تهنئة أهل الإسلام بتجديد بيت الله الحرام

المؤلف:

إبراهيم بن محمّد بن عيسى الميموني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤

الحجر الأسود ورفع المقام من موضعه وأدخل الكعبة للخوف عليه من السيل. ذكر هذه السيول الفاكهى بهذا اللفظ غير قليل بالمعنى ومن أمطار مكة وسيولها بعد الأزرقى ما ذكره إسحق بن أحمد الخزاعى راوى تاريخ الأزرقى وأدخله فيه عقيب الخبر الذى فيه أنه يأتى على زمزم زمان تكون أعذب من النيل والفرات لأنه قال وقد رأينا ذلك سنة إحدى وثمانين ومائتين وذلك أنه أصاب مكة أمطار كثيرة سال واديها بأسيال عظام سنة تسع وسبعين وسنة ثمانين ومائتين فكثر ماء زمزم وارتفع حتى كان. سفح قارب رأسها فلم يكن بينه وبين شفتها العليا إلا سبعة أذرع أو نحوها وما رأيتها قط كذلك ولا سمعت من يذكر أنه رآها كذلك ، وعذبت جدا حتى كان ماؤها أعذب من مياه مكة التى يشربها أهلها انتهى.

ومنها ما ذكره المسعودى (١) فى تاريخه فى أخبار سنة سبع وتسعين ومائتين لأنه قال ورد الخبر إلى مدينة السلام بأن أركان البيت الحرام الأربع غرقت حين جرى الغرق فى الطواف ، وفاضت بئر زمزم وإن ذلك لم يعهد فيما سلف من الزمان انتهى.

ومنها مطر فى جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة أقام سبعة أيام فسقطت الدور وتضرر الناس به كثيرا.

ومنها مطر سنة تسع وأربعين وخمسمائة سال فيه وادى إبراهيم ونزل برد بقدر البيض وزن مائة درهم.

ومنها مطر فى سنة تسع وستين وخمسمائة جاء سيل كبير ودخل السيل من باب بنى شيبة ودخل دار الإمارة عنده ، ولم ير مثله فى دخوله من هذه الجهة ، ومنها فى سنة سبعين وخمسمائة أمطار كثيرة وسيول سال فيها وادى إبراهيم خمس مرات.

ومنها فى ثامن صفر سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة سيل دخل الكعبة وأخذ أحد فرجتى باب إبراهيم ، وحمل المكة ودرجة الكعبة ، ثم رأيت بخط بعضهم

__________________

(١) مروج الذهب ١ / ١٢٠

٤١

تقتضى أن السيل دخل الكعبة فبلغ قريبا من الذراع وفرجتى باب إبراهيم وسال بهما ، وهذا لا يفهم مما ذكرناه أولا.

ومنها فى منتصف ذى القعدة سنة عشرين وستمائة سيل عظيم قارب دخول الكعبة ولم يدخلها ، ومنها سيل فى سنة إحدى وخمسين وستمائة ، ومنها فى ليلة نصف شعبان سنة تسع وستين وستمائة سيل لم يسمع بمثله فى هذه الأعصار على ما ذكر الميورقى ، وذكر أنه بسببه من الهدم والغرق مات منهم عالم عظيم ، بعضهم حملهم السيل وبعضهم طاحت الدور عليهم ، انتهى بالمعنى من خط الميورقى.

ومنها فى ليلة الأربعاء سادس عشر من ذى الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة وقع سيل عظيم بلا مطر امتلأت منه البرك التى فى المعلاة ، وعند المولد النبوى وخرب البساتين ، وملأ الحرم بالأوساخ ، ومنها فى آخر ذى الحجة سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة أمطار وصواعق بمكة منها صاعقة على أبى قبيس فقتلت رجلا والأخرى بالجعرانة فقتلت رجلين ، ومنها فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة مطر عظيم وسيل هائل دخل الكعبة وفعل أمورا عجيبة وقد ذكره غير واحد ، وأبلغ بعضهم فى وصفه وأفاد من حاله ما لم يفده غيره لأنى وجدت بخطه ما صورته لما كان عام ثمانية وثلاثين وسبعمائة أحسن الله تقضيه وعقباه ليل الخميس عاشر جمادى الأولى منه الموافق خامس كانون الأول ، قدر الله تعالى حصول غيم ورعود مزعجة وبروق مخيفة ومطر وابل كأفواه القرب المطلقة عن ملء من علو ، ثم دفعت السيول من كل جهة ، وكان ذلك بمكة شرفها الله تعالى وحماها وكان معظم السيل من جهة البطحاء فدخل الحرم الشريف من جميع الأبواب التي تليه من باب بنى شيبة إلى باب إبراهيم ، وحفر فى الأبواب وحول الأعمدة التى فى طريقه جورا مقدار قامتين وأكثر ، ولو لم تكن أساسات الأعمدة محكمة لكان رماها وقلع من أبواب الحرم أماكن وطاف بها الماء وطاف بالمنابر كل واحد إلى جهة ، وبلغ عند الكعبة المعظمة قامة وبسطة ، ودخلها من خلل الباب وعلا الماء فوق عتبتها أكثر من نصف ذراع بل شبرين ، ووصل إلى قناديل المطاف ، وعبر فى بعضها من فوقها فأطفأها ، وغرق بعض المجاورات النساء

٤٢

اللاتى فى المساطب ، وخرب بيوتا كثيرة وغرق بعض أهلها وبعضهم مات تحت الردم ، وكان أمرا مهولا قدره قادر يقول للشىء كن فيكون ، ولو دام ذلك النوء إلى الصباح لكان غرقت مكة والعياذ بالله تعالى انتهى.

ولم يجئ بمكة فيما علمت سيل على صفته إلا سيل كان فى سنة اثنين وثمانمائة وذلك أن فى ليلة الخميس عاشر جمادى الأولى من السنة المذكورة ، وقع بمكة مطر كأفواه القرب وما شعر الناس إلا بسيل وادى إبراهيم قد هجم مكة ، فلما حاذى جياد خالطه مسيله فصار ذلك ... ودخل المسجد الحرام من غالب أبوابه وعمه كله ، وكان عمقه فى المسجد خمسة أذرع على ما قيل ، ودخل الكعبة وعلا فوق عتبتها ذراعا أو أكثر فيما قيل ، وألقى درجة الكعبة عند باب إبراهيم ، وأخرب عمودين فى المسجد فسقطا بما عليهما من البناء والسقف ، وأخرب دورا كثيرة بمكة ، ومات فى الهدم جماعة يقال أنهم نحو ستين نفرا فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ومن العجيب أن هذين السيلين اتفقا فى التاريخ باعتبار الشهر والليلة لأن كليهما في ليل الخميس عاشر جمادى الأولى فسبحان الفعال لما يريد.

