شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

مقدمة المحقق

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله أرسله بالهدى ودين الحق.

وبعد :

فإن من فضل الله تعالى علينا وكرمه أن شرفنا بخدمة هذا الكتاب العظيم القدر والفائدة ، وإخراجه بحلة جديدة ، واسأله أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، وأن يحفظنا من الخطأ والزلل إنه سميع قريب مجيب والحمد لله رب العالمين.

وأخيرا أتوجه بالشكر إلى الأخوة الكرام الذين ساهموا في العمل بهذا الكتاب سائلا المولى تبارك وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء وأجزله.

وكتبه أحمد عزو عناية

بتاريخ ١ / ذي القعدة / ١٤٢٦ الموافق ١ / ١٢ / ٢٠٠٥

سوريا / دمشق / تلفاكس : ٥٢٢١٧٥١ / جوال / ٠٩٣٤٢٧٦٣٠ /

E- mail: ahmad ١٩٧٣ @ mywy.com

٥
٦

ترجمة الإمام الدماميني

(صاحب الحاشية)

ـ اسمه ونسبه :

هو : بدر الدين محمد بن أبي بكر بن عمر بن أبي بكر بن محمد بن سليمان بن جعفر القرشي المخزومي الإسكندراني المالكي النحوي الأديب.

ـ ولادته :

قال السيوطي : ولد بالإسكندرية سنة أربع وستين وسبعمائة من الهجرة ، واستوطن في القاهرة.

ـ سيرته وصفاته :

تفقه وفاق في النحو ، والنظم ، والنثر ، والخط ، ومعرفة الشروط ، وشارك في الفقه وغيره ، وناب في الحكم ، ودرس بعدة مدارس ، وتقدم ومهر واشتهر ذكره ، وتصدر بالجامع الأزهر لإقراء النحو ، ثم رجع إلى الإسكندرية واستمر يقرىء بها ويحكم ، ويتكسب بالتجارة ، ثم قدم القاهرة ، وعيّن للقضاء فلم يتفق له ، ودخل دمشق سنة ثمانمائة ، وحج منها وعاد إلى بلده ، وتولى خطابة الجامع وترك الحكم ، وأقبل على الاشتغال ، ثم أقبل على أشغال الدنيا وأمورها ، فمارس الحياكة ، وصار له دولاب متسع فاحترقت داره ، وصار عليه مال كثير ، ففر إلى الصعيد ، فتبعه غرماؤه وأحضروه مهانا إلى القاهرة ، فقام معه الشيخ تقي الدين بن حجة ، وكاتب السر ناصر الدين البارزي ، حتى صلحت حاله ، ثم حج سنة تسع عشرة ، ودخل اليمن سنة عشرين ، ودرس بجامع زبيد نحو سنة ، فلم يرج له بها أمر ، فركب البحر إلى الهند ، فحصل له إقبال كثير ، وعظّموه وأخذوا عنه ، وحصل له دنيا عريضة ، فبغته الأجل ببلد كلبرجة من الهند.

ـ تصانيفه : له من التصانيف :

شرح الخزرجية.

جواهر البحور في العروض.

تحفة الغريب في شرح مغني اللبيب.

٧

شرح البخاري.

شرح التسهيل.

الفواكه البدرية من نظمه.

مقاطع الشرب ونزول الغيث وهو حاشية على الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم للصفدي.

عين الحياة مختصر حياة الحيوان للدميري.

ـ من شعره :

رماني زماني بما ساءني

فجاءت نحوس وغابت سعود

وأصبحت بين الورى بالمشيب

غليلا فليت الشباب يعود

وله في امرأة جبانة :

مذ تعانت لصنعة الجبن خود

قتلتنا عيونها الفتانه

لا تقل لي كم مات فيها قتيل

كم قتيل بهذه الجبانة

ومن نظمه أيضا :

قلت له والدجى مول

ونحن بالأنس في التلاقي

قد عطس الصبح يا حبيبي

فلا تشمته بالفراق

 ـ وفاته :

بغته الأجل ببلد كلبرجة من الهند في شعبان مسموما ، سنة سبع وعشرين وثمانمائة.

ـ مصادر ترجمته :

١ ـ شذرات الذهب ٧ / ١٨١.

٢ ـ الضوء اللامع ٧ / ١٨٤.

٣ ـ بغية الوعاة ص ٢٧.

٤ ـ الأعلام للزركلي ٦ / ٥٧.

٨

ترجمة ابن هشام

(صاحب المغني)

اسمه ونسبه :

هو العلامة الشيخ عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف بن هشام ، أبو محمد ، جمال الدين.

المولد والمنشأ :

ولد ابن هشام بمصر في مدينة القاهرة في ذي القعدة سنة سبعمائة وثمان من الهجرة ، ونشأ وترعرع فيها وشب محبا للعلم والعلماء فأخذ عن الكثيرين منهم ، ولازم بعضا من الأدباء والفضلاء.

