تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

وهو له فى غالب الظن والله أعلم ، وذكر النووى حجة الشافعى على أن مكة فتحت صلحا ، فقال : واحتج الشافعى بالأحاديث المشهورة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخوله مكة ، وفى هذا الاستدلال نظر ؛ لأن الصلح المشار إليه كان المراد به تأمين النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل مكة على الصفة السابق ذكرها بإطلاق الصلاح عليه إنما يتم إذا التزموا ترك قتال المسلمين يوم الفتح ، وقد وقع منهم بمكة ما يقتضى أنهم لم يلتزموا ذلك كما فى حديث أبى هريرة السابق ، وإن كان المراد بالصلح المشار إليه عقد هدنة كما وقع عام الحديبية فهذا لا يعرف فيه حديث فضلا عن أن يكون فيه أحاديث مشهورة ، والاحتمال الأول أقرب لمراد النووى رحمه‌الله ، وفيه من النظر ما ذكرناه والله أعلم بالصواب ، وذكر النووى حجة الشافعى على أن دور مكة مملوكة فقال : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل دار أبى سفيان فهو آمن» استدل به الشافعى وموافقوه على أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها ؛ لأن أصل الإضافة إلى الآدميين يقتضى الملك وما سوى ذلك مجاز انتهى. وفى هذا الاستدلال نظر ؛ لأن الحديث المشار إليه غير مشعر بإضافة شىء من دور مكة لأربابها من مسلمة الفتح إلا دار أبى سفيان وإذا كان كذلك فالدلالة منه على أن دور مكة أجمع مملوكة لأهلها غير ناهضة من الحديث المذكور ؛ ولأن الحديث غير دال على ذلك ، وفى قياس دور مسلمة الفتح بمكة على أن دار أبى سفيان نظر لعدم مساواتهم لأبى سفيان فى الحكم فإنه أسلم بمر الظهران قبل أن يدخل النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة وبإسلامه أحرز نفسه وماله ، ومثله فى ذلك حكيم بن حزام الأسدى وبديل بن ورقاء الخزاعى فإنهما أسلما معه على خلاف فى بديل فى الفتح هل أسلم بمر الظهران أو قبل ذلك؟ والله أعلم. وفى أصل هذا الكتاب فيما يتعلق بهذا المعنى فوائد كثيرة لا يوجد مثلها مجتمعا فى كتاب والله تعالى أعلم ، وحيث انتهى بنا الكلام إلى إتمام المبحث الأول.

فلنشرع فى تحقيق أجوبة المبحث الثاني

فنقول : أما الجواب عن قوله : هل الكعبة أفضل من المؤمن إلى آخره؟ فقد قال ابن حجر فى شرح العباب : قال الزركشى : ويسن تطييب المصحف وجعله على كرسى وتقبيله ، وسئل السبكى عن الدليل على تقبيله القياسى على الحجر

١٦١

الأسود ويد العالم والصالح والوالد ومعلوم أنه أفضل منهم انتهى. فقوله ومعلوم أنه أفضل إلى آخره قد ينازع فيه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للكعبة فى الحديث الصحيح : «والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك» وقد يقال الكلام فى مقامين : مقام التعظيم بالظاهر كالقيام والتقبيل ، فالكعبة والمصحف أحق بهذا من مطلق المؤمن ، ومقام الاحترام بأن لا يقبل إليه أبدا ، فالمؤمن أحق بهذا منهما ، لكن يعكر على هذا أن تلويثها بالقذر كفر وإن لم يستحله ، بخلاف تلويث المسلم بل قتله بمجرده لا يكون كفرا ، وقد يجاب بأن الكفر ليس لذات المصحف والكعبة بل لاستلزام تلويثهما بالقذر الاستهزاء بالدين ولا كذلك فى المسلم فهو من حيث ذاته أعظم حرمة منهما ، وهما من حيث التعظيم الظاهر أعظم حرمة منه وهذا وإن كان فيه ما فيه إلا أنه أحوج إليه ضرورة الجمع بين متفرقات كلامهم انتهى كلام ابن حجر. لكن ذكر عارف الزمان الشيخ الأكبر نفعنا الله ببركاته فى الفتوحات كلاما نفيسا فى ذلك يخالف هذا فننقله ليعود على الرسالة بركة نفسه رضى الله عنه فنقول : ذكر فى الباب الثانى والسبعين فى أسرار الحج ما نصه : ولقد نظرت يوما إلى الكعبة وهى تسألنى الطواف بها ، وزمزم تسألنى التضلع من مائه رغبة فى الاتصال بنا سؤال نطق مسموع بالأذن فخفنا من الحجاب بهما لعظيم مكانتهما عما نحن فيه من حال القرب الإلهى الذى ليس بذلك الموطن فى معرفتنا فأنشدتهما مخاطبا ومعرفا بما هو الأمر يكن مترجما عن المؤمن الكامل :

