شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٨
الجزء ١ الجزء ٢

ولكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرّد ؛ ففي صحيح البخاري في «كتاب الإيمان» أنه عليه الصلاة والسّلام قال لأصحابه : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟» قالوا : بلى ، قال : «فلا إذن». وفيه أيضا أنه قال «أنت الذي لقيتني بمكة؟» فقال له المجيب : بلى. وليس لهؤلاء أن يحتجّوا بذلك ، لأنه قيل فلا يتخرّج عليه التنزيل.

واعلم أن تسمية الاستفهام في الآية تقريرا عبارة جماعة ومرادهم أنه تقرير بما بعد

______________________________________________________

هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فأجيب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة ، وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها ، وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها ، أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي أصلا ورأسا فقد أسلفنا ما حكاه الرضي فيه من الخلاف.

وأما إن أراد ما هو أعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف موجود ، ذكره المصنف عن الشلوبين وغيره في حرف النون ، وقد تقدم هنا أنهم أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رد ببلى ، (لكن وقع في كتب الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد) عن النفي ، (ففي «صحيح البخاري» في كتاب الأيمان) والنذور (أنه عليه الصلاة والسّلام قال لأصحابه : أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا : بلى) (١) ، ووجه ذكر الحديث في كتاب الإيمان أن في بقيته قال : «أفلا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا : بلى قال : فو الذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» (وفي «صحيح مسلم» في كتاب الهبة : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء قال : بلى قال فلا إذن (٢) ، وفيه أيضا أنه عليه الصلاة والسّلام قال : أنت) وهذا على حذف همزة الاستفهام ، أي أأنت (الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب : بلى) (٣) ، (ليس لهؤلاء) الجماعة (أن يحتجوا بذلك) في آية (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ؛ (لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل) ، وقد عرفت أن هؤلاء الجماعة في غنية عن هذا الاحتجاج ، وأن ما أورده المصنف عليهم غير وارد.

(واعلم أن تسمية الاستفهام في الآية تقريرا عبارة جماعة ، ومرادهم أنه تقرير بما بعد

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب الأيمان والنذور ، باب كيف كانت يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٦٤٢).

(٢) أخرجه مسلم ، كتاب الهبات ، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (١٦٢٣).

(٣) أخرجه مسلم ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب إسلام عمرو بن عبسة (٨٣٢).

٤٢١

النفي كما مرّ في صدر الكتاب ، وفي الموضع بحث أوسع من هذا في باب النون.

* (بَيْد) ويقال : ميد ، بالميم ، وهو اسم ملازم للإضافة إلى «أنّ» وصلتها

______________________________________________________

النفي كما مر في صدر الكتاب ، وفيه بحث أوسع من هذا في باب النون) يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

(بيد)

(ويقال ميد بالميم وهي اسم ملازم للإضافة إلى أن وصلتها) ، أما أنه اسم فدعوى لم يقم عليها دليل ولو قيل بأنه حرف استثناء كإلا لم يبعد هكذا كنت أقول مدة ثم رأيت في كلام ابن مالك على إعراب مشكلات البخاري ما نصه والمختار عندي في بيد أن تجعل حرف استثناء ويكون التقدير إلا أن كل أمة أوتوا الكتاب من قبلنا على معنى لكن لأن معنى إلا مفهوم منها ولا دليل على اسمها. اه وأما استعماله متلوا بأن وصلتها فهو المشهور كالحديث «بيد أني من قريش» (١) وكالبيت الذي أنشده المصنف :

عمدا فعلت ذاك بيد أني (٢)

وكقول الآخر :

بيد أن الله قد فضلكم

فوق من أحكا صلبا بازار (٣)

هكذا أنشده ابن مالك ، وأنشده الجوهري منسوبا لعدي بن زيد يصف جارية ، أجل إن الله وأحكا : شد والإزار واحد الإزر ، قال ابن مالك وقد استعملت على خلاف ذلك فوقع في بعض طرق الحديث «ونحن الآخرون السابقون بيد كل أمة أتوا الكتاب من قبلنا» (٤) ، وخرجه على أن الأصل بيد أن كل أمة فحذفت أن وبطل عملها ، وأضيفت بيد إلى المبتدأ والخبر اللذين كانا معمولين ؛ لأن قال وهذا الحذف في أن نادر ولكنه غير مستبعد بالقياس إلى حذف أن فإنهما أختان في المصدرية وشبيهتان في اللفظ وقد حمل بعض النحويين على حذف أن في قول الزبير رضي الله تعالى عنه :

__________________

(١) ذكره ملا علي القاري في المصنوع (٦٠) ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٢ ، وابن حجر في تلخيص الحبير ٢ / ٦.