ومن سيول مكة المهولة بعد هذا السيل سيل يدانيه لدخوله المسجد الحرام وارتفاعه فيه فوق الحجر الأسود حتى بلغ عتبة باب الكعبة الشريفة ، وألقى درجها عند منارة باب الخرورة ، وكان هجم هذا السيل على المسجد الحرام عقيب صلاة الصبح من يوم السبت سابع عشر ذى الحجة سنة خمس وعشرين وثمانمائة ، وكان المطر وقع بقوة عظيمة فى آخر هذه الليلة ، فلما كان وقت صلاة الصبح صلى الإمام الشافعى بالناس أمام زيادة دار الندوة بالجانب الشامى من المسجد الحرام لتعذر الصلية عليه بمقام إبراهيم وما يليه هناك ، فلما انقضت صلاته للصبح حمل الفراش الشمع ليوصله للقبة المعدة لذلك بين سقاية العباس وقبة زمزم ، فإذا الماء فى صحن المسجد يعلوه قليلا قليلا ولم يتمكن من إيصال الشمع للقبة إلا بعسر ، وكان بعض أهل السقاية بها فدخل عليه الماء من بابها ، ثم زاد فرقى على دكة هناك ، ثم زاد فرقى على صندوق وضعه فوق الدكة ، فبلغه الماء فخاف وخرج من السقاية فارا إلى صوب الصفا وما نجا إلا بجهد ، وكان السيل قد دخل المسجد من الأبواب التى بجهة الصفا والأبواب التى

٤٣

بالجهة الشرقية وهى التى فيها باب بنى شيبة ومنه دخل الماء إلى المسجد الحرام وقل أن يعهد دخول الماء منه ، وصار المسجد مغمورا بالماء الكثير المرتفع نحو القامة ، وكان به خشب كالصندوق الكبير ليس له رأس يستره كان فوق بعض الأساطين التى أزيلت فى هذه السنة لعمارتها ، فأخرجه بعض الناس وركب فيه وصار يقذف به حتى أخرج فيه من السيل الجديد عند زمزم شخصا كان بالسبيل متعلقا فيما قيل ببعض شبابيك السبيل خوفا من الغرق لما دخل الماء السبيل ، ووصلا فيه للمحل الذى أرادا وفعل مثل ذلك لغير واحد ، وما خرج السيل من المسجد حتى هد باب إبراهيم لعلوه ، وألقى السيل فى المسجد من الوحل والطين والأوساخ ما كره التعب لتنظيفه ونقله وعسر قبل ذلك الانتفاع بالمسجد لأجله ، وأفسد للناس أشياء كثيرة فى المتاجر فى الدور التى بمسيل وادى مكة بناحية سوق الليل والصفا والمسقلة ، وما مات فيه أحد فيما علمناه ولكن مات فى هذه الليلة أربعة نفر بمكان يقال له الطنبداوية بأسفل مكة بصاعقة وقعت عليهم هناك فسبحان الفعال لما يريد ، ومما تخرب بهذا السيل موضع الدرب الجديد بسور باب المعلاة وألقاه إلى الأرض وما بين هذا الباب والباب القديم وذلك ثمانية وعشرون ذراعا.

ومنها سيل قارب هذا السيل دخل المسجد الحرام أبوابه لجانب اليمانى وقارب الحجر الأسود ، وألقى فى المسجد أوساخا كثيرة من المزابل والطين وهدم باب الماجن بأسفل مكة وجانبا من سوره حتى بلغ به الأرض ، وكان هذا السيل بعد المغرب ليلة ثالث جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثمانمائة أثر مطر عظيم كان ابتداؤه بعد العصر فى ثانى الشهر المذكور. وقد أوضحنا خبر أمطار مكة وسيولها التى علمناها أكثر من هذا فى أصل هذا الكتاب ، وقد خفى علينا خبر كثير منها بعد الأزرقى لعدم العناية بتدوين ذلك.

أما الجواب عن قوله : هل سقوط هذا الجانب من البيت إلى آخره فهو أنه من باب إرسال الآيات للزجر والتخويف على عادة الله تعالى : قال شيخ الإسلام ابن قدامة الحنبلى : ومن ظن أن أرضا معينة تدفع عن أهلها البلاء مطلقا لخصوصها أو لكونها فيها قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والصالحين فهو غالط

٤٤

فأفضل البقاع مكة وقد عذب الله أهلها عذابا شديدا عظيما فقال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ.)(١) وروى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قد آخا بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء ، وكان أبو الدرداء بدمشق وسلمان بالعراق فكتب أبو الدرداء ، إلى سلمان هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الرجل عمله ، والمقام بالثغور للجهاد أفضل من سكنى الحرمين باتفاق العلماء.

هذا وفى سقوط هذا الجانب الشريف من البيت فى هذا الزمن الوفاء بتصديق خبر الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به من تعدد خراب هذا البيت الشريف بعده ليبادر أمته بمزيد الاستمتاع به والإقبال عليه بمزيد التعظيم والتكريم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استمتعوا من هذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع فى الثالثة» وفى الاستمتاع به القيام بواجب حقه والتباعد عما يضع من عظيم قدره من اقتراف الذنوب والآثام خصوصا بمجاورة تلك المشاعر العظام ، فقد تهاون الناس بالقيام بحقه العظيم وما يجب له من التكريم من حصل التعال على بنائه فى هذا الزمن المؤذن بعدم احترامه ، وقد كانت أهل الجاهلية محترمين له احتراما عظيما بحيث لم يبنوا بيتا عنده فى القديم إلى زمن قصى ، وكانوا لا يرون بالجنابة بمكة حتى نقل أن سيدنا آدم كان لا يأتى حواء إلا فى الحل لأجل الولد ، وكان بعض الأولياء المجاورين فى الحرم لا يأتون حاجة الإنسان إلا فى الحل ، وكان عمر رضى الله عنه يأمر بهدم كل بناء أشرف عليها ، وقال : ليس لكم أن تبنوا حولها ما يشرف عليها ، وكذا كان شيبة لا يرى بيتا مرتفعا على الكعبة إلا أمر بهدمه ، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص حين رأى بيتا على أبى قبيس يشرف على الكعبة : إذا رأيت بيوت مكة قد علت أخشابها كذا وفجرت بطونها أنهارا فقد أزف الأمر أى قرب إلى غير ذلك ، وقد روى في وهيب بن الورد المكى ـ رحمة الله عليه ـ أنه قال : كنت ليلة أصلى فى الحجر فسمعت كلاما بين الكعبة والأستار خفيا

__________________

(١) سورة النحل : ١١٢ ، ١١٣.

