تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

على المدينة وذكرت لنا أدلة أخرى ، والأدلة التى قالها الشيخ عز الدين فى تفضيل بعض الأماكن على بعض قال : إن الأماكن والأزمان كلها متساوية ويفضلان بما يقع فيهما لا بصفات قائمة بهما ، ويرجع تفضيلها إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه ، وأن التفضيل الذى فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر الفاعلين فيهما ، هكذا قال الشيخ عز الدين رحمه‌الله ، وأنا أقول : قد يكون كذلك وقد يكون لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل ، فإن قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتنزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة له ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه وليس لمكان غيره ، فكيف لا يكون أفضل الأمكنة وليس محل عمل لنا لأنه ليس مسجدا ولا له حكم المساجد بل هو مستحق للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه ، وقد تكون الأعمال مضاعفة باعتبار أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حى وأعماله فيه مضاعفة أكثر من كل أحد فلا يختص التضعيف بأعمالنا ، فافهم هذا ينشرح صدرك لما قال القاضى عياض رحمه‌الله من تفضيل باسم اعضائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعتبارين ، أحدهما : ما قيل إن كل أحد يدفن فى الموضع الذى خلق منه ، والثانى : تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله ، ولو سلمنا أن الفضل ليس للمكان لذاته لكن لأجل من حل فيه فهذا المكان له شرف على جميع المساجد فلا يلزم من منع تعليق قناديل الذهب فى المساجد والكعبة المنع من تعليقها هنا ، ولم ير أحدا قال بالمنع هنا ، وكما أن العرش أفضل الأماكن وقوله قناديل كذلك هذا المكان أفضل الأماكن الأرضية فيناسب أن يكون فيه قناديل ، وينبغى أن تكون من أشرف الجواهر كما أن مكانها أشرف الأماكن فقليل فى حقها الذهب والياقوت ، وليس المعنى المقتضى للتحريم موجود ههنا فزالت شبهة المنع ، والقنديل الذهب ملك لصاحبه يتصرف فيه ما شاء فإن وقف هناك إكراما لذلك المكان وتعظيما صح وقفه ولا زكاة فيه وإن لم يقفه واقتصر على إهدائه له صح أيضا وخرج عن ملكه بقبض من صح قبضه ، لذلك صار مستحقا لذلك المكان كما يصير المهدى للكعبة مستحقا لها وكذلك المنذور لهذا المكان كالمنذور للكعبة ، وقد يراه هنا فيقال : إنه مستحق للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حى دائما يحكم بانقطاع ملكه بموته له وهو الذى فى أذهان كثير من الناس حيث يقولون هذا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا إذا

١٠١

لم يجعله وقفا وإن جعله وقفا فالموقوف عليه كذلك إما نفس الحجرة الشريفة كالكعبة ، وإما للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على ما قلناه ، وقد يقول قائل : الوقف حيث صح لا بد أن يكون لمنفعة مقصودة ومنفعة تزيين ذلك المكان غير مقصودة للشرع وتذهب منفعة ذلك الذهب بالكلية لأنه لا غاية له يصير إليه وإذا قامت القيمة زالت الزينة ، فنقول : منفعه فى الدنيا الزينة والتعظيم لما هو منسوب إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقاء ذكر المهدى له فيذكر به وذلك مقصود (لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)(١)(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ)(٢) وإذا قامت القيامة تجد ثوابه وربما يجىء ذلك الذهب بعينه فإن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وما فيهما وهو يحلى أهل الجنة بالذهب والفضة ، وربما تأتى تلك الفضة والذهب نفسهما فيحلى بهما صاحبهما جزاء له أو أحد من حشمه ومن عنده فيسر بذلك أو يسر بمشاهدة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فى تلك الدار ، وهذه نكتة لطيفة ، وحيث قلت : إنه ملك الحجرة فلا زكاة فيه كما لا زكاة فى مال الكعبة وإن كان مملوكا لأن الزكاة وإن تعلقت بالمال فلا بد من ملك مالك معين لها إما مكلف وإما متهىء للتكليف فى دار التكليف وأما ما قدمناه عن سحنون من المالكية أن الإمام يزكبه كل عام كالعين المحبسة فعجيب هذا ، وقد استشكل ما ذكره المؤرخون من أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أتى بمجمرة من فضة فيها تماثيل من الشام فدفعها إلى سعد جد المؤذنين وقال له : جمر بها فى الجمعة وفى شهر رمضان فكان سعد يجمر بها فى الجمعة وكانت توضع بين يدى عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد بن العباس المدينة واليا بها سنة ستين ومائة فأمر بها فغيرت وجعلت صلاحا ، وهى اليوم بيد مولى المؤذنين ؛ وذلك لأن المجمرة مما تستعمل وقد قال الفقهاء : إنها إذا احتوى عليها يكون حراما ومقتضى اشتراطهم الاحتواء أن هذا الصنع غير حرام لكن العرف أن ذلك استعمال فإما أن يكون هذا الخبر ضعيفا وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيما له فتكون القناديل بطريق الأولى أو لا استعمال فيها.

__________________

(١) سورة الشعراء آية : (٨٤).

(٢) الصافات آية : (٧٨).

١٠٢

ذكر حلية الكعبة المعظمة ومغاليقها

أول من حلى الكعبة فى الجاهلية عبد المطلب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغزالين الذهب اللذين وجدهما فى زمزم حين حفرها ، ذكر ذلك الأزرقى واضطرب كلامه فى أول من حلاها فى الإسلام ، فنقل عن جده أن الوليد بن عبد الملك أول من ذهب البيت فى الإسلام ، وذكر فى موضع آخر أن عبد الملك بن مروان ضرب على الأسطوانة الوسطى من أسفلها إلى أعلاها صفائح الذهب انتهى. وذكر المسبحى ما يخالف ذلك وأن ابن الزبير جعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتيحها من الذهب انتهى.

وقال الفاكهى (١) فى الأوليات بمثله وأول من عمل الذهب على باب الكعبة فى الإسلام عبد الملك بن مروان ، وذكر أيضا أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أول من جعل الذهب على ميزاب الكعبة ، وذكر الأزرقى أن الوليد بن عبد الملك بعث إلى واليه خالد بن عبد الله بستة وثلاثين ألف دينار ، فضرب منها على باب الكعبة صفائح الذهب وفى ميزاب الكعبة وعلى الأساطين التى فى داخلها والأركان ، ثم لما ولى الأمير محمد بن هارون الرشيد العباسى أرسل أيضا إلى عامله سالم بن الجراح بثمانية عشر ألف دينار ليجلى بها باب الكعبة فقلع ما كان بها من الصفائح وزاد عليها ما بعثه الأمين وضربه على الباب صفائح ومسامير ، وحلى به الباب وجعل له حلقتين من ذهب وجعل أعتابه من الذهب ، وأن المتوكل العباسى حلاها أيضا حلية جيدة ، وذكر (٢) السهيلى أن الوليد بن عبد الملك حلى ميزاب الكعبة وسقفها بالذهب والفضة الذى كان فى مائدة سيدنا سليمان بن داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت حملت له من طبيطلة من جزيرة الأندلس على بغل قوى فتفسخ تحتها ، وكان لها أطواق من ياقوت وزبرجد ، وفى كلامه ما يشعر بأن الوليد ليس أول من حلاها ، ثم حلاها الملوك وغيرهم بعد ذلك على الترتيب ، فمن ذلك أن المعتقد العباسى حلا بابها فى سنة إحدى وثمانين ومائتين ، ومن ذلك أن الخليفة المقتدر العباسى حلى بالذهب

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ١٢٠.

