تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

الخرورة إلى السعى إلى مخرج سيل أجياد ثم قرأ رجال السند وقال : فالحديث محتج به ولله الحمد والظاهر أن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما لا يقول ذلك إلا بتوقيف من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يكون هذا مشهورا بين قريش يداولونه بينهم ، وقدرواه أبو هريرة رضى الله عنه انتهى كلامه. وفرع على ذلك حرمة هذه الأبنية التى أحدثت بفناء المسجد وجعلت مصلى للأئمة كما سيأتى.

هذا وقد قال العلامة (١) الفاسى : وذكر الأزرقى خبرا فيه أن المسجد الحرام كان فى زمن ابن الزبير سبعة أجربة وشيئا انتهى. والحدب على ما قال النووى والقلعى وغيرها أرض مربعة كل قائمة منها ستون ذراعا ، قال ابن الرفعة بعد ذكره لذلك : وأنت إذا ضربت ذلك فى مثله بلغ ثلاثة آلاف ذراع وستمائة ذراع انتهى. وعلى ذلك يكون مقدار المسجد الحرام فى زمان ابن الزبير خمسة وعشرين ألف ذراع ومائتين ذراع ؛ لأن ذلك مقدار سبعة أجربة ويزيد مقداره على ذلك بزيادته على السبعة الأجربة التى قيلت فى مقداره ، وقد قيل فى التجريب غير ذلك ، وبينا ما يترتب عليه فى الأصل هذا الكتاب وذرع المسجد الحرام الآن مكسر مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراعا ، هكذا قال الأذرعى انتهى كلام التقى الفاسى ، انتهى. فليتأمل.

وأما الجواب عن قوله : وهل يمتنع سكنى هذه البيوت التى بالحرم إلخ؟ فقد تكفل بجوابه الإمام قاضى القضاة تقى الدين السبكى فى رسالة سماها منع الاستطراق من الباب المستحق الإغلاق ، لكنه لم يتكلم عن الأبواب المفتوحة بسطح المسجد وقد تكلم عليها التقى الفاسى فقال ولم أذكر فى أبواب المسجد الحرام أبواب الدور التى فى المسجد ، وإن كان الأزرقى ذكرها لأنها أبواب الدور لا المسجد ، وفى غالب هذه الدور أبواب أخر صغار يخرج منها إلى سطح المسجد وكانت سدت قبيل سنة ثمانمائة وفيما بعدها حسما لمادة مفايد تقع فى سطح المسجد ثم فتحت فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، انتهى كلام الفاسى. ولم يزد على ذلك ، ومحصل رسالة الإمام أنه قال كتب إلى ولدى أبو حامد ـ أحمد الله عاقبته وبارك فيه لنفسه ولنا وللمسلمين أجمعين ـ يسألنى عن الباب إذا

__________________

(١) شفاء الغرام ١ / ٩١.

١٤١

فتح فى سور الجامع هل بعد فتحه يجوز الاستطراق منه إلى المسجد مثل الأبواب التى فى المسجد الحرام ومثل شباك الطبيرسية أو لا يجوز؟ أو لغرق بين أن يكون الجدار عريضا بحيث يحتاج إلى وضع القدم فى وسط أو لا؟ قال : فإننى أرسلت لأبى الفضل ليبين لى كيف لا يكون فيه باب إلى الحرم ، ثم توقفت فى تحريم هذا ، فكتبت إليه فى الجواب : الحمد لله هذه المسألة تتكلم فيها فى موضعين : أحدهما فى جواز فتح البناء المذكور والذى يظهر على قواعد مذهب الشافعى رضى الله عنه أنه لا يجوز ، ولإنكار الشافعية يرتابون فى إنكار ذلك فإنهم يحترزون عن تغيير الوقف جدا ، ولما فتح شباك الطبيرسية الذى أشار إليه فى جدار الجامع الأزهر عظم على ذلك ورأيته من المنكرات وأنكرته بقلبى ولم يكن لى قدرة على أكثر من ذلك ، ولما فتح الشيخ علاء الدين فى بيته فى المدرسة الشريفين بالقاهرة شباكا لطيفا لأجل الضوء خشى الإنكار عليه ، فقال لى : إنه استند إلى كلام لابن الرفعة فى المطلب شرح الوسيط ، ورأيت أنا ذلك الكلام عند قول الغزالى فى تعليل الوجه القائل بأنه لا يجوز تزويج الجارية الموقوفة أنه ينقض الوقف ويخالف غرض الواقف ، فقال ابن الرفعة : قوله : ويخالف غرض الواقف يفهم أن أغراض الواقفين وإن لم يصرح بها ينظر إليها ؛ ولهذا كان شيخنا عماد الدين رحمه‌الله تعالى يقول : إذا اقتضت المصلحة تغيير بعض بناء الوقف فى صورته لزيادة ريعه جاز ذلك وإن لم ينص عليه الواقف بلفظه ؛ لأن دلالة الحال شاهدة بأن ذلك لو ذكره الواقف حالة الوقف لأثبته فى كتاب وقفه ، قال ابن الرفعة : وقلت ذلك لشيخ الإسلام فى وقته قاضى القضاة تقى الدين القشيرى رحمه‌الله ، وابنه قاضى القضاة تاج الدين ، وولده قاضى القضاة صدر الدين رحمه‌الله ، عملا بذلك فى بعض الوقف من تغييرات من مكان إلى مكان فقال لى فى جواب ذلك : كان والدى رحمه‌الله ـ يعنى الشيخ مجد الدين ـ رحمه‌الله يقول كان شيخى المقدسى رحمه‌الله يقول بذلك وأكثر منه ، قال الشيخ تقى الدين رحمه‌الله ، وناهيك بالمقدسى أو كما قال فاشعر ذلك برضاه ومراد ابن الرفعة برضا الشيخ تقى الدين رحمه‌الله ، وهو المشهور بابن دقيق العيد وكان قدوة زمانه فى العلم والدين ؛ فلذلك اغتبط ابن الرفعة مما

