شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

هذا مذهب سيبويه والجمهور ، وخالفهم جماعة أوّلهم الزّمخشري ، فزعموا أن الهمزة في تلك المواضع في محلّها الأصليّ ، وأنّ العطف على جملة مقدّرة بينها وبين العاطف ، فيقولون : التّقدير في (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) [يوسف : ١٠٩ وغيرها] ، (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥] (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) [آل عمران : ١٤٤] (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨) [الصافات : ٥٨] : أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا ، أتؤمنون به في حياته فإن مات أو قتل انقلبتم ، أنحن مخلّدون فما نحن بميّتين ، ويضعف قولهم ما فيه من التكلّف ، وأنّه غير مطّرد في جميع المواضع.

______________________________________________________

لغرض التنبيه على تمام التصدير ، مؤخرة عنه حكما هو (مذهب سيبويه والجمهور ، وخالفهم جماعة أولهم الزمخشري) ولو قال : منهم لكان حسنا فقد نقل عمن سبق الزمخشري أنه قال بذلك ، (فزعموا أن الهمزة في تلك المواضع في محلها الأصلي) ولا تقديم ولا تأخير (وأن العطف على جملة مقدرة بينها وبين العاطف ، فيقولون : التقدير في (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) [يوسف : ١٠٩] (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) [الزخرف : ٥] (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) [آل عمران : ١٤٤] (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨) أمكثوا فلم يسيروا) وهذا هو التقدير في الآية الأولى (أنهملكم فنضرب عنكم الذكر صفحا) وهذا هو التقدير في الآية الثانية.

(أتؤمنون به في حياته فإن مات أو قتل انقلبتم) وهذا هو التقدير في الآية الثالثة.

(أنحن مخلدون فما نحن بميتين) وهذا هو التقدير في الآية الرابعة ، والعطف في هذه وفي الآية الأولى والثانية تفسيري ، وأما في الآية الثالثة فعلى الأصل ، وقد ساق المصنف التقدير على طريق اللف والنشر المرتب ، وكان ينبغي أن يقول التقدير : في كذا وكذا فيأتي بحرف العطف في الموضعين ، وليس حذف العاطف من مثل هذا بمقيس حتى يرتكبه ، فإن قلت وكذا فعل في قوله فيما سبق نحو أفلم ينظروا ، أفلم يسيروا ، أثم إذا ما وقع فهلا أوردت ذلك عليه هناك ، قلت : الفرق واضح ، وذلك أن نحو : خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ، أي تقديم الهمزة على العاطف نحو كذا ، نحو كذا ، فهي أخبار متعددة كل منها خبر مستقل ، نحو زيد قائم وقاعد فيجوز العطف وتركه قياسا ، وغايته أنه حذف هناك مضاف من بعض الأمثلة لدلالة ما تقدم عليه ، أي نحو : أفلم يسيروا أثم إذا ما وقع.

(ويضعف قولهم) شيئان :

أحدهما : (ما فيه من التكليف.

و) الثاني (أنه غير مطرد) في جميع المواضع.

٦١

أما الأول فلدعوى حذف الجملة ، فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال : إنه أسهل منه ؛ لأن المتجوّز فيه على قولهم أقلّ لفظا ، مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء ، أي في أصالة الهمزة في التصدير ، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]

______________________________________________________

(أما الأول) وهو التكلف (فلدعوى حذف الجملة) وفيه نظر لأن هذه الجملة معطوف عليها ، وحذف المعطوف عليه لقرينة جائز جملة كان أو غير جملة ، ولا تكلف فيه وقد يجاب بأن التكلف إنما جاء من قبل خصوصية واقعة قبل حذف المعطوف عليه ، وذلك لأن مثل هذا التركيب في القرآن واقع وغيره كثيرا ، ولم يصرح في شيء من صوره بهذا المحذوف فادعاء حذفه والحالة هذه تكلف.

قال ابن مالك : المدعي لحذف شيء يصح المعنى بدونه لا تصح دعواه حتى يكون موضع ادعاء الحذف صالحا للثبوت ، ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف ، وما نحن بصدده يخالف ذلك فمن ثم جاء التكلف ، (فإن قوبل) هذا الوجه (بتقديم بعض المعطوف) الذي ارتكبه الجمهور حيث جعلوا الهمزة من جملة أجزاء المعطوف ، ولكنها قدمت على العاطف ، ولا شك أن هذا التقديم على خلاف الأصل ، كما أن الحذف كذلك (فقد يقال : إنه) أي : تقديم الهمزة (أسهل) من حذف الجملة (لأن المتجوز فيه على قولهم) أي : قول الجمهور (أقل لفظا) من المتجوز فيه على قول الحاذفين ، لأن هذا مفرد وذاك جملة ، وقد يعارض بأن هذا المفرد حرف والتجوز في الحروف قليل (مع أن في هذا التجوز) بتقديم الهمزة على مركزها الأصلي (تنبيها على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدير) والترجيح بهذا الوجه غير قوي فتأمله.

(وأما الثاني) وهو عدم الاطراد (فلأنه غير ممكن في نحو) قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ولذا قال ابن قاسم في «الجنى الداني» : وفيه نظر أما أولا فلا نسلم عدم الإمكان فيه إذ يجوز أن يجعل من مبتدأ خبره محذوف وهو لم يوحدوه ، وتجعل هذه الجملة معطوفة على جملة محذوفة تناسب المقام ، والتقدير : أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه ، والهمزة للإنكار التوبيخي.

وأما ثانيا فلأنه على تقدير عدم إمكانه فقد يقال : بأن ما تقوله الجماعة غير ممكن أيضا في قوله تعالى : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة : ١٠٠] إذ لا مجال لعطفه على ما تقدم عليه ، وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ ٩٩) [البقرة : ٩٩] فيتعين المصير إلى جعل الهمزة داخلة على معطوف عليه محذوف ، تقديره : أكفروا بالآيات البينات وكلما عاهدوا عهدا نبذه ، أي نقضه ورفضه ، وإنما قال فريق منهم لأن منهم من لم

٦٢

وقد جزم الزمخشريّ في مواضع بما يقوله الجماعة ، منها قوله في : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] : أنه عطف على (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف : ٩٥] وقوله في : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا) [الواقعة : ٤٧ ـ ٤٨] فيمن قرأ بفتح الواو : إن (آباؤُنَا) عطف على الضمير في (لَمَبْعُوثُونَ ،) وأنه اكتفى بالفصل بينهما بهمزة الاستفهام ،

______________________________________________________

ينقض ، وفي «حاشية الكشاف» في تفسير سورة «الأعراف» ما نصه : وقال بعض المحققين : إن الواو والفاء وثم إذا دخلت عليها همزة الاستفهام ليست عاطفة على معطوف مقدر ، إذ لو كان كذلك كان وقوعها في أول الكلام قبل أن يتقدم ما يكون معطوفا عليه ، ولم يجد ذلك مستعملا بل لا بد من أن يكون مبنيا على كلام متقدم ، إلى هنا كلامه.

(وقد جزم الزمخشري في مواضع بما يقوله الجماعة) سيبويه والجمهور (منها : قوله في : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) [الأعراف : ٩٧] أنه عطف على (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) [الأعراف : ٩٥]) بفتح الهمزة من أنه على جعل القول بمعنى الاعتقاد ، أو بمعنى الجزم وحذف الجار ، ولا وجه لكسر الهمزة على الحكاية اللفظية لأن ذلك لم يقع في كلام الزمخشري بهذه العبارة ، حتى يحكى ، وإنما قال ما نصه : والفاء والواو في أفأمن وأو أمن حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار ، فإن قلت : ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟

قلت : المعطوف عليه قوله فأخذناهم بغتة ، وقوله ولو أن أهل القرى إلى يكسبون وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه ، وإنما عطف بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون ، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى ، إلى هنا كلامه.

