شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

مع أن الذي أودعته فيها بالنسبة إلى ما ادّخرته عنها كشذرة من عقد نحر ، بل كقطرة من قطرات بحر ، وها أنا بائح بما أسررته ، مفيد لما قرّرته وحرّرته ،

______________________________________________________

وعاملها ، وأن وصلتها في محل رفع على أنه مبتدأ وخبره الظرف السابق ، أي : ومما حثني على وضع هذا التصنيف حسن موقع مقدمتي عند العقلاء حين أنشأتها.

(مع أن الذي أودعته فيها بالنسبة إلى ما ادخرته عنها كشذرة من عقد نحر ، بل كقطرة من قطرات بحر) مع تتعلق إما بحسن ، أو بسار على طريق التنازع ، وأودع يتعدى بنفسه إلى مفعولين تقول : أودعت زيدا مالا ؛ لكن المصنف ضمنه معنى وضع فعداه إلى الثاني بفي ، وبالنسبة ظرف مستقر في محل نصب على الحال من ضمير النصب في أودعته ، أي : أودعته فيها ملتبسا بالنسبة ، وادخرت افتعلت من الذخر بالمعجمة فقلبت تاء الافتعال دالا ، وأدغمت الفاء التي هي ذال معجمة فيها بعد إبدالها مهملة ، كما في ادكر على الوجه القوي.

والشذرة بشين وذال معجمتين : قال الجوهري : الشذر من الذهب ما يلتقط من المعدن من غير إذابة الحجارة ، والقطعة منه شذرة.

وقال أيضا : والشذر صغار اللؤلؤ ، وكأن هذا الأخير هو مراد المصنف ، والعقد بكسر العين : القلادة ، والنحر موضعها من الصدر والقطرة الواحدة من الماء ، أو غيره من المائع من كل ما يتقاطر شيئا فشيئا ، والقطرات الجمع بفتح الطاء.

والبحر خلاف البر قال الجوهري : يقال سمي بذلك لعمقه واتساعه ، قلت : ولا يظهر للإتيان بقطرات هنا معنى ، بل المقام يقتضي عدم ذكرها ، وذلك ؛ لأن المراد التدريج في تقليل ما وضعه في المقدمة بالقياس إلى ما لم يضعه فيها ، ولا شك أن القطرة بالنظر إلى كونها من جملة البحر أقل منها بالنظر إلى قطرات من البحر ، وفي هاتين السجعتين الجناس المضارع.

(وها أنا بائح بما أسررته) بائح اسم فاعل من باح يبوح ، يقال باح بسره إذا أظهره ، والمراد بما أسره هو ما ادخره عن تلك المقدمة ، ووقع للمصنف نظير هذا التركيب في موضعين آخرين من الباب الخامس ، فقال : في الجهة الأولى وها أنا مورد بعون الله تعالى أمثلة ، وقال في الجهة الثانية : وها أنا مورد لك أمثلة من ذلك ، وفي هذه المواضع الثلاثة إدخال هاء التنبيه على ضمير الرفع المنفصل مع أن خبره ليس اسم إشارة ، والمصنف يأباه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في حرف الهاء من هذا الكتاب.

(مفيد لما قررته وحررته) التقرير تثبيت الشيء في مقره ، والتحرير التهذيب ، وأخذ الخلاصة وإظهارها بمنزلة جعل الشيء جزءا خالصا ، وفي قررته وحررته الجناس اللاحق ، وفي

٢١

مقرّب فوائده للأفهام ، واضع فرائده على طرف الثّمام ، لينالها الطّلاب بأدنى إلمام ، سائل من حسن خيمه ، وسلم من داء الحسد أديمه ،

______________________________________________________

هذه السجعة مع ما قبلها لزوم ما لا يلزم ، وقد ينتقد هذا التركيب بأن أفاد متعد لاثنين بنفسه ، تقول : أفدت زيدا مالا ، وأنا مفيد إياه علما ، فقد اشتمل على إدخال لام التقوية على مفعول ما هو متعد لاثنين ، وهو ممتنع على ما صرح به ابن مالك ، وجوابه أن هذا محمول على ما إذا كان المفعولان مذكورين معا متقدمين على العامل أو متأخرين عنه ؛ إذ في علة المنع التي ذكرها إيماء إلى ذلك المعنى ؛ لأنه قال إن زيدت اللام في المفعولين فلا يجوز ؛ إذ لا يتعدى فعل إلى اثنين بحرف واحد ، وإن زيدت في أحدهما لزم الترجيح بغير مرجح ، وقضية هذا أنه لو لم يذكر إلا واحد فقط ، أو ذكرا معا ، لكن مع تقديم أحدهما جاز لقيام المرجح ، ولا يخفى أن أحد المفعولين هنا محذوف ؛ لأن الغرض تعلق بالمذكور ، وهو ما يفاد لا بالمحذوف ، وهو من يفاد ، فنزل منزلة المتعدي إلى واحد فصح دخول لام التقوية.

(مقرب فوائده للأفهام واضع فرائده على طرف الثمام لينالهما طالبهما بأدنى إلمام) الفوائد جمع فائدة ، وهو اسم للأمر المنتفع به. وقال الجوهري : الفائدة ما استفيد من علم أو مال تقول منه فادت له فائدة ، قلت وهو يائي العين أو واويها ، سمع فيه المفيد والمفود على ما في القاموس ، وواضع ، أي ملق.

والفرائد : الدّر : إذا أنظم وفصل بغيره ، ويقال فرائد الدر كبارها ، وهو جمع فريد شبه مسائل هذا الكتاب النحوية باعتبار ما أدخله بينها في بديع البيان ، ونكت التفسر بالدر الذي نظم ، وفصل بغيره من الجواهر البديعة أو شبهها بكبار الدر في النفاسة ، وعزة وجودها.

والثمام : بثاء مثلثة مضمومة : نبت ضعيف له خوص ، أو شيء شبيه بالخوص الواحدة ثمامة شبه تسهيله للمباحث الجليلة بما ذكر في كونه سببا للنيل من غير مشقة ، والإلمام النزول ومقاربة الشيء وكلاهما ممكن هنا ، وفي فوائده وفرائده الجناس المضارع ، وفي الثمام مع قوله إلمام لزوم ما لا يلزم.

(سائل من حسن خيمه وسلم من داء الحسد أديمه) سأل يتعدى تارة بنفسه إلى مفعولين كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) [محمد : ٣٦ ـ ٣٧] ومنه ما نحن فيه فمن مفعوله الأوّل ، وقوله فيما يأتي أن يغتفر مفعوله الثاني ، ويتعدى تارة إلى الأول بنفسه وإلى الثاني نحو (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) [البقرة : ١٨٩] أو في معناها نحو (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] والخيم بكسر الخاء المعجمة السجية والطبيعة. قال الجوهري : لا واحد له من لفظه والأولى أن ينون سائل لمكان المناسبة لما تقدم ،

٢٢

إذا عثر على شيء طغى به القلم ، أو زلّت به القدم ، أن يغتفر ذلك في جنب ما قرّبت إليه من البعيد ، ورددت عليه من الشّريد ، وأرحته من التعب ، وصيّرت القاصي يناديه من كثب ، وأن يحضر قلبه أن الجواد قد يكبو ، وأن الصّارم قد ينبو ، وأن النار قد تخبو

______________________________________________________

ولا مانع من إضافته ، والحسد ظلم ذي النعمة بتمني زوالها عنه وصيرورتها إلى الحاسد ، شبهه بالداء الذي يفسد به الجلد ولهذا عبر بالأديم عن القلب (إذا عثر على شيء طغى به القلم ، أو زلت به القدم) الظرف يتعلق بسائل وعثر بمثلثة ، أي : اطلع : يقال عثر عليه يعثر يفتح العين في الماضي وضمها في المضارع عثرا ، كقتلا ، وعثورا ، كقعودا ، وطغى تجاوز الحد ، وخرج عن طريق الاستقامة وهو يائي اللام وواويها ، يقال طغى طغيانا ، وطغى طغوانا.