١٤٢

استشعره من رضاه بذلك وكان بحيث يكتفى منه بما دون ذلك ، والمقدسى شيخ والده مالكى فقيه محدث قدوة أيضا ، وقد قلت فى شرح المنهاج إن الذى أراه فى ذلك الجواز أيضا بشرطين : أحدهما : أن يكون يسير ألا يغير مسمى الوقف ، والثانى : أن لا يزيل شيئا من عيبات بنقل نقضه من جانب إلى جانب فإن اقتضى زوال شىء من العين لم يجز ، وإذا وجدت هذين الشرطين فلا بأس إذا كان فى ذلك مصلحة للوقف ، فهذا شرط ثالث لا بد منه ، وهو مقصودى فى شرح المنهاج وإن لم أصرح به فيه ، وفتح شباك الطبيرسية لا مصلحة للجامع الأزهر فيه فلا يجوز ، وكذلك فتح أبواب للحرم لا حاجة للحرم بها فإنما هى لمصلحة ساكنيها فهذا لا يجوز على مقتضى مذهب الشافعى رحمه‌الله ، بل ولا على مذهب غيره إذا لم يكن فيه مصلحة ، وفى فتاوى ابن الصلاح رباط موقوف اقتضت مصلحة أهله فتح باب مضاف إلى بابه القديم أجاب : إن استلزم تغيير شىء من الوقوف عن هيئة كان عليها مثل أن يفتح إلى أرض وقفت بستانا مثلا فيستلزم تغيير محل الاستطراق وجعل ذلك القديم طريقا بعد أن كان أرض غراس وزراعة ، فهذا وشبهه غير جائز وإن لم يستلزم شيئا من ذلك ولم يكن إلا مجرد فتح باب جديد فهذا لا بأس به عند اقتضاء المصلحة وفى الحديث فى الصحيحين ما دل على تسويغه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا حدثان قومك بالكفر جعلت للكعبة بابين» ولا فرق والأثر فعل عثمان فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو إجماع قلت : الذى قاله صحيح لكن استدلاله بالكعبة فيه نظر ؛ لأن البابين كانا فى زمن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففتح الثانى رد لما كانت عليه فى الأصل وكذا باشر عثمان رضى الله عنه لأن ذلك مصلحة عامة للمسلمين فلا يلزم طرده فى كل وقف ، ألا ترى أن ذلك هدم بالكلية وتغير؟ لو جئنا نفعل ذلك فى كل الإمكان لم يجز ، قلت : قال المحب الطبرى : شباك الصحابة المأثور بسدها الله أعلم هل كانت من أصل البناء أو فتحت بعده؟ يعنى فى جدار المسجد ، فإن كان الأول فلا يخالف ما قلناه من أن مثله فى شباك فتح فى جدار المسجد تعديا لا يبعد إلحاقه بالصلاة فى الموضع المغصوب ، وإن صح الثانى وأمكن أن يقال إنه خصيصة لهم تسهيلا عليهم فى حضور الجماعة ، ثم لما مروا على ذلك أمروا

١٤٣

بسدها ، وخص أبو بكر إظهارا لمودته وقد أكثرت البحث عن ذلك فلم أر من تعرض له ، ولعلهم اكتفوا بذكر منع التصرف فى حائط الجار دون إذن حتى يدق الوتد فجدار المسجد كذلك انتهى. وقال السبكى : الذى يظهر من قول الشافعى منع فتح الباب ونحوه فى جدار المسجد ولا يكاد الشافعية يرتابون فيه فإنهم يحترزون عن تغيير الوقف صار كما فتح شباك الطيبرسية فى جدار الجامع الأزهر عظم ذلك على ورأيته من المنكرات إذ لا مصلحة للجامع فيه ، وكذا كلما كان لمصلى غير المسجد ، قال : وحيث لم يجز الفتح فيظهر أن لا يجوز الاستطراق من غير ضرورة ، وإنه لو لا إقراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح قريش من باب الكعبة فى غير محله لم يجز الدخول منه ، قال السيد السمهودى : وفى كلامه ما يقتضى أن ما قاله مقتضى كلام المذاهب الأربعة وبه يعلم الترخيص فى جواز الفتح إذا حصل هدم الجدار وانهدامه ؛ لأن ترك الفتحات فى الجدار تغير الوقف ، فإن قريشا إنما فعلوا ذلك فى الكعبة بعد هدمها وقد سبق كلام السبكى فيه والظاهر القطع بمنع ذلك فى مسجد المدينة ، لأنه ظهر من أمر الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه المنع مطلقا ، وتوهم أن ذاك فى جداره فلا يمتنع فى جدار بناء غيره غلط بين انتهى. وقال ابن الصلاح : لا بد أن يصان ذلك عن عدم شىء لأجل الفتح على وجه لا يستعمل فى موضع آخر من المكان الموقوف ، فإن ذلك من الموقوف ، فلا يجوز إبطال الوقف فيه ببيع وغيره ، فإذا كان الفتح بانتزاع حجارة بأن تجعل فى طرف آخر من المكان فلا بأس ، هذا كلام ابن الصلاح رحمه‌الله تعالى ، ويظهر من هذا أنه إنما يجوز الفتح بهذه الشروط فى باب جديد فى الحرم إذا ضاقت أبوابه من ازدحام الحجيج ونحوهم ، فيفتح فيه باب آخر أو أكثر ليتسعوا ، فهذا هو الذى يقول إنه جائز بالشروط المذكورة ، أما غيره لغرض خاص من جيرانه أو غيرهم فلا ، الموضع الثانى وهو الذى سأل الولد عنه وهو جواز الاستطراق فيه بعد الفتح ، ولا نقل عندى فى مثله ، والذى أقوله أنه حيث جاز الفتح جاز الاستطراق بلا إشكال وهذا لم يسأل عنه ، وحيث لم يجز الفتح فقد حضرنى فى نظرى فى ذلك باب الكعبة الذى هو اليوم وهو الذى أحدثته قريش بدلا عن الباب التحتانى الذى كان فى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وقد دخل

١٤٤

النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه وحضرنى فى الجواب عنه أن دخول الكعبة مشروع سنة وربما كان واجبا فلا يترك لفعل قريش ولم يكن تغيير ذلك الباب ممكنا لما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا حدثان عهد قومك» فاجتمع فى باب الكعبة أمران : أحدهما : جواز إبقائه فى ذلك الوقت ، والثانى : الحاجة إلى دخول الكعبة إقامة للشرع المسنون أو الواجب وهكذا الآن فإن الإجماع انعقد على عدم جواز تغييرها ، وفكرت أيضا فى أن الحجر من البيت وقد أفرد عنه ببناء لطيف فيه فتحتان شرقية وغربية فى جنوبه ملاحقان لجهة الكعبة ، والمعنى الثانى موجود فيه وهو أنه يجوز إبقاؤه ولا يجوز تغييره كالكعبة والدخول فيه من إحدى الفتحتين أو من فوق جداره اللطيف ما أظن أحدا يمنع منه ، ولا أدرى هل دخله النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لا؟ ولكن جاء فى الترمذى أنه قال لعائشة رضى الله عنها : «صل فيه» فإن دعت حاجة إلى الدخول فيه جاز الدخول كالكعبة لاجتماع المعنيين وإن لم تدع حاجة احتمل أن يقال بالجواز لأجل جواز الإبقاء ، وهذا هو الظاهر للحديث المذكور ، واحتمل التوقف لعدم الحاجة وهذا بعيد والقول به مجوج إلى أن لعائشة رضى الله عنها عذرا إن صح الحديث.

