شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

كقوله [من الطويل] :

٤ ـ أفاطم مهلا بعض هذا التّدلّل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

______________________________________________________

بهاء الدين السبكي رحمه‌الله تعالى قدح في عبارة القوم ، وادعى أنها غير محررة ، ذكر ذلك في شرح التلخيص ، وينادى مبني للمفعول ، والقريب نائب عن الفاعل ، ولو جعل الفعل مبنيا للفاعل المخاطب ، والخطاب لكل من يصلح أن يخاطب ، ونصب القريب على أنه مفعول به لصح ، قيل ، والسر في كونها وضعت لنداء القريب دون البعيد أن نداء البعيد يحتاج إلى رفع الصوت ، وهو يحصل بكثرة الحروف وإلى مده ، وهو يحصل بأن يكون آخره ألفا ، والمعنيان منتفيان من الهمزة فجعلت لنداء القريب.

(كقوله) أي : قول امرىء القيس ، وجاز الإضمار بناء على شهرة الكلام المحكي له ، فإن قلت : قد اشتهر في جميع الكتب مثل هذه العبارة فيقال : كقوله وقولها ، أي : الشاعر والشاعرة وإن لم يشتهر بل جهل القائل بيقين؟

قلت : هذه لا تدفع جواز الإضمار نظرا إلى شهرة القائل ، كما ظنه الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المفتاح ، والحاصل : أن القائل تارة يجهل ، فيقال كقوله مثلا ، ويعود الضمير على القائل بدلالة لفظ القول ، وتارة يعلم ويكون المحكي مشهور النسب إليه بحيث يتبادر الذهن بذكر القول إلى معرفة قائله ، فيجوز الإضمار بناء على هذا ، وما نحن فيه من هذا القبيل.

(أفاطم مهلا بعض هذا التدلل)

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي (١)

وهذا البيت من بحر الطويل عروضه وضربه مقبوضان وكذا جزؤه الأوّل ، وهو مقفى بمعنى أن عروضه جاءت على وفق ضربه زنة ورويا من غير إخراج للعروض عن وزنها المعهود ، وأكثر ما تكون التقفية في مطلع القصيدة ، وقد تأتي في أثنائها عند الخروج من غرض إلى غرض كما وقع هنا فإن أمرأ القيس استعمل التقفية في أوّل قصيدته حيث قال :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل (٢)

ثم قفى هنا بعد أبيات مرت له ، والأصل أفاطمة فرخم بحذف الهاء وأبقى الميم على

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٢ ، والجني الداني ص ٣٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٦٧. اه.

(٢) البيت في البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٨ ، وخزانة الأدب للبغدادي ١ / ٣٣٢. وخزانة الأدب للحموي ١ / ١٩ ، وصبح الأعشى ٢ / ٣٠٧.

٤١

ونقل ابن الخبّاز عن شيخه أنه للمتوسّط ، وأنّ الذي للقريب «يا» وهذا خرق لإجماعهم.

______________________________________________________

فتحها جريا على اللغة الفصحى ، وهي لغة من ينوي المحذوف ، مهلا مفعول مطلق كإمهالا إلا أنه حذف زائده ، وجعل بدلا من اللفظ بالفعل كضربا زيدا فبعض منصوب به ؛ لأن الفعل الذي جعل المصدر بدلا منه على الأصح كما صرح به ابن مالك في التسهيل ، وبعضهم يرى أنه منصوب بالفعل المحذوف ، أي : أمهلي بعض هذا التدلل ، أي : أخريه عنا هذا الوقت ، والتدلل بدال مهملة التغنج ، والإزماع الإجماع ، وتصميم العزم عليه.

قال الجوهري : تقول : أزمعت الأمر ، ولا تقول أزمعت عليه ، وقال الفراء : أزمعته وأزمعت عليه بمعنى مثل أجمعته وأجمعت عليه ، والصرم بفتح الصاد مصدر صرمه إذا قطعه ، والصرم بالضم اسم للقطيعة والإجمال الإحسان ، فإن قلت ما المعين لحمل النداء هنا على نداء القريب؟

قلت : القرينة الصارفة إلى ذلك ، ألا ترى إلى قوله في هذه القصيدة يخبر بحاله مع هذه المرأة.

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل

فقلت لها سيري وأرخي زمامه

ولا تبعديني عن جناك المعلل

المراد بعنيزة المشار إليها هنا هي فاطمة المناداة ، في قوله : أفاطم مهلا ... البيت على ما صرح به بعض الشارحين والخدر بكسر الخاء المعجمة ، وسكون الدال المهملة الهودج ومرجلي ، أي : مصيرتي راجلا لعقرك ظهر بعيري ، والغبيط بالغين المعجمة والطاء المهملة على وزن الرغيف : رحل يسند به الهودج للنساء ، والجني : ما يجنى ، أي : يقتطف من الثمرة عبّر به هنا عن اللذة التي ينالها من هذه المرأة على طريق الاستعارة ، والمعلل ترشيح ؛ إذ التعليل جني الثمرة مرة بعد أخرى.

(ونقل ابن الخباز) بخاء معجمة وزاي وهو شارح ألفية ابن معطي. (عن شيخه أنه) ، أي : هذا الحرف الذي هو أحد أحرف النداء.

(للمتوسط) أي لنداء المنادى المتوسط بين القرب والبعد ، (وأن) الحرف (الذي) وضع (للقريب) أي : لنداء القريب هو (يا) دون غيره من أحرف النداء.

(وهذا) الكلام المنقول عن الشيخ (خرق لإجماعهم) أي : لإجماع النحاة من وجهين:

٤٢

والثاني : أن تكون للاستفهام ، وحقيقته : طلب الفهم ، نحو : «أزيد قائم»

______________________________________________________

الأوّل : دعوى أن الهمزة للمتوسط وإنما هي عندهم لنداء القريب فقط.

والثاني : كون القريب لم يوضع لندائه غير (يا) ، والقدح بخرق إجماع النحاة مبني على أن إجماعهم في الأمور اللغوية معتبر يتعين اتباعه ، ووقع لبعض العلماء تردد فيه ، وجعل المصنف ذلك الكلام نفس الخرق لغرض المبالغة في التشنيع ، وتأويله بذو خرق يفوت هذا الغرض وقد ذكر الشيخ عبد القاهر في قوله :

فإنما هي إقبال وإدبار (١)

أنه لا مجاز في شيء من الطرفين ، وإنما المجاز في الإسناد نفسه حيث جعلت كأنها تجسمت من الإقبال والإدبار ، قال : ولو قلنا المراد ذات إقبال وإدبار خرجنا إلى شيء مغسول ، وكلام عامي مرذول.