(و) منها (قوله في (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ٤٧ أَوَآباؤُنَا) [الواقعة : ٤٧ ـ ٤٨] فيمن قرأ بفتح الواو إن آباؤنا عطف على الضمير في مبعوثون ، وأنه اكتفى بينهما بالفصل بهمزة الاستفهام) والهمزة من أو آباؤنا وأنه اكتفى مفتوحة على ما مر ، ولا سبيل إلى الكسر على الحكاية اللفظية ، فإن ذلك لم يقع في كلام الزمخشري بهذا النص ، وأقر المصنف هذا الكلام ولم يتعقبه على ما فيه من المناقشة ؛ وذلك لأن قضية قوله إن آباؤنا عطف على الضمير في مبعوثون أن يكون من عطف المفردات ، والهمزة إنما تدخل على الجملة لا على المفرد ، ولو دخلت على المفرد المعطوف لكان عامل المعطوف عليه عاملا فيما بعدها بواسطة العاطف ، وهمزة الاستفهام مانعة وليس المحل محل تعليق ، فيتعين حينئذ أن يكون آباؤنا مبتدأ خبره محذوف أي مبعوثون ، لدلالة ما قبله عليه والعطف إذ ذاك من عطف الجمل ، وقد يجاب عنه بما سيذكره قريبا عن الطيبي إن شاء الله تعالى.

٦٣

وجوّز الوجهين في موضع ، فقال في قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) [آل عمران : ٨٣] : دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، ثم توسّطت الهمزة بينهما ، ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولّون فغير دين الله يبغون.

فصل

قد تخرج عن الاستفهام الحقيقيّ ، فترد لثمانية معان

أحدها : التّسوية ، وربّما توهّم أن المراد بها الهمزة الواقعة بعد كلمة «سواء»

______________________________________________________

(وجوّز الوجهين في موضع فقال : في : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) [آل عمران : ٨٣] دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، ثم توسطت الهمزة بينهما ويجوز أن يعطف على محذوف أي : أيتولون فغير دين الله يبغون) وما حكاه عنه في الوجه الأوّل مشكل ، وإنما جاء الإشكال من جهة نقل الكلام على غير ما هو عليه ، وتقرير الإشكال : أن دخول الهمزة على الفاء هو نفس توسطها بين الجملتين ، فكيف يعطف توسطها على دخولها بحرف العطف المقتضي للترتيب وللتراخي ، ونص ما في «الكشاف» : دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة ، والمعنى : فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون ، ثم توسطت الهمزة بينهما ، هذا كلامه ولا إشكال فيه ، قلت : في دعوى المصنف أن الزمخشري في بعض المواضع جزم بما تقوله الجماعة من جواز الوجهين نظر ؛ وذلك لأن ظاهر كلامه في مواضع من «الكشاف» أن الهمزة داخلة على العاطف المذكور من غير أن يكون هناك تقديم وتأخير ، وهذا مكشوف من قوله في (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قبلها على معنى السببية ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلوّ الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه بموت أو قتل مع علمهم أن خلو الرسل قبله ، وبقاء دينهم متمسكا به يجب أن يجعل سببا للتمسك بدين محمد عليه الصلاة والسّلام ، وقد صرح الطيبي بأن الهمزة في مثل ذلك مقحمة مزيدة للإنكار أو غيره مما يصح اعتباره بحسب المقامات ، وبهذا يتأتى الجواب عن الإشكال الذي أسلفناه قريبا فيقال : إذا كانت الهمزة مقحمة مزيدة فلا نسلم أنها مانعة من عمل ما قبلها فيما بعدها فتأمله.

(فصل : قد تخرج الهمزة عن الاستفهام الحقيقي فترد لثمانية معان) أي : لأحد ثمانية معان ، واستعمالها حينئذ في واحد من تلك المعاني الثمانية استعمال في غير ما وضعت له ، فيكون ذلك من قبيل المجاز قال بعض المتأخرين : وتحقيق هذا المجاز وبيان أنه من أي نوع من أنواعه مما لم يحم أحد حوله ، وقد حاول بعض تحقيق ذلك في بعض المواضع بما لا يخلو من كلفة كما ستراه.

(أحدها التسوية وربما توهم) بالبناء للمفعول (أن المراد بها الهمزة الواقعة بعد كلمة سواء

٦٤

بخصوصها ، وليس كذلك ، بل كما تقع بعدها تقع بعد «ما أبالي» ، و «ما أدري» ، و «ليت شعري» ، ونحوهنّ ، والضابط : أنّها الهمزة الدّاخلة على جملة يصحّ حلول المصدر محلّها ، (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] ، ونحو : «ما أبالي أقمت أم قعدت». ألا ترى أنّه يصحّ : سواء عليهم الاستغفار وعدمه ،

______________________________________________________

بخصوصيتها) بضم الخاء المعجمة وبفتحها أيضا وتشديد الباء ، والحامل على هذا التوهم تخيل أن التسوية مأخوذة من كلمة سواء (وليس كذلك بل كما تقع بعدها تقع بعد ما أبالي) نحو ما أبالي أقمت أم قعدت ، فالذي يظهر لي أن الجملة الواقعة بعدها في محل نصب والفعل معلق قال الجوهري : وقولهم : لا أباليه أي لا أكترث به انتهى. فهو فعل معد بنفسه ويقرب من معنى الفعل القلبي ؛ لأن معنى لا أكترث به لا أفكر فيه ازدراء به فجاء التعليق من هذه الجهة ، (وما أدري) وتسليم المصنف لصحة وقوع همزة التسوية بعد ما أدري معارض لرده على ابن الشجري فيما يأتي عند الكلام على أم ، وذلك أن ابن الشجري ادعى أن الهمزة للتسوية في قول زهير :

وما أدري وسوف أخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء (١)

فرده المصنف بأن هذا غلط نشأ من توهمه أن معنى الاستفهام فيه غير مقصود ألبتة لمنافاته لفعل الدراية ، وستقف عليه إن شاء الله تعالى.

(وليت شعري) نحو : ليت شعري أسافر زيد أم أقام ، (ونحوهن) نحو لا أفكر أقمت أم قعدت ، والظاهر أن الهمزة الواقعة بعد ما أدري وليت شعري ونحوهما للاستفهام لا للتسوية كما ستراه إن شاء الله تعالى ، وقد قال الرضي : وأما همزة التسوية وأم التي للتسوية فهما اللتان تليان قولهم سواء وقولهم ما أبالي ، وتصرفان نحو قولك : سواء علي قمت أم قعدت ، ولا أبالي أقام أم قعد ، فقصرهما على ما ذكر دون ما أدري وليت شعري ونحوهما (والضابط أنها الهمزة الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها) وظاهر هذا يقتضي أن المصدر واقع موقع الجملة بدون الهمزة ، وليس كذلك بل هو قائم مقامهما جميعا (نحو : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] ونحو ما أبالي أقمت أم قعدت ، ألا ترى أنه يصح : سواء عليهم الاستغفار وعدمه) فسواء خبر مقدم ، والجملتان في تقدير مفردين متعاطفين بالواو ، وأوّلهما مبتدأ والثاني معطوف عليه ، وادّعى الرضي أن سواء خبر لمحذوف أي الأمر أن سواء والجملتان بيان لذينك الأمرين ، وسيأتي في حرف السين كلام في ذلك.