يا كعبة الله ويا زمزمه

كم تسألانى الوصل صد ثم مه

إن كان وصلى بكما واقعا

فرحمة لا رغبة فيكمه

يا كعبة الله سوى ذاتنا

ذات ستارات التقى المعلمة

ما وسع الحق سما ولا

أرض ولا كلم من كلمه

ولاح للقلب فقال اصطبر

فإنه قبلته المحكمة

منكم إلينا وإلى قلبكم

منا فيا بيتى ما أعظمه

فرض على كعبتنا حبكم

وحبنا فرض عليكم ومه

ما أعظم البيت على غيره

سواك يا عبدى بأن تلزمه

١٦٢

قد نوّر الكعبة تطوافكم

بها وأنوار الورى مظلمة

ما أصبر البيت على سراكم

لو لا كموا كانت له مشأمة

لكنكم فيما تواصيتم

بالصبر تحقيقا وبالمرحمة

ما أعشق القلب بذاتى وما

أشده حبا وما أعلمه

وكان بينى وبين الكعبة فى زمان مجاورتى بها مراسلة وتوسلات ومعاتبة وأئمة ، وقد ذكرت بعض ما كان بينى وبينها من المخاطبات فى جزء سميناه تاج الرسائل ومنهاج الوسائل ، يحتوى فيما أظن على سبع أو ثمان من أجل السبعة الأشواط ، لكل شوط رسالة مبنى على الصفة الإلهية التى تجلت لى فى ذلك الشوط ، ولكن ما عملت تلك الرسائل ولا خاطبتها بها إلا لسبب حادث وذلك أنى كنت أفضل عليها نشأتى وأجعل مكانتها فى محل الحقائق دون مكانتى ، وأذكرها من حيث ما هى نشأة جمادية فى أول درجة من المولدات ، وأعرض عما خصها الله به من علو الدرجات ، وذلك لأرقى همتها ولا تحجب بطواف الرسل والأكابر بذاتها وتقبيل حجرها ، فإنى على بينة من ترقى العالم علوه وسفله مع الأنفاس لاستحالة ثبوت الأعيان على حالة واحدة فإن الأصل الذى يرجع إليه جميع الموجودات وهو أعلم وصف نفسه أنه كل يوم هو فى شأن ، فمن المحال أن يبقى شىء من العالم على حالة واحدة زمانين فتختلف الأحوال عليه لاختلاف التجليات بالشؤون الإلهية ، وكان ذلك منى فى حقها لغلبة حال غلب على ، فلا شك أن الحق أراد أن ينبهنى على ما أنا فيه من شكر الحال فأقامنى من مضجعى فى ليلة باردة مقمرة فيها رش مطر فتوضأت وخرجت إلى الطواف بانزعاج شديد ليس فى الطواف أحد سوى شخص واحد فيما أظن والله أعلم ، فقبلت الحجر وشرعت فى الطواف ، فلما كنت فى مقابلة الميزاب من وراء الحجر نظرت إلى الكعبة ، فرأيتها فيما يتخيل لى قد سموت أذيالها واستعدت مرتفعة عن قواعدها ، وفى نفسها إذا وصلت بالطواف إلى الركن الشامى أن تدفعنى بنفسها وترمى بى عن الطواف بها وهى تتوعدنى بكلام أسمعه بأذنى فجزعت جزعا شديدا ، وأظهر الله لى منها حرجا وغيظا بحيث لم أقدر على أن أبرح من موضعى ذلك ، وتسترت بالحجر ليقع الضرب منها عليه

١٦٣

جعلته كالمجن الحائل بينى وبينها ، وأسمعها والله وهى تقول لى : تقدم حتى ترى ما أصنع بك ، كم تضع من قدرى وترفع من قدر بنى آدم وتفضل العارفين على ، وعزة من له العزة لا أتركنك تطوف بى ، فرجعت مع نفسى وعلمت أن الله يريد تأديبى ، فشكرت له على ذلك وزال جزعى الذى كنت أجده ، وهى والله فيما يخيل لى قد ارتفعت عن الأرض بقواعدها مشمرة الأذيال كما يشمر الإنسال إذا أراد أن يثب من مكانه عليه ثيابه هكذا خيلت لى قد جمعت ستورها لتثب على ، وهى فى صورة جارية لم أر صورة أحسن منها ولا يتخيل أحسن منها ، فارتجلت أبياتا فى الحال أخاطبها بها واستزلها عن ذلك الحرج الذى عاينته منها ، فما زلت اثنى عليها فى تلك الأبيات وهى تتسع وتنزل بقواعدها على مكانها وتظهر السرور بما أسمعها إلى أن عادت إلى حالها كما كانت ، وأمنتنى وأشارت إلى بالطواف ، فرميت بنفسى على المستجار ، وما فى مفصل إلا وهو يضطرب من قوة الحال إلى أن سرى عنى ، وصالحتها وأودعتها بشهادة التوحيد عند تقبيل الحجر فخرجت الشهادة عند تلفظى بها وأنا أنظر إليها بعينى فى صورة سلك ، وانفتح فى الحجر الأسود مثل الطاق حتى نظرت إلى قعر طوال الحجر ، فرأيته نحو ذراع ، فسألنا عنه بعد ذلك من رآه من المجاورين حين احترق البيت فعمل بالفضة وأصلح شأنه ، فقال لى : رأيته كما ذكرت فى طول ذراع الإنسان ، ورأيت الشهادة قد صارت مثل الكبة واستقرت فى قعر الحجر وانطبق الحجر عليها ، وأنشد ذلك الطاق وأنا أنظر إليه ، فقال لى : هذه أمانة عندى أرفعها لك إلى يوم القيامة ، فشكرتها على ذلك ومن ذلك وقع الصلح بينى وبينها وخاطبتها بتلك الرسائل السبعة ، فزادت بى فرحا وابتهاجا ، جاءتنى بشرى منها على لسان رجل صالح قال لى : رأيت البارحة فى النوم الكعبة وهى تقول : سبحان الله ما فى هذا الحرم من يطوف بى إلا فلان ، وسمتك لى باسمك ، ما أدرى أين قضى الناس؟ ثم أقمت لى فى النوم وأنت طائف بها وحدك ، قال الراءى : فقالت لى : انظر إليه هل ترى بى طائف آخر؟ لا والله ولا أراه أنا ، فشكرت الله على هذه البشرى من مثل ذلك الرجل وتذكرت قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم وترى له ، وأما الأبيات التى استنزلت بها الكعبة فهى هذه :

١٦٤

بالمستجار استجار قلبي

لما أتاه منهم أعادى

يا رحمة الله للعباد

أودعك الله فى الجماد

يا بيت ربى يا نور قلبي

يا قرة العين يا فؤادي

يا سر قلبى الوجود حقا

يا حرمتى يا صفا ودادي

يا قبلة أقبلت إليها

من كل ربع وكل وادي

ومن بقاع ومن سماء بالكعبة الله

ومن غنا ومن مهاد

يا كعبة الله يا حياتي

يا منهج السعد يا رشادي

أودعك الله كل آمن

من فزع الهول فى المعاد

فيك اليمين التى كستها

خطيتى بردة السواد

ملتزم فيك من يلازم

هواه يسعد يوم التناد

ماتت نفوس شوقا إليها

من ألم الشوق والميعاد

من حزن ما نالها عليهم

قد لبست حلة الحداد

لله نور على ذراها

من نوره للعواد بادي

وما يراه سوى حزين

قد كحل العين بالسهاد

يطوف سبعا فى إثر سبع

من أول الليل للمنادي

بعبرة مالها انقطاع

رهين وجد حلف اجتهاد

سمعته قال مستغيثا

من جانب الحجرآه فوادي

قد انقضى ليلنا حثيثا

وما انقضى فى الهوى مرادي

وأما الجواب عن قوله : هل كانت الكعبة قبلة بجميع الأنبياء إلى آخره؟ فالذى ذكره الإمام الحافظ المحدث ابن سيد الناس اليعمرى فى سيرته (١) نقلا عن الغير أنه ما خالف نبى قط فى قبلة ، إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقبل بيت المقدس من حين قدم المدينة ثم قرأ : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً)(٢)

__________________

(١) انظر ١ / ١٠٢.