وأما الأبواب المفتحة إلى الحرم من أماكن لأصحابها فلا حاجة للمسلمين ولا للحرم بها ، فلا يجوز فتحها ولا يجوز إبقاؤها ، ولا حاجة إلى الدخول إلى الحرم منها ، فلم يوجد فيها شىء من المعنيين اللذين فى الكعبة ، فيظهر أنه لا يجوز لأمرين : أحدهما : معنى كان شيخنا ابن الرفعة لما زينت القاهرة فى سنة اثنتين وسبعمائة زينة عظيمة أفتى بتحريم النظر إليها ، قال : لأنها إنما تعمل لينظر إليها فهو العلة الغائبة المطلوبة منها ففى تحريم النظر إليها حمل على تركها ، وهكذا هذا إذا تواطأ الناس على عدم الدخول منه كان ذلك داعيا إلى سده الواجب ، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، وترك الواجب حرام ، بل أقول إن الدخول فيه إعانة على إبقائة ودوامه فيكون حراما ، والثانى : إن الوقف غير مملوك لنا وإنما يجوز لنا التصرف فيه بإذن من الواقف شرطا أو عرفا على مقتضى الشرع ، فوافق الجامع والحرم وغيرهما فى المساجد ونحوها وقفه على صفة ليس لنا أن نتصرف فيه إلا على تلك الصفة ، والدخول من ذلك المكان

١٤٥

المفتوح لم يقتضيه وقف الواقف فلا يكون مملوكا لنا ، وأيضا فمن ملك مكانا ملك تحته إلى تخوم الأرض وفوقه إلى السماء والهواء الذى فوقه مملوك له ، فالداخل من الباب متصرف فى هواء غيره بما لم يأذن له فيه فلا يجوز ، ومع ملاحظة هذين المعنيين لا فرق بين أن تكون العتبة عريضة بحيث يضع قدمه عليها أولا ، نعم إذا كانت عريضة يتأكد المنع للتصرف فى الهواء والقرار هذا الذى يترجح عندى فى ذلك ، ويحتمل عندى أيضا أن يقال المنع إنما كان لوجود الجدار وليس بمقصود فى نفسه ، فإذا زال الجدار بأى طريق فرض فلا يمتنع دخول المكان كما لو انهدم بنفسه ، واعتبار ملك الهواء بحيث يقال ليس لنا العبور إذا انهدم بنفسه لا يقتضيه قواعد الفقه ولا العرف وهو مستنكر ، فالوجه أن يقال : إنما يتخيل التحريم من جهة أنه إعانة على ظلم ، فإذا لم يكن إعانة على ظلم فهو جائز وذلك حيث لا يفيد الامتناع من الدخول ، وإنما يفيد إذا كان الممتنع مطاعا فيكون امتناعه سببا لإنكار المنكر فيجب ، وإذا لم يكن بهذه المثابة فلا منع ولا سيما قد يتفق أن يكون الشخص الذى لا قدرة له على التغيير ساكنا فى جواز الحرم فى مكان قد فتح باب كذلك وهو لا يقدر على سده ، فيحتمل جواز دخوله منه ، ويقول ذلك إذا احتاج بأن يكون فى الليل أو نحوه وخاف على نفسه أو من معه من الخروج ، فأنا أقطع فى هذه الحالة بجواز دخوله منه قياسا على الكعبة للحاجة ، وأما السكن فيه فلا يمتنع فالولد إذا تهيأ له ذلك لا يمتنع من اكترائه لهذا المعنى ، ويعتمد فى دخوله منه فى بعض الأحوال ما ذكرناه من الضرورة ، وحيث لا ضرورة فلا يدخل منه لأمرين : أحدهما ما ذكرناه ، والثانى كثرة الخطأ فى الخروج والدخول من أبواب الحرم والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأما الجواب عن قوله : وهل إحداث هذا البناء فى مصلى الأئمة الأربعة جائز أو حرام؟ ومن أحدثه؟ فجوابه أن الإمام البلقينى قال فى فتاويه ما نصه : مسئلة فى مسجد الحرم المكى وصفته أنه يشتمل على فضاء متسع يحيط به أروقة على عمد مسقفة تكن الحر والبرد والمطر ، والكعبة المشرفة فى وسط ذلك الفضاء وبئر زمزم إلى جانبها مشرقة تعلوها قبة ، وقريب منها قبتان إحداهما لما يحتاج إليه الحرم من آلات يزال بها ما يطرأ بالمسجد الشريف مما ينزه عنه وما يسرج به من شموع ويبسط به من يوازى ، والثانية على فسقية لعلها مكان

١٤٦

السقاية العباسية وتجاه باب الكعبة قبة صغيرة على المقام الإبراهيمى ، ويتصل بها سقف لطيف يصلى تحته الإمام الشافعى ما لم يكن سيل أو مطر ، فإن كان فتحت الأروقة خلف المقام الإبراهيمى ، ووراء المقام بنحو ستة أذرع ركيزتان ارتفاع كل واحدة منهما عن الأرض نحوا من ذراعين فى عرض ذلك وسمكه موضوعة فى كل واحدة منهما أخشاب قائمة مسمور فى أعاليها أخشاب معرضة لتعليق القناديل ، وجعل لكل إمام من بقية المذاهب الثلاثة دكة مبنية مرتفعة عن الأرض مقدار ذراع من شرقيها إلى غربيها مقدار ستة أذرع ، ومن قبليها إلى بحريها مقدار ثلاثة أذرع وجعل على طرفى كل من الدكك المذكورة ركيزتان بهما من الأخشاب مثل ما ذكر فيما تقدم ، يصلى كل إمام وراء دكته المغرب والعشاء والصبح ما لم يكن سيل أو مطر ، وأما الظهر والعصر فإن كان غيم ففى موضعه وإلا فيتنحى إلى ما يحاذى ذلك فى الأروقة خلفه ، فتهدمت دكة إمام الحنفية فأعادها إنسان على أربعة ركائز بهيئة المرامى التى تجعلها الترك بالصحراء يقعدون بها لرمى النشاب ، فهل يجوز له ذلك مع ما يتحقق ويتوقع من المفاسد؟ فمنها منع مشاهدة البيت لمن تجلس حيال ذلك من ورائه ، ومنها تغيير البقعة عما وقفت عليه ، ومنها منع من السجود والطواف والاعتكاف عليها ، ومنها أن من لا خير فيه أولا علم عنده قد يتوارى بها لارتكاب محرم أو مكروه كخلوة بأجنبية ووسائل ذلك ومقاصده أو إزالة حقنة امرأة أو صغير أو أعرابى جاف لا سيما فى الليالى المظلمة ، ومنها إعانة اللصوص على أخذ متاع الغريب الذى يأوى إلى ذلك البناء ، ومنها ما تحدثه كذبة المكيين لوفد الحجيج فى فضائل ذلك البناء كسرة الدنيا والعروة الوثقى وغير ذلك ، وهل تذكرون رضى الله عنكم من أقوال علماء الأئمة الأربعة وأتباعهم ما يفهم منه جواز ذلك؟ فإن بعض من ينتسب لمذهب أبى حنيفة رضى الله عنه زعم أن مذهبه جواز ذلك مستند إلى كلام فتاوى قاضى خاف ، وهو ما ذكره فى فصل فيما يحدث فى المسجد ، قال أهل المسجد : إذا احتضروا بئرا فى المسجد ووضعوا فيه جبا يصب فيه الماء وطرحوا فيه البوادى أو الحشيش أو الحصا أو ركبوا بابا أو علقوا فيه القناديل أو طلوه فعطب بذلك شىء لا ضمان عليهم ؛ لأن المسجد فيما هو من