والقلم : معروف ، وهو القصبة التي يكتب بها ، وزلة القدم : خروجها غلبة عن الموضع الذي ينبغي ثباتها فيه ، وكلاهما كناية عن وقوع الخطأ ، وصدور ما لا ينبغي ، والمعنى إذا عثر على شيء حاولت فيه الصواب ، فحدت عنه بغير اختيار ، والباء من به في الموضعين سببية أو ظرفية ، وفي القلم والقدم الجناس المضارع ، وتعريفهما باللام للدلالة على أنه أريد بهما قلم معين وقدم معينة ، وهما قلم المصنف وقدمه ، فهذا تعريف لامي قائم مقام التعريف الإضافي ، وليست اللام عوضا عن المضاف كما يراه الكوفيون ، وسيأتي فيه كلام في أل من حرف الألف المفردة.

(أن يغتفر ذلك في جنب ما قربت عليه من البعيد ورددت عليه من الشريد وأرحته من التعب وصيرت القاصي يناديه من كثب) الغفر الستر ، أي : أسأل من وصف بحسن السجية ، والسلامة من الحسد أن يستر ما اطلع عليه من سهو وخطأ في جنب ما ذكرته من المحاسن ، أي يجعل المساوىء مدفونة في جانب المحاسن بحيث يكون هذا الجانب مغطيا لتلك وساترا لها ، وفيه إشارة إلى أن إماتة المساوىء بالإعراض عنها من حيث جعلها كالمقبور في الرمس (١) ، وآثر يغتفر على يغفر للمبالغة في الستر ، والشريد : الطريد ، والقاصي بالصاد المهملة : البعيد ، وهو صفة للمعنى ، وإسناد ينادي إلى ضميره مجاز ، والكثب القرب بفتح الكاف والثاء المثلثة.

(وأن يحضر قلبه أن الجواد قد يكبو وأن الصارم قد ينبو وأن النار قد تخبو) أن يحضر معطوف على أن يغتفر ، وهو مفعول سائل الثاني ، وأن الجواد قد يكبو مفعول يحضر ، وما بعده

__________________

(١) الرمس : هو القبر ، وما يحثى على الميت من التراب ، وأصله الدخن وحثي التراب عليه ، يقال : رمسه بالتراب. اه. انظر : اللسان ، مادة / رمس / ، وتاج العروس ، مادة / رمس /.

٢٣

وأن الإنسان محلّ النسيان ، وأن الحسنات يذهبن السيّئات [من الطويل] :

١ ـ ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها

كفى المرء نبلا أن تعدّ معايبه

______________________________________________________

معطوف عليه والأخير معطوف على الثاني أو الأول على الخلاف الذي سبق ذكره ، وفيه تلميح بالإشارة إلى أمثال للعرب مشهورة ، والجواد الفرس الجيد كبا يكبو سقط يسقط ، والصارم السيف القاطع ، ونبا ينبو ، إذا لم يعمل في الضريبة ، والنار مشتقة من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة ، واضطرابا ، وخبت النار تخبو إذا طفئت ، يعني : أنه إذا استحضر أن هذه الأمور مع رفعة مقدارها لا يحطها ما قد تتصف به مما لا يناسب مقامها اغتفر للمصنف ما قد يقع منه من هفوة.

(وأن الإنسان محل النسيان وأن الحسنات يذهبن السيئات) كلّ من هذين معطوف على ما يليه ، أو على الأول كما سبق ، والمعنى : أن يحضر قلبه أن الإنسان محل النسيان ، فلا يؤاخذ بما صدر عنه ناسيا له ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه : «إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي» (١) ، وعلى هذا فليس وزنه فعلان ، بل هو أفعلان ، والأصل إنسيان فحذفت الياء تخفيفا لكثرة دوره على الألسنة وردوها في التصغير فقالوا أنيسيان ، لأنه لا يكثر حينئذ ، ولأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، واستحضار أن الحسنات يذهبن السيئات مما يبعث على اغتفار ما يقع للمصنف في هذا الكتاب ، فإن محاسنه فيه غالبة ، وفيه تلميح إلى الآية.

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء نبلا أن تعد معايبه (٢)

هذا البيت أنشده ابن سعيد الأندلسي في كتابه المسمى «بملوك الشعر» ، منسوب إلى يزيد بن خالد المهلبي من شعراء المائة الثانية.

والمرء : يحتمل أن يضبط بالنصب مفعول كفى ، وأن تعد معايبه في محل رفع على أنه فاعل ، ويحتمل أن يضبط بالرفع ، وأن تعد معايبه بدل اشتمال ، ونبلا بنون مضمومة فموحدة ساكنة ، أي : فضلا ، وقد يوجد في بعض النسخ بهذا اللفظ بدل نبلا ، وفي القاموس : النبل الذكاء والنجابة ، وانتصاب نبلا أو فضلا على التمييز عن النسبة ، فالمعنى على الأول أجزأ المرء فضل عد معايبه ، أي الفضل الذي هو عد معايبه جعل ذلك فضلا من جهة أنه ملزوم لكثرة

__________________

(١) ذكره الإمام القرطبي في تفسيره ١١ / ٢٥١ ، وابن جرير في تفسيره ١٤ / ٢٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٦٧ ، والطبراني في الصغير ٢ / ١٤٠.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو ليزيد المهلبي في تاج العروس ١٠ / ٥١٠ (حبر) ، وخزانة الأدب للحموي ١ / ٤٥٦.

٢٤

وينحصر في ثمانية أبواب :

الباب الأول : في تفسير المفردات وذكر أحكامها.

الباب الثاني : في تفسير الجمل وذكر أقسامها وأحكامها.

______________________________________________________

المحاسن ، وذلك لأن عدّ المعايب يقتضي بحسب العرف قلتها ؛ إذ القليل هو الذي يتعرض لعده وإحصائه ، وقلتها يستلزم كثرة المحاسن ، والمعنى على الثاني أجزأ فضل عد معايب المرء والمفعول محذوف ، ويحتمل الحالية ، والتنوين فيه للتفخيم ، أي كفى ذلك حالة كونه فضلا عظيما.

(وينحصر) هذا التصنيف (في ثمانية أبواب) وإلى ذلك أشرت في تقريظي لهذا الكتاب حيث قلت :

ألا إنما مغني اللبيب مصنف

جليل به النحوي يحوي أمانيه

وما هو إلا جنة قد تزخرفت

أما تنظر الأبواب فيه ثمانيه

ووجه الحصر في الأبواب الثمانية : أن المتكلم فيه إما أن يكون كيفية الإعراب أولا فإن كان الأول فهو الباب السابع ، وإن كان الثاني فإما أن يتعلق بالإعراب من جهة ما يتطرق إليه من الخلل أو لا.