سيرته :

تفقه للشافعي ثم تحنبل في آخر حياته ، وأتقن العربية ففاق أقرانه من أهل مصر وغيرهم ، وتصدر لنفع الطالبين ، وانفرد بالفوائد الغريبة والمباحث الدقيقة ، والإستدراكات العجيبة والتحقيق البالغ والاقتدار على التصرف في الكلام والملكة التي كان يتمكن من التعبير بها عن مقصوده.

وكان رحمه‌الله يمتاز بالتواضع والبر والشفقة ودماثة الخلق ورقة القلب ، وكان عالما ورعا ، لم يتهم باعتقاده ولا بتدينه ولا بسلوكه ، وكان صبورا في طلب العلم مداوما عليه حتى آخر حياته ، ومن شعره في الصبر على طلب العلم :

ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله

ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل

ومن لم يذل النفس في طلب العلا

يسيرا يعش دهرا طويلا أخاذل

شيوخه :

لزم رحمه‌الله عددا من كبار أهل العلم في عصره وتلقيا لعلم على أيديهم منهم : ابن السراج وأبو حيان ، والتاج التبريزي ، والتاج الفاكهاني ، والشهاب بن المرحّل ، وابن جماعة وغيرهم.

٩

ـ آثاره : لابن هشام مصنفات كثيرة منها :

أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك.

شرح شذور الذهب.

شرح الشواهد الصغرى.

شرح الشواهد الكبرى.

شرح قطر الندى وبل الصدى.

مختصر الانتصاف من الكشاف.

مغني اللبيب عن كتب الأعاريب.

شرح البردة.

شرح القصيدة اللغزية في المسائل النحوية.

عمدة الطالب في تحقيق صرف ابن الحاجب.

وغيرها كثير.

ـ وفاته :

توفي ابن هشام ليلة الجمعة في الخامس من ذي القعدة سنة إحدى وستين وسبعمائة من الهجرة ، ودفن بمقبرة الصوفية بمصر.

ـ مصادر ترجمته :

١ ـ شذرات الذهب ٦ / ١٩١.

٢ ـ الدرر الكامنة ٢ / ٣٠٨.

٣ ـ بغية الوعاة ٢ / ٦٨.

٤ ـ النجوم الزاهرة ١٠ / ٣٣٦.

٥ ـ الأعلام للزركلي ٤ / ١٤٧.

١٠

خطبة المؤلّف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أما بعد حمد الله على إفضاله ،

______________________________________________________

[خطبة المؤلّف]

(بسم الله الرّحمن الرحيم أما بعد حمدا على إفضاله).

الظرف الأول متعلق عند بعض إما بفعل الشرط المحذوف ، أي : مهما يكن من شيء بعد ، حمد الله تعالى ، أو بأما لنيابتها عن فعل الشرط ، وعند بعض بالفعل الواقع بعد الفاء في الصلة أو الصفة ، وهو تقترح ، أي : مهما يكن من شيء ، فإن أولى ما تقترحه القرائح بعد حمد الله تعالى كذا ، بناء على أن التقديم لغرض مهم لم يلتفت معه إلى وجود المانع في غير هذا الموضع ، كما ستعرفه إن شاء الله تعالى.

والحمد : مخفوض بإضافة الظرف إليه وهو مصدر مضاف إلى المفعول ، وقيل في تعريفه : هو الوصف بالجميل على جهة التعظيم والتبجيل ، ولا يخفى أن لفظ الوصف إذا أطلق لم يتبادر منه إلا فعل اللسان كما في قولك : وصفت فلانا بكذا ، وعليه فيكون مورد الحمد هو اللسان فقط ، ولا شك أن الجميل يتناول الإنعام وغيره ، وأن الوصف الواقع في التعريف لم يقيد بكونه في مقابلة النعمة ، وعليه فيكون متعلق الحمد أعم من النعمة ، إذ قد يكون واقعا بإزائها ، وقد لا يكون ، وهذا بخلاف الشكر في الأمرين فإنه يكون بالقول ، وبالفعل ، وبالاعتقاد ، ولا يكون إلا في مقابلة النعمة وحدها ، فظهر أن بينهما عموما وخصوصا من وجه على ما هو المشهور ، وإنما اشترط كون ذلك الوصف على جهة التعظيم ظاهرا وباطنا ، لأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد ، أو خالفته أفعال الجوارح لم يكن حمدا حقيقة ، بل استهزاء وسخرية ، وهذا لا يقتضي أنّ الحمد كما يكون باللسان يكون بالجنان ، وبغير اللسان من الجوارح وهو خلاف ما مرّ من أنه لا يكون إلا باللسان فقط ، لأن اعتبار كل من فعل الجنان والأركان إنما هو من حيث كونه شرطا لكون فعل اللسان حمدا فلا إشكال.