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لزهير بن أبي سلمى ، انظر ديوانه ص ٧٣ ، والدرر ٢ / ٢٦١ ، وشرح شواهد المغني ص ١٣٠ ، وخزانة الأدب للحموي ١ / ٢٧٨.

٦٥

وما أبالي بقيامك وعدمه.

[الثاني : الإنكار الإبطاليّ]

والثاني : الإنكار الإبطاليّ : وهذه تقتضي أنّ ما بعدها غير واقع ، وأن مدّعيه كاذب ، ونحو : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [الإسراء : ٤٠] ،

______________________________________________________

(وما أبالي بقيامك وقعودك) وفي بعض النسخ وعدمه مكان وقعودك ، واستعمل المصنف أبالي متعديا بالباء ، وقد تقدم عن الجوهري ما يقتضي أنه متعد بنفسه وكذا في «القاموس» ولم يذكر تعديته بالباء فحرره ، قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : وقولهم لا أبالي به قد استعملوه في هذه الكتب وغيرها وهو صحيح ، وقد أنكره بعض المحدثين من أهل زماننا ، وزعم أن الفقهاء يلحنون في هذا وأن الصواب لا أباليه ، وأنه لم يسمع من العرب إلا هكذا ، وغلط الزاعم بل أخبرنا بجهالته وقلة بضاعته ، يقال : لا أبالي به وهو صحيح مسموع عن العرب ، وقد روى الحافظ الخطيب أبو بكر البغدادي الإمام ، في أول كتابه «أدب الفقيه» بإسناده عن معاوية رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ومن لم يبال به لم يفقهه) (١) ورويناه هكذا في «حلية الأولياء» وثبت في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يبالي بتأخير العشاء» (٢) ، هكذا في «الصحيحين» بالياء ، وثبت في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال من حلال أم من حرام) (٣) ذكره في باب قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [آل عمران : ١٣٠] في أول كتاب البيوع وثبت في «صحيح مسلم» و «أبي داود» في «كتاب الجنائز» منهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر على امرأة تبكي على صبي لها فقال : «اتقي الله واصبري ، فقالت : وما تبالي بمصيبتي» (٤).

(الثاني) من المعاني الثمانية (الإنكار الإبطالي وهذه تقتضي أن ما بعدها غير واقع وأن مدعيه كاذب ، نحو (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [الإسراء : ٤٠]) وأورد السبكي في

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن معاوية بن أبي سفيان ، وعزاه لأبي يعلى ١ / ١٨٣ ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٢١٩.

(٢) أخرجه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب وقت الظهر عند الزوال (٥٤١) ، ومسلم ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب استحباب التكبير في الصبح ... (٦٤٧).

(٣) أخرجه البخاري ، كتاب البيوع ، باب قوله الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) (٢٠٨٣).

(٤) أخرجه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى (٩٢٦) ، وأبو داود ، كتاب الجنائز ، باب الصبر عند الصدمة (٣١٢٤).

٦٦

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ١٤٩) [الصافات : ١٤٩] ، (أَفَسِحْرٌ هذا) [الطور : ١٥] ، (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] ، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات :

______________________________________________________

هذه الآية سؤالا فقال : المنكر ما يلي الهمزة على ما تقرر ، والذي يليها الإصفاء بالبنين ، وليس هو المنكر إنما المنكر قولهم : إنه اتخذ من الملائكة إناثا ، وأجاب بأنه إما أن يقال : إن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم ، وإما أن يقال : المراد مجموع الجملتين ، فينحل منهما كلام واحد ، والتقدير : أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات وتكون الواو فيه للمعية ، لأن زعمهم لمجموع الجملتين أفحش من اقتصارهم على واحدة منهما وإن كانت فاحشة ، ونحو (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) [الصافات : ١٤٩] والظاهر أن هذه الجملة المقترنة بالهمزة في محل مفعول مقيد بالجار على ما قرروه والفعل معلق ؛ لأن الاستفتاء طريق إلى العلم ، كالسؤال فجاز تعليقه كما علق فعل السؤال ، نحو : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ ٤٠) [القلم : ٤٠] فإن قلت جيء في الآية الأولى وهي قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) [الإسراء : ٤٠] بالجملة الفعلية وقدم الكلام في أمر البنين على الإناث ، وجيء في الآية الثانية بالجملة الاسمية ، وقدم الكلام في شأن البنات على البنين فما الحكمة؟

قلت : يمكن أن يقال لما خوطب في الآية الأولى الكفار قدم ما يتعلق بهم وهو دعواهم الإيثار بالذكور والاختصاص بهم ، وجيء بالماضوية إشارة إلى أن ما يدعونه من ذلك أمر قد تحقق ودخل في الوجود ، ولما خوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية الثانية بالأمر في استفتائهم فيما يدعونه في هذه القضية الشنعاء قدم في الاستفتاء أبشع الأمرين ، وأشنعهما ، وهو دعواهم اختصاص الإله الحق بالبنات جل وتعالى ، وأورد السؤال بالاسمية لتأكيد الشناعة وتقريرها حيث ادعوا في هذا الأمر الباطل أنه ثابت مستقر والله تعالى أعلم.

ونحو : (أَفَسِحْرٌ هذا) [الطور : ١٥] وهذا من قبيل ما زعموه صريحا وكذبوا نفيه ونحو (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] وهذا من قبيل ما زعموه لا بطريق الصراحة ، بل ألزموا به إلزاما وذلك بأنهم لما جزموا بكون الملائكة إناثا جزم من شاهد خلقهم كانوا كمن زعم أنه قد شهد خلقهم.

ونحو (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات : ١٢] وفي هذا الكلام مبالغات.

منها الاستفهام الإنكاري ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم إشعارا بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان حتى جعل الإنسان أخا ، ومنها أنه لم يقتصر على لحم الأخ

٦٧

١٢] ، (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥] ، ومن جهة إفادة هذه الهمزة نفي ما بعدها لزم ثبوته إن كان منفيّا ، لأن النّفي إثبات ، ومنه : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] ، أي الله كاف عبده ؛ ولهذا عطف مدخول الواو من (وَوَضَعْنا) [الشرح : ٢] على (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) [الشرح : ١] لما كان معناه شرحنا ؛ ومثله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَوَضَعْنا أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ٦ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) [الضحى : ٦ ـ ٧] ، (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ٢ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (٣) [الفيل : ٢ ـ ٣] ، ولهذا أيضا كان قول جرير في عبد الملك [من الوافر] :

______________________________________________________

حتى جعله ميتا كذا في «المدارك» وقال ابن الحاجب في الأمالي : إنه تعالى لما نهى عن الغيبة شبهها بما هو مكروه من معتادهم وهو أكل لحم المغتاب ميتا ، وأتى به على صيغة الإنكار تنبيها على أنه مما لا يفعلونه ، ثم كان ذلك التشبيه سببا لذكر تحقق الكراهة ، فقال بعد ذلك فكرهتموه ، فكان ذكر تحقق الكراهة لما نهي عنه وثبوتها مسببا عن هذا التشبيه الذي قصد به تأكيد كراهة ما نهي عنه ، إذ به يتحقق توبيخهم في وقوعهم في الغيبة المشبهة بما يأتونه ويكرهونه.

ونحو (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) [ق : ١٥] أي لم نعي ولم نعجز عن الخلق الأول فكيف نعجز عن الثاني ، يقال : عني بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله.

(ومن جهة إفادة هذه الهمزة نفي ما بعدها لزم ثبوته إن كان منفيا لأن نفي النفي إثبات) ضرورة أنه لا واسطة بين النفي والإثبات ، فإذا انتفى أحدهما لزم تحقق الآخر وثبوته.