١٤٧

تدبير المسجد بمنزلة الملاك ، وكذلك لو فعل ذلك غيرهم بأمرهم ، فإن فعل بغير أمرهم كان ضامنا لما عطب فى قول أبى حنيفة رضى الله عنه ، وقال صاحباه : لا يضمن استحسانا إذا كان ذلك العامة إلا فى حفر البئر وما لا يكون من باب التمكين لإقامة الصلاة لهما أن كل مسلم مندوب إلى عمارة المسجد وإلى ما كانت من باب التمكين لإقامة الصلاة ، وإنما يختص أهل المسجد بالبناء وحفر البئر لأنهما من باب التمكين لإقامة الصلاة ، ولأبى حنيفة أن أهل المسجد يختص بالتدبير فى هذه البقعة ، ولهذا كان فتح الباب والإغلاق ، ونصب المؤذن والإمام إليهم لا إلى غيرهم انتهى. فزعم أن مستنده قوله أو طلوه فجعلها أو ظللوه بظاء معجمة ولا مين بعدها ، والذى رأيناه فى نسخ أربع هو ما أسلفناه كالتطيين أو التنويرة ، واستند أيضا إلى قوله : وإنما يختص أهل المسجد بالبناء وحفر إليه ؛ لأنهما من باب التمكين لإقامة الصلاة ، قال : وهذه الظلة فيها التمكين لأنها تكن مريد سماع الخطبة يوم الجمعة وبقرب الإمام ومن يكون تحتها فى كل الصلوات فى البيت وبقى مشاهد البيت الحر والبرد والمطر ، قال : والركيزتان المزالتان كانتا شاغلتين لأكثر من الركائز الأربع؟؟؟ لا فأذرعنا الدكة الأولى وركيزتها وما جعلناه من الركائز ، والسقف وجدناه أقل من ذلك بأحد عشر ذراعا ، فهل فيما أسنده إليه هذا الحنفى مستند لو سلم له أن النسخة كما زعم؟ ويكون ما أبداه من المصالح مقاوم لما تحقق ويتوقع من المفاسد ، وهل يمكن أن يجاب عن الظلة بأن هذا محمول على مسجد لم يجعل له ما يكن المصلين؟ أما مثل هذا فلا يجوز التصرف فى فضائه لا سيما عند المحققيين المجوزين لمقابلة القضاء بالأعواض فى الإجارة ، أو يحمل على مساجد المحال لا المساجد العامة بدليل قوله : أهل المسجد ، وهل يمكن أن يجاب عن قوله : وإنما يختص أهل المسجد بأن هذا فى مسجد مفتقر ليمكن جماعة إماما التمكن فيه حاصل ، فكيف يقال بجواز مثله؟ وأما سماع الخطبة وقرب الإمام ومن معه والمشاهد فالأروقة ، وأما الركيزتان فهل يمكن أن يجاب عنه بأن الوضع جهل فى الركيزتين وحمل التصرف على السداد لا سيما فيما قرب من الأعصار الفاصلة هو المتعين؟ والآن فركيزتان قد تحقق التعدى بوضعهما ، أجاب : لا يجوز

١٤٨

ذلك ويزال الخشب المذكور والركائز لا يوقف فى ذلك ويجب على القائم بأمور المسلمين سدده الله تعالى ونصر به الدين وأعانه على القيام بمصالح المؤمنين المبادرة إلى إزالة ذلك لما يخاف ويحذر مما هنالك ، والدلالة على ما ذكرناه من الكتاب والسنة واتفاق أئمة المسلمين والقياس كما سيظهر لك بلا إلباس ، ولقد أقدم فاعل ذلك على جرأة عظيمة على بيت الله تعالى وفناء المسجد الحرام الذى هو حول البيت العتيق ، وجنا على المسلمين فى مطافهم ومواضع مناسكهم حول البيت المحرم ، وهو الذى أمر الله تعالى بتطهيره للطائفين والعاكفين والقانتين والراكعين الساجدين قال الله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(١) وقال الله سبحانه :  (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(٢) ، والأمر فى ذلك وإن تعلق بالبيت المحرم فإنه يتعلق بحرم البيت المحرم وهو المسجد الحرام وهذا المسجد الحرام فيه شىء من تأسيس أبينا إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدل على ذلك ما ذكره الأزرقى فى تاريخ مكة فى ترجمة ما جاء فى حد المسجد الحرام وفضله وفضل الصلاة فيه من الأخبار ، فأسند من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال أساس المسجد الحرام الذى وضعه إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخرورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد ، ورجال إسناده أخرج لهم مسلم فى صحيحه إلا واحدا ولم ينسب إلى جرح فقال : حدثنى محمد بن محمد بن يحيى ، قال حدثنا هشام بن سليمان عن عبد الله بن عكرمة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما أنه قال : أساس المسجد الحرام الذى وضعه إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخرورة إلى المسعى إلى مخرج سيل أجياد شيخ الأزرقى هو محمد بن أبى عمر العدنى نزيل مكة يروى عن سفيان بن عيينة وجماعة كثيرة من المكييين وغيرهم روى عنه مسلم والترمذ والنسائى وابن ماجه ، وسئل الإمام أحمد عمن يكتب فقال : أما بمكة فابن أبى عمر ذكره ابن حبان فى الثقات وشيخه هشام بن سليمان ابن عكرمة ابن خالد بن العاص القرشى المخزومى المكى أخرج له مسلم أيضا ، وعكرمة

__________________

(١) سورة الحج آية (٢٦).

(٢) سورة البقرة آية (١٢٥).

١٤٩

المذكور فى السند هو ابن عبد الرحمن وأخويه أخرج له الشيخان البخارى ومسلم وأما عبد الله بن عكرمة المذكور فى السند فقد ذكره ابن حبان (١) فى الثقات ، فالحديث يحتج به ولله الحمد والظاهر أن عبد الله بن عمرو رضى الله عنه لا يقول ذلك إلا بتوقيف من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يكون هذا مشهور بين قريش يتداولونه بينهم ، وقد روى أبو هريرة رضى الله عنه انتهى. وقد تعرض الإمام (٢) الفاسى فى تاريخه لذلك فقال فى الفصل الذى عقده لذكر كيفية المقامات التى هى الآن موجودة بالمسجد الحرام وبيان مواضعها وكيفية الصلاة فيها ونصه : أما المقامات فأربع ، فأما مقام غير الحنفى فأسطوانتان من حجارة مقام الشافعى وصفته أسطوانتان عليهما عقد مشرف من أعلاه مبيض بالنورة وخشبة معترضة للقناديل ، وهو خلف مقام الخليل عليه الصلاة والسلام ، وأما مقام الحنفى فكان قديما أربع أساطين من حجارة عليها سقف مدهون مزخرف ، وأعلاه مما يلى السماء مطلى بالنورة وبين الأسطوانتين المقدمتين محراب مرخم ، وكان ابتداء عمله على هذه الصفة فى أواخر سنة إحدى وثمانمائة انتهى فى أوائل سنة اثنين وثمانمائة كذا ذكره الفاسى ، ثم قال : وأنكر عمله على هذه الصفة جماعة من العلماء منهم الشيخ العلامة زين الدين الفارسكورى الشافعى ألّف فى ذلك تأليفا حسنا ، والشيخ سراج الدين البلقينى وولده الإمام العلامة قاضى القضاة بالديار المصرية شيخ الإسلام جلال الدين ، وكان إذ ذاك متوليا ، وباقى القضاة أفتوا بهدم هذا المقام وتعزير من أفتى بجواز بنائه على هذه الصفة ، ورسم ولى الأمر بهدمه فعارض فى ذلك بعض ذوى الهواء فلم يتم الأمر ، وسبب الإنكار ما حصل من شغل الأرض بالبناء وقلة الانتفاع بموضعه ، وما يتوقع من إفساد أهل اللهو فيه لأجل سترته لهم انتهى. وسبب المعارضة أن الجماعة من علماء الحنفية إذ ذاك أفتوا بجواز إبقائه على هذه الصفة لما فيه من النفع لعامة المسلمين من الاستقلال من حر الشمس والتوقى من البرد والمطر ، وأما حكمه حكم الأروقة والأساطين الكائنة بالمسجد الحرام ، وفى سنة ست وثلاثين وثمانمائة كشف

__________________

(١) الثقات ٦ / ١٠٢.