(٢) الشورى : آية (١٣)

١٦٥

وذكر أيضا فى تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١) أى يكتمون ما علموا من أن الكعبة هى قبلة الأنبياء انتهى. وذكر الكواشى فى قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)(٢) الآية أن سبب نزولها أن اليهود لما قالوا للمسلمين : قبلتنا قبل قبلتكم ، أنزل الله الآية ، وذكر بعض العلماء أن الدليل على أن الكعبة قبلة بجميع الأنبياء أن تكليف الصلاة كان لازما فى دين جميع الأنبياء عليهم‌السلام بدليل قوله فى سورة مريم : «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح» إلى قوله : (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(٣) فدلت الآية أن جميع الأنبياء كانوا يسجدون لله ، والسجدة لا بد لها من قبلة ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم الصلاة والسلام موضعا آخر سوى القبلة لبطل قوله : «إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة» لأن أل فى الناس للاستغراق ، فهو موضع لجميع الناس فيقتضى كونه مشتركا فيه بين جميع الناس ، فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصا بواحد من الناس فلا يكون شىء من البيوت موضعا للناس ، وكون البيت مشتركا فيه بين كل الناس لا يحصل إلا إذا كان البيت موضع الطاعات والعبادات وقبلة للخلق أنزل قوله : «إن أول بيت وضع للناس» (٤) على أن البيت وضعه الله موضعا للطاعات والخيرات والعبادات ليدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلاة وموضعا للحج فيه ، وحينئذ فوجب أن يقال : إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هى الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبدا مشرفة مكرمة ، قال القاضى البيضاوى فى تفسير قوله تعالى من سورة يونس : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا)(٥) أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة ، واجعلوا أنتما وقومكما بيوتكم تلك البيوت قبلة مصلى ، وقيل مساجد متوجة نحو القبلة يعنى الكعبة ، وكان موسى يصلى إليها انتهى ، ولكن وقع فى ديباجة المواقف التعبير بقوله : وأسرهم قبلة ، أى أصوبهم قبلة قال مولانا حسن فى حواشى المواقف : الوجه فى أنه عليه الصلاة والسلام أصوب قبلة بالنسبة إلى إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان قبلته أيضا الكعبة إلا أنه لم يشرع له التوجه إليها للصلاة فى غير المسجد وشرع لرسولنا عليه‌السلام

__________________

(١) البقرة : آية (١٤٦).

(٢) آل عمران : آية (٩٦).

(٣) مريم : آية (٥٨).

(٢) آل عمران : آية (٩٦).

(٤) يونس : آية (٨٧).

١٦٦

مطلقا ، وكان استقباله صوابا فى غير المسجد فصح أنه أسر من إبراهيم عليه‌السلام أيضا قبلة ، على أن التمييز بمعنى الفاعل فتقديره : وقبلته أسر من سائر القبلات انتهى المقصود منه ، وهذا منه بناء على أن الصلاة فى غير المسجد من خواص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذا أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون باقى الأنبياء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لى الأرض مسجدا» قال القاضى عياض : لأن من كان قبلنا كانوا لا يصلون إلا فى موضع يتيقنون طهارته ، ونحن خصصنا بجواز الصلاة فى جميع الأرض إلا ما تيقنا نجاسته ، وقال القرطبى : هذا ما خص الله تعالى به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الأنبياء قبله إنما استنجت لهم الصلاة فى مواضع مخصوصة كالبيع والكنائس ، وقال المهلب فى شرح البخارى : المخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل الأرض طهورا ، أما كونها مسجدا فلم يأت فى أثر أنها منعت من غيره ، وقد كان عيسى عليه‌السلام يسبح فى الأرض ويصلى ولم تجعل له طهور انتهى. قال الزركشى وهذا هو الظاهر من حديث جابر وأبى هريرة رضى الله عنهما فى عدة الطهور والمسجد فى حكم الواحد انتهى. وقد رد ابن حجر تبعا لغيره كلام الزركشى فقال : وفى الحديث : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل» الحديث والمراد بقوله : مسجدا موضع سجود أى أن السجود لا يختص بموضع منها دون غيره ، قيل : ويمكن أن يكون مجازا عن المكان الذى للصلاة وهو من مجاز التشبيه ؛ لأنه لما جازت الصلاة فى جميعها كانت كالمسجد فى ذلك ، وقيل : المراد جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ولغيرى مسجدا لا طهورا ؛ لأن عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسبح فيها ويصلى حيث أدركته الصلاة وقيل المراد أن الصلاة لم تبح إلا فى محل يتيقنون طهارته بخلاف هذه الأمة أبيحت لها فى كل الأرض إلا ما يتيقنون نجاسته ، والأصح الأول وهو أنها لم تبح لمن قبلنا إلا فى أماكن مخصوصة كالبيع والكنائس والصوامع للخبر المصرح بذلك ، وكان من قبلى إنما يصلون فى كنائسهم وتوافقه رواية : «ولم يكن من الأنبياء أحد يصلى حتى تبلغ محرابه» وبهذين يرد الاحتجاج بقصة عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المذكورة بمنع ما ذكر فيها لدلالة هذين على خلافه وبفرض صحته فهو لا ينافى الخصوصية لأنها ثابتة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأمته بخلاف سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٦٧

وذكر المحقق الصفوى فى شرح الشفا عند تفسير قوله تعالى : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)(١) الآية أنه تعالى شبه نور إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنار وإبراهيم بالشجرة ، أو شبه نوره بالشجرة ، فإن الإيمان له أصل ونوع وآثار وثمار ، وحينئذ قوله : «لا شرقية» تشبيه لكونه ليس يهودى ولا نصرانى فإن قبلة اليهود المغرب والنصارى المشرق انتهى. فقوله : فإن قبلة اليهود إلخ ، لا يقتضى أنها كذلك فى شريعتهم قبل النسخ بل هذا فى جعلهم كما صرح به الإمام محمد ابن أبى بكر بن أيوب الزرعى الحنبلى بن القيم فى السفر الثاني (٢) فى بدائع الفوائد حيث قال ما نصه : قال أبو القاسم وكرر البارى تعالى الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام فى ثلاثة آيات ؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس ، اليهود ولأنهم لا يقولون بالنسخ فى أصل مذهبهم ، وأهل الريب والنفاق اشتد إنكارهم له ؛ لأنه كان أول نسخ نزل ، وكفار قريش قالوا : ندم محمد على فراق ديننا فرجع إليه كما رجع لقبلتنا ، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون : يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلة إبراهيم وإسماعيل وآثر عليها قبلة اليهود ، فقال الله له حين أمره بالصلاة إلى الكعبة : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)(٣) على الاستثناء المنقطع أى لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون ، وقل الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين أى من الذين شكوا وامتروا ، ومعنى الحق من ربك الذى أمرتك به من التوجه إلى البيت الحرام هو الحق الذى كان عليه الأنبياء قبلك فلا تمتر فى ذلك فقال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ)(٤) وقال : «وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون» : أى يكتمون ما علموا من أن الكعبة هى قبلة الأنبياء ، وقال خالد بن يزيد : إنى لأقرأ الكتاب الذى أنزله الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتوراة التى أنزلها الله ليس فيها هذه القبلة ، ولكن تابوت السكينة كان على الصخرة ، فلما غضب الله عزوجل على بنى إسرائيل رفعه ، فكان صلاتهم إلى الصخرة عن مشاورة منهم ، وروى

__________________

(١) سورة النور آية (٣٥).