وعطف التبجيل على التعظيم من قبيل العطف الواقع بين المترادفين ، وفائدته تقرير المعنى

١١

والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد وعلى آله ،

______________________________________________________

في الذهن ، وينضم إليها هنا رعاية السجع المعين على تلقي الأذهان للمعاني ، ولا يغرنك ما وقع لبعض أهل البيان في باب الإطناب من أن ذلك تطويل لا لفائدة ، فإنه غير مسلم والظرف الثاني لغو متعلق بالحمد ، وكون على على حقيقتها ، أو هي بمعنى اللام فيه كلام ستراه بالعين إن شاء الله تعالى.

والإفضال الإحسان ، يقال : أفضل عليه وتفضل بمعنى.

(والصلاة والسّلام على سيدنا محمد وآله) كلّ من الصلاة والسّلام مخفوض ، لكن الصلاة معطوفة على الحمد قولا واحدا ، والسّلام إما معطوف عليه أيضا ، أو على الصلاة على القولين المشهورين ذكرهما أبو حيان وغيره ، أي : أما بعد حمد الله وبعد الصلاة والسّلام ، وهما عاملان تنازعا الظرف الواقع بعدهما ، ويحتمل أن يكون مستقرا في محل نصب على الحال منهما ، أي بعد الصلاة والسّلام في حال كونهما على سيدنا محمد ، فإن قلت : أنى يصح هذا وهما مضافان إليهما ، والحال من المضاف إليه إنما يقع في الصور الثلاث المشهورة ، وليس هذا منها؟

قلت : لمّا كانا بمعنى ما ليس بمضاف إليه جاءت الحال منهما ؛ إذ المعنى مهما يكن من شيء تأخر عن الحمد والصلاة والسّلام.

وجمع المصنف بينهما ؛ لأنهما مخصوصان بذلك حيث أمر الله تعالى بهما جميعا في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] والصلاة : اسم يوضع موضع المصدر تقول : صليت صلاة ، ولا تقول تصلية كذا في «الصحاح» ، وفيه أيضا السّلام اسم من التسليم.

وهي في اللغة الدعاء بخير ، وتعدية فعلها بعلى لتضمنه معنى العطف ، تقول : عطفت على فلان ، وهو من الله تعالى الإحسان ، ومن غيره طلب الإحسان ، وسيأتي فيه كلام في الباب الخامس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بنو هاشم ، وبنو المطلب على المشهور عند المالكية ، والمختار عند الشافعية ، وقيل : عترته ، وهم نسله ورهطه الأدنون ، وقيل : جميع أمته ، ونسب هذا القول إلى الإمام مالك ، وقيل أتقياء المؤمنين.

قال القاضي عياض : وفي رواية أنس سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آل محمد فقال : «كل تقي» (١) وإنما يشتمل الآل الصحابة على هذا القول ، وأما على الأول والثاني فإنما يشمل بعضهم.

__________________

(١) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٦٩ ، وقال : رواه الطبراني في الصغير والأوسط ، وفيه نوح بن أبي مريم وهو ضعيف.

١٢

فإنّ أولى ما تقترحه القرائح ، وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح ، ما يتيسّر به فهم كتاب الله المنزل ، ويتّضح به معنى حديث نبيّه المرسل ،

______________________________________________________

(فإن أولى ما تقترحه القرائح وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح).

أولى إما بمعنى أحق تقول فلان أولى بكذا ، أي : أحق به ، قال الجوهري : وفلان أحق بكذا ، أي أحرى به وأجدر ، وإما بمعنى أقرب من الولي وهو القرب والدنو ، وتقترحه تسأله من غير روية ، وهو دليل على الشغف البليغ.

والقرائح جمع القريحة ، وهي الطبيعة ، قال الجوهري : القريحة أوّل ماء يستنبط من البئر ، ومنه قولهم لفلان قريحة جيدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع.

وتجنح : تميل ، يقال : جنح يجنح بفتح النون في الماضي والمضارع ، وتحصيل الشيء رده إلى حاصله ، والجوانح الأضلاع التي تحت الترائب وهي مما يلي الصدر ، كالضلوع مما يلي الظهر ، والواحدة جانحة ، وأطلقت هنا على القلوب مجازا مرسلا والعلاقة المجاورة. وفي تقترحه القرائح جناس الاشتقاق ، أو ما يشبهه ، وكذا في تجنح الجوانح ، وفي قوله : أولى وأعلى الجناس اللاحق ، ويجوز ضبط كل من تقترحه وتجنح بالمثناة الفوقية والتحتية ؛ إذا المسند إليه مؤنث غير حقيقي ، لكن الأولى ضبطه بالتحتية فيما يظهر من كلام الجماعة لوجود الفاصلة ، نحو : فمن جاءه موعظة ، وأنا أقول قد تتبعت الواقع من ذلك في القرآن العزيز ، فوجدت المواضع التي لم تلحق فيها علامة التأنيث نحو : خمسين موضعا ، ووجدت الأماكن التي لحقت فيها العلامة تزيد على مائتي مكان منها ، قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ،) [البقرة : ٦١] وقوله : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦] وقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦٦] إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه ، وأكثرية أحد الاستعمالين دليل أفصحيته ، فالأولى عندي ضبط ذلك وأمثاله بالمثناة الفوقية.