(٢) الروض الانف ١ / ١٢٠.

١٠٣

الأسطوانة الأولى التى تلى باب الكعبة وذلك فى سنة عشر وثلاثمائة ، ومن ذلك أن الوزير الجواد حلى داخلها وأركانها بخمسة آلاف دينار وكان أرسلها بذلك فى سنة تسع وأربعين وخمسمائة ، وممن حلاها الملك المظفر صاحب اليمن وحلينه لبابها وحفيده الملك المجاهد على بن المؤيد داود (١) بن المظفر صاحب اليمن وتحليته لجوفها ، والملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر بخمسة وثلاثين ألف درهم وثلاثمائة درهم حلا بها بابها ، وحفيده الملك الأشرف شعبان صاحب مصر ، كذا ذكره الفاسى ، وأما المغاليق التى أهديت له فمنها أن ساسان بن بابك أهدى للكعبة غزالين من وذهبا وجواهر وسيوفا وذهب كثيرا فدفن فى زمزم ذكره المسعودى ، ويقال أن كلاب بن مرة والد قصى بن كلاب أول من جعل فى الكعبة السيوف المحلاة بالذهب والفضة وخيره للكعبة ، ومنها أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما فتح مدائن كسرى كان مما بعث إليه هلالان من ذهب فبعثهما عمر إلى الكعبة وعلقهما فى جوفها ، وبعث عبد الملك بن مروان بشمستين وقدحين من قوارير ، وبعث ابن الوليد بقدحين أيضا وبعث الوليد بن يزيد بن عبد الملك بهلالين وبالتسرير الذبنى ، وبعث السفاح بصفحة خضراء ، وبعث المنصور بالقارورة الفرعونية ، وبعث المأمون بياقوتة فاخرة كانت تعلق بسلسلة من فضة من وجه الكعبة فى الموسم كل سنة ، وبعث الخليفة المتوكل العباسى بشمسة من الذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد وسلسلة من ذهب لتعلق فى وجه الكعبة كل سنة ، وبعث بعض الملوك لما أسلم بصنم من ذهب كان يعبده على صورة إنسان ، وبالتاج الذى كان على صورة الصنم ، وبالسرير الذى كان يوضع عليه كذا فى الأزرقى ، وأهدى إلى الكعبة قفل فيه ألف دينار بعثه إليها المعتصم العباسى فى سنة تسعة عشر ومائتين ، ومن ذلك طوق من ذهب مطلل بأنواع الجواهر الفاخرة مع ياقوتة كبيرة خضراء وزنها كما قيل أربعة وعشرون مثقالا ، بعث ذلك بعض ملوك السند لما أسلم ، ومن ذلك عدة قناديل كلها فضة ما عدا واحد منها كان ذهبا زنته ستمائة مثقال بعث بها المطيع العباسى فى سنة تسع

__________________

(١) شفاء الغرام ١ / ١٠٧.

١٠٤

وخمسين وثلاثمائة ، ومن ذلك قناديل محكمة ، ومحاريب زنة كل محراب أزيد من قنطار بعثها صاحب عمان بعد العشرين والأربعمائة ، ومن ذلك قناديل ذهب وفضة بعثها الملك المنصور عمر بن على بن رسول صاحب اليمن فى سنة اثنين وثلاثين وستمائة ، ومن ذلك قفل ومفتاح بعث بهما الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر وركب القفل على باب الكعبة ، ومن ذلك حلقتان من ذهب مرصعتان باللؤلؤ والبلخش كل حلقة وزنها ألف مثقال ، وفى كل حلقة ست لؤلؤات فاخرات ، وبينهما ست قطع بلخش فاخرات أيضا ، بعث بذلك الوزير على شاه وزير السلطان أبى سعيد ابن خرنبدا ملك التتار فى سنة ثمان عشرة وسبعمائة ، فأراد الرسول تعليقهما على باب الكعبة كما أمر ، فمنعه أمير الركب المصرى فى السنة المذكورة وقال : لا يمكن ذلك إلا بإذن السلطان ـ يريد صاحب مصر وهو إذ ذاك الناصر محمد بن قلاوون ـ فلوطف الأمير وعرفه الرسول بأن الوزير نذر أن يعلقهما على باب الكعبة فأذن له فى ذلك ، فعلقتا زمانا طويلا ، ثم أخذهما أمير مكة إذ ذاك رميثة بن أبى نمى ، ومن ذلك أربعة قناديل كبار كل قنديل منها على ما قيل قدر الدورق من دورق مكة اثنان ذهب واثنان فضة بعث بذلك السلطان شيخ إدريس صاحب بغداد فى اثنى عشر السبعين والسبعمائة فعلق ذلك يسيرا ثم أخذه أمير مكة عجلان بن رميثة ، ذكره ذلك الفاسى ثم قال : وليس فى الكعبة الآن يعنى فى زمنه شىء من المغاليق التى ذكرها الأزرقى التى ذكرناها سوى ستة عشر قنديلا ، منها ثلاثة فضة وواحد ذهب وواحد بلور واثنان نحاس والتسعة الباقية زجاج ، وسبب ذلك توال الأيدى عليه من الولاة وغيرهم ، ومن ذلك ، وقع لأبى الفتوح الحسن بن جعفر العلوى حين فرج من طاعة الحاكم ودعى لنفسه بالإمامة أنه أخذ من حلية الكعبة وضربه دنانير ودراهم وسميت بالفتحية ، وأخذ المحاريب التى أهداها صاحب عمان ، ومن ذلك ما وقع لمحمد بن جعفر المعروف بابن أبى هاشم الحسينى أنه فى سنة اثنتين وستين وأربعمائة أخذ قناديل الكعبة وستورها وصفائح الباب لكون صاحب مصر المستنصر العبيدى لم يرسل له شيئا لا شتغاله بالقحط الذى كادت مصر أن تخرب بسببه.