٤٥

فاستمعت فإذا هى تناجى وتقول : إلى الله أشكو ثم إليك يا جبريل ممن حولى من سمرهم وتفكههم باللغو وذكر أحوال الدنيا والاغتياب والخوض فيما لا ينبغى لهم واللهو والغيبة ، لئن لم ينتهوا عن ذلك لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر منى إلى الجبل الذى قطع منه انتهى.

وذلك لتعامى الخلق عن الحق وتماديهم فى الباطل ، وتركهم الصلاة التى من تركها فقد كفر وصار بمنزلة القاتل ، ومنعهم الزكاة المفروضة عن الفقير والسائل ، وأخذهم الربا وقد أمر الله بتركه أذن لحربه كل متثاقل ، وتطفيفهم الكيل والوزن يغل من هلكوا يوم الظلة بالعذاب الشامل ، وإصرارهم على الكبر والفجور وشرب الخمور وشهادة الزور فعل من شرد على الله وباع آخرته بالعيش الزائل ، ولم يذكر الموت ولا اقتراب الساعة بالدلائل وقد أخرج الترمذى عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اتخذ الفئ دولا ، والأمانة مغنما ، والزكاة مغرما ، وتعلم لغير الدين ، وأطاع الرجل امرأته وعق أمه ، وأدنى صديقه وأقصى أباه ، وظهرت الأصوات فى المساجد ، وساد القبيلة فاسقهم ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، وأكرم الرجل مخافة شره ، وظهرت القينات والمعازف ، وشربت الخمور ، ولعن آخر هذه الأمة أولها ، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا ، وآيات تتتابع كنظام لآلى قطع مهلكة فتتابع» ، وقال ابن جرير فى تفسيره : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة فى قوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(١) قال إن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبون أو يذكرون أو يرجعون ، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه ، ووقع زلزلة بالرى فبكر أبو عمران الصوفى فتلا هذه الآية : «ونخوفهم فيما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا».

قال السيوطى (٢) : ولا ينافى ما دل عليه هذه الآثار من أن الزلزال والخسف من الآيات التى يخوف الله بها عباده ما روى عن ابن مسعود أنه أخبر بزلزلة تارة وبخسف أخرى فقال : إنا كنا أصحاب محمد نرى الآيات بركات وأنتم ترونها

__________________

(١) سورة الإسراء آية ٥٩.

(٢) انظر كتاب كشف الصلصلة ص ٤٥.

٤٦

تخويفا ، نحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سفر إذ حضرت الصلاة وليس معنا ماء إلا يسير فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بماء فى صحيفة ووضع كفه فيه ، فجعل الماء ينبجس من بين أصابعه ، ثم نادى هى لأهل الوضوء والبركة من الله ، فأقبل الناس فتوضئوا. فإن ذلك يدل على أن ابن مسعود يعتفد أنها بركة وينكر على من اعتقد أنها تخويف ، قال : وجوابه أن «نرى» بضم النون وبه يزول الإشكال ؛ لأنه إنما جاء من طريق أن الكلمة نرى بفتح النون مبنيا للفاعل بمعنى نعتقد من رأى الاعتقادية المتعدية إلى مفعولين بنفسها وإلى ثلاثة بالهمزة ، وأن بركات مفعول ثانى وليس كذلك بل هى نرى بالضم مبنيا للمفعول من أرى البصرى المتعدية قبل دخول الهمزة إلى واحد وبعد دخولها إلى اثنين ، تقول : «رأى زيد آية» أى أبصر ، وأراه الله آية أى بصّره إياها ومنه قوله تعالى : (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً)(١) نصب على الحال وكذلك فى هذا الأثر الضمير الذى ناب مناب الفاعل مفعول أول والآيات ثان وبركات وتخويف حالان ، وليس مراد ابن مسعود أن الزلزلة بركة وإنما أراد أن يبين للناس عظم مقدار الصحابة وأنهم كانوا إذا أراهم الله آية أراهم آيات البركة من نبع الماء وتسبيح الطعام لصلاحهم ، وأن الذى يعدهم لفساد زمانهم إنما يريهم الله من الآيات ما كان عذابا وغضبا كالزلزلة والخسف هذا معناه فتأمل انتهى.

ولا شك أن حدوث هذا الحادث ودخول هذا السيل المهول من هذا الباب فيه إشارة لطيفة وهو أنه لما فقد من يقوم بحقه من مزيد الإخلاص فى القيام بحقوق الله تعالى كأنه حزن لفقده فتداعى بناؤه وسقط جداره ، كما قيل فى حكمة سواد كسوة الكعبة أن بعض شيوخ أبى الصيف مفتى مكة قال له : يا محمد تدرى لم كسى البيت السواد؟ فقال : لا ، فقال : كأنه يسير إلى أنه فقد ناسا كانوا حوله فلبس السواد حزنا عليهم.

وقد ذكر القسطلانى فى قصة وقوع الحريق الأول بالمسجد النبوى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشرف فى أول ليلة الجمعة من رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة أنه شوهد من هذه النار أن صفة القهر والعظمة الإلهية مسئولية على الشريف والمشروف

__________________

(١) سورة الرعد : آية (١٢).

٤٧

وكان هذا الحريق عقب ظهور نار الحجاز المنذر بها من أرض المدينة وحماية أهلها منها لما التجأوا إلى مسجدها فطفيت عند وصولها لحرمها ، وربما خطر ببال العوام أن حبسها عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم فى الآخرة مع اقتراف الأوزار ، فاقتضى الحال البيان بلسان الحال الذى هو أفصح من لسان المقال ، والنار مطهرة لأدناس الذنوب وقد كان الاستيلاء على المسجد حينئذ للروافض والقاضى والخطيب منهم وأساءوا الأدب ، وقد وجد عقب الحريق على بعض جدران المسجد هذه الأبيات :

لم يحترق حرم النبى لحادث

يخشى عليه وما به من عار

لكنها أيدى الروافض لا مست

تلك الرسوم فطهرت بالنار وغيره

قل للروافض بالمدينة ما بكم

لقيادكم للذم كل سفيه

ما أصبح الحرم الشريف محرقا

إلا لسبكم الصحابة فيه

وفى ذلك كله عبرة تامة وموعظة عامة أبرزها الله تعالى للإنذار فخص بها حضرة الرسول النذير صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازى بها فى موضع عرضها ، فإنا فى وجل مما يعقب ذلك حيث لم ، يحصل به الاتعاظ والانزجار قال الله تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)(١) وقال تعالى : (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ)(٢) انتهى كلام السيد السمهودى.

