محمّد بن أبي بكر الدماميني
المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
واستدلّ لهم بقراءة الحسن (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] بنصب (يُدْرِكُ). وأجراها ابن مالك مجراهما بعد الطّلب ، فأجاز في قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يبولنّ أحدكم في الماء الدّائم الّذي لا يجري ثمّ يغتسل منه» ثلاثة أوجه : الرفع : بتقدير ثم هو يغتسل ، وبه جاءت الرواية ،
______________________________________________________
ومن يعتزل عن قومه لا يزل يرى |
|
مصارع مظلوم مجرا ومسحبا |
وتدفن منه الصالحات وإن يسىء |
|
يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (١) |
كبكب اسم جبل منع من الصرف على إرادة البقعة ، تقول : إن الغريب لا يزال يظلم وتخفى محاسنه كإخفاء الميت في القبر ، وتظهر مساويه كإظهار النار على رأس الجبل العالي ، وهذا على رواية من نصب تدفن ، ومثال ذلك بعد الفاء : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٨٤] على قراءة من نصب يغفر والمصنف قيد نصب المضارع المقرون بثم بكونه بعد فعل الشرط ، ومسألة الفاء والواو غير مقيدة بذلك ، فينبغي أن يحرر مذهب الكوفيين في المسألة ، والظاهر أن لا فرق بين وقوعه بعد فعل الشرط ووقوعه بعد الشرط والجزاء جميعا ، (واستدل لهم بقراءة الحسن ، (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠] بنصب) الفعل من (يدركه) بإضمار أن ، والمصدر المسبوك منها ومن صلتها معطوف على مصدر متصيد من فعل الشرط ، والتقدير : من يقع خروجه مهاجرا ثم إدراك الموت له فقد وقع أجره على الله ، (وأجراها ابن مالك) أي أجرى ثم (مجراهما) أي : مجرى الفاء والواو (بعد الطلب) نحو : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، ولا تدن من الأسد فيأكلك ، (فأجاز في قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» (٢) ثلاثة أوجه :
الرفع) على الاستئناف (بتقدير ثم هو يغتسل ، وبه جاءت الرواية) عند حملة الحديث ، وتقدير هو ليس لأجل كونه متعينا ولا بد ، وإنما هو لتحقيق كون الكلام مستأنفا كما جرت به عادة النحاة عند بيان الاستئناف ، وهذا مقتض لأن تكون ثم استئنافية لا عاطفة كما أن الواو تقع كذلك ، وإلا لزم عطف الخبر على الإنشاء ، وقد صرح صاحب «رصف المباني» فيما حكاه ابن قاسم عنه أن ثم تقع حرف ابتداء ، وقد فات المصنف عد هذا القسم.
__________________
(١) البيتان من البحر الطويل ، وهما للأعشى في ديوانه ص ١٦٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٧٧ ، ولسان العرب ١ / ٤٥٤ (زيب).
(٢) أخرجه مسلم ، كتاب الطهارة ، باب النهي عند البول في الماء الراكد (٢٨٢) ، والنسائي كتاب الطهارة ، باب الماء الدائم (٥٨) ، وأبو داود ، كتاب الطهارة ، باب البول في الماء الراكد (٦٩).
والجزم بالعطف على موضع فعل النّهي ، والنصب قال : بإعطاء «ثم» حكم واو الجمع ؛ فتوهّم تلميذه الإمام أبو زكريا النّووي ، رحمهالله ، أن المراد إعطاؤها حكمها في إفادة معنى الجمع ، فقال : لا يجوز النصب ، لأنه يقتضي أن المنهيّ عنه الجمع بينهما ، دون إفراد أحدهما ؛ وهذا لم يقله أحد ، بل البول منهيّ عنه ، سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا ، انتهى.
وإنّما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب ، لا في المعيّة أيضا ، ثمّ ما أورده إنما جاء من قبل المفهوم ، لا المنطوق ، وقد قام دليل آخر على عدم إرادته ؛
______________________________________________________
(والجزم بالعطف على موضع فعل النهي) ؛ لأنه مبني بسبب اتصاله بنون التوكيد ، فليس بمعرب لفظا ولا تقديرا ، وإنما هو في محل جزم فلهذا عبر المصنف بالموضع ، وهو مبني على المذهب المشهور ، وأما على قول من يرى أن اتصال المضارع بنون التوكيد غير مقتض للبناء فهو معرب تقديرا ، والعطف حينئذ ليس على الموضع وإنما هو على الفعل المعرب باعتبار إعرابه المقدر.
(والنصب ، قال) ابن مالك (بإعطاء ثم حكم واو الجمع ، فتوهم تلميذه الإمام) محيي الدين (أبو زكريا) يحيى (النووي) نسبة إلى نوى وهي بلدة بالشام (رحمهالله تعالى أن المراد إعطاؤها حكمها في إفادة معنى الجمع ، فقال) في شرح مسلم : (لا يجوز النصب ؛ لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما) أي : بين البول في الماء الدائم والاغتسال منه (دون إفراد أحدهما ، وهذا لم يقله أحد بل البول) في ذلك الماء (منهي عنه سواء أراد الاغتسال فيه ، أو منه أم لا. اه) كلام النووي ، (وإنما أراد ابن مالك إعطاءها حكمها في النصب لا في المعية أيضا) ، وأنا أقول : ليست المعية حكما من أحكام الواو التي ينتصب بعدها المضارع ، وإنما المعية معناها ومدلولها الذي وضعت هي بإزائه ، وحكمها انتصاب المضارع بعدها بإضمار أن ، وكلام المصنف مشعر بأن المعية من أحكام الواو حيث قال : إعطاؤها حكمها في النصب لا في المعية أيضا ، وإنما كان ينبغي أن يقول : إنما المراد إعطاؤها حكمها في النصب ، ولم يرد المعية أصلا ، (ثم ما أورده) النووي من أنه يلزم أن لا يكون إفراد أحدهما منهيا عنه (إنما جاء من قبل المفهوم) ، وهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله (إنما جاء من قبل المفهوم) وهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، بأن يكون حكما لغير المذكور وحالا من أحواله (لا المنطوق) وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، (وقد قام دليل آخر على عدم إرادته) أي : إرادة المفهوم الذي مقتضاه عدم النهي عن البول وحده في ذلك الماء الطاهر ، وذلك الدليل هو الإجماع القائم على النهي عن الفسد والنصوص الواردة فيه ، فإذا كان ذلك الماء الطاهر يتنجس بذلك البول كان منهيا عنه قطعا ؛ لأنه مؤد إلى فساده والله لا يحب الفساد.
ونظيره إجازة الزجّاج والزمخشريّ في : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] كون (تَكْتُمُوا) مجزوما ، وكونه منصوبا مع أن النصب معناه النهي عن الجميع.
تنبيه ـ قال الطبري في قوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [يونس : ٥١] : معناه أهنالك ، وليست «ثمّ» التي تأتي للعطف ، انتهى. وهذا وهم اشتبه عليه ثمّ المضمومة الثاء بالمفتوحتها.