(و) الوجه (الثاني) من وجهي الألف المفردة (أن تكون) هي (للاستفهام وحقيقته طلب الفهم) ، ولو قيل طلب الإفهام لكان له وجه ؛ إذ لا يطلب من المستفهم إلا ما يمكن أن يفعله ، وإنما يفعل الإفهام لا الفهم القائم بغيره ، فيكون الإفهام هو المطلوب منه ، وغايته أن يكون الاستفعال أخذ من المزيد ، وليس ببدع فقد تقدّمت أمثلة كثيرة منه عند الكلام على قول المصنف في الديباجة ومعضلات يستشكلها الطلاب ، وفي كلام الجوهري إشارة إلى ذلك ، فإنه قال : واستفهمني الشيء وأفهمته ، وقد يجاب بأن المطلوب الحقيقي في الاستفهام هو الفهم ، والإفهام وسيلة إلى ذلك المطلوب ، واعتبار المقاصد أولى من اعتبار الوسائل ، فلذلك جعل لطلب الفهم لا الإفهام ، فإن قيل ينتقض بنحو : افهم فإن حقيقته طلب الفهم ، وليس باستفهام؟ فالجواب أن المراد طلبه الفهم وذلك ؛ لأن الطلب مصدر أضيف إلى المفعول ، فلا بد له من فاعل ، والأصل وحقيقة الاستفهام : طلب الإنسان فهمه ، فحذف الضمير المضاف إليه وعوض عنها لام التعريف على رأي الكوفيين ، أو تقول : هي للعهد ، والتعريف اللامي قائم مقام التعريف الإضافي من غير حذف وتعويض ، فالمعهود هو فاعل الطلب ، فإذن لا يرد النقض فافهم فإنه وإن كان لطلب الفهم لكنه لطلب فهم شخص آخر غير الطالب.

(نحو) همزة : (أزيد قائم) برفع نحو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو نحو كذا ،

__________________

(١) عجز بيت من البسيط ، صدره (ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت) ، وهو للخنساء ، انظر ديوانها ص ٣٨٣ ، ولسان العرب (رهط) ، والأغاني ١٥ / ٧٨ ، ودلائل الإعجاز ١ / ٢٣١.

٤٣

وقد أجيز الوجهان في قراءة الحرميين : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ) [الزمر : ٩] وكون الهمزة فيه للنداء هو قول الفراء ، ويبعده أنه ليس في التنزيل نداء بغير «يا» ويقربه سلامته من دعوى المجاز ، إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته ،

______________________________________________________

وبنصبه على تقدير فعل ، أي : أعني مثلا ، وجوّز بعضهم في مثله أن يكون منصوبا على إسقاط الخافض أي في نحو كذا.

قلت : وليس ذلك بمقيس في مثل هذا الموضع فلا ينبغي التخريج عليه.

(وقد أجيز الوجهان) وهما كون الهمزة للنداء وكونها للاستفهام. (في قراءة الحرميين) نافع المدني وابن كثير المكي ، قوله تعالى في سورة الزمر : (أَمَّنْ) بميم واحدة خفيفة (هُوَ قانِتٌ) أي قائم بوظائف العبادات (آناءَ اللَّيْلِ) أي ساعاته ، واحدها : إنو بكسر الهمزة وسكون النون أي كحمل ، قلت : وليست هذه القراءة مختصة بالحرميين كما يشعر به كلام المصنف بل قرأ بها حمزة أيضا.

(وكون الهمزة فيه) أي في هذا الكلام (للنداء هو قول الفراء) من الكوفيين (ويبعده) إما من الإبعاد أو من التبعيد ، والثاني أولى لمناسبة قوله بعد : ويقربه فإنه من التقريب (أنه ليس في التنزيل نداء بغير ياء) هذا فاعل الفعل من يبعده ، أي ويبعد قول الفراء انتفاء وقوع نداء بغير ياء ، فجعل الهمزة هنا للنداء حمل على ما لم يقع له نظير في القرآن مع إمكان السلامة منه ، وهو بعيد ، قال بعض من عاصر المصنف : الإبعاد بمجرد ما ذكر لا يظهر فكم في القرآن من مفرد لم يقع إلا في محل واحد كضيزى والزبانية والعهن ، قلت : هذا لا يشبه ما الكلام فيه ، فإن البحث مفروض في كلمة قرآنية تتردد بين معنيين لأحدهما نظير في القرآن دون الآخر ، كالهمزة في الآية حيث ترددت بين أن تجعل للاستفهام ـ وله في التنزيل نظائر ـ وأن تجعل للنداء ولا نظير له فيه ، فأين هذا من ضيزى ونحوه؟! وفي تفسير ابن عطية تجويز الوجهين ، لكنه أبعد وجه النداء بأنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده ، قلت : وفيه نظر لأن المأمور بالقول في الآية السابقة ـ وهو قل تمتع ـ هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذا هو المخاطب بقوله : (قُلْ يا عِبادِيَ) [الزمر : ٥٣] وقوله : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) [الزمر : ١١] وقوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) [الأنعام : ١٥] وقوله : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الزمر : ١٥] فما بعد الآية المتقدّمة وما قبلها مناسب لها لا أجنبي عنها.

(ويقربه) أي : قول الفراء شيئان الأوّل (سلامته من دعوى المجاز) اللازم على جعل الهمزة للاستفهام.

(إذ لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته) ضرورة أنه يستلزم الجهل بالمستفهم عنه ،

٤٤

ومن دعوى كثرة الحذف ؛ إذ التقدير عند من جعلها للاستفهام : أمن هو قانت خير أم هذا الكافر ، أي المخاطب بقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) [الزمر : ٨] فحذف شيئان : معادل الهمزة والخبر ؛

______________________________________________________

والجهل على الله سبحانه وتعالى مستحيل ، قال الشيخ بهاء الدين السبكي في «شرح التلخيص» : (لا شك أن الاستفهام طلب الفهم ولكن هل هو طلب فهم المستفهم ، أو وقوع فهم من لم يفهم كائنا من كان ، فإذا قال من يعلم قيام زيد لعمرو بحضور بكر الذي لا يعلم قيامه : هل قام زيد ، فقد طلب من المخاطب الفهم ، أعني فهم بكر ، وإذا كان كذلك فلا بدع في صدور الاستفهام ممن يعلم المستفهم عنه ، ولا مانع حينئذ من جعل الاستفهامات الواردة في القرآن على حقيقتها ، بناء على أن طلب الفهم مصروف إلى غير المستفهم كما في قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة : ١١٦] فهو استفهام حقيقي ، طلب به إقرار عيسى عليه‌السلام في ذلك المشهد العظيم بأنه لم يقل ذلك ؛ ليحصل فهم النصارى ذلك ، فيتقرر عندهم كذبهم فيما ادعوه) ، هذا كلامه.

قلت : «ومنه سؤال جبريل النبي عليه الصلاة والسّلام عن الإيمان والإسلام والإحسان حيث قال : ما الإيمان؟ قال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالبعث ، قال : ما الإحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، وفي آخر الحديث : ثم أدبر فقال : ردوه فلم يروا شيئا فقال : هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم» (١) ، فقد استفهم جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليجيب بما أجاب فيفهم الحاضرون ويتعلموا دينهم ، ولم يكن غرضه طلب فهم نفسه ، بل فهم غيره ممن يستمع الجواب ، وهو على هذا استفهام حقيقي.

(و) الثاني سلامته (من دعوى كثرة الحذف ، إذ التقدير عند من جعلها للاستفهام : أمن هو قانت خير أم هذا الكافر ، أي المخاطب بقوله) أي بمكحي قوله : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) [الزمر : ٨] ولو جعل القانت غير القانت ، كافرا كان أو عاصيا لكان حسنا فإنه ذكر أولا مقابل القانت باعتبار القسمين أما الكافر فصريحا ، وأما غير المخلص فتلويحا.

(فحذف شيئان معادل الهمزة) وهو أم (والخبر) وهو خير ، بل ثلاثة أشياء ، هذان الأمران ومعادل مدخول الهمزة ، وهو ما دخلت عليه أم ، وهذا أليق بتقرير كثرة الحذف ، وكلام المصنف هذا صريح في أن أم المقدرة متصلة ، وأن الاستفهام هنا ليس على حقيقته ولا يكون للإنكار وسيأتي الكلام فيه.