(٢) انظر بدائع الفوائد ٢ / ١٢٠.

(٣) سورة البقرة آية (١٥٠).

(٤) سورة البقرة : آية (١٤٤)

١٦٨

أبو داود أيضا أن يهوديا خاصم أبا العالية فى القبلة ، فقال أبو العالية : إن موسى كان يصلى عند الصخرة ويستقبل البيت الحرام ، فكانت الكعبة قبلته وكانت الصخرة بين يديه ، وقال اليهودى : بينى وبينك مسجد صالح وقبلة الكعبة ، وأخبر أبو العالية أنه رأى مسجد ذى القرنين وقبلته الكعبة ، وقد تضمن هذا فائدة جليلة وهى أن استقبال أهل الكتاب لقبلتهم لم يكن من جهة الوحى من الله تعالى بل كان عن مشورة منهم ، أما النصارى فلا ريب أن الله لم يأمرهم فى الإنجيل ولا فى غيره باستقبال المشرق أبدا ، وهم مقرون بذلك ومقرون أن قبلة المسيح كانت قبلة بنى إسرائيل وهى الصخرة ، وإنما وضع لهم شيوخهم وأسلافهم هذه القبلة وهم يعتذرون عنهم بأن المسيح فوض إليهم التحليل والتحريم وشرح الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه فى السماء ، فهم مع اليهود متفقون على أن الله لم يشرع استقبال المشرق على لسان رسوله أبدا ، والمسلمون شاهدون عليهم بذلك ، وأما قبلة اليهود فليس فى التوراة الأمر باستقبال الصخرة البتة وإنما كانوا ينصبون التابوت ويصلون إليه من حيث خرجوا ، فإذا قدموا نصبوه على الصخرة وصلوا إليه فلما رفع صلوا إلى موضعه وهو الصخرة ، وأما السامرة فإنهم يصلون إلى طورهم بأرض الشام يعظمونه ويحجون إليه ، ورأيته أنا وهو فى بلد نابلس ناظرت فضلائهم فى استقبالهم ، وقلت : هو قبلة باطلة مبتدعة ، فقال مشار إليه فى دينهم : هذه هى القبلة الصحيحة واليهود أخطأوها ؛ لأن الله تعالى أمر فى التوراة باستقباله عينا ثم ذكر نصا يزعمه من التوراة فى استقباله ، فقلت له : هذا خطأ قطعا على التوراة ؛ لأنها إنما أنزلت على بنى إسرائيل ، فهم المخاطبون بها وأنتم فرع عليهم فيها ، وإنما تلقيتموها عنهم وهذا النص ليس فى التوراة التى بأيديهم وأنا رأيتها وليس هذا فيها ، فقال : صدقت إنما هو فى توراتنا خاصة ، قلت : فمن المحال أن يكون أصحاب التوراة ، المخاطبون بها وهم الذين تلقوها عن الكليم وهم متفرقون فى أقطار الأرض قد كتموا هذا النص وأزالوه وبدلوا القبلة التى أمروا بها وحفظتم النص بها ، فلم يرجع إلى الجواب ، قلت : هذا كله مما يقوى أن يكون الضمير فى قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها)(١) راجعا إلى كل أى هو موليها وجهة ، وليس المراد أن الله موليه إياها لوجوه هذا أحدها ، الثانى : أنه لم يتقدم لاسمه تعالى ذكر يعود الضمير عليه فى الآية ، وإن كان مذكورا

__________________

(١) البقرة آية : (١٤٨).

١٦٩

فيما قبلها ففى إعادة الضمير إليه تعالى دون كل رد الضمير إلى غير من هو أولى به ومنعه من القريب منه لا بوجه الثالث أنه لو عاد الضمير إليه تعالى لقال : «هو موليه إياها» هذا وجه الكلام كما قال تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى)(١) فوجه الكلام أن يقال : ولاه القبلة ، ولا يقال : ولى القبلة إياه ، انتهى كلام ابن القيم فى كتابه المذكور نقلناه مع طوله لنفاسته جدا. هذا واعلم أنه قد ذكر العلماء فى توجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الصلاة إلى بيت المقدس وهو بمكة أقوالا ، فقالت طائفة : ما صلى إلى بيت المقدس إلا منذ قدم المدينة سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا ، قال الإمام اليعمرى المحدث الشهير بابن سيد الناس : ويزعم أناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة حتى خرج منها فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس انتهى ، فعلى هذا يكون فى القبلة نسخان نسخ سنة بسنة ، ونسخ سنة بقرآن ، وعلى هذا فلا تصح هذه الحكمة التى ذكرت فى الإسراء إلى بيت المقدس فى أنه أراد أن يريه القبلة التى صلى إليها مدة ؛ لأنه على هذا لم يكن صلى إلى بيت المقدس وهو بمكة ، فكيف يقال : أراد أن يريه القبلة التى صلى إليها مدة كما عرفت الكعبة مع كون الإسراء قبل الهجرة وهو بمكة؟ وذهبت طائفة إلى أنه صلى لبيت المقدس وهو بمكة قبل الهجرة ، لكن روى عن ابن عباس من طرق صحاح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صلى بمكة استقبل بيت المقدس ، وجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، فلما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى القبلتين جميعا لم يتبين توجهه إلى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكة ، وعلى هذا لا يصح قولهم فى بيان حكمة الإسراء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيت المقدس أولا أن الله أراد أن يريه القبلة التى صلى إليها مدة ، كما عرف الكعبة ، فإن ظاهره أن الصلاة لبيت المقدس حصل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بمكة استقلالا ، ثم نسخ ذلك قبل الإسراء مع أنه استمر يصلى إليها على هذا القول حتى هاجر ، ومع هذا فكان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس ، فهذه الحكمة مشكلة على كلا القولين ، وقال ابن شهاب : وزعم ناس والله أعلم أنه كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل وراء ظهره الكعبة وهو بمكة ، وهو على هذا أيضا مشكل لا يناسبه قوله : أراد أن يريه القبلة التى صلى إليها مدة ، كما عرف الكعبة التى صلى إليها ؛ إذ مقتضى هذا القول أنه قبل هجرته لم يصل إلا إلى بيت المقدس ولم يستقبل الكعبة ، ومقتضى الحكمة

__________________

(١) النساء : (١١٥).