* (ثمّ) بالفتح ـ اسم يشار به إلى المكان البعيد ، نحو : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (٦٤) [الشعراء : ٦٤] ،
______________________________________________________
(ونظيره إجازة الزجاج والزمخشري في) قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [البقرة : ٤٢] كون تكتموا مجزوما) داخلا تحت حكم النهي بمعنى ولا تكتموا ، (وكونه منصوبا) بإضمار أن (مع أن النصب معناه النهي عن الجمع) ، وقد صرح الزمخشري بذلك فقال : والواو بمعنى الجمع أي : ولا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمان الحق ، كقولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، قال : والمراد بلبس الحق بالباطل كتبهم في التوراة ما ليس منها ، وبكتمانهم الحق أن يقولوا لا نجد في التوراة صفة محمد أو حكم كذا ، أو تمحوا كذا وتكتبوه على خلاف ما هو عليه ، فهذا الذي أجازه الزجاج والزمخشري في الآية نظير ما أجازه ابن مالك في الحديث ، مع أنه يرد في الآية مثل ما أورده النووي في الحديث ، وذلك بأن يقال : النهي عن الجمع بين اللبس والكتمان يلزم عليه جواز فعل اللبس بدون الكتمان والعكس ، كما في مسألة السمك واللبن ، وجوابه أن النهي عن الجمع إن دل بالمفهوم على جواز فعل البعض فإنما هو حيث لم يقم دليل على المنع ، والدليل هنا قائم فإنه قد علم أن كلا من هذين الأمرين قبيح ، غير أنه جمع بينهما لإفادة المبالغة في النعي عليهم وإظهار قبيح أفعالهم ، من كونهم جامعين بين الفعلين اللذين إذا انفرد كل منهما كان مستقلا بالقبح والشناعة.
(تنبيه قال الطبري في قوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) [يونس : ٥١] معناه أهنا لك وليست ثم التي تأتي للعطف. اه) كلامه ، وهو صريح لا يقبل تأويلا ، ولا شك في أنه سهو (وهذا وهم) ظاهر (اشتبه عليه ثم المضمومة بالثاء بالمفتوحة) والإنسان محل النسيان.
(ثم)
(بالفتح اسم يشار به إلى المكان البعيد نحو : (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) (٦٤) [الشعراء : ٦٤]) وكثيرا ما يستعمله المصنفون وقد يتراءاى أنهم استعملوه للقريب ، فإنهم يذكرون قاعدة ويقولون على أثرها ومن ثم كان كذا ، وكأنهم نزلوا المتقدم منزلة البعيد ؛ لانقضائه والفراغ منه أوعدوه بعيد
وهو ظرف لا يتصرّف ؛ فلذلك غلّط من أعربه مفعولا لـ «رأيت» في قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) [الإنسان : ٢٠] ، ولا يتقدّمه حرف التنبيه ولا يتأخّر عنه كاف الخطاب.
ـ حرف الجيم ـ
* (جَيْرَ) بالكسر على أصل التقاء الساكنين كـ «أمس» ، وبالفتح للتّخفيف كـ «أين» و «كيف» ـ حرف جواب بمعنى «نعم» ، لا اسم بمعنى : «حقّا» فتكون مصدرا ، ولا بمعنى «أبدا» فتكون ظرفا ، وإلّا
______________________________________________________
المنزلة باعتبار شرفه (وهو ظرف) مكان (لا يتصرف) أي : لا يستعمل غير ظرف ولا يجر بغير من (فلذلك غلط) بالبناء للفاعل واللام خفيفة مكسورة ، أو للمفعول وهي شديدة مكسورة (من أعربه مفعولا لرأيت) أي : مفعولا به ، إنما ترك التقييد بقوله به ؛ لأنه شاع عندهم إرادة المفعول به عند عدم التقييد (في قوله تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ) (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) [الإنسان : ٢] ، ووجه الغلط أو التغليط أن في جعله مفعولا به إخراجا له عما وضع عليه من ملازمة الظرفية ، وإنما هو ظرف والمعنى : وإذا رأيت في الجنة ، وليس لرأيت مفعول به ظاهر ولا مقدر ليشيع في كل مرئي ، والتقدير : وإذا وقعت رؤيتك في الجنة ورأيت نعيما وملكا كبيرا (ولا يتقدمه حرف التنبيه) فلا يقال هائم إجراء له في المنع مجرى ذلك المقرون باللام ؛ لأنه بمثابته في البعد ، (ولا يتأخر عنه كاف الخطاب) فلا يقال : ثمك كما يقال : ذاك ؛ لأن ثم تدل على البعد بذاتها فلا حاجة إلى داخل ما يفيده فيها والله تعالى أعلم.
(حرف الجيم)
(جير بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس) قالوا : وإنما كان الأصل أن يحرك بالكسر ؛ لأن الجزم في الأفعال عوض الجر في الأسماء ، وأصل الجزم السكون فلما ثبت بينهما التعارض وامتنع السكون في بعض المواضع جعلوا الكسر عوضا منه ، فإن جر بغير الكسر فلذلك لعارض ، (وبالفتح للتخفيف كأين وكيف) ، قال ابن قاسم : والكسر أشهر فيها (حرف جواب بمعنى نعم) فيكون تصديقا للمخبر وإعلاما للمستخبر ووعدا للطالب (لا اسم بمعنى حقا فتكون مصدرا) ، قال ابن مالك : وذلك لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه نعم ، وليس كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه حقا فإلحاقها بنعم أولى ، وأيضا فإن لها شبها بنعم لفظا واستعمالا ، ولذلك بنيت قلت : وفيه نظر ، فإن المشابهة اللفظية بينها وبين نعم منتفية ، ورعاية الشبه باعتبار كون كل منهما ثلاثي الحروف أمر لا يلتفت إليه ، ثم إنه معترف بأنها حرف فكيف يتطلب سبب بنأيها ، (ولا) اسم بمعنى (أبدا فتكون ظرفا) زمانيا (وإلا) تكن حرفا بل كانت اسما
لأعربت ودخلت عليها «أل» ولم تؤكّد «أجل» بـ «جير» في قوله [من الطويل] :
١٧٧ ـ وقلن: على الفردوس أوّل مشرب |
|
أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره |
ولا قوبل بها «لا» في قوله [من الرجز] :
١٧٨ ـ إذا تقول لا ابنة العجير |
|
تصدق ، لا إذا تقول جير |
وأما قوله [من الوافر] :
______________________________________________________
بمعنى حقا أو أبدا (لأعربت ودخلت عليها أل) ، وفي هذا الكلام مناقشة لفظية من جهة إدخاله اللام على جواب إن الشرطية ، وقد مر مثله ومناقشة معنوية من جهة أن صدق الملازمة بين كونها اسما بمعنى حقا أو أبدا ، وبين الإعراب ودخول أل عليها ممنوع ، وسنده ما التي بمعنى شيء ونحوها ، وسبنين وجه البناء عند من جعلها كحقا ، وأما عند من جعلها كأبدا فالبناء مشكل ، (ولم تؤكد) بالبناء للمعلوم والفاعل ضمير يعود إلى جير ، والمفعول هو قوله : (أجل) ويوجد في بعض النسخ بالبناء للمجهول والنائب هو أجل ، وبعد ذلك لفظ بجير فالنسخة هكذا ، ولم تؤكد أجل بجير في قوله :
وقلن على الفردوس أول مشرب |
|
(أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره) (١) |
الفردوس البستان ، والدعاثر جمع دعثور وهو الحوض المنثلم ، كذا في «الصحاح» ، ووجه الاستدلال أن أجل حرف بمعنى نعم وقد أكدت بجير فيلزم أن تكون مثل أجل ، ولمن ذهب إلى أن جير بمعنى حقا أن يمنع كونها مؤكدة لأجل في البيت ؛ لاحتمال أن يكون المعنى نعم يحق ذلك أو يقع ذلك حقا لكن يطالب بسبب البناء ، وقد يجيب بأنها بنيت لموافقتها لجير الحرفية لفظا ومعنى إن كان هذا القائل يرى أن جير ترد حرفا واسما ، (ولا قوبل بها لا في قوله :
إذا تقول لا ابنة العجير |
|
تصدق لا إذا تقول جير) (٢) |
يعني أنها تصدق إذا قالت : لا ، ولا تصدق إذا قالت : نعم ، والعجير بعين مهملة وجيم وراء اسم رجل ، (وأما قوله :
__________________
(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لمضر بن ربعي في ديوانه ص ٧٦ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٠٣ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٣٦٠ ، وجواهر الأدب ص ٣٧٣. اه.
