويلى الممدة لما فوقها وما تحتها من الأفلاك والمعدة فى الفلك الرابع من الأنفس وتلى الممدة لما فوقها وما تحتها متعسرها علي النار وخلق الله تعالى فيها عينا مناعة بحمص معينة على الهضم والتبريد ومكة فى الفلك المتوسط من الدنيا وهو محل النار ، وتلى الممدة للدنيا قال الله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) أى قواما لدينهم ودنياهم وجعل الحجر من يأتون الجنة الذى لا تبالى بالنار ، ويحصل منه التبريد المعنوى والحسى وقال ما أحلى الياقوت هم نمضى وتم انطفأ الحجر والياقوت ياقوت ثم

٢٥٧

راخر وهو أنه نقطة الدايرة الياقوتية انتهى وذكر الفاسى فى تاريخه أن الحجر الأسود يطفو على الماء وأنه لا يسحق من النار قال ذكر هاتين الآيتين ابن أبى فى الفرق الإسلامية فيما حكا عنه ابن شاكر الكتبى المؤرخ ، ونقل ذلك من بعض المحدثين ورفعه إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونقل الزركشى فى الأعلام لأن القرامطة لما أن سلموا الحجر الأسود للمسلمين قالوا لهم : يا من لا عقل لهم من أين لكم أن هذا هو الحجر الأسود ولعلنا حفرنا حجرا أسودا من هذه البرية عوضه فسكت الناس إذ كان فيهم عبد الله بن حكيم المحدث فقال : لنا فى الحجر الأسود علامة فإن كانت موجودة فهو وإن كانت معدومة فليس هو ، ثم رفع حديثا غريبا أن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء ولا يسحق بالنار إذا أوقد ص ١٤٥ عليه فأحضر القرمطى طشتا ووضع الماء فيه ووضع الحجر فطفى علي الماء ثم أوقدت عليه النار فلم يحس بها ، فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله وقال : أشهد أنه الحجر الأسود ، فتعجب القرمطى من ذلك وقال : هذا دين مضبوط بالنقل وأرسل الحجر إلى مكة قال بن دحية عبد الله بن حكيم : هذا لا يعرف والحجر الأسود جلد لا تخلخل به والذى يطفوا على الماء يكون فيه بعض التخلخل كالحقاف وشبهه انتهى وأما سبب بناء الحجاج وتغير بعض ما صنعه بن الزبير فهو أن ابن الزبير ـ رضى الله عنه ـ لما قتل كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره أن ابن الزبير زاد فى الكعبة ما ليس منها وأحدث فيها بابا آخر ، وفى سيرة الشامى أنه كتب له يخبره بذلك وبأنه وضع البناء على أمر قد نظر إليه العدول من أهل مكة واستأذنه فى رد ذلك على ما كان عليه فى نيار قريش فكتب عبد الملك أن البناء من تخليط ابن الزبير فى شىء أما ما زاد فى طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر بكسر الحاء فرده إلى بنائه ، وسد بابه الذى فتحه يعنى الغربى ، فبادر الحجاج عند ذلك ، ونقض الشق الذى يلى الحجر بالكسر أيضا ، وبناه وربع بابها وسد الباب الغربى ، وقد روى عن غير واحد من أهل العلم أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج فى ذلك ولما أخبره الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة أنه سمع الحديث عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنها ـ الذى اعتمده ابن الزبير فيما فعله فى الكعبة وهو قوله ، لو لا قومك إلى آخره وكان الحارث مصدقا لا يكذب فجعل ينكف بقضيب كان فى يده فى