(ما يتيسر به فهم كتاب الله تعالى المنزل ويتضح به معنى حديث نبيه المرسل) يتيسر ، أي : يسهل. ويتضح ، أي : يتبين ، ويظهر.

والمعنى في الأصل مصدر تقول : عني زيد بلفظة كذا عناية ، ومعنى ، ومعناة ، ثم يستعمل مرادا به المفعول ، أي : المعني بتشديد الياء ، كما في قولهم : هذا الثوب نسج فلان ، أي منسوجه.

__________________

وأخرجه الطبراني في الأوسط ٣ / ٣٣٨ ، وفي الصغير ١ / ١٩٩ ، والديلمي في مسند الفردوس (١٦٩٢) ١ / ٤١٨.

١٣

فإنهما الوسيلة إلى السعادة الأبدية ، والذّريعة إلى تحصيل المصالح الدينيّة والدنيويّة ، وأصل ذلك علم الإعراب ، الهادي إلى صوب الصواب.

______________________________________________________

قلت : ولا يمنع أن يكون اسم مكان مفعلا بمعنى المقصد من عناه ، أي : قصده ولا شك أن ما يراد باللفظ محل للقصد ؛ لأنه قصد بذلك اللفظ ، ويجوز أن يضبط المنزل بتشديد الزاي مع الفتح من التنزيل ، وبتخفيفها من الإنزال والثاني أولى ؛ لأن التناسب بين المنزل والمرسل باعتبار التوافق في الزنة.

والمرسل صفة لنبيه وإنما نبهت على ذلك مع ظهوره ، لأني رأيت في بعض الحواشي بهذه البلاد تجويز جعله صفة للحديث ولا وجه له.

(فإنهما الوسيلة إلى السعادة الأبدية والذريعة إلى تحصيل المصالح الدينية والدنيوية) الفاء للسببية وضمير الاثنين راجع إلى كتاب الله تعالى وحديث نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفرد المصنف الوسيلة والذريعة إشارة إلى أنهما في معنى الشيء الواحد باعتبار الدلالة على الطريق المعتبر ، ولا شك أن كلا منهما اشتمل على الأمر بكل محمود والنهي عن كل مذموم والإرشاد إلى مصالح المعاش والمعاد ، فالعمل بهما موصل إلى سعادة الدارين ، والظفر في الدنيا والآخرة بخيري الدارين.

والذريعة : بالذال المعجمة ، كالوسيلة وزنا ومعنى.

(وأصل ذلك علم الإعراب الهادي إلى صوب الصواب) المراد بالأصل ههنا ما يبني عليه غيره ، والإشارة راجعة إلى ما سبق ، فالأمر الذي ينبني عليه ما يتيسر به فهم القرآن ، ويتضح به معنى الحديث هو علم الإعراب ، أي : علم النحو ، وليس المراد الإعراب الذي هو قسيم البناء.

والهادي : المرشد ، وإسناد الهداية إلى علم الإعراب مجاز ، وكأن المراد بالصوب الاستقامة من قولك : صاب السهم إذا قصد ، ولم يحد عن الغرض ، والصوب أيضا : المطر أو نزوله ، ويمكن أن يراد هنا على سبيل الاستعارة ، فإما أن يكون الصواب مشبها بالسحاب من قبيل الاستعارة بالكناية (١) ، وإثبات الصوب له مرادا به المطر استعارة تخييلية ، وإما أن يكون

__________________

(١) قال الإمام الشمني في حاشيته : وفي تفسيرها مذاهب : أحدها : ما يفهم من كلام السلف ، وصححه بعض متأخري الخلف ، أن لا يصرح بذكر المستعار ، بل بذكر ريفه ولازمه الدال عليه ، فالمقصود بقولنا : أظفار المنية ، استعارة السبع للمنية ، كاستعارة الأسد للرجل الشجاع في قولنا رأيت أسدا ، لكنا لم نصرح بذكر المستعار ، أعني السبع بل اقتصرنا على ذكر لازمه ، أعني الأظفار لينقل منه إلى المقصود ، كما هو شأن الكناية ، فالمستعار هو لفظ السبع الذي لم يصرح به ـ ـ

١٤

وقد كنت في عام تسعة وأربعين وسبعمائة أنشأت بمكّة ، زادها الله شرفا ، كتابا في ذلك ، منوّرا من أرجاء قواعده كلّ حالك ؛