(٢) البيت من الرجز ، ولم أعثر عليه.
١٧٩ ـ وقائلة : أسيت ، فقلت : جير |
|
أسيّ إنّني من ذاك إنّه |
فخرج على وجهين :
أحدهما : أن الأصل : جير إنّ ، بتأكيد «جير» بـ «إنّ» التي بمعنى : «نعم» ، ثم حذفت همزة «إنّ» وخفّفت.
الثاني : أن يكون شبّه آخر النصف بآخر البيت ، فنونه تنوين الترنم ، وهو غير مختص بالاسم ، ووصل بنية الوقف.
* * *
* (جَلَل) حرف بمعنى : «نعم» ، حكاه الزجّاج في كتاب الشجرة ،
______________________________________________________
وقائلة أسيت فقلت جير |
|
أسي إنني من ذاك إنه) (١) |
أسيت على وزن علمت أي : حزنت ، وأسى خبر مبتدأ محذوف أي : أنا أسى أي حزين والإشارة بذلك راجعة إلى الحزن أي : إني مخلوق من الحزن ولا يجوز أن يكون أسى خبر إن ، ومن ذاك متعلقا به ؛ لأن خبر الحرف الناسخ لا يتقدم عليه وإنه إما بمعنى نعم والهاء للسكت ، أو إن الناسخة والخبر محذوف أي إنه أي : إن الأمر كذلك (فخرج على وجهين :
أحدهما أن الأصل جير إن بتأكيد جير بإن التي بمعنى نعم ، ثم حذفت همزة إن وخففت) بحذف نونها الثانية ، وهذا بعيد إذ لم يثبت في موضع من المواضع تخفيف إن التي بمعنى نعم ولا حذف.
(الثاني أن يكون) الشاعر (شبه آخر النصف) الأول (بآخر البيت فنونه تنوين الترنم ، وهو غير مختص بالاسم) بل يكون في الفصل والحرف أيضا ، (ووصل بنية الوقف) وهذا التخريج ظاهر التعسف ، وبقي على المصنف قول آخر في جير لم يحكه ، وهو أن يكون اسم فعل حكاه ابن أبي الربيع ، وحكى الرضي عن عبد القاهر أنه اسم فعل بمعنى أعرف ، قال الرضي : ولا يتعذر ما ارتكبه في جميع حروف التصديق.
(جلل)
(حرف بمعنى نعم ، حكاه الزجاج في كتاب «الشجرة») «رصف المباني» وليس لها في كلام
__________________
(١) البيت من البحر الوافر ، وهو الأعرابي من بني أسد في الأشباه والنظائر ٦ / ٢٠٢ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ١١١ ، والدرر ٤ / ٢٤٤.
واسم بمعنى «عظيم» أو يسير» أو «أجل».
فمن الأول قوله [من الكامل] :
١٨٠ ـ قومي هم قتلوا ـ أميم ـ أخي ، |
|
فإذا رميت يصيبني سهمي |
فلئن عفوت لأعفون جللا ، |
|
ولئن سطوت لأوهنن عظمي |
______________________________________________________
العرب إلا معنى الجواب خاصة ، يقول القائل : هل قام زيد؟ فتقول في الجواب : جلل ، أي : نعم ، (أو اسم بمعنى عظيم أو يسير أو أجل) وهذا لا ينبغي للمصنف عده ؛ لأن الكلام في جلل المبنية على السكون ، ولا تكون إلا حرفا لا ينبغي أيضا عدها ؛ لأنه إنما يذكر في هذا الباب الحروف ، وما تضمن معناها من الأسماء والظروف ، وما تمس الحاجة إلى ذكره من فعل جامد أو اسم معرب يختص عن غيره من المعربات مثل كل ، وجلل الاسم بمنزلة زيد وعمرو وبكر وخالد لا حكم له يختص به دونها ، ومجرد موافقته للحرف في اللفظ لا يقتضي ذكره ، وإلا فما باله لم يقل في نعم : إنها تكون اسما وهي واحدة الأنعام ، ولم يقل في إلى : إنها تكون اسما بمعنى النعمة واحدة الآلاء.
(فمن الأول) وهو ورودها اسما بمعنى عظيم :
(قومي هم قتلوا أميم أخي |
|
فإذا رميت يصيبني سهمي |
فلئن عفوت لأعفون جللا |
|
ولئن سطوت لأوهنن عظمي) (١) |
أميم ترخيم أممية ارتكبه في غير النداء ؛ للضرورة ، ولكنه رخم على لغة من ينوي ثبوت المحذوف ، وهي اللغة الفصحى ، فإن قلت : أي دليل عليه فإن الميم هنا مفتوحة نويت المحذوف أم لم تنوه ؛ إذ هو مفعول قتلوا؟ قلت : الدليل عليه ترك التنوين ؛ لأنه اعتد بالمحذوف فمنعه الصرف ، فإن قلت : لعله إنما منع للضرورة لا للاعتداد بتاء التأنيث المحذوفة ، قلت : هذا مصير إلى القول المرجوح فإن المصروف لا يمنع ولو للضرورة على الصحيح ، وجللا إما صفة مصدر محذوف أي : عفوا عظيما أو منصوب على إسقاط الخافض ؛ أي : لا عفوا عن عظيم وإنما تكتب نون التوكيد الخفيفة هنا بالألف لعدم الإلباس كما في لنسفعا ، والسطو القهر بالبطش ، وأوهن أضعف.
__________________
(١) البيتان من البحر الكامل ، وهما للحارث بن وعلة في الدرر ٥ / ١٢٣ ، ولسان العرب ١١ / ١١٨ (جلل) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ٢٣.
ومن الثاني قول امرىء القيس وقد قتل أبوه [من المتقارب] :
١٨١ ـ بقتل بني أسد ربّهم |
|
ألا كلّ شيء سواه جلل |
ومن الثالث قولهم : «فعلت كذا من جللك» وقال جميل [من الخفيف] :
١٨٢ ـ رسم دار وقفت في طلله |
|
كدت أقضي الحياة من جلله |
فقيل : أراد من أجله ، وقيل : أراد من عظمه في عيني.
ـ حرف الحاء المهملة ـ
* (حاشا) على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون فعلا متعدّيا متصرّفا ؛ تقول : «حاشيته» بمعنى استثنيته ،
______________________________________________________
(ومن الثاني) وهو ورودها اسما بمعنى يسير (قول امرىء القيس وقد قتل أبوه) حجر بن عمرو الكندي :
بقتل بني أسد ربهم |
|
(ألا كل شيء سواه جلل) (١) |
(ومن الثالث) وهو ورودها اسما بمعنى أجل (قولهم : فعلت ذلك من جللك ، وقال :
رسم دار وقفت في طلله |
|
كدت أقضي الغداة من جلله) (٢) |
رسم الدار ما كان من آثارها لاصقا بالأرض ، والطلل ما شخص من آثارها ، وأقضي أي : أموت ، والغداة ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس ، (فقيل : أراد من أجله) وهذا الظاهر ، (وقيل : أراد من عظمه في عيني) وليس الجلل بمعنى العظم حتى يفسر به ، وإنما هو بمعنى العظم ، فلو قال : أراد من عظيم أمره في عيني لكان مناسبا ، والله أعلم بالصواب.
(حرف الحاء)
(حاشا على ثلاثة أوجه :
أحدها أن تكون فعلا) متعديا (متصرفا تقول : حاشيته بمعنى استثنيته) وأحاشيه ، حكاه ابن سيده ، والظاهر أنه مشتق من لفظ حاشا حرفا أو اسما ، فمعنى حاشيت زيدا قلت : حاشى زيد
__________________
(١) البيت من البحر المتقارب ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ٢٦١ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٣.