(ومنه (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦]) فأفادت الهمزة المذكورة نفي عدم كفاية عبده فلزم بالضرورة إثبات كفايته إياه (أي : الله كاف عبده ، ولهذا عطف) مدخول الواو من (ووضعنا على (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ) [الإنشراح : ١] لما كان معناه شرحنا) فيه نظر من جهة أنه جعل العلة في عطف وضعنا على ألم نشرح كونه في معنى شرحنا ، أو ذلك يقتضي أن النفي لو لم يكن مؤولا بالإثبات لم يصح العطف ، وليس كذلك إذ لا نزاع في صحة العطف في نحو لم يجيء زيد وأكرمته ، ويمكن أن يجاب عنه بأن معناه ولهذا أي لكونه خبرا باعتبار أنه للإنكار الإبطالي جاز عطف وضعنا عليه من حيث كونه خبرا ، لا من حيث كونه مثبتا بحسب المعنى ، (ومثله (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ٦ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) [الضحى : ٦ ـ ٧] (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ٢ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (٣) [الفيل : ٢ ـ ٣]) والكلام في هذا كالأول سؤالا وجوابا (ولهذا كان قول جرير في عبد الملك) ابن مروان :

٦٨

١١ ـ ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

مدحا ، بل قيل : إنه أمدح بيت قالته العرب ، ولو كان على الاستفهام الحقيقيّ لم يكن مدحا البتّة.

والثّالث : الإنكار ، التوبيخيّ ، فيقتضي أنّ ما بعدها واقع ، وأن فاعله ملوم ، نحو : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] ، (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : ٤٠] ، (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) (٨٦) [الصافات : ٨٦] ، (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) [الشعراء : ١٦٥] ، (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) [النساء : ٢٠] ، وقول العجّاج [من الرجز] :

______________________________________________________

(ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح) (١)

المطايا : جمع مطية وهي الدابة تمطو في سيرها أي تسرع ، وأندى : أسخى ، والراح : الأكف الواحد راحة ونسب السخاء إلى بطونها ؛ لأن العطاء كثيرا ما يكون بها ، (مدحا بل قيل : إنه أمدح بيت قالته العرب) على ما نقله ابن الشجري في أماليه ولو لا صراحته في المدح وعلوه في بابه لما ارتاح له الممدوح ، حتى قال : من أراد أن يمدحنا فليمدحنا بمثل هذا ، وأعطى جريرا على ذلك مائة من الإبل (ولو كان على الاستفهام الحقيقي لم يكن مدحا البتة) وهي بمعنى القول المقطوع ، قال الرضي : وكأن اللام فيها في الأصل للعهد أي القطعة المعلومة التي لا تردد فيها ، فالتقدير هنا أجزم بهذا الأمر وهو أنه لو كان على حقيقة الاستفهام لم يكن مدحا قطعة واحدة ، والمعنى أنه ليس فيها تردد بحيث أجزم ثم يبدو لي ثم أجزم به مرة أخرى فيكون قطعتين أو أكثر ، بل هو قطعة واحدة لا يثنى فيها النظر ، فالبتة بمعنى القطعة ، ونصبها نصب المصادر.

(والثالث الإنكار التوبيخي فيقتضي أن ما بعدها واقع وأن فاعله ملوم) نحو (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] ونحو (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) [الأنعام : ٤٠] ونحو (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) [الصافات : ٨٦] إفكا مفعول لأجله والتقدير : أتريدون آلهة دون الله إفكا ، وإنما قدم على الفعل والمفعول اعتناء بشأنه ؛ لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم ، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به أي أتريدون إفكا ثم فسر بقوله : (آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) على أنها إفك في نفسها أو حالا أي أتريدون آلهة من دون الله آفكين ، ونحو (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) [النساء : ٢٠] وإثما مبينا والبهتان : أن تستقبل الإنسان بأمر قبيح تقذفه [به] وهو برىء منه ؛ لأنه يبهت عند ذلك ، أي يتحير ، وانتصب بهتانا على الحال أي باهتين وآثمين (و) نحو : (قول العجاج) بجر قول

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٨٥ ، والجنى الداني ص ٣٢ ، والأغاني ٨ / / ٩ ، وخزانة الأدب للحموي ٢ / ٣١٣.

٦٩

١٢ ـ أطربا وأنت قنّسريّ

والدّهر بالإنسان دوّاريّ

أي أتطرب وأنت شيخ كبير؟

والرابع : التقرير ، ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقرّ عنده ثبوته أو نفيه ، ويجب أن يليها الشيء الذي تقرره به ،

______________________________________________________

عطف على المضاف إليه المتقدم ، وبالرفع عطف على نفس المضاف المرفوع ، ولكن على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما قدرناه.

(أطربا وأنت قنسري

والدهر بالإنسان دواري (١)

أي : أتطرب وأنت شيخ كبير) فطربا مصدر مؤكد لفعل محذوف أي : أتطرب أو مفعول به لمحذوف ، أي : أتأتي والجملة بعده حالية ، وقنسري بقاف مكسورة ونون مشددة إما مفتوحة وإما مكسورة ، والسين ساكنة معهما ، ويحتمل أن يكون بقاف مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة والسين مفتوحة ، والمراد بذلك كله الشيخ الكبير قاله الشيخ ، ودوار صيغة مبالغة في اسم الفاعل من دار يدور ، وزيدت ياء النسب للمبالغة أيضا كقولهم في الخارج : خارجي والأحمر أحمري وفي الأعجم أعجمي.

(والرابع التقرير ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف) وهذا من قبيل عطف أحد المترادفين على الآخر وقد عرفت وجهه في أول هذا الشرح (بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه) ليقر بما يعرفه من ذلك (ويجب أن يليها الشيء الذي تقرّره به) هكذا قاله غير واحد من علماء البيان ، وذكر المصنف هنا وفي الكلام على أم أن ذلك يجب في الاستفهام أيضا وقد ذكره ابن الحاجب وغيره ، قلت : وفي كتاب سيبويه ما نصه : هذا باب أم إذا كان الكلام بها بمنزلة أيهما وأيهم وذلك قولك : أزيد عندك أم عمرو وأزيد لقيت أم بشرا ثم قال : واعلم أنك إذا أردت هذا المعنى فتقديم الاسم أحسن ؛ لأنك لا تسأل عن النفي وإنما تسأل عن أحد الاسمين في هذا الحال فبدأت بالاسم ؛ لأنك بصدد أن تبين أي الاسمين عنده وجعلت الاسم الآخر عديلا للأوّل ، فصار النفي لا يسأل عنه بينهما ولو قلت : ألقيت زيدا أم عمرا لكان جائزا حسنا ، هذا كلامه ، وحسبك به شاهدا على خلاف ما ذهبوا إليه من وجوب إيلاء المستفهم عنه للهمزة ويأتي مثله في التقرير ، وقد اطلع الرضي على نص سيبويه في المسألة فأورد الحكم فيها على مقتضاه ، قلت : والعجب من الشيخ بهاء الدين

__________________

(١) البيت من بحر الرجر ، وهو للعجاج ، انظر البيان والبيتن ١ / ١٩٩.