______________________________________________________

مشبها بالمطر ، وأثبت له الصوب المراد به نزول المطر على حسب ما مرّ ، ووجه الشبه حصول النفع المبهج للنفوس ، وفي صوب الصواب ما يشبه جناس الاشتقاق (وقد كنت في عام تسعة وأربعين وسبعمائة أنشأت بمكة زادها الله تعالى شرفا كتابا في ذلك منورا من أرجاء قواعده كل حالك) عام تسعة بالمثناة الفوقية في أوله ، وهذا عام الوباء الكبير الواقع في الديار المصرية ، وغالب أقطار الدنيا على ما قيل ، وكثيرا ما يقع هذا التركيب وهو مشكل ، وذلك أن المراد بقولك : وقع كذا في عام أربعين مثلا الإخبار بوقوع ذلك في العام الأخير من الأربعين ، وهو الواقع بعد تسعة وثلاثين ، وتقرير الإضافة فيه باعتبار هذا المعنى غير ظاهر ؛ إذ ليست فيه الإضافة بمعنى اللام ، ضرورة أن المضاف إليه ليس جنسا للمضاف ، ولا ظرفا له ، فيكون معنى نسبة العام إلى الأربعين كونه جزءا منها ، كما في يد زيد ، وهذا لا يؤدي المعنى المقصود ؛ إذ يصدق بعام ما منها سواء كان الأخير أو غيره ، وهو خلاف الفرض ، ويمكن أن يقال : قرينة الحال معينة ؛ لأن المراد الأخير ، وذلك ؛ لأن فائدة التاريخ ضبط الحادثة المؤرخة بتعيين زمانها ، ولو كان المراد ما يعطيه ظاهر اللفظ من كون العام المؤرخ به واحدا من أربعين بحيث يصدق على أي عام فرض لم يكن لتخصيص الأربعين مثلا معنى يحصل به كمال التمييز للمقصود ، لكنّ قرينة إرادة الضبط بتعيين الوقت تقتضي أن يكون هذا العام هو مكمل عدة الأربعين ، أو يقال : حذف مضاف لهذه القرينة ، والتقدير في عام آخر أربعين ، والإضافة بيانية ، أي : في عام هو الأخير من أربعين ، فتأمله فالإشارة من قوله : (كتابا في ذلك). ترجع إلى علم الإعراب وينبغي أن يقرأ (ذلك). و (حالك) بسكون الكاف محافظة على السجع ، إذ لو فتحت

__________________

والمستعار منه هو الحيوان المفترس ، والمستعار له هو المنية ، وبهذا يشعر كلام صاحب الكشاف في قوله تعالى : (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ*). ثانيها : ما صرح به صاحب المفتاح ، وهو أن يذكر المشبه ويراد المشبه به ادعاء لا حقيقة بواسطة قرينة ، وهي أن ينسب إليه شيء من لوازم المشبه به كالمنية المراد بها السبع ادعاء بجعل لفظها مرادفا لاسم السبع ، وإضافة شيء من لوازم السبع إليها وهو الأظفار. ثالثها : ما ذهب إليه صاحب التلخيص ، وهو أن يضمر التشبيه في النفس ، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى ، المشبه ، ويدل على ذلك التشبيه بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به من غير أن يكون هناك أمر متحقق حسا أو عقلا يجري عليه اسم ذلك الأمر ، فالتشبيه المضمر في النفس استعارة بالكناية ، وإثبات ذلك الأمر للمشبه إستعارة تخييلية. اه ص ٥.

١٥

ثم إنني أصبت به وبغيره في منصرفي إلى مصر. ولمّا منّ الله تعالى عليّ عام ستّة وخمسين بمعاودة حرم الله ، والمجاورة في خير بلاد الله ، شمّرت عن ساعد الاجتهاد ثانيا ، واستأنفت العمل لا كسلا ولا متوانيا ،

______________________________________________________

الأولى وكسرت الثانية لفات ، والأسجاع مبنية على سكون الأعجاز ، نعم الفاضل الطبع يأتي بالفواصل على وجه يتحصل به السجع من غير تفاوت بين الوصل والوقف ، كما تقدم في كلام المصنف ، فينبغي أن يعد ذلك من باب لزوم ما لا يلزم ، وإن كانوا لم يذكروه ، وأكثر السجع الواقع في «مقامات الحريري» من هذا النمط.

والأرجاء بالمد على زنة أفعال جمع الرجا بالجيم مقصورا ، والمراد بها النواحي ، وهو من ذوات الواو يقال لناحيتي البئر رجوان.