١٠٥

وأما الجواب عن أخذ الأجرة على إدخال البيت فبيانه يحتاج إلى بيان سدانة البيت وهى خدمته وتولى أمره وفتح بابه وإغلاقه ، وكانت قبل قريش لطسم بن عاد فاستخفوا بحقه واستحلوا حرمته فأهلكهم الله ، ثم وليت بعدهم جرهم زمنا طويلا حتى صار الأمر إلى ابن غبشان فباع مفتاح البيت من قصى بن كلاب جد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزق خمر ، فقيل فى ذلك : أخسر من صفقة أبى غبشان ، فذهبت مثلا ، وصارت حجابة الكعبة من بعد خزاعة لقصى وانتهى إليه أمر مكة بعد ذلك ، فأعطى ولده عبد الدار السدانة وهى الحجابة ، وأعطى عبد مناف السكاية والرفادة ثم جعل عبد الدار الحجابة إلى ولده عثمان ، ولم تزل تنقل فى أولاده إلى أن انتهت إلى عثمان بن طلحة ، ثم إلى ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبى طلحة وهى فى ولده إلى الآن ، ويروى عن عثمان بن طلحة أنه قال : فتحنا الباب يوما فى الجاهلية فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدخل مع الناس ، فتكلمت بشىء فحلم عنى ثم قال : يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدى أضعه حيث شئت فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلت ، فقال : بل عزت ، ودخل البيت ووقعت كلمته منى موقعا ظننت أن الأمر بيده سيصير إلى ـ قال فأردت الإسلام فخشيت من قومى فقدمت المدينة فبايعته وأقمت معه حتى خرج فى غزوة الفتح ، فلما دخل مكة قال : يا عثمان ائت بالمفتاح ، فأتيته به ، فأخذه منى ثم دفعه إلى وقال : خذوه يا بنى طلحة خالدة إلى يوم القيامة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، وفى ذلك نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)(١) وفى سنن سعيد بن منصور أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أخذ المفتاح من بنى شيبة أشفقوا أن ينزعه منهم ثم قال : يا بنى شيبة هاكم المفتاح وكلوا بالمعروف ، قال العلماء : إن هذه ولاية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجوز لأحد أن ينزعها منهم ، وأعظم من ذلك أن يشرك منهم غيرهم ، وسيأتى كلام العارف بالله تعالى ابن العربى فى مخالفته لذلك ، قال الشيخ المحب (٢) الطبرى عالم الحجاز فى القربى : لا يبعد أن يقال هذا إذا حافظوا على حرمته ولازموا الأدب فى خدمته ، أما إذا لم يحفظوا حرمته فلا تبعد أن يخطر عليهم مشرف يمنعهم من هتك حرمته ، ثم قال أيضا : وربما تعلق الجاهل المعكوس الفهم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) النساء : آية (٥٨).

(٢) القرى ص ١٢٢.

١٠٦

«وكلوا بالمعروف» فاستباح أخذ الأجرة على دخول البيت ، ولا خلاف بين الأئمة فى تحريم ذلك وأنه من أشنع البدع وأقبح الفواحش وهذه اللفظة إن صحت فيستدل بها على إقامة الحرمة ؛ لأن أخذ الأجر ليس من المعروف ، إنما الإشارة والله أعلم إلى ما يتصدق به من البر والصلة على وجه التبرع فلهم أخذه وذلك أكل المعروف لا محالة أو إلى ما يأخذوه من بيت المال على ما يتولونه من خدمته والقيام بمصالحه فلا يحل إلا قدر ما يستحقونه والله أعلم ، انتهى كلام المحب الطبرى. واستفيد منه حرمة أخذ الأجرة على إدخال البيت وأما أخذ شىء من قناديله أو صفائحه أو معلقاته فهى أظهر مما يخفى كما يعلم ذلك مما قدمناه عن السبكى ، وقد تقدم أن مال الكعبة يسمى الأورق وأنه ما خالط مالا إلا محقه وأنه يشدد الموت على من يأكل منه شيئا وقد رأيت فى تاريخ القطبى أن المعتصم العباسى أهدى الكعبة قفلا لباب الكعبة فيه ألف مثقال ذهبا وكان والى مكة يومئذ صالح بن العباس ، وأنه أمر الحجبة بقبض القفل فأبوا أن يأخذوه منه وأراد أن يأخذ القفل الأول ويرسله إلى الخليفة فأبوا أن يعطوه ، وتوجهوا إلى بغداد وتكلموا مع المعتصم فترك قفل الكعبة عليها وأعطاهم القفل الذى كان بعثه إليها فاقتسموه بينهم ، انتهى. ولم يعترضه ، ومقتضى كلام السبكى السابق أن ما يهدى للكعبة يصير محبسا عليهم فلا يجوز للحجبة أخذه ولا للمهدى صرفه بعد أن حبسه لغيرها ، فكيف أعطى المعتصم القفل المذكور للحجبة؟ وكيف ساغ لهم أخذه؟ وكيف أراد أيضا أن يأخذ القفل الأول الذى على الكعبة مع حرمة أخذه له؟ وهل أنكره علماء عصره؟ فتأمل. وأعجب من ذلك أن القطبى ذكر أنه أدرك فى أيام صباه أن بعض شيوخ الكعبة كان يتهم بسرقة قناديل الكعبة ، وأن نجارا أخبره بأنه عمل لأحدهم محطا مركبا من الخشب مربعا من عدة أعواد طوال كل واحد منها نحو ذراع تركب فتطول ثم تفك وتحمل فى الكم ، فإذا دخل الشيخ يوم فتح الكعبة ابتداء ودخل وحده كما هو عادة المشايخ ، وركب ذلك المحط وركب قنديلا وفك تلك الأعواد ووضع ذلك القنديل فى كمه الواسع ، ثم أذن بالدخول إلى البيت الشريف قال وما كان يحمله على ذلك غير فقره واحتياجه تجاوز الله عنه.

١٠٧

وأما الرفادة فأصلها خرج كانت قريش تخرجه من أموالها إلى قصى يصنع به طعاما للحاج يأكله من ليس له سعة ولا زاد ، وكان قصى يخسر على كل طريق من طرق مكة جزرا كثيرة ويطعم الناس ، وكان يحمل راجل الحاج ويكسو عاريهم ، ثم صارت بعد عبد مناف ابن قصى إلى ابنه هاشم ، فكان يطعم الناس فى كل موسم إلى أن توفى ، فقام بذلك بعده عبد المطلب ثم بعده أبو طالب واستمر إلى أن جاء الإسلام فقام به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرسل بمال يعمل به الطعام مع أبى بكر رضى الله عنه حين حج بالناس سنة تسع ، ثم عمل سنة عشر فى حجة الوداع ، ثم أقامه أبو بكر فى خلافته ثم عمر ثم الخلفاء بعده ، فلما ولى معاوية رضى الله عنه اشترى دارا بمكة وسماها دار المرافد ، وجعل فيها قدورا فكانت ، الجزر من الغنم تطبخ فيها للحاج أيام الموسم ثم يفعل ذلك فى شهر رمضان ، ويروى أن أول من أطعم الحاج الفالوذج بمكة عبد الله بن جدعان وفد على كسرى فأطل عنده الفالوذج ، فسأل عنه ، فقالوا : لباب البر مع العسل ، فقال : آتونى غلاما يصنعه ، فآتوه بغلام فاشتراه وقدم به مكة فصنع الفالوذج للحاج ، ووضع الموائد من الأبطح إلى باب المسجد ، ثم نادى مناديه ألا من أراد الفالوذج ، فحضر الناس ، وما زال ذلك إطعامه للحاج إلى الجاهلية.