الأول هو الباب السادس ، إن كان من قبيل ما اشتهر بين المعربين ، والباب الخامس إن لم يكن من هذا القبيل ، والثاني إما أن يكون باعتبار أحكام كثيرة الدور تتعلق بألفاظ غير معينة من مفردات وجمل ، أو لا يكون كذلك ، والأول هو الباب الرابع ، والثاني إما أن يكون باعتبار المفردات المعينة أو الجمل ، أو ما يتردد بين المفرد والجملة أو لا ، والثاني هو الباب الثامن ، والأول يشتمل على ثلاثة أمور كما علمت فإن تعلق الكلام بمفردات معينة من جهة تفسيرها وذكر أحكامها ، فهو الباب الأول وإن تعلق الكلام بالجمل من جهة تفسيرها ، وذكر أقسامها وأحكامها فهو الباب الثاني ، وإن تعلق الكلام بالظرف وشبههه ، وذكر أحكامها فهو الباب الثالث.

(الباب الأول : في تفسير المفردات) المعينة كهمزة الاستفهام ، وباء الجر ، وبل ، وبلى ، والنداء ، وغير ذلك.

(وذكر أحكامها) التي تعرض لها عند التركيب.

(الباب الثاني : في تفسير الجمل ، وذكر أقسامها) ككونها اسمية أو فعلية ، وكونها صغرى وكبرى وذات وجهين.

(و) ذكر (أحكامها) ككونها في محل رفع أو نصب أو جر إلى غير ذلك.

٢٥

الباب الثالث : في ذكر ما يتردّد بين المفردات والجمل ، وهو الظّرف والجارّ والمجرور ، وذكر أحكامهما.

الباب الرابع : في ذكر أحكام يكثر دورها ، ويقبح بالمعرب جهلها.

الباب الخامس : في ذكر الأوجه التي يدخل على المعرب الخلل من جهتها.

الباب السادس : في التّحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصّواب خلافها.

الباب السابع : في كيفية الإعراب.

الباب الثامن : في ذكر أمور كليّة يتخرّج عليها ما لا ينحصر من الصّور الجزئية.

واعلم.

______________________________________________________

(الباب الثالث : في ذكر ما يتردد بين المفردات والجمل وهو الظرف) كما في نحو : زيد عندك.

(والجار والمجرور) كما في نحو : زيد في الدار ، ووجه جعلهما مترددين أنهما تارة يتعلقان بمفرد ، وتارة يتعلقان بجملة ، فلم يلزما طريقة واحدة ، بل يسلك بهما طريق الإفراد وقتا وطريق الجملة أخرى.

(وذكر أحكامهما) أي : القسمين أحدهما الظرف والآخر الجار والمجرور.

(الباب الرابع : في ذكر أحكام يكثر دورها ويقبح بالمعرب جهلها) وهذه تتعلق بأبواب معينة كمسوغات الابتداء بالنكرة ، وما افترق فيه الحال والتمييز ، وما افترق فيه اسم الفاعل والصفة المشبهة إلى غير ذلك.

(الباب الخامس : في ذكر الأوجه التي يدخل على المعرب الخلل من جهتها) وهذه لم تشتهر بين المعربين على الوجه الذي أورده المصنف في هذا الباب على ما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ، والأوجه جمع وجه ، والمراد به هنا الطريق يقال هذا وجه الشيء ، أي طريقه.

(الباب السادس : في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها) وهذه الأمور أيضا من الأوجه التي يدخل على المعرب الخلل من جهتها ، لكنها امتازت عما تقدم باشتهارها بين المعربين ، ولذلك خصها بلفظ التحذير.

(الباب السابع : في كيفية الإعراب) والمنتفع بهذا الباب غالبا المبتدىء الناشىء في هذا الفن.

(الباب الثامن : في ذكر أمور كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية) ويشتمل هذا الباب على ثنتي عشر قاعدة ، كما ستراه إن شاء الله تعالى والواو من قوله : (واعلم) إما استئنافية ، أو عاطفة على مدخول الفاء من قوله : فيما تقدم فدونك كتابا ، وقد يستبعد الثاني

٢٦

أنني تأمّلت كتب الإعراب فإذا السبب الذي اقتضى طولها ثلاثة أمور :

أحدها : كثرة التّكرار ، فإنها لم توضع لإفادة القوانين الكليّة ، بل للكلام على الصور الجزئيّة.

فتراهم يتكلّمون على التركيب المعين بكلام ، ثم حيث جاءت نظائره أعادوا ذلك الكلام ، ألا ترى أنّهم حيث مرّ بهم مثل الموصول في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٢ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٢ ، ٣] ذكروا أنّ فيه ثلاثة أوجه ،

______________________________________________________

بطول الفصل جدا ، ولفظ اعلم كثيرا ما يقدمه المصنفون أمام الكلام الذي يلقونه لغرض الاعتناء به واستدرار الإصغاء إليه ليقبل عليه السامع ويتمكن منه فضل تمكن ، ولا يخفى أن متعلق العلم هنا عند المصنف بهذه المثابة ، وهو قوله : (أنني تأملت) أي : نظرت متبينا (كتب الإعراب فإذا السبب الذي اقتضى طولها ثلاثة أمور) وهنا مضاف محذوف إما من المبتدأ ، أو من الخبر لتصحيح الحمل ، فالتقدير على الأول فإذا أنواع السبب ، أو أقسام السبب ، والتقدير على الثاني فإذا السبب الذي اقتصى طولها ذو ثلاثة أمور ، وإذا هذه فجائية فإما أن تجعل الفاء الداخلة عليها للسببية ، المراد منها لزوم ما بعدها لما قبلها ، أي : مفاجأة وجود سبب التطويل ناشئا عن هذه الأمور لازمة للتأمل ، أو هي للعطف على ظاهر كلام ابن الحاجب ، أي تأملت ففجأت وقت تعدد هذا السبب ، وسيأتي الكلام على ذلك عند وصول إذا الفجائية إن شاء الله تعالى.

(أحدها : كثرة التكرار فإنها لم توضع لإفادة القوانين الكلية) المنطبقة على ما يندرج تحتها من الجزئيات.

(بل للكلام على الصور الجزئية) فيسوقهم إلى الكلام على جزئية وإن تكررت (فتراهم يتكلمون على التركيب المعين بكلام ثم حيث جاءت نظائره أعادوا ذلك الكلام) فيفضي إلى كثرة التكرار فيحصل التطويل.

(ألا تراهم حيث مرّ بهم مثل الموصول في قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ٢ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٢ ـ ٣] ذكروا فيه ثلاثة أوجه) هي أوجه إعراب الاسم ، فالجر على أنه نعت تابع ، والرفع على أنه في الأصل نعت لكن قطع إلى الرفع بجعله خبرا لمبتدأ واجب الحذف ، أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده ، والنصب على أنه في الأصل نعت لكنه قطع إلى النصب بعامل واجب الحذف ، والقطع في هذه الصور بوجهيه لإرادة المدح ، وفي غيرها بحسب ما يقتضيه المقام من مدح أو ذم أو ترحم ، ووجه دلالة مثل هذا الرفع والنصب على ما قصد به مما ذكرناه من المدح والذم والترحم أن في الافتنان بمخالفة الإعراب ، وتغيير المألوف زيادة تنبيه وإيقاظ للسامع ،

٢٧

وحيث جاءهم مثل الضمير المنفصل في قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران : ٣٥] ذكروا فيه ثلاثة أوجه أيضا ، وحيث جاءهم مثل الضمير المنفصل في قوله تعالى : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ذكروا فيه وجهين ،

______________________________________________________

وتحريك لرغبته في الاستماع ، وذلك لا سيما مع حذف المبتدأ ، أو الفعل أدل دليل على الاهتمام بالمذكور ، وذلك يكون لمدح أو ذم ، أو نحو ذلك مما يعنيه المقام ، وقال ابن مالك : إنه التزم حذف الفعل إشعارا بأنه لإنشاء المدح كالمنادى ، ثم التزم في الرفع حذف المبتدأ ليجري الوجهان على سنن واحد ، وحيث ظرف لغو عامله الفعل من قوله ذكروا ، وتقديمه عليه للاهتمام ، لأنه بصدد تعداد الأماكن التي وقع فيها التكرار ، وأما تقديمه على الظرف الآخر اللغو ، وهو فيه فواجب لئلا يعود الضمير على غير متقدم.