(٢) صدر بيت من بحر الرجز ، عجزه : أخاف إن هلكت أن ترني ، وهو للأصمعي في إصلاح المنطق ص ٢٤.

(٣) البيت من البحر الرمل ، وهو لعدي بن زيد في ديوانه بلفظ (أجل أن الله) ص ٩٤ ، وجمهرة اللغة ص ١٠٥١ ، ولسان العرب ٤ / ١٨.

(٤) أخرجه البخاري ، كتاب أحاديث الأنبياء ، باب حديث الغار (٣٤٨٦) ، وأحمد (٧٢٦٨).

٤٢٢

وله معنيان :

أحدهما : غير ، إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا ، بل منصوبا ، ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا ، وإنما يستثنى به في الانقطاع خاصّة ، ومنه الحديث : «نحن الآخرون السابقون ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا». وفي مسند الشافعي رضي‌الله‌عنه : «بائد أنهم» ؛ وفي الصحاح «بيد بمعنى غير ، يقال : إنه كثير المال بيد أنه بخيل» اه ؛ وفي المحكم أن هذا المثال حكاه ابن السكيت ، وأن بعضهم فسّرها فيه بمعنى «على» ،

______________________________________________________

ولو لا بنوها حولها لخبطتها (١)

قلت في كلامه نظر أما أولا فقوله : وأضيفت بيد مخالف لما اختاره من كونها حرفا وقد يكون أراد التخريج على قول الجماعة لا على مختاره هو.

وأما ثانيا فلان ما يضاف إلى الجملة محصور في أشياء وليس بيد منها.

(وله معنيان أحدهما غير) أي : معنى غير (إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا) كما تقع غير كذلك ، (بل) يقع (منصوبا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا) أي : ولا أداة استثناء متصل ، (وإنما يستثنى به في الانقطاع خاصة ، ومنه الحديث نحن الآخرون) بكسر الخاء أي : زمانا في الدنيا (السابقون) أي : منزلة وكرامة يوم القيامة في القضاء لنا قبل الخلائق وفي دخول الجنة (بيد أنهم) أي : اليهود والنصارى (أوتوا الكتاب من قبلنا ، وفي مسند الشافعي رحمه‌الله تعالى بائد أنهم) بألف بعد الباء وهمزة بعد الألف فإن قلت لا يتأتى في بائد أن يكون حرفا ؛ لكونها على زنة اسم الفاعل قلت ليس مجرد زنة الاسم مقتضيا للاسمية ، فكم من حرف هو على زنة الاسم ولم يمنع ذلك من حرفيته ولا اقتضى اسما (وفي الصحاح) بفتح الصاد على أنه اسم مفرد بمعنى الصحيح يقال : صححه الله فهو صحيح ، وصحاح بالفتح والجاري على ألسنة كثيرين كسر الصاد على أنه جمع صحيح ، وبعضهم ينكره بالنسبة إلى تسمية هذا الكتاب ، وأتيت مرة إلى شخص أطلب منه إعارة كتاب الصحاح فقلت مخاطبا له :

مولاي إن وافيت بابك طالبا

منك الصحاح فليس ذاك بمنكر

البحر أنت وهل يلام فتى سعى

للبحركي يلقى صحاح الجوهر

(بيد بمعنى غير يقال : إنه كثير المال بيد أنه بخيل. اه ، وفي المحكم) لابن سيده (أن هذا المثال حكاه ابن السكيت) بكسر السين والكاف المشددتين ، (وأن بعضهم فسرها بمعنى على

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للزبير بن العوام في تخليص الشواهد ص ٢٠٨ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٧١.

٤٢٣

وأن تفسيرها بـ «غير» أعلى.

والثاني : أن تكون بمعنى «من أجل» ، ومنه الحديث : «أنا أفصح من نطق بالضّاد بيد أنّي من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر». وقال ابن مالك وغيره : إنها هنا بمعنى «غير» ، على حد قوله [من الطويل] :

١٦٩ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

______________________________________________________

وأن تفسيرها بمعنى غير أعلى) ، قلت : وابن السكيت هذا هو أبو يوسف يعقوب مؤدب أولاد المتوكل ومصنف كتاب إصلاح المنطق من شعره قوله :

يصاب الفتى من عثرة من لسانه

وليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته بالقول تذهب رأسه

وعثرته بالرجل تبرأ على مهل (١)

ومن الحكايات الغريبة أنه رحمه‌الله أنشد ولدي المتوكل وهو يعلمهما هذين البيتين ، ثم جلس بعد ذلك بيسير مع المتوكل فأقبل ولده المعتز والمؤيد تلميذا ابن السكيت فقال له : المتوكل يا يعقوب أيما أخير ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال ابن السكيت : والله إن قنبرا خادم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل للأتراك : سلوا لسانه من قفاه ففعلوا به ذلك فمات في ليلة الإثنين لخمس خلون من شهر رجب سنة أربع وأربعين ومائتين رحمة الله تعالى عليه.