وأما السقاية (١) فكان أصلها حياضا من أدم توضع على عهد قصى بفناء الكعبة وتملى ماء للحاج ، وكان قصى يسقى اللبن المخيض ويسقى الماء المنبوذ بالزبيب أيضا ، وما زال ذلك فعله حتى هلك ، فقام به هاشم بعده ، ثم أخوه المطلب بعده ، ثم عبد المطلب ، وكان يسقى لبنا وعسلا فى حوض من أدم عند زمزم ، ثم قام به العباس رضى الله عنه بتوليته النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يزل فى ولده من بعده ، وأما الندوة فهى دار بناها قصى حين صار أمر مكة إليه ليحكم فيها بين قريش ، وكانت أول دار بنيت بمكة ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصى إلا ابن أربعين سنة للمشورة ؛ وأما ولد قصى فيدخلونها كلهم وحلفاؤهم ، ولم تزل دار الندوة لاجتماع الندا فيها ؛ لأنهم كانوا يندونها فيجلسون فيها لتشاورهم وإبرام أمرهم وعقد الألوية لحروبهم ، وهذه الدار فى الرواق الشامى من المسجد الحرام وهى معروفة مشهورة.

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ٢٥٩.

١٠٨

وأما اللواء فكان فى أيدى بنى عبد الدار يليه منهم ذو السن فى الجاهلية حتى كان يوم أحد فقتل عليه من قتل منهم.

وأما القيادة فوليها من بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف ، ثم وليها بعده ابنه أمية ، ثم من بعده ابنه حرب ، فقاد بالناس يوم عكاظ وغيره من حروب قريش ، ثم قاد الناس بعد أبى سفيان ابنه إلا يوم بدر قاد الناس عتبة بن ربيعة ، فلما كان يوم أحد والأحزاب قادهم أبو سفيان ، وكانت الأحزاب آخر وقعة لقريش ، ثم أيد الله الإسلام ومنّ بفتح مكة على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا ملخص ما رواه الأزرقى من خبر قصى وذكر غيره فى قسمة قصى غير هذا والله أعلم.

وذكر الأزرقى (١) أن قصيا لما انتهت إليه رياسة مكة وقرب أجله قسم رياسته ومكارمه بين ولده فأعطى عبد مناف السقاية والرفادة والقيادة ، وأعطى عبد الدار السدانة وهى حجابة البيت ودار الندوة واللوى.

وأما الجواب عن جواز تعهد هدم ما بناه الحجاج الخ فقد قال الشيخ ابن حجر فى رسالته «المناهل العذبة فى إصلاح (٢) ما وهى من الكعبة» ، أنه اختلف العلماء فى جدار الحج الموجود اليوم وفيه الميزاب ، هل يجوز هدمه؟ لأن ابن الزبير رضى الله عنهما أعاد الكعبة على قواعد إبراهيم عليه‌السلام لما مر ، وللخبر المتفق عليه الذى روته له خالته عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدال على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا خشى على قريش من الفتنة لهدم بنائهم الذى قصروه عن قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإخراج ستة أذرع منه من جهة الحجر وتعليه بابها الشرقى وفتح بابها الغربى؟ أو لا يجوز هدم ذلك الجدار ولا تغيير بابها ؛ لأن ابن عباس قال لابن الزبير رضى الله عنهم : دعها على ما أقرها عليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال جماعة بالجواز وجماعة بالمنع ، وممن قال بجواز ذلك صاحب الفروع من الحنابلة وعبارته : ويتجه جواز بنائها على قواعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو لا المعارض فى زمنه لفعله كما قرره ذلك مصرحا به فى خبر عائشة رضى الله عنها ، قال الإمام النووى : وفيه دليل لقواعد منها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدىء بالأهم ؛

__________________

(١) أخبار مكة ١ / ١٢٠.

(٢) انظر لوحة ٦.

١٠٩

لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن رد الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه‌السلام مصلحة ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه وهى خوف فتنة بعض من أسلم قريبا لما كانوا يرون تغييرها عظيما فتركها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها فكر ولى الأمر فى مصالح رعيته واجتناب ما يخاف منه تولد ضرر عليهم فى دين أو دنيا إلا الأمور الشرعية كأخذ الزكاة وإقامة الحد ، ومنها تألف قلوبهم وحسن حياتهم ، وأن لا ينفروا ولا يتعرض لما يخاف تنفيرهم بسببه ما لم يكن فيه ترك أمر شرعى ، انتهى كلام النووى. وقال الإمام ابن هبيرة : فيه أنه يدل على جواز تأخير الصواب لأجل قالة الناس. وقد رأى مالك والشافعى رضى الله عنهما أن تركه أولى لئلا يصير البيت الشريف ملعبة للملوك انتهى. وقول ابن هبيرة : إن التأخير لأجل قالة الناس فيه نظر ، وظاهر الخبر أنه لخشية الردة عليهم بنقض بعض بنائهم الذى يعدونه من أكمل شرفهم ، وقوله : إن مالكا والشافعى رضى الله عنهما رأيا أن ذلك أولى ، يشهد له بالنسبة لمالك قول التقى الفاسى من أئمة المالكية ، وروى أن الخليفة الرشيد وقيل أبوه وقيل جده المنصور أراد أن يغير ما صنعه الحجاج فى الكعبة وأن يردها إلى ما صنع ابن الزبير فنهاه عن ذلك الإمام (١) مالك وقال : أنشدتك الله لا تجعل بيت الله ملعبة للملوك لا يشأ أحد منهم أن يغيره إلا غيره فتذهب أبهته من قلوب الناس ، انتهى بالمعنى. وكان مالكا لحظ فى ذلك كون درء المفاسد أولى من جلب المصالح وهى قاعدة مشهورة معتمدة ، انتهى كلام الفاسى. فتعبيره بأولى مساو لقول ابن هبيرة عن مالك أنه رأى أن ذلك أولى ، فإن قلت استشهاد الفاسى بالقاعدة المذكورة يدل على الوجوب ؛ لأن درء المفاسد يجب تقديمه على جلب المصالح قلت : هذا إيهام لأن المفاسد على قسمين : مظنونة الوقوع فهذه هى التى تجب تقدم رعايتها على جلب المصالح ، ومتوهمة الوقوع وهذه هى التى تكون رعايتها أولى لا واجبة ، وما نحن فيه من هذا الثانى كما هو واضح ، إذ حينئذ تغيير الملوك لها حتى تذهب هيبتها من القلوب مع ما استقر فى النفوس من تعظيمها بعيد جدا فكان متوهما لا مظنونا فصح التعبير فى هذا المقام بأولى ، فتأمله. ويشهد لذلك بالنسبة للشافعى رضى الله عنه قول النووى رحمه‌الله فى شرح المهذب ، قال القاضى أبو الطيب فى تعليقه فى باب دخول مكة فى آخر مسألة افتتاح الطواف

__________________

(١) انظر أعلام العلماء الأعلام ص ٧١.