٧٠

تقول في التقرير بالفعل : «أضربت زيدا؟» وبالفاعل : «أأنت ضربت زيدا» ، وبالمفعول : «أزيدا ضربت» ، كما يجب ذلك في المستفهم عنه ، وقوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) [الأنبياء : ٦٢] محتمل لإرادة الاستفهام الحقيقي ، بأن يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل ، ولإرادة التقرير ، بأن يكونوا قد علموا ، ولا يكون استفهاما عن الفعل ولا تقريرا به ؛

______________________________________________________

النحاس فإنه ساق في تعليقه على المقرب قول ابن عصفور : والأحسن فيها توسط الذي لا يسأل عنه ، ويجوز تقديمه ويجوز تأخيره فقال : ولهذا الأمر جعله ابن الحاجب شرطا ، ونص فيه على أنه يجب أن يلي أحد المتعادلين الهمزة والآخر أم ، فيجب عنده أن يقول : أزيد عندك أم عمرو بتأخير عندك عن زيد ، ولا يجوز تقديمه عنده أصلا ، والمصنف ـ يعني ابن عصفور ـ ذكر جواز تقديمه فتحصلنا من هذين الكلامين على تردد في أنه شرط أولا ، انتهى. فغفل رحمه‌الله عن نص سيبويه على المسألة بعينها مع أن هذا الرجل ممن اشتهر بمعرفة الكتاب فطار ذكره بذلك (فتقول في التقرير بالفعل أضربت زيدا) بإيلاء الفعل المقرر به الهمزة (و) في التقرير (بالفاعل أأنت ضربت زيدا) بإيلاء فاعل الضرب الهمزة ، وهذا وإن لم يكن فاعلا صناعيا فهو فاعل معنوي (و) في التقرير (بالمفعول أزيدا ضربت) بإيلاء المفعول المقرر به الهمزة (كما يجب ذلك في المستفهم عنه) فتقول أعندك زيد أم في السوق وأزيد في الدار أم عمرو (وقوله تعالى : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٦٢]) (محتمل لإرادة الاستفهام الحقيقي بأن يكونوا) أي : الكفار (لم يعلموا أنه) أي أن إبراهيم عليه الصلاة والسّلام هو (الفاعل) لكسر الأصنام ، قال صاحب «التلخيص» في إيضاحه : إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه الصلاة والسّلام هو الذي كسر الأصنام ، واعترض بوجوه : أما أولا فلأن الدال لا ينحصر فيما تضمنه السياق ، ولو كانوا كفارا ولم يكن فيهم من يقدم على كسر أصنامهم.

وأما ثانيا فلقوله عليه الصلاة والسّلام بل فعله كبيرهم هذا ، فإن بل في الغالب إذا وقعت الجملة بعدها كانت إضرابا عما قبلها على وجه الإبطال له ، ولو كانت الهمزة للاستفهام المحض لما قصد إبطاله ، بل كأنهم قالوا له : أأنت فعلت فقال : لم أفعل بل فعله كبيرهم.

وأما ثالثا فبالقرائن السابقة مثل لأكيدن أصنامكم ، وقولهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) [الأنبياء : ٦٠] (ولإرادة التقرير بأن يكونوا قد علموا) أنه عليه الصلاة والسّلام هو الذي كسر أصنامهم ، وهذا هو الظاهر بدلالة القرائن السابقة ، وقد روي أنهم خرجوا وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، فلما أبصروه يكسرها أقبلوا عليه يسرعون ليكفوه (ولا يكون) الاستفهام المفاد بالهمزة (استفهاما عن الفعل) وهو كسر الأصنام هل وقع أولا (ولا تقريرا به) بحيث يكون مرادهم حمل

٧١

لأن الهمزة لم تدخل عليه ، ولأنه عليه الصلاة والسّلام قد أجابهم بالفاعل بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣].

فإن قلت : ما وجه حمل الزمخشريّ الهمزة في قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] على التقرير؟

قلت : قد أعتذر عنه بأنّ مراده التقرير بما بعد النفي ، لا التّقرير بالنفي ،

______________________________________________________

إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان (لأن الهمزة لم تدخل عليه) أي : على الفعل فلا يكون للاستفهام عنه ولا للتقرير به ضرورة أنها لو كانت كذلك لوجب إيلاء الفعل لها ولم يول. (ولأنه عليه‌السلام قد أجابهم بالفاعل بقوله : بل فعله كبيرهم هذا) يعني : أنه لو كان الاستفهام عن الفعل أو للتقرير به لكان الجواب قد وقع الكسر أو لم يقع فلما قال : فعله كبيرهم هذا دل على أن المراد التقرير بالفاعل ، وعن الكسائي أنه يقف على فعله ، والفاعل محذوف وهو يجوزه أي : فعله من فعله وكبيرهم هذا مبتدأ وخبر وهذا خروج عما يقتضيه السياق ، وكأنه ارتكبه فرارا مما يلزم من إخبار الصادق بخلاف الواقع ، إذ الكبير لم يفعل الكسر قطعا ، وجوابه كما قال الزمخشري : أنه نسب الفعل إلى كبيرهم وقصده تقريره لنفسه وإثباته لها على وجه تقريعي تبكيتا لهم وإلزاما للحجة عليهم ، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلها وهذا كما يقول لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رشيق أنيق : أأنت كتبت هذا؟ فتقول : بل كتبته أنت وقصدك بهذا الجواب تقريره لك ، مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي ، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر دائر بينكما استهزاء به ، وإثباته للقادر ، ويمكن أن يقال : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه ؛ لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه ، ويجوز أن يكون حكاية لما يعود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : مما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدر على هذا (فإن قلت : ما وجه حمل الزمخشري الهمزة في قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] على التقرير قلت : قد اعتذر) بالبناء للمفعول (عنه) أي : عن الزمخشري (بأن مراده التقرير بما بعد النفي لا التقرير بالنفي) وقد أجاز قوم أن تكون الهمزة في قوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] للإنكار الإبطالي كما تقدم وأن تكون للتقرير أي : لحمل المخاطب على الإقرار بما دخله النفي ، وهو الله كاف عبده لا بالنفي وهو ليس الله ، وكذا قوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) [الشرح : ١](أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) [الضحى : ٦] وما أشبه ذلك فقد يقال : إن الهمزة فيه للإنكار وقد يقال : إنها للتقرير وكلاهما حسن ، فعلم أن التقرير لا يجب أن يكون بالحكم الذي دخلت عليه الهمزة ، بل بما يعرفه المخاطب من

٧٢

والأولى أن تحمل الآية على الإنكار التوبيخيّ أو الإبطاليّ ، أي ألم تعلم أيها المنكر للنسخ.

والخامس : التّهكّم ، نحو : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [هود : ٨٧].

والسادس : الأمر ، نحو (أَأَسْلَمْتُمْ) [آل عمران : ٢٠] أي : أسلموا.

والسابع : التعجّيب ، نحو : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥].

______________________________________________________

ذلك الحكم وعليه قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] فإن الهمزة فيه للتقرير أي : بما يعرفه عيسى من هذا الحكم لا بأنه قال ذلك ، وقد مر تجويز جعلها للاستفهام الحقيقي على ذلك الوجه ، وأنت خبير بأن هذا كله مبني على أنه لا يجب إيلاء المقرر به للهمزة ، وهو خلاف ما صرح به المصنف ولم يحك فيه خلافا وقضية هذا أنه لا يوافق على هذا الاعتذار الذي اعتذر به عن الزمخشري ، لكنه قد وافق على صحته في الجملة بدليل قوله : (والأولى أن تحمل الآية على الإنكار التوبيخي ، أو الإبطالي أي : ألم تعلم أيها المنكر للنسخ) وجه ذلك أن المنكر للنسخ قد يكون معاندا ، وقد يكون غير معاند.