(والثاني أن تكون بمعنى من أجل) بفتح الهمزة وكسرها ، قال الجوهري : ويقال فعلت ذلك من أجلك ، أي : من جراك ، وقال في حرف الراء : وفعلت كذا من جراك أي : من أجلك فتأمل ، (ومنه الحديث أنا أفصح من نطق بالضاد) أي أفصح العرب ؛ لأن الضاد ليست في غير لسانهم كذا في القاموس ، (بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر) (٢) وهاتان القبيلتان من الفصاحة بمكان ، (وقال ابن مالك وغيره إنها هنا) أي : في قوله عليه الصلاة والسّلام «بيد أني من قريش» (٣) ، (بمعنى غير على حد قوله) أي قول النابغة الذبياني :

(ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب) (٤)

__________________

(١) البيتان من البحر الطويل ، وهما بلا نسبة في وفيات الأعيان ٦ / ٣٩٩.

(٢) ذكر نحوه ابن حجر في تلخيص الحبير ٤ / ٦ ، وابن هشام في السيرة النبوية ١ / ٣٠٤.

(٣) ذكره العجلوني في كشف الخفاء ١ / ٢٣٢ وقال لا أصل له ، وملا علي القاري في المصنوع ص ٦٠ وقال : لا يعلم من أخرجه ولا إسناده.

(٤) تقدم تخريجه.

٤٢٤

وأنشد أبو عبيدة على مجيئها بمعنى «من أجل» قوله [من الرجز] :

١٧٠ ـ عمدا فعلت ذاك بيد أنّي

أخاف إن هلكت أن ترنّي

وقوله : «ترنّي» : من الرنين ، وهو الصوت.

* (بله) على ثلاثة أوجه : اسم لـ «دع» ،

______________________________________________________

فلول جمع فل وهو الكسر في حد السيف ، والقراع المضاربة ، والكتائب بالتاء الفوقية الجيوش جمع كتيبة ، وهذا عند أهل البديع من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، ووجهه في الحديث أن الأصل في مطلق الاستثناء الاتصال ، فذكر أداته قبل ذكر ما بعدها يوهم إخراج شيء مما قبلها ، فإذا وليها صفة مدح جاء التأكيد لما فيه من المدح ، والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يثبتها ، فاضطر إلى استثناء صفة مدح وتحويل الاستثناء إلى الانقطاع ، ووجهه في البيت من جهتين.

إحداهما ما تقدم ، والأخرى أنه كدعوى الشيء ببينة إذ معناه إثبات شيء من العيب للممدوحين على تقدير كون فلول السيف من مضاربة الجيوش عيبا ، فعلق نقيض المدعى وهو إثبات شيء من العيب بالمحال ، والمعلق بالمحال محال ، فعدم العيب متحقق فالبيت يفارق الحديث في هذه الجهة الأخيرة ، ويشاركه في الأولى وباعتبارها قال على حد قوله (وأنشد أبو عبيدة) بالتصغير مع هاء التأنيث ، وقد مر مرات (على مجيئها بمعنى من أجل قوله) يخاطب امرأة :

(عمدا فعلت ذاك بيد أني

أخاف إن هلكت أن ترني (١)

وقوله ترني من الرنين وهو الصوت) ، وأنشد الجوهري هذا البيت شاهدا على أنه يقول : أرنت بمعنى صاحت ، فإنه قال : الرنة الصوت يقال : رنت المرأة ترن رنينا وأرنت أيضا صاحت ، وفي كلام أبي زبيد الطائي شمراؤه مغنه وأطياره مرنه ، قال الشاعر :

عمدا فعلت ذاك بيد أني

أخاف إن هلكت لم ترني

وأنشده بلم وكان ينبغي للمصنف أن يقول من الأرنان ؛ لأن الفعل هنا رباعي كما أشار إليه الجوهري.

(بله)

(على ثلاثة أوجه :

اسم لدع) بمعنى ترك فهي من أسماء الأفعال.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٢٥

ومصدر بمعنى الترك ، واسم مرادف لـ «كيف» ، وما بعدها منصوب على الأول ، ومخفوض على الثاني ، ومرفوع على الثالث ؛ وفتحها بناء على الأوّل والثالث ، وإعراب على الثاني ، وقد روي بالأوجه الثلاثة قوله يصف السيوف [من الكامل] :

١٧١ ـ تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكفّ كأنّها لم تخلق

______________________________________________________

(ومصدر بمعنى اترك) ، وقال ابن قاسم : وتكون مصدرا بمعنى ترك النائب عن اترك ، وهذا القيد أهمله المصنف.