(وحيث جاءهم مثل الضمير المنفصل من قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران : ٣٥] ، ذكروا أيضا ثلاثة أوجه) هي كون أنت تأكيدا للضمير المنصوب ، وكونه فصلا ، وكونه مبتدأ مخبرا عنه بما بعده ، وأيضا مفعول مطلق حذف عامله وجوبا سماعا ، كما ذكر بعضهم أو حال حذف عاملها وصاحبها ، أو وقع ذلك معترضا بين ذكروا والمفعول الذي هو ثلاثة أوجه ، والأصل ذكروا فيه ثلاثة أوجه أرجع إلى الإخبار عنهم بذكر الأوجه الثلاثة رجوعا ، أو أخبر بما تقدم راجعا إلى الإخبار عنهم بذكر الأوجه الثلاثة فعلى الأول هو مفعول مطلق ، وعلى الثاني هو حال من ضمير المتكلم.

واعلم أن أيضا : كلمة لا تستعمل إلا مع شيئين بينهما توافق ويمكن استغناء كل منهما عن الآخر ، فخرج بالشيئين جاء زيد أيضا مقتصرا عليه لفظا وتقديرا ، وبالتوافق بينهما ، نحو : جاء زيد ومات عمرو أيضا ، وبإمكان الاستغناء نحو : اختصم زيد وعمرو أيضا فلا يقال شيء من ذلك على هذه الوجوه المحترز عنها ، وإنما تستعمل هذه الكلمة عند وجود الضابط المذكور ، وهي هنا مصدر آض بمعنى رجع وأعربه جماعة في مثل قال زيد كذا ، وقال أيضا حالا من ضمير قال المستكن على أنه بمعنى اسم الفاعل مثلا ، أي : وقال أيضا ، أي : راجعا إلى القول ، وهذا إنما يحسن إذا صدر القول المقيد بالحال بعد صدور قول سابق حتى يصح أن يقال : إنه راجع إلى القول بعد ما فرغ عنه ، وليس ذلك شرطا في استعمال أيضا بدليل صحة ، قلت اليوم كذا ، وقلت أمس أيضا ، والذي يطرد في جميع المواضع ما قدمناه ، ويؤيده أنك تقول : عند زيد مال ، وأيضا علم فلا يكون قبلها ما يصلح للعمل فيها فتحتاج إلى التقدير فتأمله.

(وحيث جاءهم مثل الضمير المنفصل من قوله تعالى : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ذكروا فيه وجهين) هما كونه تأكيدا ، وكونه فصلا ، وسقط كونه مبتدأ لنصب ما بعده.

٢٨

ويكرّرون ذكر الخلاف فيه إذا أعرب فصلا ، أله محلّ باعتبار ما قبله أم باعتبار ما بعده أم لا محلّ له؟ والخلاف في كون المرفوع فاعلا أو مبتدأ إذا وقع بعد إذا في نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ١) [الانشقاق : ١] أو «إن» في نحو : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) [النساء : ١٢٧] أو الظرف في نحو : (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم : ١٠]

______________________________________________________

(ويكررون ذكر الخلاف فيه إذا أعرب فصلا أله محل باعتبار ما قبله أم باعتبار ما بعده أم لا محل له) الضمير المجرور بفي عائد إلى مثل الضمير المنفصل الذي تقدم ذكره ، وإذا ظرف للخلاف وأله محل إلى آخره في محل جر على أنه بدل اشتمال من الضمير المجرور المتقدم ، وثم مضاف محذوف أي : جواب أله محل ، والمعنى ويكررون ذكر الخلاف في جواب قول السائل أله محل باعتبار ما قبله أم باعتبار ما بعده ، فإن قلت يشكل عليه قوله : أم لا محل له فإن هذا القول لا يتأتى مع إعرابه فصلا ، أي : مع جعله معربا بحسب المحل ، قلت : إنما يشكل إذا جعلت أم متصلة عاطفة على ما سبق أما إذا جعلت منقطعة لمجرد الإضراب ، أي : بل لا محل له أصلا : إذ لا يكون هذا حينئذ من محل الخلاف إذا أعرب فصلا فإن قلت فلم لا يجوز أن يكون المراد بالإعراب الإعراب اللغوي ، أي : إذا ظهر مثل هذا الضمير حالة كونه فصلا وحينئذ فتكون المحتملات الثلاث موانع للاختلاف؟

قلت : هو خروج عن الأصل لا لداع ، إذ الأصل حمل كلام أهل كل فن على ما هو متعارف بينهم ، وقد أمكن بالطرق التي مرت فلا يعدل عنه ، ويحتمل أن يكون أله محل باعتبار ما قبله ، أم باعتبار ما بعده في محل نصب ، أو رفع على أنه محكي لمقدر ، أي قائلين أله محل أو مقولا فيه أله محل على أن يكون حالا من ضمير يكررون أو فيه ، والأولى ما سبق.

(والخلاف) بالنصب عطفا على المضاف من قوله يكررون ذكر الخلاف وبالجر عطفا على المضاف إليه المذكور ، أي : فيكررون ذكر الخلاف (في كون المرفوع فاعلا ، أو مبتدأ إذا وقع بعد إذا في نحو : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١]) وكونه فاعلا يفسره مذهب سيبويه ، وأكثر البصريين ، وكونه مبتدأ مذهب الأخفش.

(أو) بعد (إن) الشرطية (في نحو : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) [النساء : ١٢٨]) وكونه فاعلا مذهب البصريين أو أكثرهم ، وأما كونه مبتدأ على الخصوص بحيث لا يجوز جعله فاعلا فلم أعلم قائلا به ، نعم الكوفيون يجوزون فيه ثلاثة أوجه ، أن يكون فاعلا بمحذوف يفسره الظاهر كما يقول البصريون ، وأن يكون فاعلا بالفعل المتأخر ؛ لأنهم لا يتحاشون من جواز تقديم الفاعل على رافعه ، وأن يكون مبتدأ ، وأظن الأخفش يجوز هذا الأخير.

(أو) بعد (الظرف في نحو : (أَفِي اللهِ شَكٌ) [إبراهيم : ١٠]) ووجوب كونه فاعلا نقله ابن

٢٩

أو «لو» في نحو : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) [الحجرات : ٥] وفي كون «أنّ» و «أن» وصلتهما بعد حذف الجارّ في نحو : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] ، ونحو : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) [النساء : ٨٩] في موضع خفض بالجارّ المحذوف على حدّ قوله [من الطويل] :

٢ ـ [إذا قيل أيّ النّاس شرّ قبيلة]

أشارت كليب بالأكفّ الأصابع

______________________________________________________

هشام الأندلسي عن الأكثرين ، وأما كونه مبتدأ فلا أعلم من قال بوجوبه ، وإنما قال : ض (١) الأرجح كونه مبتدأ ، ويجوز كونه فاعلا وعكس ابن مالك فرجح فاعليته كما ستعرفه في الباب الثالث إن شاء الله تعالى.