والقواعد : جمع قاعدة وهي حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ، ليتعرف أحكامها منه. والحالك : هو الشديد السواد يقال : حلك الشيء يحلك حلوكة اشتد سواده ، ويقال : أسود حالك ، وحانك باللام والنون بمعنى واحد لكن المصنف [أتى] باللام لمحافظته على محسن بديعي وهو لزوم ما لا يلزم. ومنورا : اسم فاعل من التنوير أتى به على جهة الاستعارة التبعية والمراد أن كتابه مزيل عن قواعد هذا الفن كل أمر مشكل لما فيه من التحقيق. شبه ما في كتابه من التحقيق بالنور في الاهتداء به إلى المقصود وشبه المشكلات بالظلمة التي اشتد سوادها من حيث إن صاحبها لا يهتدي إلى الطريق فلا يأمن ضلاله عن المقصود (ثم إني أصبت به وبغيره في منصرفي إلى مصر) معنى أصبت به تلف مني وذهب ، والمنصرف : يحتمل أن يكون مصدرا فيتعلق به إلى مصر ، ويحتمل أن يكون اسم زمان فلا يتعلق به ، وإنما يتعلق بمحذوف والمعنى ذاهبا إلى مصر أو عائدا إلى مصر (ولما منّ الله تعالى عليّ في عام ستة وخمسين بمعاودة حرم الله ، والمجاورة بخير بلاد الله) فيه حذف عاطف ومعطوف للعلم بالمقصود ، أي في عام ستة وخمسين وسبعمائة ، والمعاودة كالعود بمعنى الرجوع ، والباء الداخلة عليه للإلصاق متعلقة بمنّ ، والثانية ظرفية تتعلق بالمجاورة ، وهي اللبث بالمكان ، ويطلق على الاعتكاف بالمسجد ، ومراده بخير بلاد الله مكة شرفها الله تعالى ، وهو مبني على أحد القولين في المسألة وتوفي المصنف رحمه‌الله تعالى بعد هذا بستة أعوام أو نحوها.

(شمرت عن ساعد الاجتهاد ثانيا واستأنفت العمل لا كسلا ولا متوانيا) شمرت جواب لما إن كانت حرفا ، وعاملها إن كانت ظرفا ، وتشمير الإزار رفعه ، أي : رفعت الساتر عن ساعد الاجتهاد فالمفعول محذوف إن لم ينزل الفعل المذكور منزلة اللازم ، وإلا فمتروك أي : فعلت التشمير ، وفيه استعارة مكنية من حيث تشبيه الاجتهاد بإنسان شديد الاهتمام بالعمل النافع ،

١٦

ووضعت هذا التصنيف ، على أحسن إحكام وترصيف ،

______________________________________________________

وتخييلية من حيث أثبت له الساعد الذي لا يكمل العمل إلا به ، وذكر التشمير ترشيحا ، ويحتمل أن تكون إضافة الساعد إلى الاجتهاد للملابسة ، وثانيا صفة مقدر إما ظرف ، أو مصدر أي : زمانا ثانيا أو تشميرا ثانيا ، واستئناف العمل ابتداؤه ، والكسل بفتح السين المهملة الفتور ، وكذا التواني والكسل بكسرها صفة مشبهة ، والمتواني : اسم فاعل من توانى بمعنى ونى وليس من باب تجاهل وتغافل نفي المصنف عن نفسه كون الكسل صفة له لا ثابتة ولا حادثة ، فانتفى أصلا : أما الأوّل فمن قوله : لا كسلا ؛ إذ هي صفة مشبهة ، وهي لمن قام به الفعل على معنى الثبوت ، وأما الثاني : فمن قوله : ولا متوانيا : إذ هو اسم فاعل كما تقدم فهو لمن قام به الفعل على معنى الحدوث ، فاندفع ما قد يتوهم من أن نفي الكسل الثابت لا يلزم منه انتفاء الكسل مطلقا ، بل قد يفيد ثبوته في الجملة ، ونفي إظهار الفتور لا يلزم منه نفي الفتور من أصله ، وفي هاتين السجعتين إلزام ما لا يلزم.

(ووضعت هذا التصنيف على أحسن إحكام وترصيف) وضعت هنا جعلت وأنشأت ، والظرف إما لغو على أنه متعلق بهذا الفعل أو مستقر في محل نصب على الحال من مفعوله ، أي كائنا على أحسن إحكام ، والمعنى أنه وضعه مبنيا على ذلك ففيه استعارة مكنية وتخييلية.

قال الجوهري : وتصنيف الشيء جعله أصنافا وتمييز بعضها عن بعض ، قال ابن أحمر:

سقيا بحلوان ذي الكروم وما

صنف من تينه ومن عنبه (١)

اه كلامه.

وحلوان اسم بلد معروف بطيب التين والعنب قال :

حلوان حلوان من يختار بلدتها

حلوان لا ينكران التين والعنب (٢)

الأوّل اسم بلد ، والثاني اسم ما يعطى ، والثالث تثنية حلو ، والظاهر أن المصنف أشار بهذا إلى الكتاب ، فأطلق التصنيف عليه مبالغة ، والإحكام : الإتقان ، ويقال رصفت الحجرة أرصفها رصفا إذا ضممت بعضها إلى بعض ولم أقف على التضعيف ، كما فعل المصنف والفاء من التصنيف والترصيف ساكنة ليتأتى السجع كما مر.

__________________

(١) البيت من البحر المنسرح ، وهو لابن أحمر الباهلي في ملحق ديوانه ص ١٧٩ ، ولسان العرب ٩ / ١٩٩ (صنف) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ٢ / ٢٠٢ اه.

(٢) البيت من البحر البسيط ، ولم أجده.