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان (٥٠) ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (٨) ، والترمذي ، كتاب الإيمان عن رسول الله ، باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإيمان والإسلام (٢٦١٠).

٤٥

ونظيره في حذف المعادل قول أبي ذؤيب الهذلي [من الطويل] :

٥ ـ دعاني إليها القلب ، إنّي لأمره

سميع ، فما أدري أرشد طلابها

تقديره : أم غيّ ، ونظيره في مجيء الخبر كلمة «خير» واقعة قبل «أم» :

______________________________________________________

(ونظيره) أي نظير هذا الكلام (في حذف المعادل) وهذا ظرف لغو يتعلق بنظير (قول أبي ذؤيب الهذلي) ذؤيب بهمزة بعد ذال معجمة ، تصغير ذئب :

دعاني إليها القلب إني لأمره

سميع فما أدري أرشد طلابها (١)

وهذا البيت من بحر الطويل عروضه وضربه مقبوضان.

(تقديره) أي تقدير المعادل المحذوف : (أم غي) فأم معادلة للهمزة في أرشد وما بعد أم ـ وهو غي ـ معادل لما بعد الهمزة وهو رشد ، وضمير المؤنث من إليها وطلابها عائد إلى المحبوبة ، وإني لأمره سميع حال من القلب أو معترضة ، والرشد ـ بضم الراء وإسكان الشين المعجمة ـ خلاف الغي والطلاب : مصدر طالب طلب كخادع بمعنى خدع ، ووجه العدول عن المجرد إلى المزيد قصد المبالغة ، لأن المفاعلة في الأصل للمبالغة ، والفاعل متى غولب في الفعل ازداد اجتهاده فيه وقوي داعيته إلى تحصيله فيجيء أبلغ وأقوى ، واللام في لأمره للتقوية ، وتقديم المعمول لإرادة الحصر ، أي إني أسمع أمره لا أمر غيره ، والفعلية الأخيرة معطوفة على الأولى والاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول أدري ، وهو معلق عن العمل ، والمعنى : إن قلبه دعاه إلى طلب الوصل من هذه المحبوبة ، فجهل حقيقة الحال في ذلك الطلب أرشد هو أم غي.

وقد كرر المصنف إنشاء هذا البيت بتمامه في أثناء الكلام على أم حيث قال : مسألة سمع حذف أم المتصلة ومعطوفها ، كقول الهذلي وأنشده وكرر أيضا إنشاد بعضه وهو.

فما أدري أرشد طلابها.

في أواخر الباب الخامس حيث ترجم على حذف المعطوف.

(ونظيره) أي نظير تركيب تلك الآية (في مجيء الخبر كلمة خير واقعة قبل أم) آية فصلت

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص ١٤٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٥١ ، والدرر ٦ / ١٠٢ ، والمزهر ٢ / ٢٨٥.

٤٦

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت : ٤٠] ، ولك أن تقول : لا حاجة إلى تقدير معادل في البيت ، لصحة قولك : ما أدري هل طلابها رشد ، وامتناع أن يؤتى لها بمعادل ، وكذلك لا حاجة في الآية إلى تقدير معادل لصحّة تقدير الخبر بقولك : كمن ليس كذلك ؛

______________________________________________________

(أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [فصلت : ٤٠] لكن الخبر في هذا مذكور وفي تلك مقدر.

(ولك أن تقول) والخطاب هنا لكل من يصلح أن يخاطب ، لا لمعين شخص : (لا حاجة في البيت) المذكور (إلى تقدير معادل لصحة قولك : ما أدري هل رشد طلابها) يعني أن الهمزة في البيت محتملة لأن تكون لطلب التصديق ، وحينئذ يمتنع تقدير المعادل لخروج الاستفهام حينئذ لأن يكون تصويريا مع فرض كونه تصديقيا هذا خلف (وامتناع) أي ولامتناع (أن يؤتي لها بمعادل) لأن الإتيان به يقتضي أن يكون الاستفهام مصروفا لطلبه مسندا أو مسندا إليه أو غير ذلك ، فتكون هل حينئذ لطلب التصور وهي لا تستعمل إلا لطلب التصديق ، قلت : وهذا منتقض بقوله عليه الصلاة والسّلام لجابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنهما : هل تزوجت بكرا أم ثيبا (١) ، ساقه البخاري بهذا النص في «كتاب الجهاد» في «باب استئذان الرجل الإمام».

قال ابن مالك في التوضيح : فيه شاهد على أن هل قد تقع موقع الهمزة المستفهم بها عن التعيين ، فتكون أم بعدها متصلة غير منقطعة ؛ لأن استفهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جابرا لم يكن إلا بعد علمه بتزوجه إما بكرا أو ثيبا ، فطلب فيه الإعلام بالتعيين كما كان يطلبه بأي ، فالموضع إذا موضع الهمزة لكن استغنى عنها بهل ، وثبت بذلك أن أم المتصلة تقع بعد هل كما تقع بعد الهمزة.

قلت : وقد يعترض بأنّا لا نسلم اتصالها في الحديث لجواز أن تكون منقطعة ، وثيبا مفعول بفعل محذوف دل عليه المذكور ، فاستفهم أولا ثم أضرب واستفهم ثانيا ، والتقدير بل أتزوجت ثيبا.

(وكذا لا حاجة في الآية إلى تقدير معادل لصحة تقدير الخبر بقولك : كمن ليس كذلك) ويخرج حينئذ عن أن يكون من قبيل ما حذف فيه حرف العطف والمعطوف ، إذ المعنى مع كون التقدير ، أمن هو قانت أناء الليل كمن ليس كذلك ، مستقيم من غير احتياج إلى تقدير المعادل ، قلت : ولو جعل المصنف المقدر لفظ كغيره ، كما فعل الزمخشري لكان أولى ، تقليلا للمحذوف ما أمكن ، فإن قلت : قد يرجح تقدير المعادل في الآية بموافقته للقراءة الأخرى وهي : أمن هو

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد والسير ، استئذان الرجل الإمام (٢٩٦٧).

٤٧

وقد قالوا في قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] : أن التّقدير : كمن ليس كذلك ، أو لم يوحّدوه ،

______________________________________________________

قانت ، مشددة الميم بإدخال أم على من ، والتقدير أغير القانت خير أم من هو قانت ، قلت هو معارض بجواز تقدير أم المذكورة منقطعة ، أي بل أمن هو قانت كغيره ، والإضراب هنا حسن الموقع كأنه بعد ما لخص الموجب لأن يخص الله تعالى بالعبادة وإخلاص الدين له قيل : دع بيان الموجب وسلهم هل من شكر ربه وقام بوظائف العبودية كمن غمط نعمه وآثر الإشراك على التوحيد ، ومعنى الاستفهام على قراءتي التخفيف والتشديد : التبكيت.