(أو) بعد (لو في نحو : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) [الحجرات : ٥]) وكونه فاعلا بفعل محذوف مذهب كوفي اختاره الزمخشري وابن الحاجب ، وكونه مبتدأ مذهب سيبويه وجماعة.

(و) يكررون أيضا ذكر الخلاف (في كون أن) المشددة (أو أن) الخفيفة (وصلتهما) بضمير التثنية ، ولو أفرد لكان أحسن ؛ لأن العطف بأو ، أي وصلة إحدى هاتين الكلمتين ، (بعد حذف الجار في نحو : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨]) أي بأنه وهذا مثال للأول ، وهو أن المشددة.

(ونحو : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) [النساء : ٩٠]) أي : عن أن يقاتلوكم ، وهذا مثال للثاني ، وهو أن الخفيفة.

(في موضع خفض بالجار المحذوف على حد قوله) أي : قول الفرزدق :

إذا قيل : أي الناس شر قبيلة

(أشارت كليب بالأكف الأصابع) (٢)

أي : إلى كليب والأصابع فاعل أشارت ، وبالأكف ظرف مستقر حال منها ، أي أشارت الأصابع حالة كونها مع الأكف يريد أن الإشارة وقعت بمجموع الأصابع والأكف ، وفيه مزيد ذم لهذه القبيلة ، فإن قلت كيف تجعل أنّ أو أن مع الصلة في محل خفض بالمحذوف على حدّ ما وقع في هذا البيت ، والواقع فيه ليس بشاذ عند القائل به؟ قلت : إنما جعل على حده في مطلق الجر بالمحذوف لا في خصوصية الجر به من حيث كونه شاذا.

__________________

(١) هكذا العبارة في الأصل ، وذكرها الدسوقي في حاشيته بقوله : «قال بعضهم : الأرجح كونه ...» اه. ص ٧.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق ، انظر : ديوانه ١ / ٤٢٠ ، وتخليص الشواهد ص ٥٠٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ١٧٨.

٣٠

أو نصب بالفعل المذكور على حدّ قوله [من الكامل] :

٣- [لدن بهزّ الكفّ يعسل متنه]

فيه كما عسل الطّريق الثعلب

وكذلك يكرّرون الخلاف في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض ، وعلى الضمير المتّصل المرفوع من غير وجود الفاصل ، وغير ذلك مما إذا استقصي

______________________________________________________

(أو) في موضع (نصب بالفعل المذكور على حد قوله :) في صفة رمح :

لدن بهز الكف يعسل متنه

(فيه كما عسل الطريق الثعلب) (١)

الأصل كما عسل في الطريق ، وذلك ؛ لأن الطريق ظرف مختص فلا يتسلط عليه العامل إذا أريدت الظرفية إلا بواسطة في أو ما هو بمعناه تقول : سرت في الطريق ، وسرت بالطريق فإن وصل الفعل إليه في هذه الحالة بدون الحرف حفظ ، ولم يقس كالبيت ، وقد علمت ما فيه من سؤال وجواب كالبيت.

ولدن بفتح اللام وسكون الدال صفة للرمح ، قال الجوهري : يقال رمح لدن ، ورماح لدن ، ولم يرد على ذلك ، وفي القاموس : اللدن اللين من كل شيء ، ويعسل يهتز ومتنه صدره ، وضمير فيه يعود إلى الهز ، وفي للمصاحبة نحو : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص : ٧٩] ، يقول : إن هذا الرمح يضطرب بصدره مع هز الكف للينه.

(وكذلك يكررون الخلاف في جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض) كما في نحو مررت بك وزيد ، وما فيها غيره وفرسه ، والجواز مطلقا مذهب الكوفيين ، ويونس ، والأخفش ، واختاره ابن مالك ، والمنع في السعة ، والجواز في الضرورة مذهب أكثر البصريين.

(و) في جواز العطف (على الضمير المتصل المرفوع من غير وجود الفاصل) إما مؤكد أو غيره ، وصرح بعضهم بأن مذهب البصريين المنع إلا في الضرورة ، وقال الرضي : البصريون يجيزون العطف بلا تأكيد ولا فصل ، لكن على قبح لا أنهم حظروه أصلا بحيث لا يجوز أن يرتكب ، وأما الكوفيون : فيجيزون العطف المذكور بلا تأكيد بالمنفصل ولا فصل من غير استقباح.

(و) كذلك يكررون الخلاف (في غير ذلك) الذي تقدم ذكره (مما إذا استقصي) بالبناء

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لساعدة الهذلي ، في تخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٣ / ٨٣ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١٨٠ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٧٩. اه.

٣١

أملّ القلم ، وأعقب الشّأم ؛ فجمعت هذه المسائل ونحوها مقرّرة محرّرة في الباب الرابع من هذا الكتاب ، فعليك بمراجعته ، فإنّك تجد به كنزا واسعا تنفق منه ، ومنهلا سائغا ترده وتصدر عنه.

______________________________________________________

للمفعول ، أي طلب أقصاه بحيث انتهى إلى غايته ، (أمل القلم) استعارة تبعية في الفعل فإن الإملال الحقيقي ، وهو إحداث السآمة وضجر النفس لا يتعلق بالقلم.

(وأعقب السأم) بفتح السين المهملة والهمزة ، وهو الملالة أي : جعل السأم واقعا عقب الاستقصاء من غير تراخ.

(فجمعت هذه المسائل) المتقدمة (ونحوها مقررة محررة في الباب الرابع من هذا الكتاب) وإذا كان الأمر كذلك (فعليك بمراجعته) أي : بالعود إليه ، وعليك هنا اسم فعل بمعنى استمسك وإنما فسرناه بذلك لوجود الباء في المفعول ، فهو مثل «عليك بذات الدين» (١) ، وصرح الرضي بأن الباء في مثله زائدة ، قال : والباء تزاد كثيرا في مفعول أسماء الأفعال لضعفها في العمل ، فتعمل بحرف عادته إيصال اللازم إلى المفعول.

قلت : الزيادة خلاف الأصل وقد أمكن جعلها بمعنى فعل متعد بالباء ، كما رأيت فلا يعدل عنه ، ثم علل المصنف الأمر بالمراجعة بقوله : (فإنك تجد به) أي : الباب الرابع (كنزا واسعا تنفق منه) ، والكنز المال المدفون ، والمراد بسعته كثرته.

(ومنهلا) وهو اسم لمحل الشرب الذي ترده الشاربة ، واسم لما فيه من الماء المشروب.

(سائغا) ، أي : سهل الدخول إلى الحلق ، فإن جعل المنهل اسما للماء المشروب فالإسناد حقيقي ، وإن جعل اسما لمكان ذلك فالإسناد مجازي نحو نهر جار (ترده) أي : تصل إليه نائلا منه ، وفي القاموس : الورود الإشراف على الماء وغيره دخله أو لم يدخله.

قلت : لكن المراد هنا المباشرة والنيل لا مجرد الإشراف عليه.