(واسم مرادف لكيف) وفات المصنف وجه رابع ، وهو أنها حرف جر على مذهب الأخفش ، حكاه عنه ابن قاسم في «الجنى الداني» قال : ولهذا ذكرتها في هذا الكتاب.

(وما بعدها منصوب) لكونه مفعولا به (على) الوجه (الأول) وهو كونها اسم فعل ، (ومخفوض على) الوجه (الثاني) وهو كونها مصدرا والخفض حينئذ بإضافة المصدر إلى المفعول على ما قاله ابن قاسم ، وقال أبو علي : هو مضاف إلى الفاعل ، قلت : ولعل هذا هو الحامل للمصنف على أن قال : أولا : ومصدر بمعنى الترك فأطلق ولم يقيده بالأمر ، ليشمل قول أبي علي وغيره ، وروى أبو زيد فيه القلب إذا كان مصدرا نحو بهل زيد ، (ومرفوع على) الوجه (الثالث) وهو كونها اسما مرادفا لكيف ، ورفعه على أنه مبتدأ مخبر عنه بما قبله ، (وفتحها) أي : فتح بله (بناء على الأول والثالث) ؛ أما على الأول فلأنها اسم فعل ، وأسماء الأفعال من المبنيات ، وأما على الثالث ؛ فلتضمنها حرف الاستفهام مثل كيف ، (وإعراب على الثاني) ؛ فلأنها حينئذ مصدر لا موجب لبنائه ، (وقد روي بالأوجه الثلاثة) الرفع والنصب والجر (قوله) أي قول كعب بن مالك ، (يصف السيوف :

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها

بله الأكف كأنها لم تخلق) (١)

الجماجم جمع جمجمة وهي عظم الرأس المشتمل على الدماغ ، قال الجوهري : وجماجم العرب القبائل التي تجم البطون فينسب إليها دونهم ، نحو كلب بن وبرة ، إذا قلت : الكلبي استغنيت أن تنسبه إلى شيء من بطونهم ؛ والبيت محتمل لكل من المعنيين ، وضاحيا بارزا ظاهرا ، والهامات الرؤوس جمع هامة ، فالمعنى على رواية الرفع أن تلك السيوف تترك الجماجم المستورة بارزة للإبصار كأنها لم تخلق في محالها ، كيف الأكف أي : إذا كانت حالة الجماجم

__________________

(١) البيت من البحر الكامل ، وهو لكعب بن مالك في ديوانه ص ٢٤٥ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢١١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢١٧ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٣٢.

٤٢٦

وإنكار أبي علي أن يرتفع ما بعدها مردود بحكاية أبي الحسن وقطرب له ، وإذا قيل : «بله الزيدين ، أو المسلمين ، أو أحمد ، أو الهندات» احتملت المصدرية واسم الفعل.

ومن الغريب أن في البخاري في تفسير «ألم» السجدة : يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ذخرا من بله ما أطلعتم عليه.

واستعملت معربة مجرورة بـ «من» خارجة عن المعاني الثلاثة ، وفسّرها بعضهم ب

______________________________________________________

هذه الحالة مع خفائها وعزة الوصول إليها فكيف حال الأكف التي هي ظاهرة يوصل لها بسهولة؟ وعلى رواية النصب أنها تترك الجماجم على تلك الحالة دع الأكف فأمرها أيسر وأسهل ، وعلى الجر أنها تترك الجماجم ترك الأكف منفصلة عن محالها كأنها لم تخلق متصلة بها ، (وإنكار أبي علي أن يرتفع ما بعدها مردود بحكاية أبي الحسن وقطرب له) والمثبت مقدم على النافي ، (وإذا قيل : بله الزيدين) بكسر النون على أنه مثنى ، (أو المسلمين) بفتحها على أنه جمع ، (أو أحمد أو الهندات احتملت المصدرية) فتكون الياء والفتحة والكسرة علامة لجر الاسم الذي أضيف إليه المصدر (واسم الفعل) ، فتكون تلك العلامات لنصب المفعول به المنصوب باسم الفعل ، وهذا ظاهر لا إشكال فيه ، (ومن الغرائب أن في البخاري في تفسير «ألم السجدة» يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ذخرا من بله ما اطلعتم عليه» (١) ، فما استعملت معربة مجرورة بمن وخارجة عن المعاني الثلاثة ، وفسرها بعضهم بغير وهو ظاهر) وأقول : نص ابن التين في شرح «البخاري» على أن بله ضبط بالفتح والجر وكلاهما مع وجود من ، فأما الجر فقد وجهه المصنف ، وأما توجيه الفتح فقد قال الرضي : وإذا كان بله بمعنى كيف جاز أن يدخله من حكى أبو زيد أن فلانا لا يطيق حمل الفهم ، فمن بله أن يأتي الصخرة ، أي : كيف ومن أين هذا كلامه ، قلت : وعليه تتخرج هذه الرواية فتكون بمعنى كيف التي يقصد بها الاستبعاد ، وما مصدرية وهي مع صلتها في محل رفع على الابتداء ، والخبر من بله والضمير من عليه عائد على الذخر أي : كيف ، ومن أين اطلاعكم على الذخر الذي أعددته لعبادي الصالحين ؛ فإنه أمر قلما تتسع العقول لإدراكه والإحاطة به ، والذخر بالذال المعجمة مصدر ذخرت الشيء أي : أخذته واتخذته وهو منصوب على المصدر ،