فإن كان الخطاب للكافر المنكر لا على سبيل العناد حمل الاستفهام على الإنكار التوبيخي ، فإن عدم علمه واقع والتوبيخ عليه متوجه.

وإن كان الخطاب للكافر المنكر على وجه العناد والمكابرة حمل الاستفهام على الإنكار الإبطالي ، ضرورة أن علمه واقع بحسب الادعاء ، ولكنه كاذب فيما تضمنه كفره من قوله : إن الله تعالى ليس كذلك.

(والخامس : التهكم) أي الاستهزاء (نحو (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) [هود : ٨٧]) وذلك أن شعيبا عليه الصلاة والسّلام كان كثير الصلاة ، وكان قومه إذا رأوه يصلي تضاحكوا ، فقصدوا بقولهم : أصلواتك تأمرك الهزأة والسخرية ، لا حقيقة الاستفهام تأمل.

(والسادس : الأمر نحو) (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) [آل عمران : ٢٠](أَأَسْلَمْتُمْ) أي : أسلموا لظهور أنه ليس المراد أمره بأن يستفهم حقيقة هل أسلموا أولا ، وإنما المراد أمره إياهم بالإسلام.

(والسابع : التعجيب) على زنة التكريم ، وفي بعض النسخ التعجب على زنة التكرم (نحو (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥]) وقد يقال : التعجب من رؤية كيفية مد الظل ، لا من عدم الرؤية ، وسيأتي جوابه قريبا.

٧٣

والثامن : الاستبطاء ، نحو : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحديد : ١٦].

وذكر بعضهم معاني أخر لا صحّة لها.

______________________________________________________

(الثامن : الاستبطاء نحو (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦]) وقد يقال : الاستبطاء لحضور خشوعهم لا لعدمه ، يقال : أنى يأنى أنياه إذا حضر ، ويجاب بأن الاستبطاء وإن كان متعلقا بالحضور لكنه عدل عن الاستفهام عن الإثبات إلى الاستفهام عن النفي ، إشعارا بأن الراجح من الطرفين هو عدم الحضور ، فعلق به الاستفهام وفيه من المبالغة ما لا يخفى ، وقد ظهر الجواب عما تقدم في التعجيب.

هذا وقد حاول بعض الفضلاء المتأخرين بيان وجه التجوز في بعض الأمور المتقدمة ، فقال : في استعمال الهمزة للإنكار إنكار الشيء بمعنى كراهته والنفرة عن وقوعه في أحد الأزمنة ، وادعاء أنه مما لا ينبغي أن يقع فيه يستلزم عدم توجه الذهن إليه ، المستدعي للجهل به المفضي إلى الاستفهام عنه ، أو تقول : الاستفهام عنه يستلزم الجهل به المستلزم لعدم توجه الذهن إليه ، المناسب لكراهته والنفرة عنه ، وادعاء أنه مما لا ينبغي أن يكون واقعا ، وقس على هذا حال الإنكار بمعنى التكذيب ، وقال في استعمال الهمزة للتقرير : الاستفهام عن المعلوم للمخاطب يستلزم حمله على الإقرار بما هو معلوم منه ، وقال في استعمالها للتهكم : الاستفهام عن كون صلواته آمرة لذلك يناسب ادعاء أن المخاطب معتقد له ، وادعاء اعتقاده إياه يناسب الاستهزاء والتهكم ، وبالجملة استعلام هذه الحال منه يناسب التهكم به والتحقير والتهويل والاستبعاد ، ومناسبة هذه الأمور للاستفهام واضحة ، فإن الاستفهام عن الشيء يستلزم الجهل به ، المناسب لحقارته من وجه لأن الحقير لا يلتفت إليه ، فلا يعلم ولتهويله من وجه آخر ، لأن الأمر الهائل لعظمته وفخامته ينافي أن يحاط به علما ، ولاستبعاد وقوعه أيضا لأن ما هو قريب الوقوع فالأولى أن يكون معلوما ، وقال في استعمال الاستفهام للتعجب الاستفهام عن الشيء يستلزم الجهل به المناسب للتعجب ؛ لأنه كيفية نفسانية تابعة لإدراك الأمور القليلة الوقوع المجهولة الأسباب ، وقال في استعماله للاستبطاء : الاستفهام عن الشيء يستلزم الجهل به ، والجهل به يستلزم استبعاده عادة أو ادعاء ؛ لأن الأنسب بما هو قريب أن يكون معلوما إما بنفسه أو بأماراته ، والأنسب بما هو بعيد أن يكون مجهولا واستبعاده يستلزم استبطاءه ، وقس على ذلك نظائره ، هذا كلامه فتأمله.

(وذكر بعضهم معاني أخر لا صحة لها) والظاهر أن المصنف قصد بهذا الكلام ادعاء أن الاستفهام غير الحقيقي ، الذي تستعمل له الهمزة منحصر في تلك الأمور الثمانية خاصة ، من غير زيادة عليها ، وهذا غير مسلم ، فأي مانع يمنع من أن كلمة الاستفهام عند امتناع حملها على

٧٤

تنبيه ـ قد تقع الهمزة فعلا ، وذلك أنهم يقولون «وأى» بمعنى «وعد» ، ومضارعه يئي بحذف الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ، كما تقول : «وفى يفي» ، و «وقى يقي» ، والأمر منه «إه» ، بحذف اللام للأمر ، وبالهاء للسّكت في الوقف ، وعلى ذلك يتخرّج اللّغز المشهور ، وهو قوله [من الخفيف] :

١٣ ـ إنّ هند المليحة الحسناء ،

وأي من أضمرت لخلّ وفاء

______________________________________________________

حقيقة الاستفهام يتولد لها بمعونة القرائن ما يناسب المقام خارجا عن تلك المعاني الثمانية؟

ألا ترى أنك إذا قلت لمن يسيء إليك ـ وهو يعلم أنك أدبت فلانا على إساءته إليك ، وأن ذلك لم يعزب عن علمك ولا عن علمه أيضا ـ ألم أودب فلانا على إساءته إليّ ؛ فإن المخاطب لا يحمل هذا الكلام منك على حقيقة الاستفهام ، فحينئذ يتولد منه في هذا المقام التهديد والوعيد ، وعلى ذلك فقس.

(تنبيه : قد تقع الهمزة فعلا ، وذلك أنهم يقولون وأى بمعنى وعد ، ومضارعه يئي بحذف الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ، كما تقول وقى يقي) بالقاف أي : صان يصون ، ويجوز أن يضبط بالفاء من الوفاء ضد الغدر (وونى يني) بالنون أي : فتر يفتر (والأمر منه إه بحذف اللام للأمر وبالهاء للسكت في الوقف) وأما في الوصل فتحذف لفظا لا خطا ، فإن وقع قبله ساكن من كلمة ونقلت حركة الهمزة إليه على قياس تخفيف الهمزة قلت : قل بالخير يا زيد أي : عد بالخير وهند قالت بخير يا عمرو فلم يبق من الفعل غير الكسرة في لام قل ، وفي تاء قالت ، وتقول على هذا : يا زيد قلي يا هند فبقيت الحركة والياء بعدها إنما هي ضمير الفاعل الذي كان متصلا بفعل الأمر المحذوف ، ومن هذا يفهم ما نظمته في هذه البلاد في سنة إحدى وعشرين حيث قلت :

تقول يا أسماء قو

لي ثم يا زيد قلي

وذاك جملتان والثاني ثلاث جمل (وعلى ذلك يتخرج اللغز المشهور) بضم اللام وفتح الغين المعجمة وضمها وإسكانها ، وهو ما يعمى به المقصود بحيث يخفى على الناظر فيه إلا بفضل تأمل ومزيد نظر (وهو قوله :

إن هند المليحة الحسناء

وأي من أضمرت لخل وفاء (١)

__________________

(١) البيت من الخفيف وهو ليوسف بن أحمد الصعلي في إنباه الرواة ٤ / ٧٠ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٠١.