(٢) البيت من البحر الخفيف ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ١٨٩ ، والأغاني ٨ / ٩٤ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٠ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٣٧٨ ، وأوضح المسالك ٣ / ٧٧.
ومنه الحديث أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «أسامة أحبّ النّاس إليّ ما حاشى فاطمة» ، ما : نافية ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسّلام لم يستثن فاطمة. وتوهّم ابن مالك أنّها «ما» المصدريّة ، و «حاشا» الاستثنائية ، بناء على أنه من كلامه عليه الصلاة والسّلام ، فاستدلّ به على أنه قد يقال : «قام القوم ما حاشا زيدا» ، كما قال [من الوافر] :
١٨٣ ـ رأيت النّاس ، ما حاشا قريشا |
|
فإنّا نحن أفضلهم فعالا |
ويردّه أنّ في معجم الطبراني : «ما حاشا فاطمة ولا غيرها» ، ودليل تصرّفه
______________________________________________________
كما تقول : لو ليت إذا قلت : لو لا ولا ليت إذا قلت : لا لا ، (وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسّلام قال : «أسامة أحب الناس إلي ما حاشا فاطمة» (١) ما نافية ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسّلام لم يستثن فاطمة ، وتوهم ابن مالك أنها ما المصدرية وحاشا الاستثنائية ؛ بناء على أنه من كلامه عليه الصلاة والسّلام) فيكون قد استثنى فاطمة ، والمعنى أسامة أحب الناس إلي إلا فاطمة فإنه ليس أحب إلي منها ، فيحتمل أن تكون هي أحب إليه ، ويحتمل أن يكونا متساويين في الحب (فاستدل به على أنه قد يقال : قام القوم ما حاشا زيدا كما قال :
رأيت الناس ما حاشا قريشا |
|
فإنا نحن أفضلهم فعالا) (٢) |
الفعال بفتح الفاء الكرم ، وبكسرها جمع فعل كقدح وقداح ، والمعنيان جائزان في البيت ، والظاهر أن مفعول رأيت الثاني محذوف أي : دوننا ، ويحتمل أن يكون هو الجملة الاسمية والفاء زائدة على رأي الأخفش في مثل زيد فقائم ، (ويرده) أي : يرد الاستدلال المذكور (أن في معجم الطبراني) الحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد منسوب إلى طبرية بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة ، وهي قصبة الأردن (ما حاشا فاطمة ولا غيرها) فزيادة لا بعد الواو لتأكيد النفي ، ويتعين حينئذ أن تكون ما نافية لا مصدرية كما توهمه ابن مالك ، ويكون هذا من كلام الراوي قلت : وهذا ليس بقاطع إذ يحتمل أن تكون لا نافية وغيرها منصوب بمحذوف لا معطوف على فاطمة ، والمعنى : ولا أستثني أنا غيرها فيكون من كلامه عليه الصلاة والسّلام ، ولا تعارض حينئذ بين رواية الطبراني وتلك الرواية المتقدمة فتأمله ، والحديث الذي أورده ابن مالك هو في مسند أبي أمية الطرسوسي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، (ودليل تصرفه) أي : تصرف
__________________
(١) أخرجه أحمد (٥٦٧٤) ، وذكره الطرسوسي في مسند عبد الله بن عمر ص ٤٧.
(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو للأخطل في خزانة الأدب ٣ / ٣٨٧ ، والدرر ٣ / ١٨٠ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٦٥ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٣٣.
قوله [من البسيط] :
١٨٤ ـ ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه |
|
ولا أحاشي من الاقوام من أحد |
وتوهّم المبرّد أن هذا مضارع «حاشا» التي يستثنى بها ، وإنما تلك حرف أو فعل جامد لتضمّنه معنى الحرف.
الثاني : أن تكون تنزيهيّة ؛ نحو : (حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ٣١] وهي عند المبرّد وابن جني والكوفيّين فعل. قالوا : لتصرّفهم فيها بالحذف ، ولإدخالهم إيّاها على الحرف ، وهذان الدّليلان ينفيان الحرفية ، ولا يثبتان الفعليّة.
______________________________________________________
حاشي المحكوم بفعليته (قوله) أي النابغة :
(ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه |
|
ولا أحاشي من الأقوام من أحد (١) |
وتوهم المبرد أن هذه) الكلمة وهي أحاشي المذكورة في البيت (مضارع حاشا التي يستثنى بها) وليس كذلك ، (وإنما تلك حرف أو فعل جامد ؛ لتضمنه معنى الحرف) الاستثنائي.
(الثاني) من أوجه حاشا (أن تكون تنزيهية) أي : تذكر لتنزيه الله تعالى عن السوء (نحو : (حاشَ لِلَّهِ)) ثم بين بعد ذلك من يراد تبرئته ، فقدم تنزيه الله سبحانه أمام ذلك المقصود على معنى : إن الله تعالى منزه عن أن لا يطهر ذلك الشخص مما يعيبه ، فيكون آكد وأبلغ قال تعالى : (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) [يوسف : ٥١] وهذه الآية هي التي أرادها المصنف بالتمثيل ، (وهي عند المبرد وابن جني والكوفيين فعل ، قالوا : لتصرفهم فيها بالحذف) فإن الأصل حاشا بالألف فحذفت في حاش لله ، (ولإدخالهم إياها على الحرف في حاش لله) وحاشا لله بحذف الألف [و] إثباتها (وهذان الدليلان ينفيان الحرفية ، ولا يثبتان الفعلية) ، وجزم المصنف رحمهالله بانتفاء الحرفية اعتمادا على الدليلين المذكورين لا يسلم من مناقشة.
أما الأول فلأن الحرف الكثير الاستعمال قد يتصرف فيه بالحذف منه ، نحو : سو أفعل وسف أفعل في سوف أفعل.
وأما الثاني فقد قال شارح «الكتاب» : لا نسلم دخول حاشا على حرف الجر ؛ فإن اللام في حاشا لله زائدة ، عوضت عما حذف من حاشا ، قلت : وفيه بعد ، لأنه لم يعهد التعويض عن محذوف من كلمة بشيء ، تدخل على كلمة أخرى ليست محل الحذف ، وقد يقال أيضا : ولو
__________________
(١) البيت من البحر البسيط ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٢٠ ، وأسرار العربية ص ٢٠٨.