__________________

(١) أخرجه البخاري ، كتاب تفسير القرآن ، باب قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ ...) (٤٧٨٠) ، ومسلم ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب (٢٨٢٤) ، وأحمد (٩٦٨٨).

٤٢٧

«غير» ، وهو ظاهر ، وبهذا يتقوّى من يعدّها في ألفاظ الاستثناء.

ـ حرف التاء ـ

التاء المفردة ـ محرّكة في أوائل الأسماء ، ومحرّكة في أواخرها ، ومحرّكة في أواخر الأفعال ، ومسكّنة في أواخرها.

فالمحرّكة في أوائل الأسماء حرف جرّ معناه القسم ، وتختص بالتعجب ، وباسم الله تعالى ،

______________________________________________________

أي : ذخرت ذلك لهم ذخرا (وبهذا يتقوى من يعدها في ألفاظ الاستثناء) وهم الكوفيون والبغداديون ، فإنها قد استعملت كغير وهي ترد للاستثناء ، وجمهور البصريين على أنها لا يستثنى بها ، وأنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض كذا في «الجنى الداني» ، قال : وليس بصحيح بل النصب مسموع من كلام العرب ، قلت : واختار ابن عصفور أنها لا تكون من أدوات الاستثناء ؛ لأمرين :

أحدهما : أن ما بعدها لا يكون من جنس ما قبلها ألا ترى أن الأكف في البيت ليست من الجماجم.

والثاني : أن الاستثناء عبارة عن إخراج الثاني مما دخل في الأول ، والمعنى في بله ليس كذلك ألا ترى أن الأكف مقطوعة بالسيوف كالجماجم ، قلت : وفيه نظر أما الأول فلأنا نسلم لا أن كل استثناء يكون ما بعد الأداة فيه من جنس ما قبلها ، بدليل المنقطع.

وأما الثاني فلتحقق الإخراج باعتبار الأولوية والله تعالى أعلم.

(حرف التاء)

(التاء المفردة) على أربعة أقسام :

(محركة في أوائل الأسماء) وهذا قسم.

(ومحركة في أواخرها) وهذا قسم ثان.

(محركة في أواخر الأفعال) وهذا قسم ثالث.

(ومسكنة في أواخرها) وهذا قسم رابع.

(فالمحركة في أوائل الأسماء حرف جر معناه القسم) وفيه نظر ، وإنما معناه كون مجروره مقسما به ، (وتختص) هذه التاء المحركة الجارة (بالتعجب) ، وذلك أن المقسم عليه يجب أن يكون نادر الوقوع علم ذلك بالاستقراء ، والنادر موقع للتعجب ، (واسم الله تعالى) نحو: (تَاللهِ

٤٢٨

وربما قالوا : «تربّي» ، و «تربّ الكعبة» ، و «تالرّحمن». قال الزّمخشري في : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] : الباء أصل حروف القسم ، والواو بدل منها ، والتاء بدل من الواو ، وفيها زيادة معنى التعجّب ، كأنه تعجّب من تسهيل الكيد على يده وتأتّيه مع عتو نمروذ وقهره. اه.

والمحرّكة في أواخرها حرف خطاب نحو : «أنت» و «أنت».

والمحرّكة في أواخر الأفعال ضمير ، نحو : «قمت» و «قمت» و «قمت» ؛ ووهم ابن خروف فقال في قولهم في النسب : «كنتي» :

______________________________________________________

(تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [يوسف : ٨٥] ، (وربما قالوا : تربي ، وترب الكعبة ، وتالرحمن) وتحياتك ، حكاه ابن قاسم قال : وذلك شاذ قليلا ، (قال الزمخشري في (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] الباء أصل أحرف القسم ، والواو بدل منها والتاء بدل من الواو وفيها زيادة معنى التعجب ، كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده ، وتأتيه مع عتو نمرود وقهره. اه) كلامه ملخصا.