٧٥

فإنه يقال : كيف رفع اسم «إنّ» وصفته الأولى؟ والجواب : أن الهمزة فعل أمر ، والنون للتّوكيد ، والأصل : «إينّ» بهمزة مكسورة ، وياء ساكنة للمخاطبة ، ونون مشدّدة للتوكيد ، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع النّون المدغمة كما في قوله [من البسيط] :

١٤ ـ لتقرعنّ عليّ السّنّ من ندم

إذا تذكّرت يوما بعض أخلاقي

و «هند» : منادى مثل (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩] ، و «المليحة» : نعت لها على اللفظ كقوله [من الرجز] :

١٥ ـ يا حكم الوارث عن عبد الملك

______________________________________________________

فإنه يقال كيف رفع اسم إن وصفته الأولى).

مع أن القياس نصبهما وهذا وجه التعمية.

(والجواب : أن الهمزة فعل أمر والنون للتوكيد) وليس الأمر كما توهمه الناظر ، أن مجموعهما حرف بسيط ينصب الاسم ويرفع الخبر.

(والأصل إينّ بهمزة مكسورة وياء ساكنة للمخاطبة ، ونون مشددة للتوكيد ، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع النون المدغمة كما في قوله :

لتقرعن عليّ السن من ندم

إذا تذكرت يوما بعض أخلاقي) (١)

قرع السن ضغطها ، والندم التأسف على فوات أمر ، أو الوقوع فيه والتذكر التفعل من الذكر القلبي ، والمراد باليوم هنا قطعة من الزمان كائنة ما كانت ، والأخلاق جمع خلق بخاء معجمة مضمومة ولام ساكنة ، أو مضمومة وقاف وهو السجية والطبع.

(وهند : منادى) حذف حرف ندائه أي : يا هند.

(مثل : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) [يوسف : ٢٩]) أي : يا يوسف ، وإنما قدرت يا دون غيرها من أحرف النداء ، لأنها أعم تلك الحروف وأكثرها دورا في كلامهم ، والحذف نوع من التصرف فينبغي أن يكون موقعه ما كثر دون غيره.

(والمليحة نعت لها على اللفظ كقوله :

يا حكم الوارث عن عبد الملك) (٢)

بضم حكم لكونه منادى معرفة ، والوارث مرفوع على أنه صفة له على اللفظ والجماعة

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لتأبط شرا ، انظر ديوانه ٣٠ ، والأغاني ٢١ / ١٤٤.

(٢) صدر بيت في الزجر ، عجزه ميراث أحساب وجود منسفك ، وهو لرؤبة بن العجاج ، انظر : ديوانه ١٩.

٧٦

و «الحسناء» : إما نعت لها على الموضع كقول مادح عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه [من الوافر] :

١٦ ـ يعود الفضل منك على قريش

وتفرج عنهم الكرب الشّدادا

______________________________________________________

معترفون بأن هذه الضمة إعرابية ، وأن الإتيان بها على خلاف القياس ، إذ المبني إنما يتبع باعتبار محله في الإعراب لا باعتبار لفظه في البناء ، ألا ترى أنك تقول هؤلاء الكرام بضم الميم اعتبارا لمحل هؤلاء من الإعراب ، ولا تكسر الميم اعتبارا بالكسرة البنائية التي في لفظه آخرا واعتذر بعضهم عن ذلك بأن ضمة المنادى لما كانت تحدث بحدوث حرف النداء ، وتزول بزواله كانت كالرفع من حيث إنها عارضة ، كما أن الرفع عارض ، وصارت أداة النداء كالعاملة لتلك الضمة فجاز لأجل هذا المعنى الإتباع على اللفظ.

وفي «اللباب» أن الضم لاطراده هنا أشبه الرفع ، واعترضه بعض الشارحين بأن الاطراد ليس سببا لجري المعرب على لفظ المبني ، فإن كسرة نحو هؤلاء وأمس مطردة ، ومع ذلك لا توجب إجراء الصفة على لفظه.

وأجاب صاحب «العباب» بأن نحو هؤلاء وأمس ليس بداخل تحت ضابط كلي ، حتى يقال إن كسرته مطردة ، إذ ليس كل ما كان للجمع من أسماء الإشارة كهؤلاء ، أو ظرفا كأمس يكون البناء فيه على الكسر ، قلت : هذا جواب خاص بهذين اللفظين المعينين ، وليس بمطرد إذ لو أورد الشارح الأوّل فعال لسب المؤنث في باب النداء نحو يا فساق ، ويا خباث فإنه مبني على الكسر قياسا مطردا بلا نزاع لم يتأت للشارح الثاني هذا الجواب البتة ، وبعد فالرفع في التابع المفرد في مثل هذه الصورة مشكل جدا على مقتضى قولهم : إن الحركة إعرابية ، وتقرير الإشكال : أن كل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ، وهنا لا يصح أن يكون العامل المحدث لحركة هذا التابع المرفوع هو العامل في المتبوع ولا نظيره ، إذ عامل المنادى أدعو مثلا ، وهو يقتضي النصب لا الرفع ، وقول القائل : حرف النداء كالعامل ترويج لا يلتفت إليه ، وقولهم : شبهت ضمة المنادى لعروضها بضمة الإعراب لا يغني في دفع السؤال شيئا ، ولم أقف إلى الآن على جواب لهذا الإشكال قلت : وإنما نشأ من التزامهم أن حركة التابع حركة إعراب ، وإلا فلو قيل : بأنها حركة إتباع لا حركة إعراب ولا بناء لكان حسنا ولم يتجه هذا الإشكال أصلا.

(والحسناء إما نعت لها على الموضع كقول مادح عمر بن عبد العزيز رضي‌الله‌عنه :

يعود الفضل منك على قريش

وتفرج عنهم الكرب الشدادا (١)

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لجرير ، انظر خزانة الأدب للبغدادي ، الشاهد (٧٦٤).

٧٧

فما كعب بن مامة وابن سعدى

بأجود منك ، يا عمر الجوادا

وإما بتقدير : «أمدح» ، وإمّا نعت لمفعول به محذوف ، أي : عدي يا هند الخلّة الحسناء ؛ وعلى الوجهين الأوّلين فيكون إنما أمرها بإيقاع الوعد الوفيّ ، من غير أن يعيّن لها الموعود ؛ وقوله : «وأي» مصدر نوعيّ منصوب بفعل الأمر ، والأصل : «وأيا» مثل «وأي من» ؛ ومثله (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] ، وقوله : «أضمرت» بتاء التأنيث محمول على معنى «من» مثل «من» كانت أمّك»؟

* * *

______________________________________________________

فما كعب بن مامة وابن سعدى

بأجود منك يا عمر الجوادا

) الفضل الإحسان ، وقريش القبيلة المشهورة ، وتفرج بضم الراء مضارع فرج الغمة إذا كشفها ، والكرب بضم الكاف وفتح الراء جمع كربة بضم الكاف وإسكان الراء ، هي الحزن والغم ، وكعب بن مامة وابن سعدى من أجود العرب المشهورين.

(وإما بتقدير أمدح وإما نعت لمفعول به محذوف ، أي : عدي يا هند الخلة الحسناء) وفي بعض النسخ : المرأة الحسناء وليست بشيء ؛ لأنه ليس المقصود أمرها بأن تعد المرأة الحسناء ؛ إذ لا يتعلق بذلك غرض للشاعر ، وإنما غرضه أن تعد خلة حسنة وأمرا جميلا من مواصلة وملاطفة ونحو ذلك.