١٧٠

المذكورة أنه استقبل كلا منهما قبل الإسراء فليتأمل ، وقال ابن العماد فى الدرة الضوية فى هجرة خير البرية : كان تحويل القبلة فى السنة الثانية ، قال النووى : وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، ثم قال معترضا على النووى فى ذلك بأنه قد جزم البغوى بخلافه فقال فى تفسير قوله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ)(١) الآية كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يصلون بمكة إلى الكعبة ، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يصلى نحو صخرة بيت المقدس ليكون أقرب إلى تصديق اليهود إياه إذا صلى إلى قبلتهم ما يجدون من نعته فى التوراة ، فصلى إليها ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة ؛ لأنها كانت قبلة إبراهيم ، وقال مجاهد ، كان يحب ذلك من أجل أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا ويصلى إلى قبلتنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل وددت لو حولنى الله إلى الكعبة ، فقال له سل ربك ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديم النظر إلى السماء ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) الآيات انتهى بنصه.

وما جزم به البغوى من أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلى بمكة إلى الكعبة هو المعتمد وعليه أكثر المفسرين وأصحاب السير ، واختلف العلماء هل كان ذلك باجتهاده أو بأمر من ربه؟ وهذا تفريع على الأصح فى أنه عليه الصلاة والسلام لم يتعبد بشرع غيره بعد البعثة.

وأما الجواب عن قوله : وهل جميع الأنبياء حجوا إليها أو تخلف البعض؟ فهو أن العلامة السيوطى ذكر فى بعض كتبه أن جميع الأنبياء حجوا البيت إلا هودا وصالحا فإنهما تشاغلا بأمر قومهما فماتا ولم يحجا ، وأن آدم لما حج حلق جبريل رأسه بياقوتة من الجنة ، وكان السيوطى تمسك بحديث ما من نبى إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح ، لكن قد صرح هو بأن إسناده ضعيف ، وقال ابن حجر فى شرح الهمزيه إن استثناء صالح وهود لم يصح ، وروى الأزرقى عن عبد الرحمن بن سابق مرسلا عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : كان النبى من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق بمكة فيعبد الله تعالى فيها ومن معه حتى يموت ، فمات بها نوح وهود وصالح وشعيب وقبورهم بين زمزم والحجر وروى ابن

__________________

(١) البقرة : آية (١١٤).

١٧١

الجوزى فى مثير (١) الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن عن عروة بن الزبير رحمه‌الله تعالى أن نوحا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج البيت قبل الغرق ، وروى الأزرقى عن وهب بن منبه رحمه‌الله تعالى أن هودا و، صالحا وشعيبا حجوا البيت بمن آمن معهم وأنهم ماتوا بمكة ، وأن قبورهم غربى الكعبة بين دار الندوة ودار بنى هاشم ، وهذه الأحاديث واردة بحج هود وصالح عليهما الصلاة والسلام أقوى أسانيد من أحاديث : «ما من نبى إلا وقد حج البيت إلا ما كان من هود وصالح» فإن إسناده ضعيف وقد حج موسى ويونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روى الأزرقى عن مجاهد قال : حج موسى على جمل أحمر فمر بالروحاء عليه عباءتان قطونتان مترز بإحداهما مرتد بالأخرى ، فطاف بالبيت ، ثم طاف بين الصفا والمروة إذ سمع صوتا من السماء وهو يقول : لبيك عبدى وأنا معك ، فخر موسى ساجدا ، وعن مجاهد أيضا قال : حج البيت سبعون نبيا فيهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه عباءتان قطوانيتان ، وفيهم يونس يقول لبيك كاشف الكرب رواه سعيد بن منصور ، والقطوانيتان تثنية قطوانية وهى عباءة بيضاء قصيرة وذكر الشامى فى مبحث بناء إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت أنه لما فرغ من الحج انطلق إلى منزله بالشام ، وكان يحج البيت كل عام ، وحجته سارة وحجته إسحق ويعقوب والأسباط والأنبياء وهلم جرا ، قلت : والعجب من ابن حجر الهيثمى حيث أنكر فى شرحه للهمزته حج إسحق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال مستدلا على أن الترجيح هو إسماعيل لا إسحاق صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن إسحق صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينقل قط أنه حج ولا أتى تلك الأماكن مع أنه صرح بعد ذلك فى شرح قول النظم مأوى الرسل بعموم حديث : «ما من نبى إلا وقد حج البيت» وإن استثناء صالح وهود لم يصح ، وكأنه فهم ذلك من عبارة المواهب فى الاستدلال على أن الذبيح ليس هو إسحق حيث قال : ومما يدل على أن الذبيح إسماعيل أنه لا ريب أن الذبح كان بمكة ؛ ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها كما جعل السعى بين الصفا والمروة ورمى الجمرات تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه وإقامة لذكر الله تعالى ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحق وأمه ، ثم قال : ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام انتهى.

__________________

(١) ١ / ١٢٠.

١٧٢

وأنت خبير بأنه ليس فى عبارة المواهب المذكورة ما يصرح بنفى حج إسحاق صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما الذى فيها أن الذبح كان بمكة لا بالشام ، ولو كان المذبوح إسحاق لكان الذبح بالشام ولكانت القرابين بها ، وتبعد كل البعد مع قطع النظر عن النص أن تخلف إسحاق عن الحج مع كون البانى لهذا البيت والمؤذن بالحج والده إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أن هذا الدليل قناعى ، إذ لا تنافى بين كون الذبيح إسحاق وأن يكون الذبح بمكة لجواز أن يقع له ذلك وهو حاج بها ، على أن القائل بأنه إسحاق يرى أن الذبح ليس بمكة بل على صخرة بيت المقدس كما صرح به الزركشى فى الأعلام (١) ، فإنه صرح بأن صخرة بيت المقدس كالحجر الأسود ، ولما فدى إسماعيل بالكبش ذبحه إبراهيم عليه‌السلام عليها فاختار الله تعالى ذلك الموضع لقربان خليله عليه‌السلام ومن عليه بفداء ابنه فهو محل الرحمة انتهى. لكن فى قول الزركشى أن المفدى إسماعيل مع كون الذبح بالصخرة قول ملفق من قولين ، ولا يلزم من كون ذبح القربان وقع بالصخرة أن لا تكون القرابين بمكة يوم النحر ؛ لأن ذلك أمر تعبدى ، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : «سرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال : أى واد هذا : قالوا : وادى الأزرق ، فقال : كأنى أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه فى أذنيه له جواز إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادى ، حتى أتينا على ثنية فقال : ما هذه الثنية ، قالوا : ثنية هرشا ، فقال ، كأنى أنظر إلى يونس على ناقة حمراء خطام ناقته ليف خلبة وعليه جبة له من صوف يهل مارّا بهذه الثنية ملبيا» رواه الشيخان وابن حبان ، قال الشامى فى ضبط غريب ما تقدم الجؤار بجيم مضمومة فهمزة مفتوحة رفع الصوت بالاستغاثة ، وقوله : ثنية هرشا بهاء مفتوحة وراء ساكنة فشين معجمة مفتوحة فائق مقصورة جبل قريب من الجحفة ، وقوله : ليف خلبة بخاء معجمه مضمومة فلام ساكنه فباء موحدة مفتوحة يروى بتنوين الكلمتين على البدل وبإضافة الأول للثانى ، قال فى التقريب ، وكأنه على الإضافة مقلوب فى الصحاح الخلب حبل رقيق من ليف أو قنب فالوجه بخلبة ليف انتهى.