(وتصدر) بضم الدال المهملة وكسرها مضارع صدر بمعنى رجع (عنه) أي : عن ذلك المنهل جعل المصنف هذا الباب محلا لما ينتفع به الناظر في نفسه ، ويستفيد منه ، ومن هذه الجهة شبه بالمنهل الذي يرده الشارب ، ويصدر عنه ريانا لما ناله منه ، ومحلا لما ينفع به ناظره

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه البخاري في النكاح ، باب الأكفاء في الدين (٥٠٩٠) ، ومسلم في الرضاع ، باب استحباب نكاح ذات الدين (٧١٥) ولفظ : «إن المرأة تنكح على دينها ، ومالها وجمالها فعليك بذات الدين تربت يداك».

٣٢

والأمر الثاني : إيراد ما لا يتعلّق بالإعراب ، كالكلام في اشتقاق اسم ، أهو من السّمة كما يقول الكوفيّون ، أو من السّموّ

______________________________________________________

من عداه. ويفيده إياه ، ومن هذه الجهة شبه بالكنز الذي ينفع صاحبه الناس بما ينفقه منه ، وإن أراد أن ذلك أمر مستمر ، ولهذا عبر في الموضعين بالمضارع المفيد للاستمرار ، ويوجد في بعض نسخ هذا الكتاب تجد به مكان تجده ، فإن قلت هل من فرق بين النسختين؟ قلت : نعم فإن تجده في الأول بمعنى تعلمه ، ومنه : (وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) [الأعراف : ١٠٢] فالضمير المنصوب أول المفعولين وكنزا ثانيهما ، ومنهلا معطوف على الثاني ، وتجد في النسخة الثانية بمعنى تصب ، كما في قولهم وجد ضالته إذا أصابها.

ومنه قول أبي الطيب المتنبي :

والظلم من شيم النفوس فإن تجد

ذا عفة فلعلة لا يظلم (١)

وبه لغو يتعلق بتجد ، وكنزا هو المفعول به فإن قلت فأيتهما أحسن؟ قلت : الثانية لاشتمالها على مبالغة ليست في الأولى ، وذلك ؛ لأن هذا من قبيل التجريد ، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله في تلك الصفة على سبيل المبالغة لكمال تلك الصفة فيه حتى بلغ من الاتصاف إلى حيث يصح أن ينزع منه موصوف آخر بتلك الصفة.

فإن قلت فلما هذه الباء؟ قلت : يجوز أن تكون سببية ، والمعنى أنك تجد بسبب وجوده كنزا ومنهلا ، فيكون التجريد فيه مثله في قولهم سألت بزيد البحر ، ولقيت به الأسد ، ويجوز أن تكون ظرفية فيكون التجريد فيه مثله في قوله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) [فصلت : ٢٨].

(الأمر الثاني) من الأمور التي اقتضت التطويل (إيراد ما لا يتعلق بالإعراب) وذلك فضول وتعرض إلى ما لا حاجة إليه في المقصود فيطول الكلام بإيراده (كالكلام في اشتقاق اسم) أي : هذا اللفظ مقولا في السؤال عنه. (أهو من السمة) وهي العلامة الأصل : وسمة فحذفت الفاء كما في عدة وعلى هذا فيكون اسم من قبيل المحذوف الفاء.

(كما يقول الكوفيون) وهم النحاة المنسوبون إلى الكوفة ، وهي بلد معروف ، ويقال لها كوفة الجند ؛ لأنها اختطت فيها خطط العرب في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه ، خططها السائب.

(أم من السموّ) وهو العلو والرفعة ، فيكون اسم من قبيل المحذوف اللام.

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو للمتنبي ، انظر خزانة الأدب للحموي ١ / ١٩٣ ، وقرى الضيف ١ / ٢٥٩.

٣٣

كما يقول البصريّون؟ والاحتجاج لكلّ من الفريقين ، وترجيح الراجح من القولين ، وكالكلام على ألفه ، لم حذفت من البسملة خطّا؟ وعلى باء الجرّ ولامه ، لم كسرتا لفظا؟

وكالكلام على ألف «ذا» الإشاريّة ، أزائدة هي كما يقول الكوفيّون

______________________________________________________

(كما يقول البصريون) وهم النحاة المنسوبون إلى البصرة ، ويقال لها قبة الإسلام ، وخزانة العرب بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وهي بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات حكاهن الأزهري.

قال النووي : أفصحهن الفتح ، وهو المشهور والنسب إليها بصري بكسر الباء وفتحها وجهان مشهوران ، ولم يقولوه بالضم ، وإن ضمت البصرة على لغة ؛ لأن النسب مسموع كذا في تهذيب الأسماء واللغات.

(والاحتجاج لكل من الفريقين) فريق البصريين ، وفريق الكوفيين.

(وترجيح الراجح من القولين) المنسوبين إليهما فيرجح قول الكوفيين باعتبار المعنى ، فإن كون الاسم علامة للمسمى يعرف بها أظهر من كونها رفعة للمسمى ، ويرجح قول البصريين باعتبار اللفظ ، فالمسموع في الجمع أسماء ، وأسام ، لا أوسام ، وأواسم وفي التصغير سمي ، لا وسيم ، وسمع في الفعل سميت وجاء في الاسم لغة أخرى ، وهي سمى كهدى ، وكل ذلك يشهد لكونه من السمو ، وادعاء القلب في الجميع بعيد ، وأيضا فإن الهمزة لم تعهد في كلامهم داخلة على ما حذف صدره.

(وكالكلام على ألفه) أي : ألف اسم مقولا في السؤال عنها (لم حذفت من البسملة خطا) ، أي : حذف خطها ، وهي صورتها التي تكتب بها فخطا منصوب على التمييز عن النسبة الواقعة في جملة وحذفت ، وعلة الحذف كثرة الاستعمال ، وهي باعثة على التخفيف.

(وعلى باء الجر ولامه) مقولا في السؤال عنهما (لم كسرتا لفظا) أي : كسر لفظهما فهو تمييز كما مرّ ، والعلة قصد موافقة حركتهما لأثرهما الناشىء عنهما.

(وكالكلام على ألف ذا الإشارية) لا الموصولة مقولا في السؤال عنها (أزائدة هي كما يقول الكوفيون) لأن تثنيته ذان بحذف الألف ، ولو لا أنها زائدة لم تحذف ، والجواب أنها حذفت لاجتماع الألفين ولم ترد إلى أصلها فرقا بين المتمكن نحو فتيان وغيره ، كما حذفت الياء من اللذان.

قال ابن يعيش : لا بأس بأن نقول هو ثنائي كما وذلك أنك إذا سميت به قلت ذاء فتزيد ألفا أخرى ، ثم تقلبها همزة كما تقول لاء إذا سميت بلا وهكذا حكم الأسماء التي لا ثالث لها وضعا إذا كان ثانيها ألفا ، ولو كان أصله ثلاثة لقيل ذاي ردا إلى أصله.

٣٤

أم منقلبة عن ياء هي عين واللام ياء أخرى محذوفة كما يقول البصريون؟ والعجب من مكي بن أبي طالب إذ أورد مثل هذا في كتابه الموضوع لبيان مشكل الإعراب ، مع أن هذا ليس من الإعراب في شيء ، وبعضهم إذا ذكر الكلمة ذكر تكسيرها وتصغيرها ، وتأنيثها وتذكيرها ، وما ورد فيها من اللّغات ، وما روي من القراآت ، وإن لم ينبن على ذلك شيء من الإعراب.