قالوا : والمعنى في الآية : جانب يوسف المعصية لأجل الله ، ولا يتأتّي هذا التأويل في مثل : (حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١] والصحيح أنها اسم مرادف للبراءة من كذا ؛ بدليل قراءة بعضهم : حاشا لله بالتنوين ، كما يقال : «براءة لله من كذا» ، وعلى هذا فقراءة ابن مسعود رضياللهعنه حاش الله كـ «معاذ الله» ليس جارّا ومجرورا كما وهم ابن عطيّة ، لأنها إنما تجر في الاستثناء ، ولتنوينها في القراءة الأخرى ، ولدخولها على اللام في قراءة السبعة ، والجارّ لا يدخل على الجارّ ، وإنما ترك التنوين في قراءتهم
______________________________________________________
كانت اللام عوضا عن الألف المحذوفة لم تجامعها ، وقد اجتمعتا في قراءة بعض السبعة (حاشَ لِلَّهِ ،) بإثبات الألف ، ويجاب عن ذلك بأن اللام عند ثبوت الألف ليست عوضا ، لكنها بعد الحذف اعتبرت عوضيتها عن المحذوف ، فلم يلزم اجتماع العوض والمعوض عنه ، (قالوا : والمعنى في الآية) التي هي (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ،) (جانب يوسف المعصية ؛ لأجل الله ولا يتأتي مثل هذا في حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١] ، فإن هذا ليس مقام التبرئة من المعصية ، وإنما هو مقام التعجب من الحسن البارع ، (والصحيح أنها اسم مرادف للبراءة) وفي بعض النسخ مرادف للتنزيه (بدليل قراءة بعضهم حاشا لله بالتنوين ، كما يقال براءة) وفي النسخة التي ثبت فيها لفظ التنزيه تنزيها لله من كذا ، (و) إذا بنينا (على هذا فقراءة ابن مسعود حاش الله كمعاذ الله ، وليس جارا ومجرورا كما توهم ابن عطية ؛ لأنها إنما تجر في الاستثناء) وليس هنا استثناء ، وقد ذكر النبلي شارح «الحاجبية» أن حرفية حاشا لا تتوقف على الاستثناء ، ورد على ابن الحاجب تقييد حرفيتها بذلك حيث قال في الكافية : في حروف الجر : وحاشا في الاستثناء ، وزعم أنه يقال : حاشا زيد أن يقوم على الابتداء والخبر ، والتقديم والتأخير كما تقول : على زيد أن يقوم نقله المصنف عنه في حواشي «التسهيل» ، ولم يتعقبه بل ذكره كالمستدرك به على ابن مالك ، (ولتنوينها في القراءة الأخرى) والتنوين لا يدخل الحرف ، (ولدخولها على اللام في قراءة السبعة ، والجار لا يدخل على الجار) إلا شذوذا كقوله :
فلا والله لا يلفى لما بي |
|
ولا للما بهم أبدا دواء (١) |
ولابن عطية أن يقول : إنما حكمت بالحرفية حيث لا تنوين ولا لام ، والكلمة تستعمل اسما وحرفا ، فحيث دخل عليها التنوين أو دخلت هي على لام الجر حكم بالاسمية ، وحيث انتفيا جاز الحكم بالحرفية فلا يرد عليه ما قاله المصنف ، (وإنما ترك التنوين في قراءة الجماعة
__________________
(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لمسلم بن معبد الوالبي في خزانة الأدب ٢ / ٣٠٨ ، والدرر ٥ / ١٤٧ ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٥٧١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٤٣.
لبناء «حاشا» ، لشبهها بـ «حاشا» الحرفيّة. وزعم بعضهم أنها اسم فعل ماض بمعنى :«تبرّأت» ، أو «برئت» ، وحامله على ذلك بناؤها ، ويردّه إعرابها في بعض اللغات.
الثالث : أن تكون للاستثناء ؛ فذهب سيبويه وأكثر البصريّين إلى أنها حرف دائما بمنزلة «إلّا» لكنها تجرّ المستثنى ، وذهب الجرميّ
______________________________________________________
لبناء حاشى لشبهها بحاشا الحرفية) لفظا ومعنى ، أما لفظا فظاهر وأما معنى فلأن الحرفية للاستثناء ، فهي لإخراج مجرورها مما قبلها ، أو التنزيهية لتنحية ما بعدها عن السوء وإبعاده منه ، وهو شبيه بمعنى الإخراج ، ولا يريد المصنف لشبهها بحاشا الحرفية في اللفظ فقط ؛ لأن ذلك بمجرده غير كاف في البناء ألا ترى أن إلى بمعنى النعمة مشابه في اللفظ لإلى الحرفية ، ومع ذلك لم تبن ؛ لانتفاء كمال المشابهة ؛ لفقد الشبه المعنوي.
(وزعم بعضهم أنها اسم فعل معناه أتبرأ أو برئت) وأظنه أراد بهذا البعض ابن الحاجب ؛ فقد وقع له في شرح «المفصل» عند تفسير الزمخشري لحاشا الله ببراءة الله أن قال : والأولى أن يقال : إنه اسم من أسماء الأفعال كأنه بمعنى برىء الله من السوء ، ودخول اللام في فاعله كدخول اللام في هيهات هيهات لما توعدون ، ولعله ـ يعني الزمخشري ـ لم يقصد إلا اسم الفعل ، وفسره بالمصدر ؛ لكونه اسما فقصد إلى تفسيره باسم ، ولذلك نصب براءة ولا ينصب إلا بفعل مقدر فكان المعنى برىء الله ، وحاصله التفسير بالفعل وإذا فسر بالفعل فهو اسم فعل ، هذا كلامه ، فإن كان المصنف أراده فابن الحاجب لم يقل : إن حاشا اسم فعل معناه أتبرأ أو برئت ، وإنما قال : بمعنى تبرأت ؛ لأنه يرى أن اسم الفعل ما كان بمعنى الأمر أو الماضي ولا يكون عنده بمعنى المضارع أصلا ، وفي المسألة خلاف ، (وحامله على ذلك) الذي ادعاه من كونها اسم فعل (بناؤها) وفيه نظر إذ لا يلزم من كون الكلمة مبنية كونها اسم فعل ، حتى يكون بناء هذه الكلمة حاملا على القول بأنها اسم فعل ، (ويرده إعرابها في بعض اللغات) ؛ لأنه لا شيء من أسماء الأفعال بمعرب ، وكأن المصنف أراد ببعض اللغات التي أعربت حاشا فيها اللغة التي جاءت عليها قراءة حاشا لله بالتنوين ؛ فإنه معرب منصوب مثل تنزيها ، وتنوينه تنوين تمكين ، وفيه نظر ؛ لجواز أن يكون مبنيا وتنوينه تنوين تنكير ، ومثله ليس بعزيز في أسماء الأفعال.
(الثالث) من أوجه حاشا (أن تكون للاستثناء ، فذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أنها حرف ، وأنها بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى) حيث يكون الاستثناء فيما ينزه عنه المستثنى ، كقولك : ضربت القوم حاش زيد ولذلك لا يحسن ضل الناس حاش زيد ، لفوات معنى التنزيه ، كذا قال ابن الحاجب : وبه يتقوى الشبه بين حاشا التنزيهية وحاشا الحرفية ، (وذهب الجرمي)
والمازني والمبرّد والزجّاج والأخفش وأبو زيد والفرّاء وأبو عمرو الشيباني إلى أنها تستعمل كثيرا حرفا جارّا ، وقليلا فعلا متعدّيا جامدا لتضمّنه معنى «إلّا» ، وسمع «اللهمّ اغفر لي ولمن يسمع حاشا الشّيطان وأبا الأصبغ» وقال [من الكامل] :
١٨٥ ـ حاشا أبا ثوبان ، إنّ به |
|
ضنّا على الملحاة والشّتم |
ويروى أيضا «حاشا أبي» بالياء ، ويحتمل أن تكون رواية الألف على لغة من قال [من الرجز] :
______________________________________________________
بفتح الجيم (والمازني والمبرد والزجاج والأخفش وأبو زيد والفراء وأبو عمرو الشيباني إلى أنها تستعمل كثيرا حرفا جارا ، أو قليلا فعلا متعديا جامدا ؛ لتضمنه معنى إلا ، وسمع) فيما حكاه الشيباني عن بعض العرب على ما نقله ابن قاسم : (اللهم اغفر لي ولمن يسمع حاشى الشيطان وأبا الأصبغ) بفتح الهمزة وإعجام الغين وإهمال الصاد ، وهذا كلام نثر لا شعر كما قد توهم (وقال :
حاشى أبا ثوبان إن به |
|
ضنا على الملحاة والشتم) (١) |
بنصب أبا بحاشا والضن بكسر الضاد المعجمة البخل ، مصدر قولك : ضننت بالشيء أضن له بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ، والملحاة بفتح الميم وسكون اللام اللوم ، والشتم السب ، قال ابن مالك : كثير من النحاة ينشده على هذا الوجه ، وليس كذلك إنما هما بيتان صورتهما :
حاشى أبا ثوبان إن أبا |
|
ثوبان ليس ببكمة قدم |
عمرو بن عبد الله إن به |
|
ضنا على الملحاة والشتم |
فأخذوا صدر البيت الأول فركبوه مع عجز البيت الثاني ، والصواب ما ذكرناه ، وعلى الصواب أنشده ابن عصفور إلى هنا كلامه ، والبكمة الخرس أي : ليس بذي بكمة والقدم العي ، ويروى أيضا حاشى أبي في البيت بالياء ، وكذا روي ، وأبي في ذلك النثر مع خفض الشيطان (ويحتمل أن تكون رواية الألف على لغة من قال :
__________________
(١) البيت من البحر الكامل ، وهو للجميح الأسدي في الأصمعيات ص ٢١٨ ، والجنى الداني ص ٥٦٢ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٢٨٠ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٨٢.