(٢) شفاء الغرام ٢ / ٩١.

١٥٠

الأمير سودون المحمدى سقف المقام المذكور وعمره وزخرفه أحسن مما كان ، ووضع عليه من أعلاه قبة من خشب مبيضة تظهر من فوق ولا أثر لها فى داخل المقام ، وفرش فيه حجارة حمراء تقرب من حجر الماء ، ولم يكن هذا فيه قبل ذلك ، ثم جدد بعد ذلك مرارا آخرها فى حدودها عام سبعة عشر وتسعمائة ، فلما حج الأمير مصلح الدين الرومى فى موسم سنة ثلاث وعشرين فى أول ولاية مولانا السلطان سليم بداله أن يهدمه ، فهدمه فى أول عام سنة أربعة وعشرين ، وجعل قبة كبيرة شامخة على أربع تبر عراض جدا بأربع عقود كل ذلك فى حجر يعرف عند أهل مكة بحجر المايوتى به من جهة الحديبية أحمر وأصفر منحوت ، وزاد فى طوله وعرضه ، وأراد اتصاله بالمطاف فعرف بأن ذلك يؤدى إلى قطع الصف الأول الذى يصلى خلف إمام الشافعية ، وانتهى بمحرابه إلى إفريز حاشية المطاف ، واستمر الصف الأول متصلا واستمرت هذه القبة كذلك نحو خمسة وعشرين سنة ، فلما كان فى عام تسعة وأربعين وتسعمائة برز أمر مولانا سلطان الإسلام سليمان بهدم هذه القبة لما أنهى إليه من سموحها وأخذها جانبا كبيرا من المسجد ، وكان هدمها من كرامات الشيخ محمد بن عراق رحمه‌الله تعالى ، فإنى سمعت غير واحد من الشيخ المذكور أنه كان يقول : لا بد أن تهدم هذه القبة ، وكان كذلك ، وكرامة الولى حق ، فلما برز الأمر بذلك بادر إلى هدمها الأمير خشكلدى صاحب الهمم العالية ، مزيل المنكرات وموسع الطرقات ، نقمة على أهل المفاسد نايب جده المحروس ومباشر العماير السلطانية المأنوسة أعزه الله تعالى بعزه وكان له وأحسن إليه ، فبادر إلى امتثال الأمر ، وحضر بنفسه على جارى عادته فى علو الهمة وهدم القبة المذكورة ، وذلك فى أوائل شهر رجب أحد شهور عام تسعة وأربعين وتسعمائة ، ثم شرع فى بناء مقام عظيم فى الشهر المذكور وصفه أربع تبر لطاف فى الأركان من أنقاض القبة الأولى من حجر الماوست ، أعمده من الحجر الصوان مثمنة ، على عموده قطعة واحدة فمن ذلك وعمودان بين البترتين المقدمتين إلى جهة القبلة ، وعمودان على البترتين المؤخرتين ، وعمودا البترتين من ناحية باب العمرة وعمودا البترتين من جهة باب السلام مقابل له ، وعلى ذلك عشرة عقود لطاف رشفه منها إلى جهة القبلة ،

١٥١

وثلاثة منها إلى جهة آخر المقام يقابله الثلاثة الأول ، وعقدان إلى جهة باب العمرة على يمين من كان جالسا فى المقام مستقبل القبلة ، وعقدان مقابلان لهما إلى جهة باب السلام ، وفوق ذلك سقف مزخرف من خشب الساج بصناعة ظريفة ، وكان تركيب هذا السقف فى يوم الخميس غرة شهر شعبان أحد شهور العام المذكور آنفا ، ثم جعل فوق هذا السقف ظل للمبلغين بأربع بتر وستة أعمدة ألطف من الأعمدة التحتانية على حكم ما جعل أسفل عاليها سقف مزخرف بعمل محكم ، وفوق هذا السقف جملون عليه رصاص إلى جهة السماء لدفع المطر ، وفى أرض السقف الأول طاقة فى وسطه يرى منها المبلغ الإمام ، وجعلت درجة لطيفة يصعد منها المبلغ إلى الظلة فى وقت المكتوبات ، وكان ابتداء تركيب سقف الظلة فى يوم الثلاثاء رابع شهر رمضان ، وانتهى بعد الترصيص فى ثالث عشر رمضان من العام المذكور ، وأما مقام المالكى والحنبلى فكانا قديمين كمقام الشافعى المتقدم ، بترتان عليهما عقد وفى أعلاه نحو ثلاث شراريف ، غير أن بين التبرتين من أسفل جدار لطيفة فيه محراب فى هذين المقامين فقط ، ونقل الفاسى رحمه‌الله فى كتاب شفاء الغرام أن ابتداء عمارة هذه الثلاث مقامات على الصفة المذكورة كان فى سنة سبع وثمانمائة ، قال : وقد ذكرنا صفتها القديمة فى أصل هذا الكتاب يعنى به أصل شفاء الغرام ، ولم يوجد هذا الأصل بعد الفاسى ولا عثر عليه مطلقا ، فما كان من مقام الشافعى فهو كذلك إلى يومنا هذا ، وأما مقام المالكى والحنبلى فقد أدركتهما كذلك ثم غيرا بعد الثلاثين وتسعمائة قبل تأليفنا لهذا الكتاب بأحسن مما كانا عليه فى أيام مولانا الخنطار الأعظم سلطان الإسلام سليمان خان ، أدام الله أيامه ورفع بالنصر والتأييد أعلامه ، وصفتهما الآن كل مقام بأربع أساطين مثمنة الشكل ، كل إسطوانة قطعة واحدة من الحجر الصوان المكى ، وتحت كل إسطوانة قاعدة منحوتة بتربيع وتثمين ، وفوقها أخرى كذلك من الحجر الصوان ، وفوق ذلك سقف من الخشب المدهون المزخرف ، وفوقه إلى جهة السماء أخشاب هينة جملون ، عليها صفائح الرصاص لأجل المطر ، وفى كل مقام محراب فيما بين الأسطوانتين المقدمتين إلى جهة القبلة ، وهما كذلك إلى هذا الشارع ، وكان المباشر لذلك عبد الكريم اليازجى الرومى والله أعلم.

١٥٢

ذكر كيفية صلاة الأئمة بهذه المقامات

وبيان مواضعها من المسجد الحرام

أما كيفية الصلاة ، فإنهم فى زمننا هذا يصلون مرتبين الشافعى فى مقام الخليل عليه الصلاة والسلام ، ثم الحنفى إمام الحنفية بعده فى مقام الحنفية ، ثم إمام المالكية بعده فى كل مقام المعين له ، ثم إمام الحنابلة بعده فى مقامه ، وهذا فى الأربع فروض الفجر والظهر والعصر والعشاء ، وأما صلاة المغرب فكان فيما أدركناه قريبا يصلى الحنفى والشافعى معا فى وقت واحد ، فهل بذلك التخليط والتشويش على المصلين من الطائفتين بسبب اشتباه أصوات المبلغين ، فانتهى ذلك إلى مولانا السلطان سليمان خبر أمره بالنظر فى ذلك وإزالة هذا التخليط ، فاجتمع القضاة والأمير على بيك نائب جده فى الحطيم ، واقتضى رأيهم أن الحنفى يتقدم فى صلاة المغرب وعند التشهد يدخل إمام الشافعية ، وكان هذا فى حدود إحدى وثمانين وتسعمائة واستمر ذلك إلى وقتنا هذا عام تسعة وأربعين وتسعمائة ، فجزى الله الساعى فى ذلك خيرا ، وأما المالكى والحنبلى فلا يصلون المغرب فيما أدركناه.