(و) إن بنيت (على) الوجهين (الأوّلين) وهما كونه نعتا على الموضع وكونه بتقدير أمدح (فيكون) الشاعر (إنما أمرها بإيقاع الوعد الوفي ، من غير أن يعين لها الموعود) بخلاف الوجه الثالث ، وهو ظاهر وقد ظهر بما قررناه وجه دخول الفاء على يكون ، ولو لم نقدر ذلك لزم زيادتها ، وهو خلاف الأصل ، وكثير من النحاة يأباه ، فإن قلت : كون الفاء هنا رابطة للجواب مشكل ، ضرورة أنه يصلح أن يجعل شرطا ، وكل ما يصلح لذلك امتنع دخول الفاء عليه ، قلت : هو مثل قوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] فيتخرج على ما يتخرج عليه الآية ، وستعرفه عند إفضاء النوبة إليه إن شاء الله تعالى.

(وقوله وأي مصدر نوعي منصوب بفعل الأمر ، والأصل : وأيا مثل وأي من ؛ ومثله (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٤٢] ، وقوله : أضمرت بالتاء) وفي بعض النسخ بالتأنيث (محمول على معنى من) لا على لفظها ، إذ المراد منها هنا المرأة المخاطبة (مثل من كانت أمك) بنصب الأم على أنه خبر كان ، واسمها ضمير مؤنث عائد على من ، لأن المراد بها مؤنثة ولذلك أدخل تاء التأنيث على كان.

٧٨

* (آ) بالمدّ ـ حرف لنداء البعيد ، وهو مسموع ، لم يذكره سيبويه ، وذكره غيره.

* (أيا) حرف كذلك ، وفي الصّحاح أنّه حرف لنداء القريب والبعيد ، وليس كذلك ، قال الشاعر [من الطويل] :

١٧ ـ أيا جبلي نعمان بالله خلّيا

نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها

______________________________________________________

(آ بالمد : حرف لنداء البعيد) ومناسبته لذلك تعرف مما أسلفناه في أوّل الكلام على الألف المفردة (لم يذكره سيبويه ، وذكره غيره.

أيا حرف كذلك) أي : لنداء البعيد (وفي «الصحاح» أنه لنداء القريب والبعيد وليس كذلك قال) الشاعر :

(أيا جبلي نعمان بالله خلّيا

نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها) (١)

فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت

على نفس مهموم تجلت همومها

نعمان بفتح النون الأولى واد في طريق الطائف يخرج منه إلى عرفات قال :

تضوغ مسكا بطن نعمان إذ مشت

به زينب في نسوة عطرات (٢)

ويقال له : نعمان الآراك قال :

أما والراقصات بذات عرق

ومن صلى بنعمان الآراك (٣)

وفي «الوسيط» للواحدي وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي نصر محمد بن عبد الله الأرغياني أنه ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) [يوسف : ٩٤] أن ريح الصبا استأذنت ربها عزوجل أن تأتي يعقوب بريح يوسف عليهما الصلاة والسّلام قبل أن يأتيه البشير بالقميص ، فأذن لها فأتته بذلك فلهذا يستريح محزون بريح الصبا ، وهي من المشرق إذا هبت على الأبدان نعمتها وهيجت الأشواق إلى الأوطان والأحباب ، وأنشد ذينك البيتين الأولين ، والصبا بالقصر وفتح الصاد المهملة وتنسمت أي هبت ، وتجلت انكشفت وذهبت.

فإن قلت : على ما ذا يعود الضمير من قوله نسيمها؟ قلت : يحتمل أن يعود على النسيم

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لمجنون ليلى ، انظر ديوانه ص ٩٦ ، والأغاني ٥ / ٢٤٣ ، وبلا نسبة في الحماسة الشجرية ٢ / ٥٨٠.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لعبد الله بن نمير في لسان العرب ٨ / ٢٢٩ (ضوع) ، ولمحمد بن عبد الله بن النميري عن الأغاني ٦ / ٢٠٦.

(٣) البيت من البحر الوافر ، وهو لأبي العميثل الأعرابي في تاج العروس (نعم) ، والأغاني ١٧ / ١١٠ ، وديوان الحماسة ٢ / ١٤٥.

٧٩

وقد تبدل همزتها هاء ، كقوله [من الكامل] :

١٨ ـ فأصاخ يرجو أن يكون حيّا

ويقول من فرح : هيا ربّا

* (أجل) بسكون اللام ـ حرف جواب مثل «نعم» ؛ فيكون تصديقا للمخبر ، وإعلاما للمستخبر ، ووعدا للطالب ؛ فتقع بعد نحو : «قام زيد» ونحو : «أقام زيد؟» ، ونحو : «اضرب زيدا».

______________________________________________________

الأول وهو المضاف إلى الصبا ، ويختلف حينئذ المراد بهما ، فيراد بالنسيم الأول ريح الصبا ، والإضافة للبيان ويراد بالنسيم الثاني نفس الريح الضعيف.

قال في «المحكم» : والنسيم نفس الريح إذا كان ضعيفا ، ويحتمل أن يعود الضمير على محبوبته سواء جرى ذكرها قبل أم لم يجر.

أما إن جرى ذكرها فواضح ، وأما إن لم يجر لها ذكر فلتنزلها منزلة المذكور المعلوم ، لأنها حاضرة عنده لا تغيب عنه ، ولا يفتر عن ذكرها بحسب الادعاء ثم إن قصد المصنف بإنشاد هذا البيت الاستشهاد به على أن أيا ترد لنداء البعيد فقريب ، وإن قصد به الرد على الجوهري وهو الذي يعطيه سياق كلامه فلا وجه له ؛ لأن نداء البعيد في هذا البيت بأيا لا يدل على أنها لا تكون لنداء القريب بوجه من وجوه الدلالات.

(وقد تبدل همزتها هاء) فيقال هيا (كقوله :

وحديثها كالقطر يسمعها

داعي سنين تتابعت جدبا

فأصاخ يرجو أن يكون حيا

ويقول من فرح هياربا) (١)

المراد بالقطر هنا ما يقطر من المطر ، والجدب بجيم مفتوحة فدال مهملة ساكنة المحل خلاف الخصب ، وأصاخ بالخاء المعجمة والصاد المهملة استمع ، والحيا بالقصر المطر ، ويجوز أن يكون مرفوعا وكان تامة ، أو منصوبا وكان ناقصة على أنه خبر والاسم ضمير يعود إلى القطر ، والمعنى : أنه رجا أن يكون ما سمعه من وقوع ذلك القطر اليسير مقدمة مطر عظيم.

(أجل : بسكون اللام) وفتح الهمزة والجيم (حرف جواب مثل نعم) وإذا كان كذلك (فتكون تصديقا للمخبر) سواء كان الخبر مثبتا أو منفيا (وإعلاما للمستخبر) أي المستفهم (ووعدا للطالب) سواء كان آمرا أو ناهيا (فتقع بعد نحو قام زيد) إذ هو خبر ، وكذا بعد نحو ما قام زيد (و) تقع بعد (نحو أقام زيد) إذ هو كلام مستخبر (و) تقع أيضا بعد (نحو اضرب زيدا) إذ هو

__________________

(١) الأبيات من البحر الكامل ، وهي بلا نسبة في أمالي القالي ١ / ٨٤ ، والبيان والتبيين ١ / ٢٨٣ ، وشرح شواهد المغني ص ٦٣.

٨٠