٢٥٨

الأرض ساعة ثم قال : وددت إنى كنت تركته وما تحمل قال الزركشى فى الأعلام قال القرطبى فى المفهم : وما فعله عبد الله بن الزبير كان صوابا وقبح الله الحجاج ، وعبد الملك ، لقد جهلا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وندم عبد الملك لا يفيده ، فإنه كان متمكنا بالتسبب بالسؤال والبحث فلم يفعل واستعجل وقضى ، فالله حسبه ومجازيه على ذلك فلقد اجترئ علي بيت الله وعلى أوليائه. انتهى وكل شىء فيها الآن بناء ابن الزبير عدا الجدار الذى فى الحجر وسد الباب الغربى ، وتغير ما تحت عتبته الباب الشرقى ، فإنه نقض من طول الباب خمسة أذرع الدرجة التى فى باطنها وروى أن هارون الرشيد أو أبا المهدى أوجده المنصور سأل مالك بن أنس ـ رضى الله عنه ـ فى هدمها وردها إلى بناء بن الزبير للحديث المذكور فقال له مالك نشدتك الله يا أمير المؤمنين لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا شيئا إلا نقضه وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس قال الفاسى : وكان مالكا لحظ فى ذلك كون درأ المفاسد أولى من جلب المصالح وعلي قاعدة مشهورة معتمدة واستمر بناء الكعبة على ذلك فلم يقدم أحد على هدم ما بناه الحجاج ولم يتسور أحد عليها من الملوك وغيرهم بما يخالف ذلك وإنما الذى تسوروا به عليها هو صلاح ما وقع فيها بقدر الحاجة لا غير ، وتجديد ما يخل بحرمتها من إبدال بابها ميزابها وعتبتها ونحوها المرة بعد المرة ، فلله سبحانه الحمد على ذلك وروى أن الحجاج لما نصب المنجنيق على أبى قبيس والنيران واشتعلت أستار الكعبة بالنار ، جأت سحابة من نحو جدة فسمع فيها الرعد وبرق البرق فمطرت ، مما جاوز مطرها الكعبة والمطاف فأطفأت النار وأرسل الله عليهم صاعقة فأحرقت منجنيقهم فتداركوه ، قال عكرمة : وأحسب أنها أحرقت تحته أربعة رجال فقال الحجاج : لا يهولنكم هذا فإنما أرض صواعق فأرسل الله صاعقة أخرى فأحرقت المنجنيق وأحرقت معه أربعين رجلا ، وذلك فى سنة ثلاث وسبعين أيام عبد الملك بن مروان غريبة نقل عن الشعبى أنه قال : رأيت عجبا كنا بفناء الكعبة أنا وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وأخوه مصعب وعبد الملك بن مروان فقالوا بعد أن فرغوا من حديثهم : ليقم رجل

٢٥٩

فليأخذ بالركن اليمانى وليسأل الله تعالى حاجته فإنه يعطى من سعته ثم قالوا لعبد الله بن الزبير : قم أولا فإنك أول مولود من الهجرة فقام فأخذ بالركن اليمانى ثم قال : اللهم إنك عظيم ترجى لكل عظيم أسألك بحرمة ص ١٤٦ وجهك وحرمة عرشك وحرمة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى الحجاز ، ويستلم على بالخلافة ، وجاء جلس ثم قام أخوه مصعب فأخذ بالركن اليمانى فقال : اللهم إنك رب كل شئ ، وإليك كل شئ ، أسألك قدرتك على كل شئ أن لا تميتنى من الدنيا حتى تولينى العراق ، وتزوجنى سكينة بنت الحسين وجاء وجلس ثم قام عبد الملك بن مروان فأخذ بالركن وقال اللهم رب السموات السبع والأرض ذات النبات بعد القفر أسألك عبادك المطيعون لأمرك ، وأسألك بحرمة وجهك ، وأسألك بحقك على جميع خلقك ، وبحق الطائفين حول بيتك أن لا تميتنى حتى تولينى شرق الأرض وغربها ، ولا ينازعنى أحد إلا أتيت برأسه ثم جاء وجلس ، ثم قام عبد الله بن عمر حتى أخذ بالركن ثم قال اللهم يا رحمن يا رحيم أسألك برحمتك التى سبقت غضبك وأسألك بقدرتك على جميع خلقك أن لا تميتنى من الدنيا حتى توجب لى الجنة ، قال الشعبى فما ذهبت عيناى من الدنيا حتى رأيت كل واحد منهم قد أعط ما سأل وبشر عبد الله بن عمر بالجنة قال : يعش المتأخرين لقائل بأن يقول ما لا دليل على وجه البشرى ولم أر أحدا من المؤلفين فى هذا المعنى ذلك شيئا فاستدل به على ذلك ولا تعرض له فيما وقفت عليه ويحتمل أن يكون فى ذلك وجهان الأول أن سيدنا عبد الله بن عمر ـ رضى الله ـ تعالى عنه كان قد كف بصره بعد ذلك وقد وعد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ابتلاه بذلك الجنة كما فى صحيح البخارى الشافى إن الثلاثة لما أعطوا ما سألوا ، كان ذلك دليلا على إجابة دعاء الجميع إذ هو اللائق بكرم الله تعالى وسعة عطاءه وكان سيدنا عبد الله ـ رضى الله عنه ـ من الورع والزهد والعلم والصلاح بالمكانة التى لا تجهل كما فى مناقبه وحيث تقدم ذكر الحجاج ونقلته لابن الزبير فلا بأس بذكر القصة مفصلة فنقول : لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير أخا عبد الله بن الزبير بالعراق واستولى عليها تقدم له الحجاج بن يوسف الثقفى وقال لعبد الملك : يا أمير المؤمنين قد رأيت فى المنام أنى أخذت ابن الزبير وسلخته فابعثنى إليه وولنى حربه فبعثه فى ألفين

٢٦٠