فأما أن الباء الموحدة أصل أحرف القسم فقد مر وجهها ، وأما أن الواو مبدلة من الباء فوجهه اتحادها مع الباء مخرجا ومعنى ؛ لأن الإلصاق قريب من الجمع الذي هي له ، وأما أن التاء المثناة بدل من الواو فلما بينهما من المجانسة ، بدليل تراث في وارث.

(والمحركة في أواخرها حرف خطاب نحو : أنت) بالفتح خطابا للمفرد المذكر (وأنت) بالكسر خطابا للمفرد المؤنث ، وهذا مبني على مذهب الجمهور وأن الضمير هو أن وحده ، وعليه لو سميت بأنت حكيته ؛ لأنه مركب من اسم وحرف ، وذهب الفراء إلى أن المجموع هو الضمير ، فالتاء على هذا بعض اسم لا حرف معنى ، وذهب ابن كيسان إلى أن التاء وحدها هي الضمير وهي التي في فعلت وفعلت ، ولكنها كثرت بأن فالتاء على هذا اسم لا حرف.

(والمحركة في أواخر الأفعال ضمير نحو قمت) للمتكلم المفرد مذكرا كان أو مؤنثا ، (وقمت) للمخاطب المفرد المذكر ، (وقمت) للمخاطب المفرد المؤنث ، (ووهم ابن خروف فقال في قولهم في النسب) إلى كنت : (كنتي) كما قال :

فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا

وشر خصال المرء كنت وعاجن (١)

العاجن من قولهم : عجن الرجل إذا نهض معتمدا على الأرض ، يقول : أصبحت منسوبا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لأحمد بن يحيى في سر صناعة العربية ١ / ٢٢٤ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٩٠ ، ومتخار الصحاح مادة (عجن).

٤٢٩

إن التاء هنا علامة كالواو في «أكلوني البراغيث» ، ولم يثبت في كلامهم أن هذه التاء تكون علامة.

ومن غريب أمر التّاء الاسميّة أنها جرّدت عن الخطاب ، والتزم فيها لفظ التذكير والإفراد في «أرأيتكما» و «أرأيتكم» و «أرأيتك» و «أرأيتك» ، و «أرأيتكنّ» ، إذ لو قالوا : «أرأيتماكما» جمعوا بين خطابين ، وإذا امتنعوا من اجتماعهما في «يا غلامكم» فلم يقولوه ، كما قالوا : «يا غلامنا» و «يا غلامهم» ـ مع أن «الغلام» طار عليه الخطاب بسبب النّداء ، وإنه خطاب لاثنين لا لواحد ؛ فهذا أجدر ، وإنما جاز «وا غلامكيه» لأن المندوب ليس بمخاطب في الحقيقة ،

______________________________________________________

إلى كنت ؛ لأنك تقول : كنت كذا وكنت كذا ، وأصبحت ، وأصبحت شيخا كبيرا لا تطيق النهوض إلا مع الاعتماد على الأرض ، وهما شر خصال الإنسان ، (أن التاء هنا علامة كالواو في أكلوني البراغيث) ، وهذا إن أراد به الفرار من شذوذ النسبة إلى لفظ الجملة على ما هي عليه فالشذوذ على رأيه لازم ؛ لأن المركب تركيبا غير إضافي سواء كان إسنادا نحو تأبط شرا ، أو مزجيا كبعلبك أو غيرهما نحو : حيثما إنما ينسب إلى صدره ويحذف ما عداه ، فكان القياس أن يقال في النسب إلى كنت : كوني سواء جعلت التاء اسما كما يقول الجماعة أو حرفا كما يقوله هو ، (ولم يثبت في كلامهم أن هذه التاء) وهي المحركة في أواخر الأفعال (تكون علامة) فلا معنى للمصير إلى القول بها من غير ثبت ، (ومن غريب أمر التاء الاسمية أنها جردت عن الخطاب ، فالتزم فيها لفظ التذكير والإفراد) ، وإن كان المخاطب باللفظ الذي فيه مؤنثا وغير مفرد (في أرأيتكما) للمخاطبة مذكرين أو مؤنثين ، (وأرأيتكم) للمخاطبين المذكرين (وأرأيتك) للمخاطبة (وأرأيتكن) للمخاطبات ، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في حرف الكاف ، (إذ لو قالوا : أرأيتكما كما جمعوا بين خطابين) لمخاطب واحد في كلام واحد ، وقد يقال : أي محذوف في ذلك ؛ فقد أجازوا مثله في أفعال القلوب نحو : علمتك منطلقا وعلمتاكما منطلقين أي : علمت نفسك وعلمتما أنفسكما ، (وإذا امتنعوا من اجتماعهما في يا غلامكم فلم يقولوه كما قالوا يا غلامنا ويا غلامكم ، مع أن الغلام) في يا غلامكم (طارىء عليه الخطاب بسبب النداء) ، وليس ذلك فيه بحسب الوضع الأصلي ، (وأنه خطاب لواحد) وهو الغلام (لا لاثنين) كما في رأيتكما لمحكوم بمنعه ، (فهذا) الذي قلنا بمنعه (أجدر) بالمنع ؛ لأن الخطاب فيه وضعي ، لا طارىء والمخاطب به اثنان لا واحد ، ولقائل أن يقول : إنما امتنع نحو يا غلامك ويا غلامكما ويا غلامكم ؛ لاستحالة خطاب المضاف والمضاف إليه في حالة واحدة ، كما قال الرضي : ومثل هذا مفقود في نحو أرأيتاكما ، (وإنما أجازوا غلامكيه ؛ لأن المندوب ليس بمخاطب في الحقيقة) وإنما