(وقد قالوا في قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] أن التقدير) أحد شيئين إما (كمن ليس كذلك أو لم يوجدوه) وهمزة إن من قوله : أن التقدير مفتوحة على جعل القول بمعنى الاعتقاد أو الجزم ، وهو سائغ تقول مثلا : قال أبو حنيفة هذا الحكم أي اعتقده ورآه ، وتقول أيضا قال فلان بكذا أي جزم به ، فالفتح على الأوّل كما في عرفت أن زيدا فاضل ، وعلى الثاني كما في قولك جزمت بأن عمرا قائم لكن حذف الجار ، ويحتمل أن يكون القول بمعناه المشهور ، فتكسر همزة إن على الحكاية ، لكن ذلك يتوقف على صدور هذا اللفظ المحكي بعينه منهم ، ولسنا على يقين منه ، فإن ثبت أنهم قالوه كذلك فالكسر واضح ، على أنه لو علم صدور المحكي عنهم على هذا الوجه لم تتعين الحكاية ، وكان لك أن تجعل القول بمعنى الاعتقاد أو الجزم ، ولا يخل ذلك بالغرض ؛ إذ المقصود الإعلام بأنهم جعلوا التقدير كذا ، وهو حاصل سواء فتحت أو كسرت ، ويحتمل أن يقال : يجوز الكسر وإن لم يتحقق صدور المحكي بعينه منهم ، بناء على صرف الحكاية إلى المعنى كما لو قال شخص : إن زيدا قائم وقصدت الحكاية بالمعنى ، فيجوز لك إذن أن تقول : قال فلان لزيد قائم ، أي : قال معنى هذا اللفظ ، وهو إن زيدا قائم ، فمؤدى العبارتين واحد.

وقد كرر المصنف تلاوة هذه الآية في الحكم الرابع الذي اختصت به الألف عن بقية أدوات الاستفهام ، وهو تمام التصوير حيث قال : وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] واعلم أن في الآية سؤالين.

أحدهما : أنها سيقت مساق الاحتجاج على المشركين في إشراكهم بالله ، فما وجه ارتباط الكلام بما قبله وتفرعه عليه ليصح موقع الفاء ، وجوابه : أنه لما ذكر : بل لله الأمر جميعا أي ليس لأحد منه شيء ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويصيب الكافرين بما أراد من القوارع ، ويملي لهم ثم يأخذهم قيل أفالله الذي هذه أفعاله القائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ، حتى يكفروا به وبآياته ويعرضوا عن توحيده.

٤٨

ويكون : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الرعد : ٣٣] معطوفا على الخبر ، على التّقدير الثّاني ؛ وقالوا : التقدير في قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤] ، أي كمن ينعّم في الجنّة ؛

______________________________________________________

السؤال الثاني : لم عدل عن الاسم الصريح إلى الموصول ، وجوابه : أن ذلك لقصد التفخيم بواسطة الإبهام الذي يتضمنه الموصول ، مع تحقيق أن القيام كائن وأنهم عارفون به محققون منه ما تدهش له الألباب.

(ويكون) مدخول الواو من قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الرعد : ٣٣] معطوفا على الخبر على التقدير الثاني وقد صرح به الزمخشري في الكشاف فقال : ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ ويعطف عليه وجعلوا ، وتمثيله أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له ـ وهو الله الذي يستحق العبادة وحده ـ شركاء ، هذا كلامه وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر الراجع إلى من دلالة على أنهم أثبتوا الشركاء للإله الحق ، الجامع لصفات الكمال المنزه عن النقائص ، ولهذا أتى بالاسم الجامع لمعاني الأسماء الحسنى كلها وهو الله ، وانظر لم لا يجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على الخبر المقدر في الأول ، وهو كمن ليس كذلك فإنه مقدر بجملة على رأي الأكثرين.

فإن قلت : لعلهم رأوا وجهه أن الهمزة للإنكار الإبطالي ، وهو غير متأت في العطف ؛ إذ إشراكهم ثابت لا يتطرق إلى وقوعه إبطال ، قلت : لا يتعين جعل الإنكار إبطاليا حتى يرتكب ؛ إذ يجوز أن يكون توبيخا بمعنى لا ينبغي أن يكون ، وذلك أن مضمون الأولى على هذا التقدير هو اعتقادهم أن القائم على كل نفس بما كسبت مماثل لمن ليس كذلك ، وهذا لا ينبغي أن يقع ، ومضمون الثانية إثباتهم لله سبحانه وتعالى شركاء ، وهذا أيضا مما لا ينبغي أن يكون ، وقد رأيت لبعض العصريين من أهل الشام أن العلة في امتناعهم من عطف هذه الجملة على الخبر المقدر بقولهم : كمن ليس كذلك ، هي أن ليس لنفي الحال وجعلوا للماضي ، فلا يحسن العطف عليه إلا لنكتة ، قلت وهو غلط إذ الجملة المصدرة بليس صلة لا خبر ، والعطف إنما هو على الخبر لا على الصلة.

(وقالوا التقدير في قوله تعالى) في سورة الزمر : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ) [الزمر : ٢٤] وهو أعز أعضائه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له ، فصار حيث ألقي في النار مغلولة يداه إلى عنقه يتقي بوجهه (سُوءَ الْعَذابِ) أي : شدته ((يَوْمَ الْقِيامَةِ ،) أي كمن ينعم في الجنة) وقدره الزمخشري بقوله : كمن أمن من العذاب ، والظاهر أن قوله كمن ينعم في الجنة خبر عن التقدير الذي هو بمعنى المقدر ، فلا معنى حينئذ لإدخال حرف التفسير على الخبر ، ويمكن أن يجعل

٤٩

وفي قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] ، أي : كمن هداه الله ، بدليل : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨] ، أو التقدير : ذهبت نفسك عليهم حسرة ، بدليل قوله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ؛

______________________________________________________

خبر هذا المبتدأ محذوفا ، أي : التقدير ثابت ، فدل ذلك على أن ثمّ مقدرا مفسرا بقوله : كمن ينعم فلإدخال حرف التفسير حينئذ موقع.

(و) قالوا أيضا (في قوله تعالى) في سورة فاطر : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] التقدير : (كمن هداه الله) وإنما صاروا إلى التقدير لأن من مبتدأ وهي إما موصولة أو شرطية ، ومدخول الفاء من قوله فرآه حسنا معطوف على زين له سوء عمله ، داخل في حكم الصلة أو الشرط ، فيلزم المصير إلى تقدير خبر أو جزاء يدل عليه الكلام ويقتضيه المقام ، فيجوز أن يكون التقدير كمن هداه الله (بدليل : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨]) والهمزة على هذا لإنكار التساوي ، والمحذوف خبر قطعا ومن موصولة.

(أو التقدير ذهبت نفسك عليهم حسرة) بإعادة ضمير الجماعة على من باعتبار معناها والهمزة على هذا لإنكار التحسر المذكور ، والمحذوف إما خبر ومن موصولة أو جزاء ومن شرطية ، وقدروا هذا المحذوف (بدليل : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨]) والفاء من فلا تذهب للسببية ، فإن ما تقدمه سبب للنهي عن التحسر.

وعليهم : متعلق بتذهب كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا ، ومنع الزمخشري تعلقها بحسرات قال : لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه قلت : وفيه كلام ستقف عليه إن شاء الله تعالى في الباب الثالث ، وحسرات : مفعول له ، أي : لا تهلك نفسك لأجل الحسرات ، وفي جمعها إشعار بتضاعف اغتمامه على أحوالهم ، وكثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف عليهم ، فإن قلت : كيف عدل المصنف عن الجمع إلى الإفراد وهو مفوت لهذه النكتة؟ قلت : وقع نظيره لصاحب المفتاح واعتذر عنه الشريف الجرجاني بقوله : وقال حسرة دون حسرات مبالغة في الإنكار ، أي ما كان ينبغي أن يكون منك تحسر ما إذ لا ينفع ولا يجدي ، لأن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، ما أنت عليهم بوكيل.