وقد أخبر الصادق المصدوق بخراب هذا البيت الشريف بعد الإسلام مرتين وأنه يرفع فى الثالثة أو يرفع الحجر الأسود فيها على ما سيأتى ، وقد ذكر العلماء أن من جملة الآيات البينات المذكورة فى قوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ)(٣) بقاء بنائه الذي بناه ابن الزبير إلى الآن ولا يبقى غير هذه المدة الطويلة على ما يذكره المهندسون ؛ لأن الرياح والأمطار إذا تواترت على مكان خربته ، والكعبة ما زالت الرياح العاصفة والأمطار العظيمة تتوالى عليها منذ بنيت وإلى تاريخه ولم يحدث بحمد الله تغير فى بنائها ، ولكن سقوطها الآن

__________________

(١) الإسراء : (٥٩).

(٢) الزمر : (١٦)

(٣) سورة آل عمران : آية (٩٧).

٤٨

بقدر هذه المدة الطويلة الدالة على مزيد إعزاز هذا البيت الشريف وفاء بما أخبر به الصادق المصدوق من خرابه مرتين وأنه يرفع فى الثالثة ، ولم يتقدم له خراب إلا مرة واحدة ، وقد علمنا سلامة العاقبة فى هذا الهدم ، وأنه يجدد فى دولة سلطاننا خلد الله وأبد عزته ، ثم لا يهدم إلا بعد نزول سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تهدمه الحبشة فلا يعمر ، وكفى بذلك فخرا لهذا السلطان العثمانى وامتيازا عن جميع سلاطين الإسلام حيث حصل على يده عمارة هذا البيت الشريف وتجديده ويكون له ثوابه ، ويراه سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بنائه فيحمده على ذلك ويدعو له فى تلك المسالك وكذا أهل الكهف لما روى ابن أبى حاتم عن أبى هريرة رضى الله عنه : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليهلن ابن مريم بفيح الروحاء حاجا أو معتمرا» وروى سعيد بن منصور عنه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقوم الساعة حتى يمر عيسى بن مريم بطن الروحاء حاجا أو معتمرا يلبى لبيك اللهم لبيك» وروى ابن الجوزى فى المثير (١) عن عطف بن خالد قال : يحج عيسى بن مريم إذا نزل فى سبعين ألف فيهم أصحاب الكهف فإنهم لم يموتوا ولم يحجوا» وفى قوله : «لم يموتوا» نظر ، والصحيح أنهم ماتوا.

وروى (٢) الأزرقى عن عمرو بن يسار المكى قال : بلغنى أن الله تعالى إذا أراد أن يبعث ملكا من الملائكة لبعض أموره فى الأرض استأذنه ذلك الملك فى الطواف ببيته فيهبط الملك مهللا.

وعن وهب بن منبه قال : قرأت فى كتاب (٣) من الكتب الأول ذكر فيه أمر الكعبة وأنه ليس من ملك بعثه الله تعالى إلى الأرض إلا أمره بزيارة البيت فينقض من عند العرش محرما ملبيا حتى يستلم الحجر ، ثم يطوف سبعا بالبيت ويصلى فى جوفه ركعتين ، ثم إذا قامت الساعة يعاد ذلك البناء ويزف إلى قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخاطبه ، ثم إلى بيت المقدس ويعانق الصخرة ، ثم يذهبان إلى الجنة فأى ثواب يعدل ثواب سلطاننا فى هذا الخير العظيم مع ما ورد فى الحديث

__________________

(١) مثير العزم الساكن الى أفضل المساكن ١ / ٧٣

(٢) أخبار مكة ١ / ١٠٣

(٣) أنظر أخبار مكة للأزرقى ١ / ٤٩

٤٩

الشريف : «من بنى مسجدا يبتغى به وجه الله بنى الله له بيتا فى الجنة ، فضله على ما سواه من جميع بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا» والمراد بقوله : يبتغى به وجه الله الإخلاص فى الفعل ، فلو بنى مسجدا وكتب اسمه عليه ليطلع عليه الناس فيحمدونه كان بعيدا من الإخلاص ، لأن المخلص يكتفى برؤية المعمور منه ، وقد كان حسان بن أبى سنان يشترى أهل البيت فيعتقهم ولا يخبرهم من هو ، وهذا الحديث يفسر المثلية فى الحديث الآخر وهو : «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا فى الجنة مثله» فالمثلية فى مسمى البيت ، وأما حقيقته وصفته فى السعة وغيرها فمعلوم فضلها وعظمها ، فالمراد المثلية فى الاسم لا فى المقدار ؛ لأن الأعمال الحسنة جزاؤها الضعف ، وفى الحديث «من بنى لله بيتا كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتا فى الجنة» ومفحص القطاة هو موضع تبحث فيه برجليها وتصلح موضعا لتبيض فيه بالأرض مأخوذ من الفحص ولو هنا للتقليل ، وقد أثبته ابن هشام الخضراوى من معانيها وجعل منه «اتقوا النار ولو بشق تمرة» والظاهر أن التقليل مستفاد مما بعد لو لا من لو ، ثم المراد بالتقليل هنا إما الزيادة فى المسجد تنزيلا له منزلة ابتدائية أو لأن الكلام خرج مخرج المبالغة ، وتأمل كيف خص القطاة بالذكر دون غيرها فى بنائه والصدق فى إنشائه ، وإذا كان هذا ثواب من بنى أى مسجد كان أو زاد فى بناء مسجد ، فكيف بثواب من جدد أشرف بيوت الله تعالى وأولها وأعظمها؟ وقد قال الله تعالى فى كتابه العزيز : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) فالرفع هنا إما حقيقى أو مجازى كالتطهير فى قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) قال العلماء : المراد بالبيوت هنا المساجد ، وقيل : المساجد بيوت الله تضىء لأهل السماء كما تضىء النجوم لأهل الأرض وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تذهب الأرضون كلها يوم القيامة إلا المساجد فإنها يضم بعضها إلى بعض» وعن أبى الدرداء رضى الله عنه أنه قال : لتكن المساجد مجلسك فإنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله عزوجل ضمن لمن كانت المساجد بيته الأمن والجواز على الصراط يوم القيامة» وأما ما يتوهم من أن سقوط هذا البيت الشريف لأمر يقع فى الدنيا من خرابها وزوالها كما روى عن على بن أبى طالب رضى الله عنه أنه قال : قال الله