٤٣٠

ويأتي تمام القول في «أرأيتك» في حرف الكاف إن شاء الله تعالى.

والتّاء الساكنة في أواخر الأفعال حرف وضع علامة للتّأنيس كـ «قامت» ، وزعم الجلولي أنها اسم ، وهو خرق لإجماعهم ، وعليه فيأتي في الظّاهر بعدها أن يكون بدلا ، أو مبتدأ ، والجملة قبله خبر ، ويردّه أن البدل صالح للاستغناء به عن المبدل منه ، وأن عود الضمير على ما هو بدل منه نحو : «اللهمّ صلّ عليه الرؤوف الرحيم» قليل ، وأن تقدّم الخبر الواقع جملة قليل أيضا ، كقوله [من الطويل] :

______________________________________________________

هو متفجع عليه ، (ويأتي تمام القول في أرأيتك في حرف الكاف إن شاء الله تعالى) وهناك نبسط القول كما وعدنا به.

(والتاء الساكنة في أواخر الأفعال حرف وضع علامة للتأنيث) أي : تأنيث المسند إليه (كقامت) هند وطلعت الشمس ، (وزعم الجلولي) بفتح الجيم نسبة إلى جلولاء وهي قرية بناحية فارس ، قال الجوهري : والنسبة إليها جلولي على غير قياس مثل حروري في النسبة إلى حروراء (أنها اسم ، وهو خرق لإجماعهم) ، وقد اغتر الصلاح الصفدي من الأدباء المتأخرين بذلك ، فزعم في شرحه «للامية العجم» أن التاء من قوله :

أصالة الرأي صانتني عن الخطل

وحلية الفضل زانتني لدى العطل (١)

فاعل بالفعل المذكور ، (وعليه) يكون الإعراب محتملا (فيأتي في الظاهر) حالة كونه واقعا (بعدها أن يكون بدلا أو مبتدأ ، والجملة قبله خبر) ، وحينئذ يحتمل الفعلية أن تكون ذات محل من الإعراب ، وهو الرفع إن جعلت خبر المبتدأ ، وأن تكون لا محل لها من الإعراب إذا جعل الظاهر بدلا من الضمير ، (ويرده أن البدل صالح للاستغناء به عن المبدل منه) كما في قولك : قام زيد أخوك ، فأخوك وهو البدل صالح ؛ لأن يستغنى به عن المبدل منه وهو زيد ، فإن قلت : ينتقض بنحو : أكلت الرغيف ثلثه ؛ إذ ذكر المبدل منه في مثل هذه الصورة متعين ؛ لكونه مفادا للضمير فلا يستغنى عنه بالبدل ، قلت : عدم الاستغناء هنا أمر عارض لا بالنظر إلى المبدل منه من حيث كونه مبدلا منه ، فلا يرد وإذا كان كذلك فالبدل في قولك : قامت هند لا يصلح لأن يستغنى به عن المبدل منه ، فتقول : قام هند ؛ لأن هذا لا يقال كذلك في الغالب ، (وأن عود الضمير على ما هو بدل منه نحو «اللهم صل عليه الرؤوف الرحيم» قليل) وهذا التركيب ، وهو قامت كثير شائع فكيف يخرج على ما يقتضي قلته؟! (وأن تقدم الخبر الواقع جملة قليل أيضا كقوله :

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في خزانة الأدب ٢ / ٤٢٣.

٤٣١

١٧٢ ـ إلى ملك ما أمّه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره

وربما وصلت هذه التاء بـ «ثّمّ» و «ربّ» ، والأكثر تحريكها معهما بالفتح.