وقد كرر المصنف تلاوة هذه الآية في النوع السادس من الجهة السادسة من الباب الخامس ، حيث قال : وقول بدر الدين بن مالك في قوله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨] إن جواب الشرط محذوف ، وإن تقديره ذهبت نفسك عليهم حسرة بدليل فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، أو كمن هداه الله بدليل فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ،

٥٠

وجاء في التنزيل موضع صرّح فيه بهذا الخبر وحذف المبتدأ ، على العكس ممّا نحن فيه ، وهو قوله تعالى : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) [محمد : ١٥] أي أمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار كمن هو خالد في النار ، وجاءا مصرّحا بهما على الأصل في قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي

______________________________________________________

والتقدير الثاني باطل ويجب عليه كون من موصولة ، إلى هنا كلام المصنف ، وفيه بحث ستراه إن شاء الله تعالى عند اقتضاء النوبة إليه.

(وجاء في التنزيل موضع صرح فيه بهذا الخبر وحذف المبتدأ) ببناء حذف مفعول ورفع المبتدأ على أنه نائب عن الفاعل ، وهذا (على العكس مما نحن) أي : مما كلامنا (فيه وهو قوله) في سورة القتال : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) [محمد : ١٥] أي أفمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وهذا الذي قاله المصنف في الآية ليس متعينا لجواز أن يكون (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) بدلا من (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) [محمد : ١٤] ويكون قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) [محمد : ١٥] معترضا بين البدل والمبدل منه ، ويجوز أيضا أن يكون (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) خبر مثل الجنة على حذف مضاف تتم به المعادلة ، وتصح المقابلة والتقدير : أمثل ساكن كمثل من هو خالد ، أو التقدير : أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار ، وهو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي لانطوائه تحت حكم كلام مصدر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه وهو قوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) [محمد : ١٤] وفائدة حذف حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوي بين التمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم.

(وجاءا) أي : المبتدأ والخبر (مصرحا بهما على الأصل في قوله تعالى) في سورة الأنعام [١٢٢] : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) أي ضالا فهديناه (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) والمراد به اليقين والحكمة (كَمَنْ مَثَلُهُ) أي كالكافر الذي صفته في الظلمات ليس بخارج منها قال الزمخشري : كمن صفته هذه وهي قوله : في الظلمات ليس بخارج منها ، يعني أن هذه الجملة كما هي تقع صفة للكافر في قولك : مررت برجل في الظلمات ليس بخارج منها خابط فيها لا ينفك عنها ، ولا يتخلص منها ، فإذا قلت : صفته في الظلمات ليس بخارج منها ، فمعناه أنه إذا تم وصفه بهذه العبارة فهو مبتدأ وخبر ، أي صفته هذا اللفظ ، (وكذا) جاءا مصرحا بهما

٥١

الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) [الأنعام : ١٢٢] ، (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) [محمد : ١٤].

والألف أصل أدوات الاستفهام ، ولهذا خصّت بأحكام :

* أحدها : جواز حذفها ، سواء تقدّمت على «أم» كقول عمر بن أبي ربيعة [من الطويل] :

٦ ـ بدا لي منها معصم حين جمّرت

وكفّ خضيب زيّنت ببنان

فو الله ما أدري ، وإن كنت داريا ،

بسبع رميت الجمر أم بثمان؟

أراد أبسبع ،

______________________________________________________

على الأصل في قوله تعالى في سورة القتال : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [محمد : ١٤] أي حجة وبرهان من عنده ، والمراد به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) وعد آية الله ورسوله والمراد أهل مكة.

(والألف أصل أدوات الاستفهام ، ولهذا خصت) دون بقية الأدوات الاستفهامية (بأحكام) لا تثبت لغيرها من تلك الأدوات ، وكان الصواب أو الأولى أن يقول : ولهذا خصت بها أحكام لما ستراه قريبا.

(أحدها جواز حذفها) مفردة عما تدخل عليه ، وإلا فغيرها من أدوات الاستفهام قد يحذف مع ما دخل عليه ، فيكون حذفه بطريق التبعية لا بطريق الاستقلال (سواء تقدمت على أم كقول عمر بن أبي ربيعة) المخزومي ولد في الليلة التي قتل فيها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه وهي ليلة الأربعاء ، لأربع بقين من ذي الحجة سنة (٢٣) وكان الحسن البصري رحمه‌الله تعالى إذا جرى ذكر ذلك يقول : إن حق رفع وإن باطل وضع.

بدا لي منها معصم حين جمرت

وكف خضيب زينت ببنان

فلما التقينا بالثنية سلمت

ونازعني البغل اللعين عناني (١)

(فو الله ما أدري وإني لحاسب

بسبع رمين الجمر بثمان

أراد أبسبع) المعصم بكسر الميم وفتح الصاد المهملة : موضع السوار من الساعد ، وجمرت : رمت جمرات المناسك ، والكف مؤنثة ولهذا أنث الضمير العائد إليها من زينت وخضيب بمعنى مخضوبة ، إما بالحناء أو غير ذلك مما يتزين به النساء ، والبنان أطراف الأصابع

__________________

(١) الأبيات من البحر الطويل ، وهي لعمر بن أبي ربيعة. انظر خزانة ، الأدب للبغدادي الشاهد (٩٠٣).

٥٢

أم لم تتقدّمها كقول الكميت [من الطويل] :

٧ ـ طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا منّي وذو الشّيب يلعب

أراد أو ذو الشيب يلعب؟ واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة [من الخفيف] :

٨ ـ ثمّ قالوا : تحبّها؟ قلت : بهرا

عدد الرّمل والحصى والتّراب

فقيل : أراد أتحبها ؛

______________________________________________________

والثنية طريق العقبة ، وإن كنت داريا جملة معترضة بين أدري ومعموله المعلق هو عنه ، وهو بسبع رمين وضمير رمين عائد إلى البنان أو إلى هذه المرأة وصواحبها ، ويروى رمينا بألف بعد النون ، ومعناه ظاهر ، والجمر جمرات المناسك والمعنى : إنه ذهل بسبب رؤية ما بدا له من محاسن هذه المرأة عند رميها الجمرات ، فلم يدر ـ مع كونه من أهل الدراية ـ أبسبع حصيات رمين أم بثمان؟

(أم لم تتقدم) أي الألف على أم (كقول الكميت) بصيغة التصغير :

(طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب) (١)

وهذا مطلع قصيدة له في رثاء أهل البيت ومدحهم ، والتألم لما اتفق لهم من مصائب الدنيا ، وفي «الصحاح» الطرب : خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور ، والظاهر أنه استعمله في مطلق الخفة ، يقول : حصلت لي خفة لكن لا لأجل شوق إلى النساء ولا لأجل لعب وإنما حصلت للحاق المحن بأهل بيت النبوّة.

قال المصنف : (أراد أو ذو الشيب يلعب) وهو استئناف على تقدير سؤال كأنه قيل : ولم لا تلعب فقال : أو ذو الشيب يلعب ، على جهة الإنكار فأشار إلى علة عدم اللعب ، وهي كونه ذا شيب ولقائل أن يقول : لا يتعين هذا شاهدا على حذف الهمزة لجواز أن يكون مما حذف فيه حرف النفي للقرينة ، أي وذو الشيب لا يلعب.

(واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب (٢)

فقيل أراد أتحبها) فهو كلام إنشائي حذف منه همزة الاستفهام ، فيكون من قبيل ما نحن فيه

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للكميت بن زيد الأسدي في جواهر الأدب ص ٣٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣١٣ ، والدرر ٣ / ٨١ ، والأغاني ١٧ / ٣٠ ، وهمع الهوامع ٢ / ٦٩.

(٢) البيت من البحر الخفيف ، وهو لعمر بن أبي ربيعة ، انظر ديوانه ص ٤٣١ ، والدرر ٣ / ٦٣ ، وشرح شواهد المغني ص ٣٩ ، والأغاني ١ / ٨٧.

٥٣

وقيل : إنّه خبر ، أي أنت تحبّها ؛ ومعنى «قلت بهرا» قلت أحبّها حبّا بهرني بهرا ، أي غلبني غلبة ؛ وقيل معناه عجبا. وقال المتنبي [من البسيط] :

٩ ـ أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ،

والبين جار على ضعفي وما عدلا

وأحيا : فعل مضارع ، والأصل أأحيا ، فحذفت همزة الاستفهام ، والواو للحال ، والمعنى التعجّب من حياته ، يقول : كيف أحيا وأقلّ شيء قاسيته قد قتل غيري ؛

______________________________________________________

(وقيل : إنه خبر أي أنت تحبها) بكسر همزة إن على الحكاية ، وبفتحها على أن القول بمعنى الاعتقاد أو الجزم كما مر ، وتقدير المصنف لأنت ليس على أنه محتاج إليه بحسب الصناعة ، وإنما هو لتحقيق كون الكلام خبرا لا إنشاء (ومعنى قلت بهرا) بفتح الموحدة وإسكان الهاء وبراء مهملة ، (قلت أحبها حبا بهرني بهرا ، أي : غلبني غلبة) فهو مفعول مطلق حذف عامله جوازا ، والجملة صفة موصوف محذوف على ما قدره ، وقد يقال لا حاجة إلى هذا التقدير ؛ إذ يمكن أن تقدر بهرني حبها بهرا ، وهو محصل للمقصود من الإخبار بكونه يحبها ، وهو أولى تقليلا للمحذوف ما أمكن.

(وقيل معناه عجبا) وبهذا جزم في «الصحاح» وأنشد البيت شاهدا على ذلك.

(وقال) أبو الطيب (المتنبي :

أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا

والبين جار على ضعفي وما عدلا (١)

أحيا فعل مضارع والأصل أأحيا فحذف همزة الاستفهام) وهذا لم يذكره المصنف شاهدا ليستدل على مدعاه ، حتى يرد عليه أن المتنبي ليس مما يحتج بكلامه في اللغة العربية ، وإنما أورده مثالا.

(والواو) من قوله : وأيسر ما لاقيت ما قتلا (للحال ، والمعنى التعجب من حياته ، يقول : كيف أحيا وأقل شيء قاسيته قد قتل غيري) وجوز ابن الحاجب هذا الوجه الذي ذكره المصنف ، وأبدى وجها آخر لا همزة تقدر معه ، فقال : ويجوز أن يكون أحيا من باب أفعل التفضيل ، حذف المضاف إليه استغناء بما شرك بينه وبينه فيه ، كأنه قال : أحيا ما قاسيت وأيسر ما قاسيت ، فحذف المضاف إليه في الأول استغناء عنه بالثاني ، أو حذف من الثاني استغناء عنه بالأول ، ثم أخر ليعتمد الثاني من حيث اللفظ كما في قولهم نصف وربع درهم ، وأما أحيا باعتبار المعنى فيجوز أن يكون مأخوذا من حيي الشيء إذا كان فيه حياة ، كأنه قال : أظهر شيء فيه حياة مما

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للمتنبي ، انظر ديوانه ٣ / ٢٨٢ وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ٢ / ٦٢٥.

٥٤

والأخفش يقيس ذلك في الاختيار عند أمن اللّبس ، وحمل عليه قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَ) [الشعراء : ٢٢] ، وقوله تعالى : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] في المواضع الثّلاثة ، والمحقّقون على أنه خبر ، وأنّ مثل ذلك يقوله

______________________________________________________

قاسيته يقتل ، ويجوز أن يكون مبنيا من أحييته إذا جعلته حيا كأنه قال : أظهر شيء يحيا مما قاسيته يقتل.

(والأخفش يقيس ذلك في الاختيار) وفي الضرورة من باب أولى ، ولكن قياسية هذا الحذف (عند أمن اللبس) وأما عند خوفه فلا يجوز الحذف قولا واحدا ، وتخصيص الأخفش بنسبة هذا الحكم إليه في عرف المصنفين يقتضي أن غيره يخالف ذلك ، وقد صرح بعضهم بأن حذفها عند أمن اللبس من ضروريات الشعر ، قال ابن قاسم في «الجني الداني» : وهو ظاهر مذهب سيبويه ، قال : والمختار أن حذفها مطرد إذا كان بعدها أم لكثرته نظما ونثرا.

قلت : وهو كثير مع فقد أم والأحاديث طافحة بذلك ، وقول ابن الحاجب ـ حذف الهمزة شاذ وإنما تقع للضرورة وسره أن الحروف التي تدل على الإنشاء لها صدر الكلام ، فلو جاز حذفها لجاز تأخيرها ـ منظور فيها باعتبار هذه الملازمة فإنها غير مسلمة (وحمل) أي الأخفش (عليه) أي على حذف الهمزة (قوله تعالى) حكاية عن موسى عليه الصلاة والسّلام يخاطب فرعون : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٢٢] أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا فإن حذف الهمزة هنا لا يوقع في الإلباس بالخبر ، ضرورة أن ما أخبر عنه ليس بنعمة بل هو نقمة فكيف يتوهم الإخبار بأنها نعمة وإنما المقصود الإنكار المفاد بالهمزة المحذوفة ، قال الزمخشري : وتلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها ومحل أن عبدت الرفع عطف بيان لتلك ، ونظيره (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ) [الحجر : ٦٦] والمعنى تعبيدك لبني إسرائيل و (قوله تعالى : (هذا رَبِّي) في المواضع الثلاثة) المحكية عن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام حيث قال تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ٧٦ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ٧٧ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ٧٨) [الأنعام : ٧٦ ـ ٧٨] فإنه لا يخفى أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لم يقصد حقيقة الإخبار في شيء من المواضع الثلاثة بربوبية ما رآه من تلك الأجرام السماوية ، وحاشاه من ذلك بل قصد الاستهزاء والإنكار عليهم ، فحذفه الهمزة لظهور المراد وانتفاء اللبس.

(والمحققون على أنه) أي : على أن الكلام الواقع في الصورتين (خبر وأن مثل ذلك يقوله

٥٥

من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل ؛ فيحكي كلامه ثم يكرّ عليه بالإبطال بالحجّة ، وقرأ ابن محيصن : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) [البقرة : ٦] ؛ وقال عليه الصّلاة والسّلام لجبريل عليه‌السلام : «وإن زنى وإن سرق؟» فقال : «وإن زنى وإن سرق».

[الثاني : أنها ترد لطلب التّصوّر]

والثاني : أنها ترد لطلب التّصوّر ، نحو : «أزيد قائم أم عمرو» ، ولطلب التّصديق ، نحو : «أزيد قائم؟».

______________________________________________________

من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل ، فيحكي كلامه) كما هو غير متعقب لمذهبه لأنه أدعى إلى قبول الحق ، وأنجى من التعب.