__________________

(١) ص ٦٩.

١٧٣

هذا وفى المواهب للقسطلانى أذوادى الأزرق خلف أمج بفتح الهمزة والميم والجيم قرية ذات مزارع بينه وبين مكة ميل واحد ، ولم يعين فى رواية البخارى الوادى ، قال : قال المهلب : هذا وهم من بعض رواته ؛ لأنه لم يأت فى أثر ولا خبر أن موسى حى وسيحج ، وإنما أتى ذلك فى عيسى فاشتبه على الراوى ويدل عليه قوله فى الحديث الأخير : «ليهلن ابن مريم بفج الروحاء» انتهى. وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم ، وقد ذكر البخارى الحديث فى اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال أن الراوى غلط فزاده؟ وفى رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس أفيقال أن الراوى الآخر غلط فزاد يونس؟ وتعقب أيضا بأن توهيم المهلب للراوى وهم منه وإلا فأى فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض وإنما ثبت أنه سينزل ، وأجيب بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق فقال : «كأنى أنظر إليه» ولهذا استدل المهلب بحديث أبى هريرة الذى فيه : «ليهلن ابن مريم بالحج» ولهذا اختلف فى معنى قوله : «كأنى أنظر إليه» فقيل : إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عند ما تذكر ذلك ورؤيا الأنبياء وحى ، وقيل هو على الحقيقة» ، لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون فلا مانع أن يحجوا فى هذه الحالة كما فى صحيح مسلم عن أنس أنه رأى موسى عليه‌السلام قائما فى قبره يصلى ، قال القرطبى : حببت إليهم العبادة فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعى أنفسهم لا بما يلزمون به كما يلهم الله أهل الجنة الذكر ، ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ)(١) الآية ، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال : إن المنظور إليه هى أرواحهم فلعلها مثلت له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء ، وأما أجسادهم فهى فى القبور ، قال ابن المنير : يجعل الله لروحه مثالا ويرى فى اليقظه كما يرى فى النوم ، وقيل ، كأنه مثلت أحوالهم التى كانت فى الحياة الدنيا كيف تعبدوا وكيف حجوا وكيف لبوا ، ولهذا قال كأنى ، وقيل : كأنه أخبر بالوحى عن ذلك ولشدة قطعه به قال : كأنى أنظر إليه انتهى كلام المواهب. قلت فى قوله : إنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض وإنما ثبت أنه سينزل ، وذلك لأن الإمام المحدث الشامى نقل فى سيرته عن ابن إسحاق عن عمر بن عبد العزيز أنه

__________________

(١) يونس (١٠).

١٧٤

ذكر حديثا عن سلمان الفارسى أن الراهب صاحب عمورية قال لسلمان حين حضرته الوفاه : ائت غيضتين من غيض الشام فإن رجلا يخرج من إحداهما إلى الأخرى ، فى كل سنة ليلة يعترضه ذو الأسقام فلا يدعو لأحد به مرض إلا شفى ، فاسأله عن هذا الذى تسألنى عنه ، فخرجت حتى أقمت بها سنة حتى خرج تلك الليلة ، فأخذت بمنكبه فقلت : رحمك الله الحنيفية دين إبراهيم ، قال : قد أظلك زمان نبى يخرج عند هذا البيت بهذا الحرم يبعث بذلك الدين ، ولما ذكر ذلك سلمان للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لئن كنت صدقتنى يا سلمان لقد رأيت عيسى بن مريم. والغيضة الشجر الملتف ، قال السهيلى : وإسناد هذا الحديث مقطوع وفيه رجل مجهول ، ويقال هو الحسن بن عمارة وهو ضعيف فإن صح الحديث فلا نكارة فى متنه ، فقد ذكر الطبرى أن المسيح صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل بعد ما رفع وأمه وامرأة أخرى عند الجذع الذى فيه الصليب يبكيان عليه ، وكلمهما وأخبرهما أنه لم يقتل وأن الله تعالى رفعه ، وأرسل إلى الحواريين ووجههم إلى البلاد ، وإذا جاز أن ينزل مرة جاز أن ينزل مرارا ، ولكن لا يعلم أنه هو حتى ينزل النزول الظاهر بكسر الصليب ويقتل الخنزير كما جاء فى الصحيح ، قال الحافظ السخاوى : وما نقله ابن جرير يحتاج إلى دليل انتهى. قال الشامى : قلت : ما ذكره ابن جرير رواه فى تفسيره ، وعند ابن حميد وابن المنذر من طريق آخر عن وهب بن منبه انتهى. وروى ابن الجوزى فى المنير عن عطا بن خالد قال : يحج عيسى ابن مريم إذا نزل فى سبعين ألفا فيهم أصحاب الكهف فإنهم لم يموتوا ولم يحجوا ، قلت : الصحيح أن أصحاب الكهف ماتوا ، وروى الأزرقى عن عطاء بن السائب أن إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يطوف بالبيت ، فأنكره ، فسأل ممن أنت؟ قال من أصحاب ذى القرنين ، قال : وأين هو؟ قال بالأبطح ، فتلقاه إبراهيم فاعتنقه ، فقيل لذى القرنين : لم لا تركب ، قال ما كنت لأركب وهذا يمشى ، فحج ماشيا ، روى ابن أبى حاتم عن على بن أحمر أن ذا القرنين قدم مكة ، فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان الكعبة واستفهمهما عن ذلك فقالا : نحن عبدان مأموران ، فقال : من يشهد لكما؟ فقامت خمسة أكبش فشهدت ، فقال : قد صدقتما ، قلت : وفى الأخبار عن لفظ نحن بالمثنى الرد على من أوجب صيغة الجمع فى مثله : وقد ورد أيضا