وأما كيفية الصلاة فيما تقدم من الزمان فكانوا يصلون مرتين فى الأربع الفروض المتقدمة ، إلا أن المالكى كان يصلى قبل الحنفى مرة ثم يتقدم عليه الحنفى بعد التسعين بتقديم التاء على السين وتسعمائة ، ونقل الفاسى عن ابن جبير ما يقتضى أن كلا من الحنفى والحنبلى كان يصلى قبل الآخر ، وأما صلاة المغرب فكانوا يصلونها جميعا أعنى الأربعة الأئمة فى وقت واحد ، فيحصل للمصلين بسبب ذلك لبس كثير من اشتباه أصوات المبلغين واختلاف حركات المصلين ، فأنكر العلماء ذلك ، وسعى جماعة من أهل الخير عند ولى الأمر إذ ذاك وهو الناصر فرج بن برقوق الجركسى صاحب مصر ، فبرز أمره فى موسم سنة إحدى عشرة وثمانمائة بأن الإمام الشافعى بالمسجد الحرام يصلى المغرب بمفرده ، فنفذ أمره بذلك ، واستمر الحال كذلك إلى أن توفى الملك المؤيد شيخ صاحب مصر فرسم بأن الأئمة الثلاثة يصلون المغرب كما كانوا قبل ذلك ، فابتدأوا بذلك فى ليلة السادس من ذى الحجة عام سنة عشر وثمانمائة ، واستمروا يصلون كذلك.

١٥٣

وأما وقت حدوث صلاة الأئمة المذكورين على الكيفية المتقدمة ، فقال الفاسى رحمه‌الله تعالى : لم أعرفه تحقيقا ، ثم نقل ما يدل على أن الحنفى والمالكى كانا موجودين مع أن الشافعى فى سنة سبع وتسعين بتقديم السين فى الكلمة الأولى والتاء فى الثانية وأربعمائة ، وأن الحنبلى لم يكن موجودا فى ذلك الوقت ، وإنما كان إمام الزيدية ، ثم قال : ووجدت ما يدل على أن إمام الحنابلة كان موجودا فى عشر الأربعين وخمسمائة والله أعلم.

وأما بيان محل المقامات المذكورة فى المسجد الحرام ، فإن مقام الشافعى خلف مقام الخليل ولكن ما يصلى إمام الشافعى إلا فى مقام الخليل قديما وحديثا ، ومقام الحنفى بين الركنين الشامى ويسمى بالعراقى أيضا والغربى عن يمين مقام الخليل فى جهة الشام تجاه جدار الكعبة الذى فى الميزاب قريب من حاشية المطاف ، ومقام المالكى بين الركنين الغربى واليمانى قريب من الحاشية ، ومقام الحنبلى تجاه الحجر الأسود وقربه من المطاف كقرب مقام الحنفى.

وأما حكم صلاة الأئمة الثلاثة الحنفى والمالكى والحنبلى فى الفرائض على الصفة التى يصنعونها فاختلفت فيها آراء العلماء المالكيين ؛ لأن الشيخ الإمام أبا القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الجباب المالكى أفتى فى سنة خمسين وخمسمائة بمنع الصلاة بأئمة متعددة وجماعات مترتبة بحرم الله الشريف ، وعدم جوازها على مذاهب علماء الأربعة ، ثم إن بعض الناس استفتى فى ذلك بعض علماء الإسكندرية فأفتوا بخلاف ما رآه ابن الجباب ، والذى أفتى بذلك شداد بن المقدم وعبد السلام بن عتق والشيخ أبو الظاهر ابن عوف والزهرى ، ولما وقف ابن الجباب على فتاويهم أملا فى الرد عليهم أشياء كثيرة حسنة ، ونقل إنكار ذلك عن جماعة من الشافعية والحنفية والمالكية حضروا الموسم بمكة فى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، منهم هذه القطارى من الشافعية ، والشريف القرنوى من الحنفية ، وعمر المقدسى من المالكية وغيرهم ، وقد ذكرناهم فى أصل هذا الكتاب.

وأما وقت حدوثهم فلم أعرفه تحقيقا ورأيت ما يدل على أن الحنفى والمالكى كانا موجودين فى سنة سبع وتسعين وأربعمائة ، وأن الحنبلى لم يكن فيها موجودا ووجدت ما يدل عليه أنه كان موجودا فى عشر الأربعين وخمسمائة ، وقد ذكرت ذلك فى أصل هذا الكتاب والله أعلم.

١٥٤

ولما حج مرجان خادم المقتفى العباسى قلع الحطيم الذى كان للحنابلة بمكة وأبطل إمامتهم بها على ما ذكر سبط ابن الجوزى فى المرأة ، وذكر أنه كان يقول : قصدى أن أقلع مذهب الحنابلة.

وأما الجواب عن قوله : وهل يجوز أخذ الأجرة على سكنى دور مكة ، وحكمها؟ فقد قال الإمام التقى الفاسى : قال الإمام أبو الحسن اللخمى من أئمة المالكية : اختلف قوله ـ يعنى مالكا ـ فى كراء دور مكة وبيعها ، فمنع من ذلك مرة وحكى عنه أبو جعفر الأبهرى أنه كره بيعها وكراءها ، فإن بيعت أو أكريت لم يفسخ ، قال ابن رشد فى المقدمات بعد ما ذكره اللخمى والأبهرى : فيتحصل عندى فى ذلك يعنى الكراء أربع روايات : الجواز والمنع والكراهة مطلقا وكراهة كرائها فى أيام الموسم خاصة وذكر أن الظاهر من مذهب ابن القاسم منه فى كتاب الحج المنع من ذلك انتهى. وليس سبب الخلاف عند المالكية فى بيع دور مكة وإجارتها الخلاف فى فتحها هل هو عنده أو صلح؟ لأنه لم يختلف قول مالك وأصحابه أنها فتحت عنوة على ما ذكر ابن رشد لأنه قال : ولا خلاف بين مالك وأصحابه فى أنها فتحت عنوة ، فقيل : إنه من على أهلها فلم تقسم ولا سبى أهلها لما عظم الله من حرمتها ، وقيل : إنها أقرت للمسلمين ، انتهى. وهذا سبب الاختلاف فى بيع دور مكة وإجارتها عند المالكية والقول بجواز ذلك ينبنى على القول بأنها أقرت للمسلمين ، وفى هذا القول نظر ؛ لأن غير واحد من علماء الصحابة وخلفائهم رضى الله عنهم عملوا بخلافه فى أوقات متعددة ؛ لأن عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعن عثمان بن عفان وعبد الله بن الزبير رضى الله عنهم اشتروا دورا بمكة وسعوا بها المسجد الحرام ، واشترى لعمر بن الخطاب عامله على مكة نافع بن عبد الحرث الخزاعى دارا للسجن بمكة من صفوان بن أمية على ما روينا فى صحيح البخارى تعليقا بصيغة الجزم ، وروينا ذلك مسندا فى تاريخ الأزرقى وفيه روينا ما سبق ذكره من شراء الدور لتوسعة المسجد الحرام ، وروينا فيه أن معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه اشترى بعض الدور بمكة ، وشرحنا شيئا من خبر ذلك فى أصل الكتاب ، ولا ريب فى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومن ذكرنا من علماء الصحابة