٥٠

تعالى : «إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتى فخربته ثم أخرب الدنيا على أثره» فخطأ ، وذلك لأن المراد بهذا الخراب المذكور فى الحديث هو الخراب الذى لا يعقبه عمارة. ولا حج وذلك لا يكون إلا من الحبشة بعد موت سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى مثير العزم (١) الساكن عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث طويل «وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من الجوع ، وخراب اليمن من الجراد» وفى الحديث «اتركوا الحبشة ما تركوكم فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين» قال فى المصباح تركت البحر ساكنا لم أغيره عن حاله انتهى. والمعنى لا تتعرضوا لهم ما داموا فى ديارهم ولم يتعرضوا لكم ، وأما إذا دخلوا بلاد الإسلام قهرا والعياذ بالله تعالى واستباحوا دماء المسلمين وأموالهم ، فلا يباح لأحد ترك قتالهم والذبّ عن أبضاعهم وأنفسهم ، فإن قتالهم فى هذه الحالة فرض عين وفى الحالة الأولى غير فرضى ، قال ابن رسلان : ووجه تخصيص الحبشة أن بلادهم وعرة ذات حر عظيم ، ويقال : إن نهر النيل الواصل إلى مصر من بلادهم باقى ، فإذا شاءوا حبسوه ، وبين المسلمين وبينهم مهاد عظيمة ومفاوز شاقة ، فلم يكلف الشارع المسلمين دخول ديارهم لعظم ما يحصل لهم من التعب والمشقة فى ذلك ، ولأن الحبشة ستأتى الى الكعبة وتستخرج كنز الكعبة فلا يطاقون. والسويقتين تصغير ساق وأحدهما سويقة ، وصغرهما لدقتهما ورقتهما وهى صفة سوق الحبشة غالبا ، قال الخطابى : هذا تصغير الساق ، وهى مؤنثة ، فلذلك أدخل فى تصغيرها الساق عامة الحبشة فى سوقهم حموشته بالحاء المهملة والشين المعجمة إلى دقة ، وقد وصفه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «كأنى به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا ويأخذ الكنز مع ما فيها من الآلات والفحج» بفاء فحاء فجيم ، قال ابن حجر الهيثمى : من يتقارب صدرا قدميه ويتباعد عقباه وينفرج ساقاه يقال رجل أفحج وامرأة فحجا ، والوصفان ـ أعنى أسود أفحج ـ منصوبان على الحالية ويقلعها فى محل نصب على الصفة أو الحال كذا قاله الدمامينى ، وورد أنه لا يستخرج كنزها إلا هو ، أنه أزرق العينين ، أفطس الأنف ، كبير البطن ، وأن أصحابه ينقضونها حجرا حجرا ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر ولا يعارض هذا قوله تعالى : (أَوَلَمْ

__________________

(١) انظر ١ / ٧٣.

٥١

يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) لأن تخريب الكعبة على يدى هذا الحبشى إنما يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف ، وذلك بعد موت سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك عند خراب الدنيا ، ولعل هذا الوقت هو الذى لا يبقى فيه إلا أشرار الناس ، فيكون حرما آمنا مع بقاء الدين وأهله وهذا هو الصحيح كما قاله أبو العباس القرطبى ، وأما ما ذكره الحليمى فضعيف ، فإنه ذكر أن ظهور ذى السويقتين فى زمن عيسى عليه الصلاة والسلام إليه طليعة ما بين التسعمائة إلى ثمانمائة ، فبينما هم يسيرون إليه أو بعث الله ريحا يمانية فيقبض فيها روح كل مؤمن انتهى. قلت : المذكور أن أول الآيات الخسوفات ، ثم خروج الدجال ، ثم نزول عيسى ، ثم خروج يأجوج ومأجوج فى زمنه ، ثم الريح التى تقبض أرواح المؤمنين فتقبض روح عيسى ومن معه ، وحينئذ تهدم الكعبة ويرفع القرآن ويستولى الكفر على الخلق ، فعند ذلك تخرج الشمس من مغربها ، ثم تخرج حينئذ الدابة ، وبعضهم يجعل خروج الدابة قبل طلوع الشمس من مغربها وتوزع فيه ، وعلى هذا فهذا يدل على أن خراب الحبشة للبيت إنما هو بعد سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفى حديث على كما فى الصحيح : «وكأنى برجل من الحبشة أصلع ـ أو قال أصمع ـ حمش الساقين قاعد عليها وهى تهدم» ورواه الفاكهى من هذا الوجه ولفظه : «أصقل» بدل أصلع وقال : قائما عليها يهدمها بمسحاته ، والأصلع من ذهب شعر مقدم رأسه ، والأصقل الصغير الرأس ، والأصمع الصغير الأذنين وعلى كل فكيف هذا مع ما نقل عن ابن الزبير من أنه أرقى عبيدا حبوشا يهدمونها رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشى الذى قال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبش» مع ما تقدم من صفاته وأنه مع جماعته يلقونها حجرا حجرا فى البحر ويأخذ كنزها ولا تعمر ولا يحج بعده ذلك وأن ذلك إما فى حياة عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعد موته وهو الصحيح؟ فحقا هذا على ابن الزبير رضى الله عنهما مع إقرار من كان عنده من الصحابة والعلماء مشكل جدا. وذكر الزركشى عن مسند أبى (١) داود الطيالسى أنه تجىء الحبشة فيخربونه خربا لا يعمر وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استمتعوا من هذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع فى الثالثة أخرجه ابن حبان (٢) فى صحيحه والحاكم (٣) فى مستدركه وقال : صحيح على شرط الشيخين. وفى رواية : يهدم مرتين ويرفع الحجر الأسود

__________________

(١) فى كتاب الحج ٣ / ١٠٣.

(٢) انظر ٢ / ١٣٣.

(٣) ٣ / ١٠٥.

٥٢

فى الثالثة ، قال العلقمى فى حاشيته على الجامع الصغير فى شرح هذا الحديث : أما الثالثة فهى هدم ذى السويقتين له والمراد بها رفع بركته فإنه لا يعمر بعده أبدا ، وأما الأوليين فلم أر لهما ذكرا فى شئ مما وقفت عليه مما يتعلق بالبيت ولعل الله أن يوفقنا على ذلك انتهى كلامه.

هذا وانظر ما المراد من الهدم ، هل المراد هدمه بفعل فاعل أو ما يشمل الانهدام بنفسه؟ وهل المراد هدم جميعه فيخرج هدم الحجاج بعضه أو ما يعم ذلك فيراجع؟ وما المراد بقوله : ويرفع فى الثالثة؟ هل المراد أنه يهدم مرة ثالثة فلا يعاد بعد ذلك لقوله : «فلا يعمر» وهذا معنى رفعه ، وهناك هدم ثالث وعليه فالهدمان فى الإسلام حصل أحدهما بفعل ابن الزبير ، والآخر بانهدامه بنفسه الواقع فى هذه الأزمنة ، ويكون الثالث الذى لا يعاد هدم ذى السويقتين ، وهل يكون هناك حج للبيت بعد هدم الحبشة له؟ قضية ما تقدم على القول الأصح أنه بعد موت سيدنا عيسى ورفع القرآن أنه لا يحج حينئذ ، لكن ذكر أبو الحسن ابن بطال فى شرح البخارى أن تخريب الحبشة يحصل ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها واحتج بما رواه البخارى من حديث أبى سعيد رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج».