١١٠

بالاستلام قال الشافعى رضى الله عنه : أحب أن تترك الكعبة على حالها فلا يهدم ؛ لأن هدمها يذهب حرمتها ويصير كالتلاعب فلا يريد وال تغييرها إلا هدمها ولذلك استحسن تركها على ما هى ، انتهى. فظاهر قوله رضى الله عنه أحب ، بل صريحه ما نقله عنه ابن هبيرة أنه رأى أن ترك ذلك أولى ، وزعم أنه يريد بأحب أوجب بتقدير تسليمه وإلا فكتبه لا سيما مختصر المزنى مع صغره مشحونة باستعمال أحب فى المندوبات لا غير ، كما هو وضعه لا يرد على ابن هبيرة ؛ لأن نص الإمام فى حق مقلديه كنص الشارع فى حق الأمة فى كونه يحمل على معناه الحقيقى ولا يجوز صرفه عنه إلا لديل من كلامه أو قواعد قرر أهل الأصول دلالة مثله على الوجوب ، وزعم بعضهم أنه قد يريده به أوجب لقرينة ليس فى محله ؛ لأن كلامنا فى نص خلا عن القرينة ، والتعليل بإذهاب الحرمة لا يدل على الوجوب لأنه مشكوك فيه لا يراعى مثله إلا من يقول : برعاية المصالح المرسلة مطلقا ، ونحن لا نقول بذلك على أن قوله ولذلك استحسن إلى آخره يرد توهم الوجوب وسيأتى قريبا عن المحب الطبرى قوله : على أنا نقول : إنما كره مالك إلى آخره وهو صريح واضح فيما ذكرته فتأمله. وأما قول الشافعى رضى الله عنه فى بعض المواضع : لا أحب كذا ، لا أحب نقل الميت إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس ، فهو لا يقضى على ابن هبيرة ؛ لأن لا أحب كذا قد يستعمله الشافعى فيما فعله محرم وقد يستعمله فيما فعله مكروه ، ومن ثم اختلف أصحابه فى هذه المسألة : فقال جماعة : يحرم النقل لغير الثلاثة ، وقال آخرون : يكره ونظير هذا استعمال الشافعى أكره كذا فإنه قد يستعمله فى المكروه كراهة تنزيه وقد يستعمله فى الحرام ، فإن قلت : ما الفرق بين أحب حيث لا يستعملها إلا فى المندوب وأكره حيث يستعملها فى الأمرين؟ قلت : الفرق ما استفاض على لسانه ولسان أصحابه أن المكروه قد يكون كراهته للتحريم وقد تكون كراهته للتنزيه ، فصح استعمال أكره فيهما ، وأما المحبوب فلم يقع اصطلاح على أن محبته قد تكون للإيجاب وقد تكون للندب بل لم يستعمل إلا قسيما للواجب فتعين صرفه له ، وفى البديهة ما يقضى بها على ابن هبيرة فتأمل ذلك فإنه قد وقع فيه غلط.

هذا ما يتعلق بالقائلين بالجواز نقلا ودليلا ، وأما القائلون بالمنع فيشهد لهم قول النووى رحمه‌الله فى شرح مسلم : قال العلماء : ولا تغير الكعبة عن هذا

١١١

البناء ويحتمل أن نفى ذلك أولى ليوافق ، ما مر عن الشافعى رضى الله عنه ويشهد لهم أيضا بل يصرح به قول السبكى : الإجماع انعقد على عدم جواز تغيير الكعبة ، انتهى. وقول الزركشى بعد الحكاية السابقة عن مالك رضى الله عنه والرشيد أو أبيه أو جده : واستحسن الناس هذا من مالك وعملوا فصار كالإجماع على أنه لا يجوز التعرض للكعبة بهدم أو تغيير انتهى ، فإن قلت كيف هذا الإجماع مع وجود ما مر من الخلاف؟ قلت : أما عبارة النووى فهى محتملة فلا دليل فيها ، وأما عبارة السبكى فصريحة فى نقل الإجماع لكن فيها نظر ، وكان هذا هو السبب فى عدول الزركشى عنها إلى قوله فصار كالإجماع إلى آخره ، فافهم أنه ليس فى المسألة إجماع حقيقى وهذا هو الحق ، هذا كله إن حملنا كلام هؤلاء كما هو المتبادر منه على أنه فى الصورة السابقة وهى هدم ما صنعه الحجاج وردها على بناء ابن الزبير رضى الله عنهما ، ويؤيد ذلك أن هذا هو الذى أراده هارون أو أبوه أو جده فمنعه منه مالك رضى الله عنه ، وأما بقية بناء ابن الزبير رضى الله عنهما فلم يتعرض له أحد بعد الحجاج بهدم ولا تغيير ولا أراد أحد فيه ذلك كما قاله التقى الفاسى وغيره كما يأتى حتى يقع فيه خلاف ، وإنما الذى وقع من الملوك من ذلك الزمن وإلى الآن ترميم وإصلاح لنحو السقف والعتبة والميزاب والباب ، على أن من العجب الدال على كرامة ابن الزبير رضى الله عنهما أن جميع الإصلاحات الواقعة فى نحو جدار الكعبة وبابها إنما هى فيما صنعه الحجاج وما قرب منه دون بناء ابن الزبير رضى الله عنهما كما سيأتى مبسوطا ، أما إذا لم تحمله على تلك الصورة الخاصة بل على ما عداها فالإجماع على الامتناع من هدم جدرانها أو تغييره بلا ضرورة أمر حقيقى واقع لا مرية فيه ، وليس ذلك من خصوصيات الكعبة بل هو جار فى كل مسجد ، إذ من البديهى فى سائر المساجد أنه لا يجوز لأحد هدم أبنيتها ولا تغييرها عما هى عليه من غير ضرورة أو حاجة ماسة ، وحينئذ فلا يجوز لأحد حمل اختلاف العلماء على ذلك.

بل يتعين حمله على ما قررنا ، وأوضحناه فتأمله لئلا يزل قدمك ويطغى قلمك ، أعاذنا الله أجمعين من ذلك بمنه وكرمه آمين. ثم رأيت الإمام المحب الطبرى صرح عن مالك رضى الله عنه بما يوافق ما قدمته عن ابن هبيرة وغيره فى فهم كلامه وما ذكرته أن محل كلامه إنما هو فى هدم ما فعله الحجاج لا