______________________________________________________

(أم منقلبة عن ياء هي عين واللام ياء أخرى محذوفة كما يقول البصريون) فحكموا بأنه من الثلاثية ، لا من الثنائية ، والذي حملهم على ذلك غلبة أحكام الأسماء المتمكنة عليه كوصفه ، والوصف به وتثنيته وتحقيره وجعلوه من مضاعف الياء لأنس (١) حكى فيه الإمالة وليس في كلامهم مثل تركيب حيوه ، ولامه أيضا ياء ، وأصله ذي بلا تنوين بتحرك العين بدليل قلبها ألفا ، وإنما حذفت اللام اعتباطا أولا ، ثم قلبت العين ؛ لأن المحذوف اعتباطا كالعدم ، ولو لم يكن كذلك لم تقلب العين الأخرى إلى نحو مرتو ، وقد زعم بعضهم أن العين ساكنة وهي المحذوفة لسكونها ، والمقلوب هو اللام المتحركة ، والأول أولى ؛ لأن اللام في موضع التغيير فحذفها أولى ، ومن ثم قل المحذوف العين اعتباطا ، وكثر المحذوف اللام كدم ويد وعد ونحوها ، وقيل أصله دوي ؛ لأن باب طويت أكثر من باب حييت ، ثم إما أن تقول حذفت اللام فقلبت عينه ألفا والإمالة تمنعه ، وإما أن تقول حذفت العين وحذفها قليل. كما مرّ فلا جرم كان جعله من باب حييت أولى كذا في الرضي.

(والعجب من مكي بن أبي طالب ، إذ أورد مثل ذلك في كتابه الموضوع لمشكل الإعراب مع أنه ليس من الإعراب في شيء) وهذا كالتركيب الواقع في مثل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨] فالظرف الأوّل صفة في الأصل لشيء لكن قدم عليه فانتصب على الحال ، فإن قلت تقديم حال المجرور عليه ممتنع على الأصح؟

قلت : ذلك إذا لم يكن الحال ظرفا ولا جارا ومجرورا ، أما إذا كانت كذلك فقد نص ابن برهان على جواز تقدمها على عاملها الذي هو ظرف ، أو جار ومجرور نقله الرضي عنه في شرح الكافية.

(وبعضهم إذا ذكر الكلمة) القرآنية (ذكر تكسيرها) أي جمعها جمع تكسير ، (وتصغيرها وتأنيثها وتذكيرها وما ذكر) وفي بعض النسخ وما ورد (فيها من اللغات وما روي) فيها (من القراآت ، وإن لم ينبني على ذلك شيء من الإعراب) وذلك كله تطويل لا يحصل فائدة في الغرض المقصود.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولعل المراد به سيبويه.

٣٥

والثالث : إعراب الواضحات ، كالمبتدأ وخبره ، والفاعل ونائبه ، والجار والمجرور ، والعاطف والمعطوف ، وأكثر الناس استقصاء لذلك الحوفيّ.

وقد تجنّبت هذين الأمرين وأتيت مكانهما بما يتبصّر به الناظر ، ويتمرّن به الخاطر ، من إيراد النظائر القرآنية ، والشّواهد الشعرية ، وبعض ما اتّفق في المجالس النحوية.

ولما تمّ هذا التصنيف على الوجه الذي قصدته ، وتيسّر فيه من لطائف المعارف ما أردته واعتمدته ،

______________________________________________________

(و) الأمر (الثالث) من الأمور الثلاثة المتقدمة ، ولا أدري لما خالف الأسلوب المتقدم حيث وصل هذا بحرف العطف ، وحذف الموصوف وفصل في الأمر الثاني وأثبت الموصوف.

(إعراب الواضحات كالمبتدأ وخبره ، والفاعل ونائبه ، والجار والمجرور ، والعاطف والمعطوف) ذكر العاطف مستدرك ؛ لأنه لا يكون إلا حرفا فلا إعراب له أصلا ، فلا وجه لذكره هنا ، وأما الجار فتارة يكون حرفا فلا يكون له إعراب ، وتارة يكون اسما وهو المضاف على القول بأنه جار المضاف إليه فيكون له إعراب بحسب ما يقتضيه العامل المسلط عليه.

(وأكثر الناس استقصاء لذلك الحوفي) نسبة إلى الحوف بحاء مهملة مفتوحة فواو ساكنة ففاء ، وهي ناحية تجاه بليس من أعمال الديار المصرية.

(وقد تجنبت هذين الأمرين) وهما ذكر ما لا ينبني عليه شيء من الإعراب والكلام في إعراب الواضحات حذفا للتطويل بما لا يترتب عليه فائدة في المقصود.

(وأثبت مكانهما بما يتبصر به الناظر ويتمرن) أي : يتعود (به الخاطر) وهو في الأصل الهاجس الذي يخطر بالبال والمراد هنا محله.

(من إيراد النظائر القرآنية) فيزداد الوثوق بصحة التركيب المماثل لتلك النظائر ويتمكن في النفس فضل تمكن.

(والشواهد الشعرية) والمراد عندهم بالشواهد الجزئيات المذكورة لإثبات القواعد ، وبالأمثلة الجزئيات المذكورة لإيضاحها فالشواهد أخص.

(وبعض ما اتفق في المجالس النحوية) من سؤال يتعلق بالإعراب ، وجواب عنه فإتيان المصنف مكان ذينك الأمرين اللذين تجنبهما بهذه الأمور التي ذكرها ، وإن حصل بها تطويل ، فإنه لم يخل من فائدة تتعلق بغرض الإعراب ، ولقد أجاد المصنف رضي الله تعالى عنه.

(ولما تم هذا التصنيف على الوجه الذي قصدته وتيسر فيه من لطائف المعارف ما أردته واعتمدته) اللطائف جمع لطيفة ، وهي من الكلام ما دق معناه وخفي ، والمعارف الأمور التي

٣٦

سمّيته بـ «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» وخطابي به لمن ابتدأ في تعلّم الإعراب ، ولمن استمسك منه بأوثق الأسباب.

ومن الله تعالى أستمدّ الصواب ، والتوفيق إلى ما يحظيني لديه بجزيل الثواب ، وإياه أسأل أن يعصم القلم من الخطأ والخطل ، والفهم من الزّيغ والزّلل ؛

______________________________________________________

يحصل بها العرفان ؛ لكن المتبادر منها بحسب العرف الأمور الحسنة النفيسة ، وفي هاتين السجعتين لزوم ما لا يلزم.

(سميته بمعني اللبيب عن كتب الأعاريب) وهذا علم قصدت فيه المناسبة ولا خفاء بما فيه من الإشعار بالمدح ؛ فيكون لقبا ، واللبيب العاقل ، وكذا الأريب ، فلو قال : مغني الأريب لكان أحسن ؛ لاشتمال السجع حينئذ على لزوم ما لا يلزم ، وما أحسن قول الشيخ بهاء الدين القيراطي رحمه‌الله تعالى يقرظ هذا الكتاب :

جلا ابن هشام من أعاريبه لنا

عروسا عليها غيره الدهر لا يبنى

وأبدى لأصحاب اللسان مصنفا

يفدى بعين كلما حل في أذني

ولقبه مغنى اللبيب فأصبحوا

وما منهم إلا فقير إلى المغني

(وخطابي به لمن ابتدأ في تعلم الإعراب ولمن استمسك منه بأوثق الأسباب) يعني أنه وضع كتابه هذا للمبتدىء والمنتهي ، لاشتماله على المسائل النافعة للناشئين في هذا الفن التي تدرك بسهولة ، والمباحث الغامضة التي لا يدركها إلا من ارتقى فيه إلى ذروة الكمال ، وتتبع كلامه في هذين النوعين شاهد صدق بما ادعاه ، والأسباب : جمع سبب وهو الحبل ، ويطلق أيضا على كل ما يتوصل به إلى غيره وكل منهما ممكن الإرادة ههنا ، لكن الأوّل على سبيل الاستعارة.