قلت : وفى الاستدلال بذلك نظر ؛ لأن يأجوج ومأجوج ظهورهما وهلاكهما فى زمن سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لا يمنع أن يتوسط حج البيت بعد يأجوج ومأجوج فى زمن سيدنا عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبل تخرب الحبشة فأى دليل على ذلك خصوصا مع تصريح الحديث بأنه لا يعمر بعدها؟

بقى هنا بحث وذلك أنه تقدم رواية أنه تجئ الحبشة فيخربون البيت خربا لا يعمر ، وفى الرواية الأخرى : «استمتعوا بهذا البيت فإنه يهدم مرتين ويرفع فى الثالثة» وفى رواية : «يهدم مرتين ويرفع الحجر الأسود فى الثالثة» فإن قضية ذلك أن البيت إذا خرب وهدم المرة الأخيرة لا يعمر بعد ذلك ، وهذا مشكل مع ما روى أنه لا تقوم الساعة حتى تزف الكعبة إلى الصخرة زف العروس فيتعلق بها جميع من حج واعتمر ، فإذا رأتها الصخرة قالت لها : مرحبا بالزائرة والمزور إليها. وروى أيضا عن كعب الأحبار قال : لا تقوم الساعة حتى يزف البيت الحرام إلى بيت

٥٣

المقدس فينقادان إلى الجنة فيهما أهلهما ، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كان يوم القيامة زف البيت الحرام إلى قبرى فيقول : السلام عليك يا محمد ، فأقول : عليك السلام يا بيت الله ، ما صنع بك أمتى بعدى؟ فيقول يا محمد من أتانى فأنا أكفيه وأكون له شفيعا ، ومن لم يأتنى فأنت تكفيه وتكون له شفيعا (١) انتهى.

فهذه الروايات تقتضى أن الكعبة بعينها تكون عامرة عند قيام الساعة ، وأنها تزور قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصخرة الشريفة ، فكيف هذا مع رواية أن الحبشة يخربونه خربا لا يعمر؟ ورواية أنه يهدم مرتين ويرفع فى الثالثة إلا أن يقال بعد خراب الحبشة له لا يعود بناؤه على يد الخلق ولكن عند قيام الساعة يعيده الله على هيئته التى كان عليها قبل هدم الحبشة كإعادة الموتى ، ثم يزف إلى القبر الشريف والصخرة الشريفة وينقادان إلى الجنة.

وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تذهب الأرضون كلها يوم القيامة إلا المساجد فإنها يضم بعضها إلى بعض» فائدة : قال القرطبى (٢) لا يعارض ما يفعله ذو السويقتين من تخريب البيت آخر الزمان قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) ؛ لأن تخريب الكعبة إنما يكون عند خراب الدنيا ولعله يكون فى الوقت الذى لا يبقى فيه إلا الأشرار من الخلق فيكون حرما آمنا مع بقاء الدين وأهله فإذا ذهبوا ارتفع ذلك المعنى ، والحق فى الجواب أنه لا يلزم من قوله : «حرما آمنا» وجود ذلك فى كل وقت من الأوقات ، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعنى فى وقت آخر ، فإن قيل : فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى أحلت لى مكة ساعة من نهار ثم عادت حرمتها إلى يوم القيامة».

قلت : أما الحكم بالحرمة والأمن لم يرتفع ولا يرتفع إلى يوم القيامة ، وأما وقوع الخوف فيها وترك حرمتها فقد وجد ذلك فى أيام يزيد وغيرها فإن قيل : ما السر فى حراسة الكعبة من الفيل ولم تحرس فى الإسلام زمن يزيد ابن

__________________

(١) انظر نبذة لطيفة فى تاريخ مكة لشهاب الدين القليوبى مخطوط مكتبة مكة لوحة ٤.

(٢) انظر أحكام القرآن ١ / ١٥٠

٥٤

معاوية لما نصب المنجنيق على أبى قبيس ، ورمى الكعبة ، وكسر الحجر الأسود ، واحترقت الكعبة ، وسقط سقفها إلى غير ذلك ، حتى روى أن أول حجر من حجارة المنجنيق أصاب وجه الكعبة فسمع لها أنين وتأوه شديد ، وكذا وقع من القرامطة ما وقع ، وأخبر الصادق بأن ذا السويقتين يهدمها حجرا حجرا؟ فالجواب : أن حبس الفيل وقع إرهاصا لأمر نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه ، فلما ظهر صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأكدت نبوته بالدلائل القطعية لم يحتج إلى شئ من ذلك بعد ، وأيضا أبرهة قصد بالتخريب إذهاب عودها فلذلك عوجل بالعقوبة ، والحجاج إنما قصد بالتخريب إذهاب صورة بناء ابن الزبير وإعادتها على حالها الأول ؛ فلذلك لم يبادر بالعقوبة ، وحيث تمت الدعوة والكلمة قد بلغت والحجة قد ثبتت فأخر الله تعالى أمرهم إلى الدار الآخرة وقد أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقوع الفتن وأن الكعبة ستهدم ، وقد تقدم أن هدم ذى السويقتين لها لا يعارض قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) ؛ لأن تخريب الكعبة على يدى هذا الحبشى إنما يكون عند خراب الدنيا ، ولعل هذا الوقت هو الذى لا تبقى فيه إلا أشرار الناس فيكون حرما آمنا مع بقاء الدين وأهله ، وقول ابن حجر الهيثمى والجواب : إن الحجاج ما قصد التسلط على البيت بل الاحتيال لإخراج ابن الزبير فيه نظر ، على أنه منتقض بفعل القرمطى الملحد فإنه لم يقصد إلا التسلط على البيت وأهله ، أجيب أيضا بأن ما وقع فيه فى الإسلام من القتال ونهب الأموال إنما كان بأيدى المسلمين فهو مطابق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يستحل هذا البيت إلا أهله فوقع ما أخبر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من علامات نبوته ، وإثبات الأهلية والإسلام لأولئك الفجرة الذين جسروا على حرمة البيت إنما هو باعتبار الغالب فلا ينافى كفر الحجاج عند جماعة من العلماء ، وهو الصواب إن صح ما نقل عنه أنه رأى جماعة محدقين بالحجرة الشريفة النبوية على مشرّفها أفضل الصلاة والسلام فقال : ما بال هؤلاء؟ وهل يطوفون إلا بعظام بالية؟ وحكى عنه قبائح أخرى نحو ذلك ، ولا ينافى أيضا الحكم عن القرامطة بالكفر والإلحاد لأنهم من الإسماعيلية الذين هم أقبح كفرا وأسخف عقلا من كثير من الملل الفاسقة لاستحلالهم مع إلحادهم نكاح المحارم ومثابرتهم عليه.