١٥٥

وخلفائهم رضى الله عنهم أعلم من بعدهم بما يصلح فى أرض مكة ، وأنه لو كان عندهم علم عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها أقرت للمسلمين لما أقدموا ، على ما فعلوا ، ويبعد جدا أن يصح ذلك عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخفى عليهم وعلى غيرهم من علماء الصحابة رضى الله عنهم ، فإنه لم يحفظ عن غيرهم أنه أنكر على أحد منهم ما فعل له ، أما حديث علقمة بن فضلة الكنانى ويقال الكندى : كانت الدور والمساكن على عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم لا تكرى ولا تباع ولا تدعى إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن ، انتهى. فإنه لا دلالة فيه على نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم عن بيع دور مكة وكرائها ، وإنما فيه دلالة على عدم وقوع ذلك من زمن المشار إليهم ، ولا يلزم من عدم وقوع ذلك فى زمنهم منه ، إذ الإنسان يترك ما يجوز له فعله دهرا طويلا على أن دلالة حديث علقمة على عدم وقوع بيع دور مكة وكرائها فى زمن المشار إليهم معارضة بما وقع من شراء عمر وعثمان رضى الله عنها لدور مكة ، ووقع ذلك فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الفاكهى قال فى كتاب أخبار مكة : حدثنا حسين بن حسن قال : كتبت إلى عبد الرحمن بن مهدى أسئلة عن كراء دور مكة وشرائها قال : فكتب إلى : إنك أتيت إلى تسألنى عن أشرية دور مكة وكرائها ، فأما الشراء فقد اشترى الناس وباعوها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى. وحسين بن حسن هو المروزى صاحب ابن المبارك قال فيه أبو حاتم (١) : صدوق ، وقد روى عنه الترمذى والنسائى ، وإذا تعارض ذلك مع حديث علقمة ؛ فهو مقدم على حديث علقمة ؛ لأن حديث علقمة حاصله شهادة على نفى وفى مثل هذا يقدم المثبت ، ويتعين حمل حديث علقمة على أن فى عهد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم كان الغالب فى فعل الناس بمكة تركهم بيع دورهم بمكة وكرائها لعدم الحاجة إلى ذلك وتوسعة على الوافدين والمحتاجين ، ولما كان وقوع خلاف ذلك نادرا لم يستحضره علقمة فى حال تحديثه بحال دور مكة ونفاه فى حديثه والله أعلم. وعلقمة لا صحبة له وإن كان ابن عبد البر قد ذكره فى كتاب الصحابة المسمى

__________________

(١) انظر الجرح والتعديل ٢ / ٦١.

١٥٦

بالاستيعاب ، وذكره ابن حبان فى أتباع التابعين وذكره ابن مندة أنه تابعى ، والله أعلم وفى شراء عمر ومن ذكرنا من الصحابة رضى الله عنهم دلالة واضحة على أن مكة مملوكة لأهلها ، إما لمنّ النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها على أهلها كما هو أحد القولين عند القائلين بأنها فتحت عنوة ، أو لأنها فتحت صلحا ، والوجه الأول أصوب ؛ لأن فتحها صلحا يخالف ظاهر الأحاديث الواردة فى صفة فتح مكة ويخالف قول جمهور العلماء رضى الله عنهم فى أنها فتحت عنوة والله أعلم بالصواب ، ونقل ابن الحاج المالكى فى منسكه عن مالك وغيره من العلماء (١) إباحة بيع رباع مكة وكراء منازلها ولم يحك عن مالك فى ذلك خلافا ، واستدل على ترجيح ذلك ببعض ما سبق من شراء عمر دار السجن بمكة وغير ذلك ، وقال ابن عطية المالكى المفسر فى تفسير قوله تعالى : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ)(٢) وقال جمهور من الأئمة منهم مالك : ليست الدور كالمسجد ولأهلها الامتناع بها والاستبداد ، وهذا هو العمل اليوم انتهى. وهذا يشعر بترجيح هذا القول فى المذهب ؛ لأنه لم ينقل عن مالك سواه ، ومثل ذلك ما ذكره ابن الحاج والله أعلم ، وقد استدل هو وابن عطية على ترجيح هذه المقالة ببعض ما ذكرناه وغير ذلك ، ونقل القاضى عز الدين بن جماعة فى منسكه عن القاضى سند بن عثمان المالكى صاحب الطراز ما يقتضى ترجيح المنع فى الكراء ؛ لأنه قال : ونقل سند فى الطراز أن مذهب مالك المنع ، وفيه إن قصد بالكراء الآلات والأخشاب جاز ، وإن قصد البقعة فلا خير فيه انتهى. وحيث جاز بيع دور مكة فيجوز فيها الكراء والهبة والوقف والشفعة والقسمة وغير ذلك من الأحكام التى تجوز فى الأملاك ، فإن قيل يعارض ذلك بالنسبة إلى الشفعة فيها قول مالك رحمه‌الله فى المدونة ولا شفعة فى أرض العنوة ولا يجوز بيعها انتهى. لأن هذا يقتضى أن يكون هو الحكم فى مكة لأنها عنده فتحت عنوة.

فالجواب أن مكة وإن كانت فتحت عنوة فقد من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها على أهلها كما هو الراجح فى ذلك ففارقت بذلك غيرها من البلاد ، وتفارق مكة أيضا

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ٢٦.

(٢) سورة الحج : آية (٢٥)