(ومن الله أستمد التوفيق والصواب إلى ما يحظيني لديه بجزيل الثواب) الاستمداد طلب المدد ، والصواب خلاف الخطأ ، والتوفيق خلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، ويحظيني ، أي يجعلني ذا حظوة ، والجزيل العظيم ، والثواب الجزاء كالمثوب.

(وإياه أسأل أن يعصم القلم من الخطأ والخلل ، والفهم من الزيغ والزلل) العصمة : المنع ، والخطأ معروف ، والخلل : الكلام الفاسد المضطرب ، والمراد أن يعصم القلم من كتابة هذين الأمرين ، أي : كتابة ما يدل عليهما ، والزيغ : الميل ، والمراد هنا الميل عن جهة الصواب ، والزلل الخروج عما يراد الثبوت عليه.

٣٧

إنه أكرم مسؤل ، وأعظم مأمول.

* * *

______________________________________________________

(إنه أكرم مسؤل) بواو واحدة في الخط وكان القياس أن يكتب بواوين إحداهما الواو التي تسهل بها الهمزة ، والثانية : واو مفعول ، وقد تقرر في علم الخط أنه متى أدى القياس في المهموز وغيره إلى اجتماع لينين ، نحو رؤوس وداود حذف واحد إن لم يفتح الأول كقراء وقارئين ، وإنما نبهنا على ذلك لكثرة وقوع الغلط في كتابة هذه الكلمة.

(وأعظم مأمول) أي : مرجوّ من قولك أملته بتخفيف الميم ، إذا رجوته.

٣٨

الباب الأول

في تفسير المفردات ، وذكر أحكامها

وأعني بالمفردات الحروف وما تضمّن معناها من الأسماء والظّروف ، فإنها المحتاجة إلى ذلك ، وقد رتّبتها على حروف المعجم

______________________________________________________

(الباب الأوّل) من الكتاب (في تفسير المفردات) أي : تبيين معانيها التي وضعت تلك المفردات بإزائها.

(وذكر أحكامها) كالحذف والإثبات والزيادة وغير ذلك ولما كان لفظ المفردات عاما ومراد المصنف به الخصوص أتى بما يبين مراده ، فقال : (وأعني) بفتح الهمزة ، أي : أقصد (بالمفردات الحروف) وهي : الكلمات التي لا تدل إلا على معنى في غيرها.

(و) أعني : أيضا بالمفردات (ما تضمن معناها) أي : معنى الحروف (من الأسماء) التي ليست بظروف كأي ، ومن ، وما.

(والظروف) كإذ ، وإذا ، ومتى ، فظهر بما قدرناه جعل الظروف قسيمة للأسماء ، وهذا الجار والمجرور في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في تضمن العائد على ما ، ومن بيانية ، وما هنا عبارة عن أشياء بدليل تبيينها بالأسماء والظروف ، لكن إعادة الضمير مفردا مذكرا للفظها.

(فإنها) أي : المفردات المذكورة هي (المحتاجة إلى ذلك) الذي تقدم ذكره في تفسير المعاني ، وذكر الأحكام والفاء لمجرد السببية.

(وقد رتبتها) أي : المفردات التي عنيتها (على حروف) الخط ، (المعجم) أي : الذي وقع عليه الإعجام وهو النقط تقول : أعجمت الحرف ، إذا نقطته ، والمراد بهذه الحروف حروف الهجاء التي تتركب منها الألفاظ ، ولا يخفى أن النقط إنما هو في بعضها فإطلاق حروف المعجم على المجموع بطريق التغليب.

قال الجوهري : وناس يجعلون المعجم بمعنى الإعجام مثل المخرج والمدخل.

قال التفتازاني : وقد يقال معناه حروف الإعجام ، أي : إزالة العجمة ، وذلك بالنقط.

قلت : إنما يتم إذا كان جعله الهمزة للسلب مقيسا أو مسموعا في هذه الكلمة.

٣٩

ليسهل تناولها ، وربّما ذكرت أسماء غير تلك وأفعالا ، لمسيس الحاجة إلى شرحها.

حرف الألف

[الألف المفردة]

الألف المفردة ـ تأتي على وجهين.

أحدهما : أن تكون حرفا ينادى به القريب ،

______________________________________________________

(ليسهل) متعلق بالفعل من رتبتها ومعنى (تناولها) أخذها تقول : ناولته كذا فتناوله ، أي : خذه وهو مخصوص بالأجسام لكنه استعمل هنا في غيرها على سبيل الاستعارة ، ولما فيه من المبالغة حيث جعلت تلك الأمور المعقولة بمثابة الصور المحسوسة.

(وربما ذكرت) على سبيل القلة (أسماء غير تلك) التي عنيتها أولا ، وهي ما ليس متضمنا لمعنى الحروف ولا ظرفا ككل ، وكلا ، وكلتا ، (و) ربما ذكرت أيضا (أفعالا) كحاشا ، وخلا ، وعدا ، وإنما لم يصف الأفعال كما وصف الأسماء بكونها غير تلك ؛ لأن الأفعال لم تدخل في تلك المفردات التي عناها أولا حتى يقول : وأفعالا لا غير تلك (لمسيس الحاجة إلى شرحها) أي : شرح الأسماء التي لم تتقدم إرادتها والأفعال ، وقد يقال مقتضى قوله : أولا فإنها المحتاجة إلى ذلك أن لا يثبت لغيرها احتياج إلى ذلك لضرورة الحصر ، وهنا أثبت لغيرها الاحتياج فتنافى الكلامان ، وجوابه أن الحصر في الأول باعتبار شدة الاحتياج ، والحاجة في الثاني غير شديدة على ما يشعر به لفظ المسيس.

(حرف الألف) أي : الحرف الذي هو الألف فالإضافة بيانية ، والمراد به الهمزة ، وإنما عبّر عنها بالألف نظرا إلى أنها تصور في الخط كذلك ، وأما الألف المراد به الحرف الهوائي الممتنع الابتداء به فسيذكره المصنف تاليا لحرف الواو ثم المذكور في هذا الحرف المراد به الهمزة ، كلمات منها ما هو حرف واحد ، هو الألف ، ومنها ما هو فوق ذلك وأوله ألف.

(الألف المفردة تأتي) بتاء التأنيث لإسناده إلى ضمير المؤنث ، ولو ذكر باعتبار اللفظ لجاز لكن الأول أولى ؛ لأنه أنث أولا بقوله المفردة ، فالتأنيث ثانيا لغرض المناسبة (على وجهين) أي : طريقين تقول هذا وجه الكلام أي : طريقه المقصود منه.

(أحدهما أن تكون) بتاء التأنيث (حرفا ينادى به القريب) والإخبار عن الهمزة بأنها حرف للنداء كالإخبار في قولك : زيد قائم ، إذ هو باعتبار المسمى ، والمراد أن مسمى الهمزة وهوآه من قولك أزيد مثلا حرف نداء ، وهذا كقولهم : الباء حرف جر ، والواو حرف عطف ، أو يقال هو على تقدير مضاف حذف لظهور المراد ، والمعنى اسم ينادى به ، والباء اسم حرف جر ، والواو اسم حرف عطف ، وكذا كل ما هو بهذه المثابة ، والأمر فيه سهل وإنما نبهنا عليه ، لأن الشيخ

٤٠