١١٢

غيره وذلك أنه ـ أعنى المحب الطبرى ـ لما أفتى بوجوب هدم ما كان عليه الشاذروان من دون ذراع فى عرضه ووجوب إعادته إلى ذراع احتياطا للطائفين الذين يرون بطلان الطواف عليه استشعر اعتراضا على نفسه من كلام الإمام مالك رضى الله عنه أنه لما حج الخليفة فى زمنه وكان بلغه عنه أنه يريد أن يهدم ما بناه الحجاج من البيت ويرده إلى ما بناه ابن الزبير رضى الله عنهما ، فخرج له من المدينة واعترض له فى طريقه وقال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين لا جعلت هذا البيت ملعبة للملوك لا يشأ أحد منهم يهدمه ويبنيه إلا فعل ، فكف الخليفة عن ذلك ، وإنما قال له مالك ذلك وكف الخليفة تعظيما للبيت واحتراما له ، والتعظيم والحرمة ثابتان للجزء كثبوته للكل ، قلنا : إيراد هذه الحكاية فى معرض الاعتراض تشنيع وتهويل وعمى بصيرة عن رؤية الحق وارتكاب هوى متبع وأى جامع بين ما نحن فيه وما فى الحكاية والفرق بينهما من وجهين : الأول : من جهة المعنى فإن القصد فى مسألتنا رعاية مصلحة الطائفين وتصحيح طوافهم وجعل المطاف على صورة يصح الطواف فيه للملاصق للشاذروان وذلك الغاية فى تعظيم حرمة البيت والإعراض عن ذلك هتك لحرمته لما يتطرق به من الخطر الكثير والفساد العويص فناسب وجوب رعاية ذلك تجنبنا للخطر الناشئ بسبب الترك على كل قادر ، وما أنكره الإمام ليس فى تركه خطر ولا إفساد عباده بخلاف مسألتنا لما يترتب عليها من الخطر المذكور ، ولو سئل مالك رضى الله عنه عن مسألتنا لأجاب بمثل جوابنا ؛ لأن مذهبه وجوب حسم الذرائع المفضية إلى المفاسد ومسألتنا تنزع إلى ذلك إلى تقرير الشاذروان على ما هو عليه يؤدى إلى إفساد طواف بعض الطائفين فوجب حسمه بالإزالة الثانى الفرق من جهة الصورة ، وذلك أن هدم البيت أو جانب منه يكثر الابتذال فيه ويعظم الشعث وتقل الهيبة لا سيما إذا كان ناشئا عن هوى متبع ، بخلاف هدم شبر من دكة فى بناء البيت إن احتيج إليه وإلا فالضرورة تندفع بإلصاق بناء إليه يتمم به الذراع ويندفع به المخدور وبين الصورتين بون عظيم ، على أنا نقول : إنما كره مالك رضى الله عنه ما كرهه خشية أن يتكرر هدم البيت لما علم من هدم ابن الزبير رضى الله عنهما وبنائه ثم هدم الحجاج لما زاده ابن الزبير رضى الله عنهما فخشى مالك لو هدمه هذا الخليفة وأعاده على وضع ابن الزبير رضى الله عنهما أن يأتى بعده مما يرى رأى الحجاج ويتكرر ذلك ، فجرى على مقتضى مذهبه فى سد الذرائع ، ولهذا نبه

١١٣

رضى الله عنه على ذلك بقوله : أخشى أن تبقى ملعبة للملوك ، وإلا فلو علم أنه لا يهدم بعد إعادته على وضع ابن الزبير رضى الله عنهما لما أنكر بل استحسنه وندب إليه وحث عليه ، فرأى أن التعظيم به أنسب وأولى ولم يكن ملعبة بل سنة متبعة وفعلا جميلا فإن سيد المرسلين الممهد لنا شرائع الدين أشار إلى ذلك بما جاء فى الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة ، وألزقت بابها بالأرض ، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيه ستة أذرع ، فإن قومك استقصرتها حين بنت الكعبة» ، وفى رواية فى الصحيحين : «فإن بدا لقومك من بعدى أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه» فأراها قريبا فى ستة أذرع ، وفى قوله : «فإن بدا لقومك» تصريح بالإذن فى أن يفعل ذلك بعده عند القدرة عليه والتمكن منه وفى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو لا» إلخ حث عليه ودلالة على أن المانع منه حديثهم بالشرك وتنبيه على أنه أى فعل ذلك فى مهمات الدين عند تمكن الإسلام وهذا هو المعنى الذى حث ابن الزبير على هدم الكعبة واستيفاء قواعدها فلم يكن لذلك ملوما ولا عد منتهكا حرمة بل قائما فى ذلك بالحرمة رضى الله عنه ، ومدلول هذا الحديث تصريحا وتلويحا يبيح التغيير فى البيت بالعمارة إذا كان لمصلحة ضرورية أو حاجية أو مستحسنة والله أعلم ، انتهى كلام المحب الطبرى (١). وهو مشتمل على نفائس ، انتهى كلام ابن حجر (٢) فى رسالته نقلناه برمته مع زيادة كلام النووى ، وأقول كلامه هذا كله مفروض فيما يتعلق بجواز تعمد هدم ما بناه الحجاج فذكر فيه خلاف العلماء وأما لو انهدم بناء الحجاج بنفسه كما فى هذه النازلة فهل تجب إعادته على ما فعله ابن الزبير فى جعله على قواعد سيدنا إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وإدخال ما أدخله بن الزبير من الحجر بالسكون ، ويفرق بين تعمد هدمه وبين ما لو انهدم بأن فى الأول ما رآه مالك من تجرىء الملوك عليه وجعله ملعبة لهم فتذهب مهابته من قلوب الناس بخلاف ما لو انهدم بنفسه ، فإنه ليس فيه ذلك لكن يلزم عليه محذور آخر حينئذ وهو الوقوع فى استقبال ما زيد ، وقد ذكر فى الروض وشرحه أنه لو استقبل الحجر بكسر الحاء دون الكعبة لم يجزه ؛ لأن كونه من البيت مظنون لا مقطوع

__________________

(١) انظر القرى ص ٩١

(٢) انظر المناهل العذبة لوحة ٩

١١٤

به لأنه إنما ثبت بالآحاد ، وقد نقل الزركشى عن القرطبى أنه قال فى المفهم : وما فعله عبد الله ابن الزبير كان صوابا وقبح الله الحجاج وعبد الملك لقد جهلا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال عبد الملك حين بلغته السنة : لو كنت سمعته قبل أن انهدمت لتركته على بناية ابن الزبير. وهو غير معذور فى ذلك فإنه كان متمكنا بالتثبت بالسؤال والبحث فلم يفعل واستعجل وقضى فالله حسبه ومجازيه على ذلك فلقد اجترأ على بيت الله وعلى أوليائه ، ولما كان الرشيد أراد أن يرد على ما بناه ابن الزبير فقال مالك : نشدتك الله يا أمير المؤمنين أن لا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك لا يشأ أحد إلا نقض البيت وبناه فتذهب هيبته من صدور الناس ، فترك ما هم به واستحسن الناس هذا من مالك وعملوا ، عليه فصار هذا كالإجماع على أنه لا يجوز التعرض له بهدم أو تغيير والله أعلم ، انتهى. ثم رأيت الأستاذ الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركاته حسن فى الفتوحات فعل الحجاج وعبارته وقد ذكرنا فى أول هذا الكتاب ما بقى فى الحجر من البيت ، ولماذا أبقاه الله فيه ، وبينا الحكمة الإلهية فى ذلك فى رفع التحجير والتجلى الإلهى فى الباب المفتوح لمن أراد الدخول إليه وذلك هو بيت الله الصحيح ، وما بقى منه بأيدى الحجبة بنى شيبة وقع فى باطنه التحجير لأنه فى ملك محدث وهو الموجود المقيد فلا بد أن يفعل ما تعطيه ذاته والحديث النبوى فى ذلك مشهور والخلف والأمر أغفلوا عن مقتضى معنى قوله تعالى حين أمسك صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح البيت الذى أخذه من بنى شيبة فأنزل الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها)(١) فتخيل الناس أن الأمانة هى سدانة البيت ولم تكن الأمانة إلا مفتاح البيت الذى هو ملك لبنى شيبة فرد عليهم مفتاحهم ، وأبقى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ولاية السدانة ، ولو شاء جعل فى تلك المرتبة غيرهم وللإمام أن يفعل ذلك إذا رأى فى فعله المصلحة ، لكن الخلفاء لم يريدوا أن يؤخروا عن هذه المرتبة من قرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، فهو مثل سائر ولاة المناصب إن عدلوا فيها الحق فلهم وإن جاروا فعليهم ، وللإمام النظر فبقى بيت الله عند العلماء بالله لا حكم لبنى شيبة ولا لغيرهم فيه وهو ما بقى فى الحجر فمن دخله دخل البيت ومن صلى فيه صلى فى البيت كذا قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة أم المؤمنين ، ولا يحتاج العارفون لمنة بنى شيبة فإن الله قد كفاهم بما أخرج لهم منه فى الحجر فجناب الله أوسع أن يكون عليه سدنة من خلقه ولا سيما من نفوس جبلت على الشح وحب الرياسة والتقدم ، ولقد وفق الله الحجاج لرد

__________________

(١) النساء آية : ٥٨.