إنّ أباها وأبا أباها |
|
قد بلغا في المجد غايتاها |
وفاعل «حاشا» ضمير مستتر عائد على مصدر الفعل المتقدّم عليها ، أو اسم فاعله ، أو البعض المفهوم من الاسم العام ، فإذا قيل : «قام القوم حاشا زيدا» فالمعنى : جانب هو ـ أي قيامهم ، أو القائم منهم ، أو بعضهم ـ زيدا.
* (حتى) حرف يأتي لأحد ثلاثة معان : انتهاء الغاية ، وهو الغالب ،
______________________________________________________
إن أباها وأبا أباها) (١)
فاستعمل الأب مقصورا معربا بحركات مقدرة (وفاعل حاشا غير مستتر عائد على مصدر الفعل المتقدم عليها) ، فيقال في ذلك النثر مثلا التقدير : جانب هو أي : الغفران الشيطان ، (أو اسم فاعله أو البعض المفهوم من الاسم العام ، فإذا قيل : قام القوم حاشى زيدا. فالمعنى : جانب هو أي : قيامهم أو القائم منهم أو بعضهم زيدا) وفيه لف ونشر مرتب ، والقولان الأولان ظاهران ، وأما القول الأخير ففيه نظر ؛ لأن المقصود من قولك : قام القوم حاشا زيدا ، وكذا في خلا زيدا وعدا زيدا أن زيدا لم يكن معهم أصلا ، ولا يلزم من خلو بعض القوم منه ومجاوزة بعضهم إياه خلوا الكل ، ولا مجاوزة الكل قاله الرضي ، وقد يقال : يجوز أن يراد ببعضهم من عدا المستثنى ، فلا يتم ما قاله لكن إطلاق البعض على الأكثر قليل ، ومثل هذا الترتيب شائع كثير.
(حتى)
قال في «التسهيل» وإبدال حائها عينا لغة هذيلية ، وفي «العباب» قال الفراء : حتى لغة قريش وجميع العرب إلا هذيلا وثقفيا ؛ فإنهم يقولون : عتى قال وأنشدني به بعض أهل اليمامة :
لا أضع الدلو ولا أصلي |
|
عتى أرى علتها تولي |
صوادرا مثل قباب التل (٢) |
ولما قرأ ابن مسعود عني حين أرسل إليه عمر أن القرآن لم ينزل بلغة هذيل فاقرىء الناس بلغة قريش. (حرف يأتي لأحد ثلاثة معان :
انتهاء الغاية) نحو : (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [طه : ٩١].
__________________
(١) صدر بيت من الرجز ، عجزه : قد بلغا في المجد غايتاها ، وهو لرؤبة في ملحق ديوانه ص ١٦٨ ، وله أو لأبي النجم في الدرر ، وله أو الرجل من بني الحارث في خزانة الأدب ٧ / ٤٥٥. اه.
(٢) الرجز لبعض أهل اليمامة في الفائد ٢ / ٣٩.
والتّعليل ، وبمعنى «إلّا» في الاستثناء ، وهذا أقلّها ، وقلّ من يذكره.
وتستعمل على ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون حرفا جارّا بمنزلة «إلى» في المعنى والعمل ، ولكنها تخالفها في ثلاثة أمور :
أحدها : أنّ لمخفوضها شرطين ، أحدهما عامّ ، وهو أن يكون ظاهرا لا مضمرا ، خلافا للكوفيّين والمبرّد ، فأما قوله [من الوافر] :
١٨٦ ـ أتت حتّاك تقصد كلّ فجّ |
|
ترجّي منك أنها لا تخيب |
فضرورة ؛ واختلف في علّة المنع ، فقيل : هي أنّ مجرورها لا يكون إلا بعضا مما قبلها أو كبعض منه ، فلم يمكن عود ضمير البعض على الكل ، ويردّه أنّه قد يكون ضميرا حاضرا كما في البيت ، فلا يعود على ما تقدّم ، وأنه قد يكون ضميرا غائبا عائدا على ما تقدّم غير الكل ، كقولك : «زيد ضربت
______________________________________________________
(والتعليل) نحو : أسلم حتى تدخل الجنة.
(وبمعنى إلا في الاستثناء) نحو : لا يكون فلان عالما حتى يحل المشكلات ، (وهذا أقلها وقل من يذكره ، وتستعمل حتى على أحد ثلاثة أوجه :
أحدها أن تكون حرفا جارا بمنزلة إلى في المعنى) وهو الدلالة على انتهاء الغاية ، (والعمل) وهو الجر (ولكنها تخالفها من ثلاثة أمور :
أحدها أن لمخفوضه شرطين :
أحدهما عام وهو أن يكون ظاهرا لا مضمرا خلافا للكوفيين والمبرد فأما قوله :
أتت حتاك تقصد كل فج |
|
ترجى منك أنها لا تخيب (١) |
فضرورة) فلا يسوغ ارتكاب مثل ذلك في السعة ، (واختلف في علة المنع فقيل : هي أن مجرورها لا يكون إلا بعضا لما قبلها أو كبعض مثله ، فلم يمكن عود ضمير البعض على الكل ، ويرده أمران :)
أحدهما (أنه قد يكون ضميرا حاضرا كما في البيت ، فلا يعود على ما تقدم.
و) الثاني (أنه قد يكون ضميرا غائبا عائدا على ما تقدم غير الكل ، كقولك : زيد ضربت
__________________
(١) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ١١١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٣.