١٧

وتتبّعت فيه مقفلات مسائل الإعراب فافتتحتها ، ومعضلات يستشكلها الطلاب فأوضحتها ونقّحتها ،

______________________________________________________

(وتتبعت فيه مقفلات مسائل الإعراب فافتتحتها) معنى تتبعت الشيء تطلبته متتبعا له ، وتشبيه مسائل الإعراب بالخزائن استعارة بالكناية ، وإثبات الأقفال لها استعارة تخييلية والافتتاح ترشيح ، ويحتمل أنه شبه المسائل المشكلة بالأشياء التي توضع الأقفال عليها من حيث لا يوصل إلى الغرض منها إلا بإزالة المانع ، فيكون استعارة تحقيقية ، وكذا تشبيه التحقيق الرافع للإشكال بفتح القفل المفضي للوصول إلى ما وراءه من المطلوب ، وآثر افتتحتها على فتحها إشارة إلى أن كشف القناع عن هذه المسائل المشكلة كان باجتهاد وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك لا ينال بالهوينا.

(ومعضلات تستشكلها الطلاب فأوضحتها ونقحتها) معضلات : جمع معضلة ، أو معضل بكسر الضاد من قولك : أعضله الأمر إذا اشتد واستغلق ، وأمر معضل لا يهتدي لوجهه بسهولة ، أي : مسائل معضلات أو أبحاث معضلات ، ويستشكلها الطلاب ، أي يطلبون إشكالها أي : إزالة إشكالها وهو التباسها وإبهامها فالهمزة فيه للسلب ، كما حكاه الجوهري نقلا عن بعض الكتب أنه يقال : أشكلت الكتاب بالألف إذا أزلت عنه الإشكال والالتباس ، فإن قلت : القاعدة أخذ استفعل ، وسائر أبواب المزيد من المجرد ، وأشكل غير مجرد ، قلت : حكي شكل مجردا بمعناه.

قال في القاموس : وأشكل الأمر التبس كشكل ، فلا إشكال حينئذ وعلى تقدير أن لا يكون شكل المجرد موجود ، أو أنّ المسموع أشكل مزيدا فما ذكر من هذه القاعدة إنما هو أمر أكثري فقد سمع من كلامهم استعان ، أي : طلب الإعانة ، واستعاد الحديث ، أي : طلب إعادته ، واستعفاه من الخروج ، أي : طلب إعفاءه منه ، واستجاره بالراء ، طلب منه الإجارة ، واستجازه بالزاي ، طلب منه الإجازة ، واستخلاه مجلسه ، أي : طلب منه إخلاءه له ، وجعل منه الزمخشري ، الاسترضاع في قوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) [البقرة : ٢٣٣] ووجهه أن المعنى هنا على طلب أن ترضع الأم الصبي ، من أرضعت المرأة الصبي ، لا على طلب أن يرضع الصبي الأم من رضع الصبي الأم أو الثدي ، فلهذا جعله مأخوذا من أرضع لا من رضع ، وجعل منه القاضي ناصر الدين البيضاوي استنجحت الله ، أي : طلبت إنجاحه.

والطلاب بضم الطاء وتشديد اللام ، جمع طالب ككاتب وكتاب.

والإيضاح : التبيين ، والتنقيح : التهذيب وتنقيح الجذع تشذيبه ، وهو إزالة قشره وما فيه من شوك ونحوه. وكل شيء فيه أذى إذا نحيته فقد نقحته ، والكلام المنقح هو الذي أحسن النظر فيه وأزيلت عنه الزوائد التي لا يحتاج إليها.

١٨

وأغلاطا وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم فنبّهت عليها وأصلحتها.

فدونك كتابا تشدّ الرّحال فيما دونه ، وتقف عنده فحول الرجال ولا يعدونه ، إذ كان الوضع في هذا الغرض لم تسمح قريحة بمثاله ، ولم ينسج ناسج على منواله.

______________________________________________________

(وأغلاطا وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم فنبهت عليها وأصلحتها) والأغلاط : جمع غلط وهو ما يقع على سبيل الذهول.

والتنبيه على الشيء هو التوقيف عليه ، والإصلاح إخراج الشيء من حيز الفساد إلى حيز الصلاح وفي هذه السجعة مع السابقتين عليها لزوم ما لا يلزم ، وهو الإتيان بالحاء قبل التاء.

(فدونك كتابا تشد الرحال فيما دونه ، وتقف عنده فحول الرجال ، ولا يعدونه) الفاء فصيحة ، وثم شرط مقدر ، أي : إذا كان الأمر كذلك ، ودونك اسم فعل بمعنى خذ ، ومفعوله محذوف ، أي : فدونكه ، أي : هذا التصنيف ، وكتابا حال موطئة ، ويحتمل أن يكون كتابا هو المفعول فلا حذف ، وفيه حينئذ إقامة الظاهر مقام المضمر لقصد التعظيم وتقوية داعي الأمور ، وكان القياس على هذا أن يحليه باللام العهدية ، لكن نكره تفخيما لشأنه.