١١٥

البيت على ما كان عليه فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء الراشدين فإن عبد الله بن الزبير غيره وأدخل فى البيت فأبى الله إلا ما هو الأصل عليه وجهلوا حكمة الله فيه بقول على ابن الجهم :

وأبواب الملوك محجبات

وباب الله مبذول الفناء

انتهى كلامه رضى الله عنه. قال الحافظ (١) ابن حجر لم أقف فى شئ من التواريخ على أن أحدا من الخلفاء ولا من دونهم غير من الكعبة شيئا فى صنعة الحجاج إلى الآن إلا فى الميزاب والباب وعتبته ووقع الترميم فى جدارها غير مرة وفى سقفها وفى سلم سطحها وجدد فيها الرخام إلى أن قال : وقد ترادفت الأخبار الآن فى وقتنا هذا فى سنة اثنين وعشرين وثمانمائة أن جهة الميزاب فيها ما يحتاج إلى ترميم ، فاهتم لذلك السلطان الملك المؤيد ثم حججت فى سنة أربع وعشرين وتأملت المكان الذى قيل عنه فلم أجده بتلك البشاعة ، وقد نقض سقفها فى سنة سبع وعشرين على يدى بعض الجند فجدد لها سقفا ورخم السطح فلما كان فى سنة ثلاث وأربعين صار المطر إذا انزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولا ، فأراه رأيه الفاسد إلى أن نقض السقف مرة أخرى وسد ما كان فى السطح من الطاقات التى كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة ولزم من ذلك امتهان الكعبة ، بل صار العمال يصعدون فيها بغير أدب ، فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو ، فتعصب للأول بعض من جاور ، وأجمع الباقون رغبة ورهبة فكتبوا محضرا بأنه ما فعل ذلك إلا عن ملأ منهم وإن كل ما فعله مصلحة وغطى عليه الأمر ، ومما يتعجب منه أنه لم يتفق الاحتياج فى الكعبة إلى الإصلاح إلا فيما صنعه الحجاج إما فى الجدار الذى بناه فى الجهة الشامية وإما فى السلم الذى جدده للسطح أو العتبة وما عدا ذلك مما فعل فإنما هو لزيادة محضة كالرخام أو التحسين كالباب والميزاب انتهى المقصود نقله من كلام الحافظ واعترض عليه فى جعله نقض السقف الجديد فى سنة سبع وعشرين بأنه سبق قلم وإنما هو سنة ثمان وثمانين.

وأما الجواب عما نقله الفاسى (٢) والأزرقى من أن الخليل جعل الحجر عرشا فى أراك تقتحمه العنز وكان زربا لغنم إسماعيل مع ما روى عن عائشة

__________________

(١) انظر المناهل العذبة لوحة ٩

(٢) شفاء الغرام ١ / ١١١

١١٦

رضى الله عنها ومع ما ذكره الشامى من أن الخليل أدخل الحجر وهو سبعة أذرع فى البيت وكان قبل ذلك زربا لغنم إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعل موضع الحجر الذى كان زربا لغنم إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أزيد مما أدخله الخليل فى البيت ، فالذى أدخله فيه إنما هو مقدار سبعة أذرع أو أقل ، فإطلاق الشامى أنه أدخل الحجر إطلاق مجازى أى بعضا مما كان يسمى بالحجر زمن إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ما فضل عن ذلك القدر الذى أدخله الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى البيت جعله الخليل صلى الله عليه وسلم عريشا من أراك (١) تقتحمه العنز وكان زربا لغنم إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن كونه مع ما أدخل فى البيت كان زربا لغنم إسماعيل حين نزل بالبيت لا ينفى إلى حكم على ما فضل عن القدر المدخل فى البيت بأنه كان زربا له ، ولعل هذا الذى جعله الخليل عريشا من أراك هو الذى كان أنزل به هاجر وولدها إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين انتهى بهما إلى موضع البيت ، فعمد إلى موضع الحجر فآوى فيه هاجر وإسماعيل وأمرها أن تتخذ عريشا فجعلت عريشا فى موضع الحجر من سمر وتمام ألقته عليه على ما بينه الشافعى مجيبا عن الرواية الأخرى وهى أنه وضعهما عند دوحة فوق زمزم فى أعلى المسجد بأنه يحتمل أن يكون الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلهما أولا عند الدوحة ثم نقلهما إلى موضع الحجر أو بالعكس ، ولا مخالفة بين الروايتين خلافا لما زعمه فى شفاء الغرام ، ثم رأيت فى تاريخ الفاسى ما يؤخذ منه هذا الجواب فإنه قال روينا فى تاريخ الأزرقى عن ابن إسحاق قال وجعل إبراهيم إلى جنب البيت عريشا من أراك تقتحمه العنز وكان زربا لغنم إسماعيل عليه‌السلام انتهى.

وقد تقدم (٢) فى خبر عمارة الكعبة أن قريشا أدخلت فى الحجر منها أذرعا لقصر النفقة الحلال التى أعدوها لعمارتها ، وأن عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما لما عمر الكعبة أدخل ذلك فيها ، وأن الحجاج أخرج منها ذلك ورده إلى ما كان عليه فى عهد قريش والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر ذلك إلى الآن فصار بعض الحجر من الكعبة وبعضه ليس منها ، وفى الحجة على ذلك حديث عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها

__________________

(١) انظر شفاء الغرام ١ / ١١١

(٢) شفاء الغرام ١ / ٩١

١١٧

ستة أذرع من الحجر فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة» وفى رواية : «فإن بدا لقومك من بعدى أن يبنوه فهلمى لأريك ما تركوا منه فأراها قريبا من سبعة أذرع» أخرجاه والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة ، وقد ذكرنا شيئا منها فى أصل هذا الكتاب ، ولا يعارض ذلك حديث عائشة رضى الله عنها سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحجر أمن البيت؟ قال : نعم ؛ لأن هذا الحديث مطلق والأحاديث الأخرى مقيدة. والمطلق يحمل على المقيد أشار إلى ذلك المحب الطبرى لأنه قال والأصح أن القدر الذى فيه من البيت قدر سبعة أذرع ، وقد جاء مصرحا به فى الحديث عن عائشة فذكر عنها ما سبق بالمعنى مختصرا ، ثم قال : فيحمل المطلق فيما تقدم على هذا ، وإطلاق اسم الكل على البعض جائز على سبيل المجاز المستحسن ذكر ذلك فى شرحه للتنبيه انتهى. ذلك وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث عائشة المطلق : «ولو لا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، فأخاف تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر فى البيت» الحديث ، فإن حال من قال بأن الحجر كله من البيت لا يخلو من أمرين : إما أن يقول أشار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقول هذا إلى إدخال بعض الحجر أو جميعه ، فإن قال من قال بالأول فقد ناقض قوله أن الحجر كله من البيت ، وإن قال بالثانى ففى صحته نظر ؛ لأن فى البخارى من حديث عائشة عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وأدخلت فيه ما أخرج منه وبلغت به أساس إبراهيم» وهذه الرواية تقتضى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يختار رد البيت إلى أساس إبراهيم ، وأساس إبراهيم الذى أشار إليه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذى أدخلته قريش فى الحجر لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالتاريخ أن البيت فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مبنيا من جميع جوانبه على أساس إبراهيم إلا من جهة الحجر ، فيكون أساس إبراهيم الذى أشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأساس الذى فى جهة الحجر ، وهو الأساس الذى بنى عليه ابن الزبير كما فى صحيح مسلم وتاريخ الأزرقى ، ومما يدل على أن بعض الحجر من البيت لا كله كون النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى عائشة مقدار ما تركته قريش من الكعبة فى الحجر ، ولو كان الحجر كله فى الكعبة لم يكن رأى رأيه محل والله أعلم ، وقد اختلفت الروايات عن عائشة رضى الله عنها فى مقدار ما فى الحجر من الكعبة ففى رواية قرب من سبعة أذرع ، وفى رواية ستة أذرع أو نحوها ، وفى رواية سبعة أذرع ، وفى رواية خمسة أذرع ، وفى رواية أربعة أذرع ، وهذه الرواية الأخيرة فى كتاب الفاكهى بإسناد فيه من لم أعرفه وما عدا ذلك من الروايات صحيح الإسناد واختلاف الروايات عنها من قدر ما فى

١١٨

الحجر فى الكعبة لا يقتضى ترك العمل بما روى عنها من أن بعض الحجر من البيت ، وإنما يقتضى أن يعمل فى مقدار ما فى الحجر من الكعبة بأكثر الروايات فى ذلك وهى نحو سبعة أذرع كما فى الصحيحين والله أعلم ، وإنما نبهنا على ذلك لأن كلام ابن الصلاح يوهم خلاف ذلك على ما نقل عنه النووى فى الإيضاح لأنه قال : وأما حديث عائشة رضى الله عنها فقد قال الشيخ (١) الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه‌الله تعالى : قد اضطربت فيه الروايات ففى رواية فى الصحيحين الحجر من البيت وروى : ستة أذرع من الحجر من البيت ، وروى : سبعة أذرع أو نحوها ، وروى : خمسة أذرع : وروى قريبا من سبع ، قال : وإذا اضطربت الروايات تعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين انتهى. وهذا من ابن الصلاح والنووى تحريم على أن الطواف لا يصح إلا من وراء الحجر جميعه وذكر النووى أن هذا المذهب هو الصحيح وأن الشافعى نص عليه وقطع به جماهير الشافعية وأنه الصواب لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاف خارج الحجر وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة فمن بعدهم ، قال العلامة السيد الفاسى : قلت : يمكن الانفصال عن استدلال النووى بطواف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج الحجر على إيجاب الطواف من وراء الحجر ؛ لأن الأفعال الصادرة من النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجته إما أن يكون فعلها أجمع يطلب على وجه الوجوب وهذا غير مسلم أو يطلب بعضها على سبيل الندب وبعضها على سبيل الوجوب ، ويتميز ذلك بدليل من خارج ، وهذا هو الحق ، وإذا كان كذلك فطواف النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء الحجر لا يكون دليلا على وجوب الطواف هكذا لما تقرر من التزام أن أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجه بعضها واجب وبعضها مندوب ، ولا يمكن أن يقوم دليل على وجوب الطواف من خارج الحجر إلا أن يكون حديث عائشة الحجر من البيت وهو مطلق يحمل على أحاديثها المقيدة والله أعلم. قال ومثل هذا يقال فى طواف الخلفاء وغيرهم من وراء الحجر وإذا لم يتم دليل من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجوب الطواف من وراء الحجر فإن الطواف من ورائه مطلوب على سبيل الندب المتأكد ، فإن خالف إنسان وتسور جدار الحجر وطاف فيه فى الموضع الذى ليس من البيت خصوصا على رواية سبعة أذرع ونحوها أو ستة ، ففى الجزم بفساد طوافه نظر كثير لا ينهض عليه دليل ، وقد قال بصحة طواف

__________________

(١) شفاء الغرام ١ / ٩١.

١١٩

من طاف فى الحجر وجعل بينه وبين الكعبة ستة أذرع الشيخ أبو محمد الجوينى وابنه إمام الحرمين والبغوى ، وذكر الرافعى أن هذا المذهب هو الصحيح وقال به اللخمى من أصحابنا المالكية وجزم به الشيخ خليل الجندى فى مختصره الذى صنفه لبيان ما به الفتوى وغيره والله أعلم.

هذا وحكم الصلاة فيما فى الحجر من الكعبة حكم الصلاة فيها لكونه ذلك من الكعبة ، فلا يصح فيه على المشهور من مذهب مالك الفرض ولا النفل المؤكد كالسنن والوتر وركعتى الفجر والطواف الواجب ، ويصح فيه النقل غير المؤكد ويستحب ذلك فيه كبقية الحجر ، ويصح فى بقية الحجر الفرض من غير كراهة ، ومذهب الشافعى وأبى حنيفة جواز جميع الصلوات فى جميع الحجر ، وقد ذكر المحب الطبرى فى كتاب القرى أن من جملة المواضع التى صلى فيها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر واستدل له بحديث خنق عقبة بن أبى معيط للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحجر كما فى الصحيحين وهو : بينما النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى فى حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه فى عنقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر وأخذ بمنكبه ورفعه عنه عليه‌السلام وقال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ)(١) الآية. وروى الفاكهى بسنده عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبى هريرة : يا أبا هريرة إن على باب الحجر لملكا يقول لمن دخل فصلى ركعتين : مغفورا لك ما مضى فاستأنف العمل ، وعلى باب الحجر الآخر ملك منذ خلق الله الدنيا إلى يوم يرفع البيت يقول لمن صلى وخرج : مرحوما إن كنت من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقيا انتهى.

وأما الجواب عن إقرار النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بناء قريش مع إخراجهم الحجر وفتحهم للباب فى جدار الكعبة إلى غير ذلك فتقدم ما يعلم منه الجواب وقد اعتذر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك بقوله لعائشة رضى الله عنها : «لو لا قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا استقصرتها حين بنت الكعبة» قال النووى وفيه دليل لقواعد منها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم لأن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن ردّ الكعبة إلى قواعد إبراهيم عليه‌السلام مصلحة ولكن يعارضه مفسدة أعظم منه وهى خوف فتنة بعض من أسلم قريبا لما كانوا يرون تغييرها عظيما فتركها النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومنها فكر ولى الأمر

__________________

(١) غافر : آية (٢٨).

١٢٠