القوم حتّاه» ؛ وقيل : العلّة خشية التباسها بالعاطفة ، ويردّه أنها لو دخلت عليه لقيل في العاطفة : «قاموا حتّى أنت ، وأكرمتهم حتّى إياك» بالفصل ، لأنّ الضمير لا يتّصل إلّا بعامله ، وفي الخافضة «حتّاك» بالوصل كما في البيت ، وحينئذ فلا التباس. ونظيره أنهم يقولون في توكيد الضمير المنصوب «رأيتك أنت» ، وفي البدل منه «رأيتك إيّاك» ، فلم يحصل لبس. وقيل : لو دخلت عليه قلبت ألفها ياء كما في «إلي» ، وهي فرع عن «إلى» ؛ فلا تحتمل ذلك. والشرط الثاني خاصّ بالمسبوق بذي أجزاء ، وهو أن يكون المجرور آخرا نحو :
______________________________________________________
القوم حتاه) ، وأيضا يجوز عود ضمير البعض على من يندرج تحت كل متقدم ، مثل : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] فإنه يعود على الرجعيات المتدرجات في عموم المطلقات من قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] ، (وقيل العلة : خشية التباسها بالعاطفة ، ويرده أنها) أي : أن حتى العاطفة (لو دخلت عليه) أي : على الضمير (لقيل في العاطفة قاموا حتى أنت ، وأكرمتهم حتى إياك بالفصل) في المثالين (؛ لأن الضمير لا يتصل إلا بعامله) وحتى العاطفة غير عاملة كالواو ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) [الممتحنة : ١] ، (وفي الخافضة حتاك بالوصل كما في البيت ، وحينئذ) يختلف اللفظان (فلا يكون التباس ، ونظيره أنهم يقولون في توكيد الضمير المنصوب : رأيتك أنت) بالإتيان بضمير الرفع المنفصل ، وكان القياس أن يؤكد بالمنصوب المنفصل ، (وفي البدل منه رأيتك إياك) بالإتيان بضمير النصب المنفصل (فلم يحصل لبس) ، وهذا إنما هو على مذهب البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون إياك في المثال الثاني من قبيل التأكيد اللفظي ، وهو ظاهر (وقيل : لو دخلت) حتى (عليه) أي : على الضمير (قلبت ألفها ياء ، كما في إلى) ، حيث تقول : إليك وإلينا وإليه ، (وهي فرع من إلى ، فلا يحتمل ذلك) القلب مع كونها فرعا ، ولم يرد المصنف هذا القول كما رد الأولين ، كأن هذا من قبيل المرتضى عنده ، وقد يقال : غايته أن لا يرتكب التغيير بالقلب ؛ لأجل الفرعية ، ولا يلزم من ذلك امتناع دخولها على المضمر مع بقاء ألفها بدون قلب ، لكن قال ابن الحاجب : حكمة ترك استعمال المضمر بعد حتى أنها لو دخلت عليه ، فقيل : حتاه لأثبتوا مع المضمر ألفا فيما غيروا ألف أمثاله إلى الياء كقولك : إليه وعليه ولديه ، وذلك كل ألف آخر حرف أو اسم غير متمكن اتصل ، ولو قلبوها ياء لخالفوا القاعدة الأصلية في أن المضمر لا يغير الكلمة من غير حاجة ، وهنا لا حاجة لاستغنائهم عن حتى بإلى ، وحاصله أنه لما كان كل من قلب الألف وإقرارها ملزوما لمخالفة قاعدة طرحوه ، فلم يدخلوها على المضمر.
(والشرط الثاني خاص بالمسبوق بذي أجزاء ، وهو أن يكون المجرور) بحتى (آخرا نحو :
«أكلت السّمكة حتّى رأسها» ، أو ملاقيا لآخر جزء ، نحو : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) [القدر : ٥]. ولا يجوز : «سرت البارحة حتّى ثلثيها أو نصفها» ، كذا قال المغاربة وغيرهم. وتوهّم ابن مالك أن ذلك لم يقل به إلا الزّمخشري ، واعترض عليه بقوله [من الخفيف] :
١٨٧ ـ عيّنت ليلة ، فما زلت حتّى |
|
نصفها راجيا ، فعدت يؤوسا |
وهذا ليس محلّ الاشتراط ؛ إذ لم يقل : فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها ، وإن كان المعنى عليه ، ولكنّه لم يصرح به.
الثاني : أنها إذا لم يكن معها قرينة تقتضي دخول ما بعدها كما في قوله [من الكامل]:
______________________________________________________
أكلت السمكة حتى رأسها بالجر) فإن الرأس هو جزؤها الأخير بحسب الخلقة ، ابتداء من ذنبها (أو ملاقيا لآخر جزء نحو (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥) [القدر : ٥]) فإن مطلع الفجر ليس جزءا أخيرا من الليلة وإنما هو ملاق لآخر جزء منها ، (ولا يجوز سرت البارحة حتى ثلثيها) وفي بعض النسخ ثلثها بالإفراد ، (أو نصفها) فإن الثلثين أو الثلث أو النصف ليس جزءا أخيرا من الليلة ولا ملاقيا لآخر جزء منها ، والبارحة أقرب ليلة مضت ، (كذا قاله المغاربة وغيرهم) والسيرافي وجماعة أوجبوا كون مجرورها آخر جزء مما قبلها ، فلم يحوزوا نمت البارحة حتى الصباح ، كذا نقله الرضي قلت : وآية الفجر مستند عتيد في الرد عليهم ، (وتوهم ابن مالك أن ذلك) الذي قال به المغاربة وغيرهم ، من أن مجرورها لا بد أن يكون آخر جزء أو ملاقيا له (لم يقل به إلا الزمخشري ، واعترض عليه بقوله :
عينت ليلة فما زلت حتى |
|
نصفها راجيا فعدت يؤوسا) (١) |
فإن النصف ليس آخر جزء من الليلة ولا ملاقيا لآخر جزء ، (وهذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل : فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها ، وإن كان المعنى عليه ولكنه لم يصرح به) ، وهذا كما تراه جمود على الظاهر ، وإذا كانت الليلة مرادة قطعا كانت في حكم الملفوظ بها ، ولا أثر لخصوص النطق بها في ذلك فإذن يكون اعتراض ابن مالك موجها.
(الثاني) من الأمور الثلاثة التي تخالف حتى إلى فيها (أنها) أي : أن حتى (إذا لم يكن معها قرينة تقتضي دخول ما بعدها) في ما قبلها (كما في قوله :
__________________
(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو بلا نسبة في الجنى الداني ص ٥٤٤ ، والدرر ٤ / ١٠٩ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٣.
١٨٨ ـ ألقى الصّحيفة كي يخفّف رحله |
|
والزّاد ، حتّى نعله ألقاها |
أو عدم دخوله كما في قوله [من البسيط] :
١٨٩ ـ سقى الحيا الأرض حتّى أمكن عزت |
|
لهم ، فلا زال عنها الخير مجدودا |
حمل على الدخول ، ويحكم في مثل ذلك لما بعد «إلى» بعدم الدخول ، حملا على الغالب في البابين ، هذا هو الصحيح في البابين ، وزعم الشيخ شهاب الدين القرافي أنه لا خلاف في وجوب دخول «ما» بعد «حتى» ، وليس كذلك ، بل الخلاف فيها مشهور ،
______________________________________________________
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله |
|
والزاد حتى نعله ألقاها) (١) |
فإن القرينة هنا وهي ألقاها تقتضي دخول النعل في الملقى ، فإن قلت : الذي أخبر أولا أن ألقاه هو الصحيفة ، والزاد والنعل مقطوع بعدم دخولها في شيء منهما ، قلت : يؤول ذلك بالمثقل كما يجيء ، فدخل فكأنه قال ألقى ما يثقله حتى نعله ، (أو عدم دخوله كما في قوله :
سقى الحيا الأرض حتى أمكن عزيت |
|
لهم فلا زال عنها الخير مجدودا) (٢) |
الحيا بالقصر المطر ويمد كذا في «القاموس» ، وعزيت نسبت ومجدودا بجيم ودالين مهملتين أو معجمتين ، أي : مقطوعا ، ولا أعلم الرواية في البيت هل هي بالإهمال أو بالإعجاز ، وقرينة دعائه على أمكنتهم بدوام قطع الخير عنها يقتضي عدم دخولها في الأرض المدعو لها بالسقيا (حمل على الدخول) ، هذا جواب إذا من قوله : إذا لم تكن معها قرينة ، ويحكم (في مثل ذلك) حيث لا تكون قرينة تقتضي الدخول ولا قرينة تقتضي عدمه (لما بعد إلى بعدم الدخول) ، على العكس من حتى (حملا على الغالب في البابين) باب حتى وباب إلى ، (هذا هو الصحيح في البابين) ولم يقل فيهما قصدا لزيادة التقرير والتثبيت في النفس ، حتى يكون مستحضرا لا يزول عن البال ، لا سيما وقد وقع في إنكار الخلاف فيما نحن فيه بعض العلماء.