(ثم يكر) أي : يرجع (عليه) أي : على كلام خصمه (بالإبطال بالحجة) بعد ما حكاه أولا على صورته ، ولا محذور في ذلك ، بل فيه إظهار النصف أو استدراج الخصم إلى الإقرار بالحق.

(وقرأ ابن محيصن) بميم فحاء مهملة فياء تصغير فصاد مهملة فنون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] بهمزة واحدة وهمزة التسوية محذوف (وقال عليه الصلاة والسّلام : وإن زنى وإن سرق قال جبريل : وإن زنى وإن سرق) فالشاهد في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ الأصل أو إن زنى أو إن سرق ، روى «البخاري» في أول «كتاب الجنائز» (عن أبي ذر رضي‌الله‌عنه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتاني آت من ربي فأخبرني أو بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق) (١) ووقع في مواضع ، وفي بعضها التصريح بأن الآتي هو جبريل ، فهذا مما حذفت فيه الهمزة لأمن اللبس ؛ لأنه عليه الصلاة والسّلام قصد استفهام جبريل عن دخول الجنة لمن مات من أمته ، لا يشرك بالله شيئا أيثبت مع فرض زناه وسرقته؟ ولا بد من تقدير الهمزة ، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الأصل : أيدخل الجنة وإن زنى وإن سرق ، فيكون المحذوف الهمزة وما دخلت عليه جميعا لدلالة ما سبق على ذلك ، والجملة الواقعة بعد حالية فلا يكون هذا من فرض المسألة في شيء على ما ذكرناه أولا فتأمله.

(الثاني أنها ترد لطلب التصور) وهو السؤال عن إدراك غير النسبة (نحو : أزيد قائم أم عمرو) فالنسبة هنا معلومة لا يطلب إدراكها ، وإنما السؤال عن تعين المسند إليه (ولطلب التصديق) وهو السؤال عن إدراك النسبة (نحو : أزيد قائم) فإن المسؤول عنه هو إدراك النسبة بين هذين الطرفين ، وأما كل من طرفيها اللذين هما المسند والمسند إليه ، فليس بمسؤول عنه ، وقد

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب ما جاء في الجنائز ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله (١٢٣٧).

٥٦

و «هل» مختصّة بطلب التّصديق ، نحو : «هل قام زيد». وبقيّة الأدوات مختصّة بطلب التصوّر ،

______________________________________________________

نازع بعض المتأخرين في قول الجماعة : إن المسؤول عنه في نحو المثال الأول ـ وهو أزيد قائم أم عمرو ـ هو إدراك المسند إليه على التعيين لا النسبة ، فإنها معلومة فقال : تصور زيد أو عمرو بخصوصه حاصل للسائل عند السؤال ، فكيف يسأل عنه وإنما المجهول المطلوب عنده نسبة القيام إلى أحدهما على التعيين ، وهو غير التصديق الذي كان حاصلا عنده ، ذلك لأن التصديق بأن أحدهما لا بعينه قائم أمر حاصل عنده ، وليس مسؤولا عنه ، والمطلوب بالسؤال هو التصديق بأن أحدهما معينا كزيد بخصوصه قائم ، وهذان التصديقان يختلفان إلا أنه لما كان الاختلاف بينهما باعتبار تعيين المسند إليه في أحدهما وعدم تعينه في الآخر وكان أصل التصديق حاصلا توسعوا فحكموا بأن التصديق حاصل ، وأن المطلوب هو تصور المسند أو المسند إليه أو قيد من قيودهما. وهذا كلام حسن فتأمله.

(وهل تختص بطلب التصديق) بمعنى أنها لا تكون لغيره لكن عبارته لا توفي بذلك ، فقد صرحوا بأن المجرور بالباء هو المقصور دون المقصور عليه ألا ترى أن معنى قوله تعالى : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] يجعل رحمته مقصورة على من يشاء دون غيره لا العكس ، فكان المناسب أن يقول : وهل يختص بها طلب التصديق كما قال صاحب «التلخيص» ولاختصاص التصديق بها ، وصوبه شارحه الشيخ بهاء الدين السبكي ، وشدد النكير على ما خالف هذا الاستعمال ، وفي حاشية «الكشاف» للتفتازاني أن الباء قد تدخل على المقصور عليه كما قال الزمخشري في الحمد لله دلالة على اختصاص الحمد به ، والشائع العربي هو الأول هذا كلامه وعليه يتمشى ما وقع للمصنف هنا ، ثم يقال : دعوى اختصاص التصديق لهل ينتقض بقوله عليه الصلاة والسّلام : (هل تزوجت بكرا أم ثيبا) (١) إذ هي فيه للتصور وقد علمت ما فيه ، وفي شرح الكافية للرضي : وربما تجيء هل قبل المتصلة على الشذوذ يعني قبل أم المتصلة ، وقضية هذا مجيء هل لطلب التصور قليلا فإن كان سنده في ذلك الحديث فليس بقاطع لما تقدم.

(وبقية الأدوات مختصة بطلب التصور) أي : لا تستعمل لغيره وفيه ما مرّ ، وهو منتقض بأم المنقطعة فإنها من بقية أدوات الاستفهام وهي لطلب التصديق فقط ، قال الشيخ بهاء الدين السبكي في «شرح التلخيص» : ولا شك أنها ـ يعني أم ـ من أدوات الاستفهام ، وقد عدها السكاكي في «شرح المفتاح».

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٧

نحو : «من جاءك»؟ و «ما صنعت»؟ و «كم مالك»؟ و «أين بيتك»؟ و «متى سفرك؟.

الثالث : أنّها تدخل على الإثبات كما تقدّم ، وعلى النفي نحو : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ١) [الشرح : ١] ، (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) [آل عمران : ١٦٥] ،

______________________________________________________

ووجهه أنها إن كانت متصلة فالاستفهام فيها واضح أو منقطعة فهي مقدرة قبل الهمزة ، لا يقال إن كانت متصلة فليست مستقلة بالاستفهام فإنها لا تستعمل إلا مع الهمزة ، وإن كانت منقطعة ففيها إضراب ؛ لأنا نقول : كون المتصلة لا تستعمل إلا مع الهمزة لا يخرجها عن الاستفهام ، ولا شك أن كل واحد مما قبلها وما بعدها مستفهم عنه ، وكون المنقطعة فيها إضراب ؛ لأن الاستفهام جزء معناها أو أحد معنييها ، وإنما نعني المنقطعة التي فيها استفهام دون الممحضة للإضراب ، وقد صرح النحاة بعدّ أم من حروف الاستفهام ، وذكره الشيخ أبو حيان وغيره ، إلى هنا كلامه.

قلت لكني أنا أستشكل عدّهم لأم من أدوات الاستفهام.

أما المتصلة فلأن مدخولها معطوف على مدخول الهمزة ، فثبت مشاركته لما قبله في كونه مستفهما عنه بقضية العطف ، ألا ترى أنك إذا قلت أزيد قائم أو عمرو ، وكان ما بعد أو مستفهما عنه كما كان مع أم المتصلة ، ولم يقل أحد بأن أو من حروف الاستفهام.

وأما المنقطعة فلا نسلم أن الاستفهام جزء معناها ولا أحد معنييها ، بل المفيد له الهمزة المقدرة ، ولكن هذا البحث لا يجدي المصنف نفعا في رفع النقض الوارد عليه هنا ، فإنه معترف بما قاله غيره من أن أم من أدوات الاستفهام كما يجيء قريبا إن شاء الله تعالى.