١٧٥

نحن أنصاريان يا رسول الله ، وروى ابن أبى شيبة عن مجاهد قال : كانت الأنبياء إذا أتت حكم الحرم نزعوا نعالهم ، وروى أبو ذر الخشنى فى مناسكه عن عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما قال حج البيت ألف نبى من بنى اسرائيل لم يدخلوا مكة حتى وضعوا نعالهم بذى طوى ، وهو بضم الطاء المهملة وفتح الواو وألف مقصورة واد معروف عند باب مكة ، وعن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : مر بصفاح الروحاء سبعون نبيا حجاجا عليهم لباس الصوف خطم إبلهم الليف. رواه الأزرقى ، وصفاح الروحاء جانبها والروحاء بفتح الراء وبالحاء المهملة ممدود اسم قرية ، وروى أيضا عن عثمان بن ساج قال : أخبرنى ابن ساج قال أخبرنى صادق أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مر بفج الروحاء سبعون نبيا على نوق حمر خطمهم الليف لبوسهم العباء وتلبيتهم شتى ، والفج بالفاء والجيم الطريق الواسع وشتى أى متفرقة ، وروى أيضا عن مجاهد قال : حج خمسة وسبعون نبيا كل قد طاف بالبيت ولبى فى مسجد منى ، فإن استطعت أن لا تفوتك الصلاة فى مسجد منى فافعل ، وروى أيضا عن عبد الرحمن بن سابط قال : سمعت عبد الله بن حمزة السلوس يقول : ما بين الركن الى المقام إلى زمزم قبر سبعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك ، وروى أبو نعيم عن مجاهد قال : كان يحج من بنى إسرائيل مائة ألف فإذا بلغوا أنصاب الحرم خلعوا نعالهم ثم ذهبوا الحرم حفاة ، وروى ابن أبى شيبة الأزرقى عن عبد الله بن الزبير قال : كانت الأمة من بنى إسرائيل لتقدم مكة فإذا بلغت ذا طوى خلعت نعالها تعظيما للحرم.

وروى ابن عساكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال : حج الحواريون فلما دخلوا الحرم مشوا حفاة تعظيما للحرم ، وقد حجته الملائكة حج آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى سعيد بن منصور عن عطاء بن أبى رباح أن آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم هبط بأرض الهند ومعه أربعة أعواد من الجنة فهى هذه الذى يتطيب بها الناس ، وأنه حج هذا البيت وطاف بين الصفا والمروة وقضى مناسك الحج.

وروى الأزرقى عن عثمان بن ساج قال : أخبرنى سعيد أن آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج على رجليه سبعين حجة ماشيا.

١٧٦

وروى أيضا عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : حج آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقضى المناسك فلما فرغ قال : يا رب إن لكل عامل أجرا قال الله تعالى : يا آدم أما أنت فقد غفرت لك ، وأما ذريتك فمن جاء منهم هذا البيت فباء بذنبه فقد غفرت له ، باء بذنبه اعترف.

وروى ابن خزيمة وأبو الشيخ فى (١) العظمة والديلمى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن آدم أتى هذا البيت ألف أتية لم يركب قط فيهن من الهند على رجليه ، ثلاثمائة حجة وسبعمائة عمرة ، وأول حجة حجها آدم وهو واقف بعرفة أتاه جبريل فقال : يا آدم بر نسكك ، أما إنا قد طفنا بهذا البيت قبل أن تخلق بخمسين ألف سنة.

وروى الأزرقى (٢) والجندى وابن عساكر عن ابن عباس قال : حج آدم فطاف بالبيت سبعا فلقيته الملائكة فى الطواف فقالوا : بر حجك يا آدم ، إنا قد حجننا هذا البيت قبلك بألفى عام ، قال : فماذا كنتم تقولون فى الطواف؟ قالوا كنا نقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، قال آدم : فزيدوا فيها ولا حول ولا قوة إلا بالله فزادت الملائكة فيها ذلك ، ثم حج إبراهيم بعد بنائه البيت فلقيته الملائكة فى الطواف فسلموا عليه فقال لهم : ماذا كنتم تقولون فى طوافكم؟ قالوا كنا نقول قبل أبيك آدم : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فأعلمناه ذلك فقال : زيدوا ولا حول ولا قوة إلا بالله ، قال : زيدوا فيها العلى العظيم ، فقالت الملائكة ذلك. تنبيه : قد تقدم روايته أن سيدنا موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حج على جمل أحمر ، وذكر الشيخ أبو الحسن فى شرح مناسك النووى حديث الطبرانى عن ليث ابن أبى سليم وبقية رواته ثقات أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : حج موسى على ثور أحمر عليه عباءة قطوانية ، قال : وبعض النواحى يركبون البقر ، فإن قلنا بحل ركوبها وهو ما يؤمن إليه كلامهم فواضح ، لكن الحديث ربما يومىء إلى خلافه ، ثم رأيت السبكى فى فتاويه مال إلى تحريم ركوبها أخذا من ميله إلى تحريم المشى على الكلمات المكتوبة على البسط

__________________

(١) العظمة ص ٧٠.

(٢) أخبار مكة ١ / ١٢٠

١٧٧

ونحوها كوقف وبركة ؛ لأن حروفها إنما خلقت ينتظم منها كلامه تعالى وكلام أنبيائه وملائكته ، قال : فكلما خلقه تعالى ينبغى للعبد أن يستعمله فى الغرض الذى خلق لأجله من إكرام وإهانة ، فمتى وضعه فى غير موضعه لم يجز إلا أن يجىء إذن من الشارع فى إباحة ذلك ، ألا ترى إلى الحديث الصحيح فى البخارى فى باب المزارعة بينما رجل يسوق بقرة يركبها ، فقالت : إنى لم أخلق لهذا إنما خلقت للحراثة؟ فالبقرة لما خلقت للحرث ونحوه أنطقها الله بمعاتبة راكبها ، وإذا قيل يجوز ركوب البقرة ، فإما لدليل خاص وإما بأن يكون الركوب من جملة الأغراض التى خلقت له وإن كانت للحراثة أغلب أغراضها انتهى المقصود منه ملخصا من فتاوى السبكى. قال الشيخ أبو الحسن : وتأمله تعلم أنه متردد فى حل ركوبها كما ترددت فيه على أن أول كلامه ربما يميل لتحريمه وآخره يميل لحله ويؤيده حديث الطبرانى السابق ، ووجه تأييده أن البقر لو خلق للحرث فقط لم يحل ركوبه فى ملته ، فدل ركوب موسى له على أنه خلق للركوب أيضا ، ويلزم من كونه من جملة ما خلق له وأيضا فشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد فى شرعنا ما ينسخه عند كثيرين ، وعلى مقابلة الأصح فالحجة فى حكايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك وتقريره عليه ، وأيضا فقدم الخلق للشىء لا يدل على التحريم ، ألا ترى إلى قول المفسرين والفقهاء منا فى قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها)(١) إنه لا يدل على تحريم الأكل ، وإن سلمنا أنها إنما خلقت للركوب لأن التعليل بالشىء لا يقتضى الحصر فيه بل يكفى كونه أظهر أنواعه هذا مع قطع النظر عن الأحاديث الصحيحة المصرحة بحل أكلها ويؤيده ما قررته فى البقر قول الحنابلة : يجوز الانتفاع بالحيوان فى غير ما خلق له كركوب البقر والحمل عليها واستعمال الإبل والحمير فى الحرث انتهى. وقول ابن بطال من المالكية القائلين بحرمة أكل الخيل فى هذا الحديث أى المار ، فالبقرة حجة على من منع أكل الخيل مستدلا بقوله تعالى : (لِتَرْكَبُوها) فإنه لو كان ذلك إلا على منع أكلها لدل هذا الخبر على منع أكل البقر ؛ لقوله فى الحديث : «إنما خلقت للحرث» وقد اتفقوا على حل أكلها انتهى. ثم رأيت غير واحد من أئمتنا صرح بجواز المسابقة على البقر بلا عوض وهو ظاهر أو صريح فى حل ركوبها ، انتهى كلام الأستاذ الشيخ أبى الحسن البكرى نفعنا الله