واعلم أن الصحيح الذى صرحت به الأحاديث الصحيحة أن صيرورة مكة

٥٥

وحرمها أمنا من الجبابرة والخسف وغيرهما كان منذ خلق الله السموات والأرض ، وإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أظهر حرمتها لسؤاله المذكور فى القرآن لما اندرس البيت من الطوفان ونسى حكمه وهجر ، وأنه لم يسأل إلا أمنا مخصوصا كالأمن من الجدب والقحط أى : القاتل وإلا فكم وقع منها من جدب لا يطاق انتهى. وقال الدمامينى (١) فى شرح البخارى فى تفسير قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) أنه تطرق جماعة من الملاحدة إلى الطعن فى ذلك والعياذ بالله تعالى بقتل عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما وغيره ممن قتل فى الحرم ، يشيرون بذلك إلى وقوع الخلف فى القرآن بزعمهم فقال القاضى أبو بكر الباقلانى : الخبر هنا مراد به الأمر كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(٢) وقال عليه الصلاة والسلام : «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن» إلى غير ذلك ، قال ابن المنير : الأوجه فى إبطال كلام الملاحدة أن يقال : إن الله تعالى خاطب العرب كما تتخاطب ، ولا شك أن لسانها يقتضى وصف المدن بأنها مأمن ووصف المفاوز بأنها مخاوف ، ولا ينكر هذا إلا متعنت جاهل ، ثم الأمر محمول فيه على الغالب ، وإلا فليس كل من كان بمدينة لا يهلك ولا كل من كان بمفازة يهلك ، فدل ذلك على أنهم إنما يضيفون ذلك إلى الغلبة ، ولا شك أن الحرم فى الجاهلية وما تقدم عليها لم يزل متميزا على غيره بمهابة تصد عن السفك فيه غالبا فصح وصفه بالأمن وحمل الكلام على الخبر الحسن وهو الأصل ، وأيضا لو حمل على الأمر لم يكن له مزية ؛ لأن السفك إن كان بالباطل فهو منهى عنه مطلقا فى الحرم وغيره ، وإن كان بحق فالحكم عندنا أن تستوفى الحدود فى الحرم ، فأين المزية باعتبار الحكم إذن؟ وحمل الأمر على حالة اختص بها يوم الفتح بعيد ، فإن أمان الفتح ما كان معروفا بمكة إلا لمن أغلق بابه ولمن دخل دار فلان ونحو ذلك ، وأما ما كان من الكفار فى الطرقات والشعاب فلم يكن حينئذ مؤمنا ، والحرم أعم من مكة يتناولها ، ويسمى الحرم كله مقام إبراهيم ؛ لأن المقام فيه وهذا هو الأظهر انتهى كلام الدمامينى.

__________________

(١) مشكاة المصابيح مخطوط لوحة ١٣٠.

(٢) البقرة آية : ٢٢٨.

٥٦

خاتمة : قد ورد أن رأس كل مائة سنة يكون عندها أمر ، قال ابن أبى حاتم فى تفسيره : حدثنا يحيى بن عبدك القزوينى ، حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا المبارك بن فضالة ، عن على بن زيد بن عبد الرحمن بن أبى بكر ، عن العريان بن الهيثم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنهما ـ قال : «ما كان منذ كانت الدنيا رأس مائة سنة إلا كان عند رأس المائة امرؤ» وأخرجه ابن عساكر فى تاريخه مطولا ، وفيه ذكر خروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، وكان عند المائة الأول الحجاج الذى عم ظلمه وفساده فجدد الله بعده الدين بعمر بن عبد العزيز ، وكان عند المائة الثانية إظهار المأمون القول بخلق القرآن وغير ذلك من البدع الاعتقادية ، وامتحانه للعلماء بذلك امتحانا عاما فى الأقطار ، ومن لم يجب ضرب أو قيد وحبس أو قتل ، وذلك من أعظم الفتن فى هذه الأمة ، ولم يدع خليفة قبله إلى شئ من البدع ، فقيض الله عند هذه المائة الشافعى فطبق الأرض بعلومه ، وهو أول من أفتى بقتل من قال بخلق القرآن وتكفيره ، وكان عند المائة الثالثة فتنة القرامطة فى كثير من البلاد أنهم دخلوا مكة ، وقتلوا الحجيج فى المسجد الحرام قتلا ذريعا وطرحوا القتلى فى بئر زمزم (١) ، وضربوا الحجر الأسود بدبوس فكسروه ، ثم اقتلعوه وأخذوه إلى بلادهم فعلقوه على الأسطوانة السابعة من جامع الكوفة ، إلى الجانب الغربى ظنا منهم أن الحج ينتقل إلى الكوفة ، وبقى عندهم أكثر من عشرين سنة حتى اشترى منهم بعد ذلك بثلاثين ألف دينار وأعيد إلى محله ، وذلك أنه لما أيست القرامطة من تحويل الحاج إلى هجر ردوا الحجر إلى مكانه ، وقدم شنبر بن حسن القرمطى إلى مكة يوم النحر يوم الثلاثاء عاشر ذى الحجة الحرام سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ومعه الحجر الأسود ، فلما صار بفناء الكعبة حضر معه يومئذ أبو جعفر محمد بن جعفر بن عبد العزيز العباسى ، فأحضر سفطا أخرج منه الحجر الأسود وعليه ضباب من فضة فى طوله وعرضه لضبط شقوقات حدثت فيه بعد قلعه ، وأحضر معه جصا يشده به ، فوضع حسن بن المزوق البنّاء الحجر فى مكانه الذى قلع منه ، وقيل : بل وضعه شنبر بيده : وقال : أخذناه بقدرة

__________________

(١) انظر هذه الحادثة فى البداية والنهاية ١١ / ١٦٠.

٥٧

الله تعالى ، وأعدناه بمشيئته ، وقد أخذناه بأمر ، ورددناه بأمر ونظر الناس إلى الحجر فقبلوه واستلموه وحمدوا الله تعالى ، وحضر ذلك محمد بن نافع الخزاعى ونظر إلى الحجر الأسود وتأمله ، وإذا السواد فى رأسه دون أسفله وسائره أبيض ، وحضر معهم ممن حج تلك السنة محمد بن عبد الملك بن صفوان الأندلسى وشهد رد الحجر الأسود إلى مكة حمل على قعود هزيل فسمن ، وكان لما مضوا به مات تحته أربعون جملا ، وكان مدة استمراره عند القرامطة اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة أيام ، ثم أمروا صانعين فصنعوا له طوقا من فضة وزنه ثلاثة آلاف وسبعة وثلاثون درهما وطوقاه به وشداه عليه وأحكما بناءه فى محله كما كان ذلك قديما وكما هو الآن أيضا كذلك ، وكان قلع الحجر الأسود فى أيام المقتدر انتهى.