١٥٧

غيرها فى كراهية كراء دورها على الحجيج ، وعلى ذلك يعنى الخيار من السلف وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما : «من أكل من أجر بيوت مكة فإنما يأكل نارا» فإن بعضهم يرفع ذلك إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعضهم يقفه على عبد الله بن عمرو وهو الأصح على ما ذكر الدارقطنى وعليه فلا حجة فيه على التحريم ، وبتقدير رفعه فليس ذلك لعدم الملك وإنما هو لخبث المكسب ، كما نهى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كسب الحجام وإنما كان الكرى فيها خبيثا لما فيه من ترك مواساة المحتاجين من الحجاج بالسكنى ، وقد قال بعض العلماء بوجوب السكنى بمكة للحاج ؛ لأن السهيلى قال : لما تكلم على هذه المسألة فأرض مكة إذا ودورها لأهلها ولكن أوجب الله عليهم التوسعة على الحجيج إذا قدموا ، وأن لا يأخذوا منهم كراء فى مساكنها ، فهذا حكمها ولا عليك بعد هذا فتحت عنوة أو صلحا ، وإن كانت ظواهر الأحاديث أنها فتحت عنوة انتهى. وإيجاب السكنى للحجيج بمكة ، وترك أخذ الأجرة منهم لا ينافى كون مكة مملوكة لأهلها ؛ لأن الإنسان يجب عليه بذل ماله لحاجة غيره إليه فى مسائل كثيرة منها بذل الخيط لخياطة جرح ، وبذل فضل الطعام والماء لمن اضطر إلى ذلك لسقى زرع أو غيره ، وبذل العمد والخشب لحفظ جدار الغير إذا خشى سقوطه ، ويجب الضمان فى ذلك على من منع ، وفى أخذهم الثمن عن ذلك خلاف وإيجاب ذلك حق للمواساة فيتنزل عليه ما قيل فى دور مكة والله أعلم ، وهذا لإنكاره فيه فى المذهب واختلف مذهب الإمام أبى حنيفة فى أرض مكة فروى عنه كراهية بيعها ، فقيل : مراده لا يجوز البيع ، وذكر قاضى خان أنه ظاهر الرواية ، وقيل : يجوز مع الكراهة ، وأجاز ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن وعليه الفتوى على قول الصدر الشهيد ، وبه جزم النسفى فى الكنز ، واختلف مذهب أبى حنيفة أيضا فى إجارة أرضها فروى عنه وعن محمد بن محمد بن الحسن فى ذلك المنع ، وروى عنهما الجواز مع الكراهة ، واختلف مذهب الإمام أحمد فى ذلك فروى عنه الجواز والمنع ، ورواية الجواز أظهر فى الحجة على ما ذكر الموفق بن قدامة ، ورواية المنع هى المذهب على ما ذكر بن المنجا فى الحنابلة ، ولم يختلف مذهب الإمام الشافعى ـ رضى الله عنه ـ فى

١٥٨

جواز بيع دور مكة وإجارتها ؛ لأنها عنده فتحت صلحا ، وقال بعضهم عنه : فتحت بأمان والأمان فى معنى الصلح إلا أن القاضى أبا الحسن المعروف بالماوردى من أئمة الشافعية قال فى كتابه الحاوى الكبير : عندى إن أسفلها دخله خالد بن الوليد رضى الله عنه عنوة وأعلاه فتح صلحا انتهى. قال الشيخ محى الدين النووى فى الروضة : والصحيح الأول انتهى. وفى صحته نظر ؛ لأن الفتح صلحا إنما يكون بالتزام أهل البلد المفتتحة ترك القتال ، ولم يلتزم ذلك أهل مكة عند فتحها ولم يقبلوا تأمين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم ؛ لأنا روينا فى صحيح مسلم من حديث عبد الله بن رباح الأنصارى عن أبى هريرة رضى الله عنه فذكر حديثا فى فتح مكة قال فيه : ووبشت قريش أو باشها واتباعا فقالوا : نقدم هؤلاء فإن كان لهم شيء كنا معهم وإن أصيبوا أعطينا الذى سئلنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى ، ثم قال : حتى توافونى بالصفا ، قال : فانطلقنا فما شاء أحد منا أن يقتل أحدا إلا قتله ، وما أحد منهم توجه إلينا شيئا ، قال : فجاء أبو سفيان فقال : يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم ، ثم قال فىّ : من دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، انتهى باختصار. وفى هذا دلالة صريحة على ما ذكرناه من عدم إلزام قريش ترك قتال المسلمين يوم فتح مكة وعلى وقوع القتال منهم فيه ، وذلك ينافى الصلح وفيه دليل على فتح مكة عنوة ، وقوله فى هذا الحديث : أعطينا الذى سئلنا ، إشارة إلى تفضيل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل مكة بتأمين من ترك القتال منهم لأنا روينا فى مغازي (١) موسى بن عقبة أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام قالا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن أسلما بمر الظهران : يا رسول الله ادع الناس إلى الأمان ، أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها آمنون هم يا رسول الله؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم من كف يده وأغلق باب داره فهو آمن ، قالوا : فابعثنا نؤذن فيهم بذلك ، قال : انطلقوا فمن دخل دارك يا أبا سفيان بأعلى مكة ودار حكيم بأسفل مكة. وروينا نحو ذلك فى سيرة ابن إسحاق إلا أنه لم يذكر تأمين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن دخل دار حكيم ، وذكر تأمينه لمن دخل المسجد إلا رجالا ونساء استثناهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمان لجرائم لهم اقتضت ذلك ، وذكر أن أبا سفيان أبلغ هذا التأمين أهل مكة ، وذكر الفاكهى أن العباس بن عبد المطلب

__________________

(١) الكتاب مفقود.

١٥٩

أبلغهم ذلك ، وفى مسلم وغيره أحاديث تدل على أن فتح مكة عنوة ذكرناها فى أصل هذا الكتاب مع بيان وجه الدلالة منها على ذلك ، ومن أصرح الأخبار الدالة على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى خطبته بمكة يوم فتحها : يا معشر قريش ما ترون أنى فاعل فيكم ، قالوا : خيرا أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء. وهذه الخطبة فى السيرة لابن إسحاق تهذيب ابن هشام ، ويظهر الدلالة من ذلك على أن فتح مكة عنوة ببيان معنى قوله عليه‌السلام : «أنتم الطلقاء» ومعنى ذلك المطلقون من الاسترقاق أشار إلى ذلك ابن الأثير فى نهاية الغريب له لأن فيها قال حديث حنين ومعه الطلقاء الذين خلا عنهم يوم فتح مكة أطلقهم ولم يسترقهم ، وأحدهم طليق فعيل بمعنى مفعول وهو الأسير إذا أطلق سبيله ، ومنه الحديث الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف ، كأنه ميز قريشا بهذا الاسم حيث هو أحسن من العتقاء انتهى. وإذا كان هذا معنى الطلقاء فخطاب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش بهذا الخطاب يقتضى أنهم كانوا حين خوطبوا بذلك فى الأسر المقتضى للاسترقاق لو لا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفضل عليهم بالإطلاق ، ولو لا ذلك لم يكن لاستعلاق قريشا يتوقعونه منه محل ، كما لا محل لخطاب قريش بذلك بعد تأمينهم ، ويبعد الانفصال عن هذا الدليل بجواب شاف إلا أن يقال أنه مرسل والمرسل لا يحتج به ، ولو سلم ذلك فالدلالة على أن فتح مكة عنوة ناهضة من غيره من الدلائل التى ذكرناها والله أعلم ، وقد حاول الشيخ محيي الدين النووى رحمه‌الله الجواب عما فى حديث أبى هريرة رضى الله عنه من الألفاظ الدالة على أن فتح مكة عنوه ، وحاول أيضا الجواب عن حديث أم هانىء فى استئمانها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة لحموين لها أراد أخوها على رضى الله عنه قتلهما ، فإن إرادة على قتلهما يقتضى عدم وقوع الصلح ، فإنه لو وقع لما أقدم على قتل من دخل فى الأمان ولما خفى عليه ذلك ، وفيما حاوله من الجواب ، وهذا من النووى تأييد لقول الشافعى رضى الله عنه أن مكة فتحت صلحا ، وفى شرح مسلم للقاضى عياض والماوردى ما يقتضى أنه تفرد بذلك ، ولم ينفرد به لموافقة مجاهد وغيره له على ذلك على ما وجد بخط سليمان بن خليل المكى إمام المقام الشريف فى حاشية المهذب نقلهما عن الشامل ولم يقل فيها لابن الصباغ

١٦٠