__________________

(١) النحل : آية (٨).

١٧٨

ببركاته ، وحيث ذكرنا تقدم فلنكمل باقى المبحث فى تحقيق ذلك فنقول : وذكر فى المواهب أن العلماء اختلفوا فى إباحة لحوم الخيل ، فمذهب الشافعى والجمهور من السلف والخلف أنه مباح لا كراهة فيه ، وبه قال عبد الله بن الزبير وأنس بن مالك وأسماء بنت أبى بكر.

وفى صحيح (١) مسلم عنها قال : نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلناه ونحن بالمدينة ، وفى رواية الدارقطنى فأكلنا نحن وأهل بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الحافظ فى فتح البارى : ويستفاد من قولها : «ونحن بالمدينة» أن ذلك بعد فرض الجهاد فيرد على من استند إلى منع أكلها لعلة أنها من آلات الجهاد ، ومن قولها : «وأهل بيت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الرد على من زعم أنه ليس فيه أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اطلع على ذلك مع أن ذلك لو لم يرد لم يظن بآل أبى بكر أنهم يقدمون على فعل شىء فى زمنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا وعندهم العلم بجوازه ؛ لشدة اختلاطهم به عليه الصلاة والسلام عن الأحكام ، ومن ثم كان الراجح أن الصحابى إذا قال : كنا نفعل كذا على عهده عليه الصلاة والسلام كان له حكم الرفع ؛ لأن الظاهر اطلاعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك وتقريره ، وإذا كان ذلك فى مطلق الصحابة فكيف بآل أبى بكر ، وقال الطحاوى : ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل وخالفه صاحباه وغيرهما واحتجوا بالأخبار المتواترة فى حلها انتهى. وقد نقل بعض التابعين الحل عن الصحابة مطلقا من غير استثناء أحد ، فأخرج ابن أبى شيبة بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عطاء قال لم يزل سلفك يأكلونه ، قال ابن جريج : قلت : له أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ، فقال : نعم ، وأما ما نقل فى ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين ، وقال أبو حنيفة فى الجامع الصغير أكره لحوم الخيل ، فحمله أبو بكر الرازى على التنزيه ، وقال : لم يطلق أبو حنيفة فيه التحريم وليس هو عنده كالحمار الأهلى وصحح أصحاب المحيط والهداية الذ خيره عنهم التحريم وهو قول أكثرهم ، وقال القرطبى فى شرح مسلم مذهب مالك الكراهة ، وقال الفاكهانى : المشهور عند المالكية الكراهة والصحيح عند المحققين منهم التحريم ، وقال ابن أبى حمزة الدليل على الجواز مطلقا واضح لكن سبب كراهة مالك

__________________

(١) فى كتاب الجهاد ٤ / ١٥٠.

١٧٩

لأكلها لكونها تستعمل غالبا فى الجهاد فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ، ولو كثر لأفضى إلى فنائها فيولى إلى النقص من إرهاب العدو الذى وفع الأمر به فى قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ)(١) فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج ، وليس البحث فيه ، فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضى أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع ، ولا يلزم منه ذلك القول بتحريمه. انتهى وأما قول بعض المانعين لو كانت حلالا لجازت الأضحية بها فمنتقض بحيوان البحر ، فإنه مأكول ولم تشرع الأضحية به. وأما حديث خالد بن الوليد عند أبى داود والنسائى «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن لحوم الخيل والبغال والحمير» فضعيف ولو سلم ثبوته لا ينهض معارضا لحديث جابر الدال على الجواز وقد وافقه حديث أسماء ، وقد ضعّف حديث خالد بن الوليد أحمد والبخارى والدارقطنى والخطابى وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون وزعم بعضهم أن حديث جابر دال على التحريم لقوله رخص لأن الرخصة استباحة المحظور مع قيام المانع ، فدل على أنه رخص لهم بسبب المخمصة التى أصابتهم بخيبر ، فلا يدل على الحل المطلق. وأجيب بأن أكثر الروايات جاء بلفظ الإذن كما رواه مسلم وفى رواية له أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش ونهانا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمار الأهلى وعند الدارقطنى من حديث ابن عباس نهانا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحمر الأهلية وأمر بلحوم الخيل فدل على أن المراد بقوله رخص إذن ونوقض أيضا بالإذن فى أكل الخيل ولو كان رخصة لأجل المخمصة لكانت الحمر الأهلية أولى بذلك لكثرتها وعزة الخيل حينئذ فدل على أن الإذن فى أكل الخيل إنما كانت للإباحة الخاصة لا لخصوص الضرورة.

وقد نقل عن مالك وغيره من القائلين بالتحريم أنهم احتجوا للمنع بقوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)(٢) وقرروا ذلك بأوجه : أحدها أن اللام للتعليل ، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك ، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر فإباحة أكلها يقتضى خلاف ظاهر الآية ، ثانيها : عطف البغال والحمير فدل على اشتراكها معهما فى حكم التحريم فيحتاج حكم من أفرد حكم ما عطفت عليها إلى دليل ، ثالثها : أن الآية سبقت مساحة الامتنان فلو كان ينتفع بها فى الأكل لكان الامتنان به أعظم والحكيم لا يمتن بأدنى النعم

__________________

(١) الأنفال : (٦٠).

(٢) النحل : (٨).

١٨٠