(وزعم الشيخ شهاب الدين القرافي : أنه لا خلاف في وجوب دخول ما بعد حتى ، وليس كذلك بل الخلاف فيها مشهور) ، ومن الناس من يقول : إن مذهب أكثر النحاة أن ما بعد حتى ليس بداخل فيما قبلها كما في إلى نقله صاحب «الكشف» من الحنفية ، وذكر أنه قول ابن جني
__________________
(١) البيت من البحر الكامل ، وهو للمتلمس في ملحق ديوانه ص ٣٢٧ ، ولأبي (أو لابن) مروان في خزانة الأدب ٣ / ٢١ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٢٦٩. اه. انظر : المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية ٨ / ٢٨٠.
(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٢٨٩.
وإنما الاتفاق في «حتى» العاطفة ، لا الخافضة ، والفرق أن العاطفة بمعنى الواو.
والثالث : أن كلّا منهما قد ينفرد بمحلّ لا يصلح للآخر.
فممّا انفردت به «إلى» أنه يجوز : «كتبت إلى زيد وأنا إلى عمرو» ، أي : هو غايتي ، كما جاء في الحديث : «أنا بك وإليك» ، و «سرت من البصرة إلى الكوفة» ؛ ولا يجوز : حتى زيد وحتى عمرو ، وحتى الكوفة ، أمّا الأوّلان فلأنّ «حتى» موضوعة لإفادة تقضّي الفعل قبلها شيئا فشيئا إلى الغاية ، و «إلى» ليست كذلك. وأما الثالث فلضعف «حتى» في الغاية ؛ فلم يقابلوا بها ابتداء الغاية.
______________________________________________________
وإليه كان يميل أبو النصر الصفار والبزدوي ، ولكنه لا يستقيم على الإطلاق بل إن كان ما بعد حتى بعضا لما قبلها دخل ، نحو : رآني أشراف البلدة حتى الأمير ، وإلا فلا نحو : قرأت الليلة حتى الصباح ، (وإنما الاتفاق في حتى العاطفة لا الخافضة ، والفرق بينهما أن العاطفة بمنزلة الواو) فتعين دخول ما بعدها فيما قبلها ، ولا يتأتى بخروجه.
(والثالث) من الأمور الثلاثة التي تخالف حتى إلى فيها (أن كلا منهما قد ينفرد بمحل لا يصلح للآخر ، فما انفردت به إلى أنه يجوز كتبت إلى زيد وأنا إلى عمرو أي : هو غايتي كما جاء في الحديث «أنا بك وإليك» (١) وسرت من البصرة إلى الكوفة ، ولا يجوز حتى زيد) في المثال الأول فلا تقول : كتبت حتى زيد ، (وحتى عمرو) في المثال الثاني فلا تقول حتى عمرو ، (وحتى الكوفة) في المثال الثالث فلا تقول : سرت من البصرة حتى الكوفة (أما الأولان) وهما امتناع كتبت حتى زيد ، وأنا حتى عمرو ؛ (فلأن حتى موضوعة لإفادة تقضي الفعل قبلها شيئا فشيئا إلى الغاية) وليس ما قبل حتى في ذينك المثالين مقصودا به التقضي شيئا فشيئا ، فلا وجه لدخولها ثم (وإلى ليست كذلك) فجاز دخولها فيها ؛ لانتفاء المانع.
(وأما الثالث) وهو امتناع سرت من البصرة حتى الكوفة (فلضعف حتى في الغاية ، فلم يقابلوا بها ابتداء الغاية) ، وهذا معنى ما نقله صاحب «الكشف» عن كتاب «بيان حقائق الحروف» من أن إلى لانتهاء الابتداء فيما تدل عليه ، على نقيض من يقول : خرجت من البصرة إلى الكوفة ، فمن لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية ، ولا يجوز أن تستعمل حتى في مقابلة من ، لا يقال : خرجت من البصرة حتى الكوفة ؛ وذلك لأن إلى أصل في الغاية لا تخرج عن معناه إلى معنى آخر ، وحتى ضعيفة في معنى الغاية فإنها تخرج إلى غيرها من المعاني.
__________________
(١) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٧٧١) ، والترمذي ، كتاب الدعوات عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، باب منه (٣٤٢٢) ، والنسائي ، كتاب الافتتاح ، باب نوع آخر من الذكر والدعاء (٨٩٧).
ومما انفردت به «حتى» أنه يجوز وقوع المضارع المنصوب بعدها ، نحو : «سرت حتّى أدخلها» ، وذلك بتقدير : حتى أن أدخلها ، و «أن» المضمرة والفعل في تأويل مصدر مخفوض بـ «حتى» ، ولا يجوز : «سرت إلى أدخلها» ، وإنما قلنا : إن النصب بعد «حتى» بـ «أن» مضمرة لا بنفسها ، كما يقول الكوفيّون ، لأن «حتى» قد ثبت أنها تخفض الأسماء ، وما يعمل في الأسماء لا يعمل في الأفعال ، وكذا العكس.
ول «حتى» الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان : مرادفة «إلى» ، نحو : (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه : ٩١] ،
______________________________________________________
(ومما انفردت به حتى أنه يجوز وقوع المضارع المنصوب بعدها ، نحو : سرت حتى أدخلها وذلك بتقدير حتى أن أدخلها ، وأن المضمرة والفعل في تأويل مصدر مخفوض بحتى ، ولا يجوز سرت إلى أدخلها) بنصب الفعل بإضمار أن بعد إلى ، ولم أتحرر العلة في ذلك ، (وإنما قلنا : إن النصب بعد حتى بأن مضمرة بعد حتى لا بنفس حتى كما يقول الكوفيون ؛ لأن حتى قد ثبت أنها تخفض الأسماء وما يعمل في الأسماء لا يعمل في الأفعال ، وكذا العكس) ، وهذا لا يتوجه اعتراضا على جميع الكوفيين ، فالكسائي منهم يقول : إن حتى في لسان العرب ليست حرف جر وإن الجر الذي بعدها في نحو : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر : ٥] بتقدير حرف الجر أي : حتى انتهى إلى مطلع الفجر ، فلا يرد عليه الاعتراض بأن عامل الاسم لا يعمل في الفعل ، كما يرد على غيره من الكوفيين ، نعم يرد عليه أنها غير مختصة بقبيل فكيف نصبت الفعل؟ ويرد أيضا عليه أن حذف الجار وإبقاء عمله في غاية القلة ، فكيف اطرد بعد حتى ، وأيضا كيف اطرد حذف الفعل بعدها مع انجرار الاسم كذا قال الرضي ، فإن قلت : هذه الكلية التي ساقها المصنف ، وهو أن ما يعمل في الأسماء لا يعمل في الأفعال وكذا العكس يشكل ، بمثل قولك : أي رجل تضرب أضرب بالجزم ، فإن أيا فيه شرطية وقد عملت الجزم في الفعل والخفض في الاسم المضاف إليه على الصحيح ، في أن عامل المضاف إليه هو المضاف ، ويشكل أيضا بكي ، فإنها جارة وناصبة ، قلت : إنما جزمت أي من جهة تضمنها ؛ لأن الشرطية ، وجرها ليس من هذه الجهة ، وكي الجارة للتعليل والناصبة مصدرية كأن فلم يقع جرها ونصبها من جهة واحدة ، ومقصود الجماعة أن عامل أحد القبيلين لا يعمل في الآخر من تلك الجهة التي عمل بها في ذلك القبيل ، نعم ، تنتقض هذه القاعدة على الكوفيين إن قالوا بها باللام الزائدة ؛ فإنها تعمل الجر في الاسم إجماعا ، وتعمل عندهم النصب في مثل : ما كان زيد ليفعل ، وهي للتأكيد في كل من الحالين.
(ولحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان مرادفة إلى نحو) (لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي : قالوا : لن نزال مقيمين على العجل وعبادته إلى أن يرجع إلينا