(نحو من جاءك وما صنعت وكم مالك وأين بيتك ومتى سفرك) فالاستفهام في ذلك كله لطالب التصور ، وهذا ظاهر ، فإن قيل : السائل بقوله : من جاءك قد حصل التصديق بأن أحدا جاء المخاطب ، وهذا التصديق مغاير للتصديق بأن زيدا مثلا جاء المخاطب ، فهو لسؤاله بطلب التصديق الثاني قطعا فتكون من لطلب التصديق دون التصور على قياس ما سبق في الهمزة مع أم المتصلة ، نحو : أزيد قائم أم عمرو فالجواب أن بينهما فرقا ، وذلك أن السائل بمن جاء لم يتصور خصوصية زيد أو عمرو بهذا السؤال ، فإذا أجبت بزيد مثلا أفاد زيادة في تصور المسند إليه بحسب خصوصية ، ويختلف بحسب التصديق أيضا بخلاف قوله : أزيد قائم أم عمرو ؛ إذ لا يختلف فيه الجواب تصورا بل مجرد التصديق.

(الثالث أنها) أي الهمزة (تدخل على الإثبات كما تقدم) في التمثيل بنحو أزيد قائم أم عمرو (وعلى النفي نحو (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الانشراح : ١] ، وهذا واضح ، ونحو (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران : ١٦٥] وقد أولع كثير

٥٨

وقوله [من البسيط] :

١٠ ـ ألا اصطبار لسلمى أم لها جلد

إذا ألاقي الّذي لاقاه أمثالي؟

ذكره بعضهم ، وهو منتقض بـ «أم» ؛ فإنها تشاركها في ذلك ، تقول : «أقام زيد أم لم يقم»؟

______________________________________________________

ممن رأيناه بالاعتراض على المصنف هنا ، ويجعلون التمثيل بهذه الآية لدخول الهمزة على النفي من قبيل السهو ؛ لظهور أن لما في الآية وجودية.

والمعنى : أقلتم كذا حين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها ، فإن قلت : الاستفهام هنا للإنكار فهو في معنى النفي فالهمزة داخلة على ما هو منفي معنى لا صورة ، فصح التمثيل من هذه الجهة قلت : كذا ذكر بعض العصريين من أهل الشام ، وليس بشيء لأن الإنكار في هذه الآية توبيخي لا إبطالي ، فما بعده ليس منفيا لا صورة ولا معنى ، بل هو متحقق الثبوت ، ولذلك يتعلق التوبيخ بوجوده ، وقد يقال : إن الواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف أي ألم تجزعوا وقلتم كذا حين أصابتكم تلك المصيبة ، فالهمزة داخلة على نفي مقدر كما أنها داخلة في (أَلَمْ نَشْرَحْ) على نفي مذكور ويكون هذا حسنا ؛ لأن فيه تمثيلا للنفي باعتبار حالته من الذكر والتقدير ، فإن قلت : المصنف لا يرى القول بمثل هذا في الهمزة الداخلة على حرف العطف ، بل يرى أن الهمزة مقدمة من تأخير لغرض التنبيه على أصالتها في تمام التصدير ، كما سيصرح به قريبا فإذا يكون المعطوف عليه مرّ من قوله تعالى في قصة أحد : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) [آل عمران : ١٥٢] وعلى هذا فلا نفي لا مذكورا ولا مقدورا والإشكال بحاله ، قلت : المصنف رحمه‌الله لم يذكر هذا الوجه في الوجوه التي قلت : الهمزة في ذلك للإنكار والإبطال وهو ظاهر بالنسبة (١) ؛ (و) نحو (قوله :

ألا صطبار لسلمى أم لها جلد)

إذا ألاقي الذي لاقاه أمثالي (٢).

وسيأتي الكلام على هذا البيت في أقسام ألا (ذكره) أي : هذا الحكم الثالث (بعضهم) ولم يرتضه المصنف ، بل قال : (وهو منقوض بأم فإنها تشاركها) أي تشارك الهمزة (في ذلك) الحكم وهو الدخول على الإثبات تارة وعلى النفي أخرى (تقول : أقام زيد أم لم يقم) بإدخال أم على النفي ، وتقول : أقام زيد أم قعد بإدخالها على الإثبات ، وفي هذا اعتراف من المصنف بأن أم من أدوات الاستفهام.

__________________

(١) هكذا العبارة في الأصل فليحرر.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لقيس بن الملوح في ديوانه ص ١٧٨ ، وجواهر الأدب ص ٢٤٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢٤ ، وتخليص الشواهد ص ٤١٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٧٠.

٥٩

الرابع : تمام التّصدير ، بدليلين :

أحدهما : أنّها لا تذكر بعد «أم» التي للإضراب كما يذكر غيرها ، لا تقول : «أقام زيد أم أقعد» ، وتقول : «أم هل قعد».

والثاني : أنها إذا كانت في جملة معطوفة بالواو أو بالفاء أو بـ «ثمّ» قدّمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التّصدير ، نحو : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) [الأعراف : ١٨٥] (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) [يوسف : ١٠٩ وغيرها] (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [يونس : ٥١] وأخواتها تتأخّر عن حروف العطف كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة ، نحو : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ١٠١] ، (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ٢٦) [التكوير : ٢٦] ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [الأنعام : ٩٥ وغيرها] ، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥] ، (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) [الأنعام : ٨١] ، (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨].

______________________________________________________

الحكم (الرابع : تمام التصدير بدليلين : أحدهما أنها لا تذكر بعد أم التي للإضراب كما يذكر غيرها) من بقية الأدوات الاستفهامية (لا تقول : قام زيد أم أقعد وتقول أم هل قعد) وأنا لا [أ] تحقق صحة هذا الحكم ، وهو امتناع وقوع الهمزة بعد أم الإضرابية ، فإن صح اتجه سؤال الفرق بين أم وأختها بل الإضرابية ، إذ قد سمع وقوع الهمزة بعد بل كما حكاه الزمخشري وغيره أنه قرىء بل أأدرك عملهم في الآخرة ، وقرىء أيضا بل أدرك بفتح اللام وتشديد الدال ، وأصله : بل أدرك على الاستفهام.

(والدليل الثاني أنها) أي الهمزة (إذا كانت في جملة معطوفة بالواو أو بالفاء أو بثم قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التقدير ، نحو : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا) [الأعراف : ١٨٥]) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) [محمد : ١٠](أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [يونس : ٥١] فساق الأمثلة الثلاثة مرتبة على ترتيب الممثل له في الذكر وكان الأصل أن يقال : وألم ينظروا ، فألم يسيروا ، وأثم إذا ما وقع ؛ لأن أول الاستفهام جزء من جملة الاستفهام ، وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل ، والعاطف لا يتقدم عليه جزء مما عطف ، ولكن خصت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على رسوخ تقدمها في التصدر ؛ لأنها أصل أدوات الاستفهام (وأخواتها) أي : أخوات الهمزة من بقية أدوات الاستفهام (تتأخر) والأولى يتأخرن كما في الأجذاع انكسرن فإنه أقل من انكسرت حيث هو جمع قلة ، والأخوات كذلك فينبغي أن يقال : يتأخرن (عن حرف العطف كما هو قياس جميع أجزاء الجملة المعطوفة) من تأخرها عن العاطف ، (نحو (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) [التكوير : ٢٦] (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [الأنعام : ٩٥] ، (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) [الأحقاف : ٣٥] (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) [الأنعام : ٨١] (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨] هذا) الذي ذكرناه من أن الهمزة مقدمة على العاطف لفظا

٦٠