وكان عند المائة الرابعة الحاكم بأمر الله تعالى ، وناهيك بما فعل من الفساد ، بل هو أعظم شرا من الحجاج بكثير ، فإن الحجاج لم يأمر أحدا بالسجود له إذا ذكر اسمه فى الخطبة ، وأفاعيل الحاكم مشهورة معلومة ، ومما يصلح أن يعد هنا أنه فى سنة سبع وأربعمائة اتفق تشعيث الركن اليمانى من الكعبة المعظمة وسقوط جدار من قبر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسقوط القبة الكبيرة على صخرة بيت المقدس فعد ذلك من أغرب الاتفاقات العجيبة.

وكان عند المائة الخامسة استيلاء الفرنج على كثير من البلاد الشامية منها بيت المقدس ، وقتلوا به وحده أكثر من سبعين ألفا ، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستعينين على الفرنج ، وأقام بيت المقدس بيد الفرنج بعد ذلك إحدى وتسعين يوما إلى أن خلصه منهم السلطان صلاح الدين بن أيوب.

وكان عند المائة السادسة فى جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهور نار الحجاز المنذر بها من أرضها وانطفائها عند وصول حرمها بعد أن استمرت ثلاثة أشهر ، ومن العجائب أن فى تلك السنة احترق المسجد النبوى حريقه الأول عقيب انطفاء هذه النار ، وزادت دجلة زيادة عظيمة فغرق أكثر بغداد وتهدمت دار الوزير ، ثم فى السنة التى بعدها وقعت الكبرى من أخذ التتار لبغداد وقتل الخليفة وأهلها بذل السيف فيهم نيفا وثلاثين يوما ، وألقيت

٥٨

الكتب تحت أرجل الدواب وبنى منها محالفهم بالمدرسة المنتصرية ، وخلت بغداد ، ثم استولى عليها الحريق حتى عم ترب الرصافة مدفن ولاة الخلافة ، وشوهد على بعض حيطانها إن «ترد عبرة فهذى بنوا العباس دارت عليهم الدائرة» ، واستبيح الحريم إذ قتل الأحياء منهم وأحرق الأموات ، وكثر الموت والغنى بتلك الناحية ، وطوى بساط الخلافة منها ، وقد ذكر بعضهم هذه النار وغرق بغداد وأنهما فى سنة واحدة بقوله :

سبحان من أصبحت فينا مشيئته

جارية في الورى بمقدار

في سنة أغرق العراق وقد

أحرق أرض الحجاز بالنار

وخروج التتار وعموم فسادهم معروف.

وكان عند المائة السابعة غلا وفنا عظيمان بديار مصر والشام بحيث أفنيت الحمير والبغال والكلاب الكلا ، وكان للتتار وقعتان بالبلاد الشامية ، وكان عند المائة الثامنة فتنة تمرلنك.

وأما المائة التاسعة فوقع عندها ثلاث أمور كل منها يصلح أن يعد ، أحدهما : استيلاء الفرنج على عدة بلاد من جزيرة الأندلس كغرناطة وغيرها ، الثانى : خروج خارج ببلاد التكرود يقال له سنى على نمط تمرلنك أباد العباد والبلاد وأقام عشرين سنة على ذلك إلى أن أهلكه الله سنة سبع وتسعين ، والثالث : عموم الجهل الذى طبق الأرض وانقراض العلماء من جميع الأقطار من أهل كل فن ، وهذا شىء لم يعهد بمثله فيما تقدم من أول الملة إلى الآن كذا قاله الإمام السيوطى قال الشيخ العلقمى ، قلت : وفى عد هذه الأمور الثلاثة نظر ؛ لأنها قبل تمام المائة التاسعة ، وأسأل الله أن يقبضنا إلى رحمته قبل فتنة المائة التاسعة بجاه نبيه عليه الصلاة والسلام انتهى.

وقال بعض العلماء : لا أشك أن فتنة المائة التاسعة هى فتنة المرحوم السلطان سليم وخروجه مع إخوته وقتل إياهم وأولادهم ، ثم حروبه مع صاحب الشرق وكسره إياه ، ثم قتله على دولاب وأخذه بلاده ، ثم اجتماعه بعسكر مصر وسلطانها على مرج دابغ وقتل سلطانها وأكابر أمرائها ، ثم دخوله إلى

٥٩

مصر فى أسرع حال وأقصر زمان ، وفعله فيها مع أهلها ما فعل رحمه‌الله تعالى ، وقد وقع آيات عظيمة فمنها ما وقع فى سنة اثنتين وأربعين ومائتين أنه رجمت قرية الشويرا بناحية من مصر من السماء بخمسة أحجار ، ووقع حجر منها على خيمة أعرابى فاحترقت ، ووزن حجر منها فكان عشرة أرطال ، وسار جبل باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين ، ووقع بحلب طائر أبيض دون الرخمة فى رمضان فصاح : يا معاشر الناس اتقوا الله الله الله ، فصاح أربعين صوتا ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك ، وكتب صاحب البريد بذلك وأشهد خمسين إنسانا سمعوه ، وفى سنة خمس وأربعين سمع بتنيين صيحة عظيمة هائلة فمات منها خلق كثير ، وغارت عيون مكة ، وفى سنة اثنتين وتسعين هبت ريح سوداء عمت الدنيا وتحرك البيت الحرام مرارا ، ووقع من الركن اليمانى قطعة ، وزلزلت مصر ، وفى سنة ثلاث وتسعين انقض كوكب عظيم سمع لانقضاضه صوت عظيم هائل ، واهتزت الدور والأماكن فاستغاث الناس وأعلنوا بالدعاء ، وفى سنة أربع وخمسين وستمائة يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة وقع بالمدينة الشريفة صوت يشبه الرعد البعيد تارة وتارة أقام على هذه يومين ، فلما كان ليلة الأربعاء تعقبت الصوت زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان واضطرب المنبر الشريف ، وسمع لها صوت كدوى الرعد ، وارتج القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام ، واستمرت تزلزل ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة خامس الشهر ظهرت النار من الحرة ، إلى غير ذلك من الآيات والزلازل والأمور التى أخبر بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأما الجواب عن وجوب المبادرة بعمارة ما سقط من البيت فنقول : لا يخفى أن الآيات القرآنية الدالة على مزيد تشريف هذا البيت وما ورد فى حقه من الأحاديث النبوية أمر لا يخلو عن بيانه كتاب ، ولا يخفى على ذى رأى صواب قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) قال فى الكشاف : العمارة تتناول رم ما استهدم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها والذكر فيها. وقد جاء فى الحديث الحسن عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحومة حق تعظيمها : «يعنى الكعبة والحرم» فإذا ضيعوا ذلك هلكوا) أو حيث كان كذلك فالمبادرة لبناء ما سقط منها واجب على أكمل الوجوه اللائقة بحرمتها وأبهتها وجلالتها ، وكذا إصلاح ما تشعث واختل من

٦٠