والرحال : جمع رحل يطلق على ما يستصحبه الإنسان من الأثاث في سفره ، وعلى رحل البعير وهو أصغر من القتب ، وكلا المعنيين متأت هنا ، وهو كناية عن التعظيم ، وفي من قوله فيما دونه سببية مثل : «دخلت النار امرأة في هرة» (١) أي تشد الرحال بسبب ما دونه ، «وما» إما موصولة أو موصوفة ، ودونه متعلق بمحذوف صلة ، أو صفة ، وفحول الرجال أعلاهم همة ، وأعظمهم شأنا جمع فحل ، وكأنه استعاره من فحل الإبل وهو ذكرها إذا كان كريما ومنجبا في ضرابه ويعنونه بفتح حرف المضارعة ، أي يجاوزونه من قولك عداه يعدوه إذا جاوزه ، وتقدم عنه.

(إذ كان الوضع في هذا الغرض) لم تسمح قريحة بمثاله.

(ولم ينسج ناسج على منواله) ، إذ تعليلية ومتعلقها إما مذكور ، وهو اسم الفعل ، أو تشد أو تقف على سبيل التنازع ، أو محذوف ، أي : وقع ذلك المتقدم ذكره من شد الرحال ووقوف الفحول دونه ، والغرض هو الفائدة المترتبة على الشيء من حيث هي مطلوبة بالإقدام عليه ،

__________________

(١) جزء من حديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب خمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٨). ولفظه : «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعهما ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض». وأخرجه مسلم في السّلام ، باب تحريم قتل الهرة (٢٢٤٢).

١٩

ومما حثّني على وضعه أنني لما أنشأت في معناه المقدّمة الصغرى المسماة بـ «الإعراب عن قواعد الإعراب» حسن وقعها عند أولي الألباب ، وسار نفعها في جماعة الطلّاب ،

______________________________________________________

وينسج بكسر السين وضمها مضارع نسج إذا ضم اللحمة (١) إلى السدى (٢) على وجه يستحكم به تداخلها ويستقل به ذلك المنسوج ، وتشبيه التصنيف بالثوب الرفيع في بديع صنعته وتفرده بحسن أسلوبه استعارة بالكناية ، وإثبات المنوال له استعارة تخييلية ، والنسج ترشيح ويحتمل أن يكون المعنى ولم يصنف مصنف على طريقته التي أنشأ هو عليها فتكون الاستعارة في هذه الأجزاء تحقيقية ؛ لكنها تبعية في الأوّل والثاني ، أصلية في الثالث ، وفي الصحاح : وفلان نسيج وحده ، أي : لا نظير له في علم أو غيره ، وأصله في الثوب ؛ لأن الثوب إذا كان رفيعا لم ينسج على منواله غيره ، وإذا لم يكن رفيعا عمل على منواله سد العدة أثواب.

(ومما حثني على وضعه ، أنني لما أنشأت في معناه المقدمة الصغرى المسماة بالإعراب عن قواعد الإعراب حسن وقعها عند أولي الألباب وسار نفعها في جماعة الطلاب) الظاهر أن الواو استئنافية لا عاطفة لعدم تأتي العطف ، أو لعدم حسنه إذا تأملت ، والحث على الشيء هو الحض عليه ، والحمل على فعله بتأكيد.

والضمير في وضعه ومعناه عائد على هذا التصنيف الذي تقدم ذكره في قوله : ووضعت هذا التصنيف على أحسن إحكام ، وترصيف ، ويوجد في بعض النسخ بدل قوله في معناه ما نصه في هذا الغرض.

والمقدمة : إما بفتح الدال اسم مفعول من قدم بمعنى أن الإنسان يقدمها ، أو بكسرها اسم فاعل من قدم بمعنى تقدم ، قال تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١].

والإعراب الأوّل : لغوي بمعنى الإبانة والإظهار ، والثاني اصطلاحي أريد به النحو وإجراء الألفاظ المركبة على ما تقتضيه صناعة العربية ، كما يقال أعرب هذه القصيدة إذا تتبع ألفاظها ، وبين كيفية جريها على علم النحو ، ومنه قولهم هذا كتاب إعراب القرآن ، فتبين أن الهمزة في الموضعين مكسورة وأن بينهما جناسا تاما (٣) ، ورأيت في بعض الحواشي بهذه البلاد ضبط الكلمة الثانية بفتح الهمزة ، وهو خطأ ، إذ الأعراب سكان البوادي ، ولا معنى له هنا.

والوقع : السقوط مصدر وقع يقع ، والألباب : جمع لب وهو العقل ، وحسن جواب لما

__________________

(١) لحمة الثوب بالفتح ما ينسج عرضا.

(٢) ما ينسج طولا.

(٣) الجناس هو اتفاق الكلمتين في كل الحروف أو أكثرها مع اختلاف المعنى.

٢٠