ـ حرف الثاء ـ

* (ثمّ) ويقال فيها : «فمّ» ، كقولهم في «جدث» : «جدف» ـ حرف عطف يقتضي ثلاثة أمور : التشريك في الحكم ، والترتيب ، والمهلة ،

______________________________________________________

إلى ملك ما أمه من محارب

أبوه ولا كانت كليب تصاهره) (١)

فقوله أبوه مبتدأ مخبر عنه بالجملة الاسمية المتقدمة وهي ما أمه من محارب ، والجملة المركبة من هذا المبتدأ وخبره صفة لقوله ملك ، ومحارب قبيلة من فهر ، والظاهر أن المراد بكليب رهط جرير الشاعر ، وهو كليب بن يربوع بن حنظلة ، ووجه الرد بذلك كما مر ، وهو أن يقال : تقديم الخبر الذي هو جملة وإن كان مقيسا قليل ، فكيف يخرج عليه هذا التركيب الشائع الكثير ، فإن قلت : التفريع على قول خارق للإجماع مما لا طائل تحته فلم فعله المصنف؟ قلت : لزيادة التشنيع على صاحب هذا القول ، يعني : أن قوله ذلك مع كونه خارقا لإجماع القوم لا يتأتى تخريجه على وجه مستقيم ، (وربما وصلت هذه التاء) الساكنة (بثم ورب) فيقال : ثمت وربت ، وفات المصنف ذكر لعل ، فإنها تشاركهما في ذلك تقول : لعلت زيدا يقوم ، نص عليه في «التسهيل» وغيره ، (والأكثر تحريكها معهما) أي : تحريك الثاء مع ثم ورب (بالفتح) ، ومن شواهده في ثم قوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمت قلت لا يعنيني (٢)

(حرف الثاء)

(ثم حرف عطف ، ويقال فيها : فم) بالفاء ، (كقولهم في جدث) وهو القبر (: جدف) ، وقولهم في الثوم وهو النبات المأكول الكريه الرائحة : فوم ، وفي سيرة ابن هشام تقول : العرب التحنث والتحنف يريدون الحنيفية ، فيبدلون الفاء من الثاء وهذا عكس مسألتنا ، (يقتضي) بالمثناة الفوقية أو التحتية ، وقد مر الكلام في نظيره (ثلاثة أمور : التشريك في الحكم والترتيب والمهملة)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٢٥٠ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٨ ، وهمع الهوامع ١ / ١١٨.

(٢) تقدم تخريجه.

٤٣٢

وفي كلّ منها خلاف.

فأمّا التّشريك فزعم الأخفش والكوفيّون أنه قد يتخلّف ، وذلك بأن تقع زائدة ، فلا تكون عاطفة ألبتّة ، وحملوا على ذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٨] وقول زهير [من الطويل] :

٧٣ ـ أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى

فثمّ إذا أمسيت أمسيت غاديا

وخرّجت الآية على تقدير الجواب ، والبيت على زيادة الفاء.

______________________________________________________

هذا هو أصل وضعها ، (وفي كل منها خلاف.

فأما التشريك فزعم الأخفش والكوفيون أنه قد يتخلف ، وذلك بأن تقع زائدة فلا تكون عاطفة البتة) ، وحينئذ فالخلاف في وقوعها زائدة غير عاطفة لا في اقتضائها التشريك مع كونها عاطفة ، فالعبارة غير محررة ، وفي ظاهرها تدافع (حملوا على ذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) [التوبة : ١١٨]) أي : مع سعتها (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي : من فرط الوحشية والغم (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي : وعلموا أن لا ملجأ من سخط الله إلا إلى استغفاره ، (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) فثم زائدة والجواب هو قوله تاب عليهم ، وهؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية أول أسمائهم مكة وآخر أسماء أبائهم عكة ، (وقول زهير) بنصب قول عطفا على المنصوب والمتقدم ، أي : وحملوا على ذلك قول زهير :

(أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى

فثم إذا أمسيت أمسيت عاديا) (١)

يقول : أصبح ذا هوى وأمسى تاركا له متجاوزا عنه يقال عدا فلان هذا الأمر إذا تجاوزه وتركه ، فثم زائدة والمعنى : فإذا أمسيت ، (وخرجت الآية على تقدير الجواب) وما بعد ثم معطوف عليه ، والتقدير : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا لا ملجأ من الله إلا إليه لجؤوا إلى الله وتابوا ، ثم تاب عليهم ، أي : قبل توبتهم ، (والبيت على زيادة الفاء) ؛ لأنها قد عهدت زيادتها في بعض المواضع بيقين ، ولم تعهد زيادة ثم بيقين ،

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في الأشباه والنظائر ١ / ١١١ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٠ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٢٦٤.

٤٣٣

وأما التّرتيب فخالف قوم في اقتضائها إياه ، تمسّكا بقوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الزمر : ٦] ، (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ)

______________________________________________________

فإذا دار الأمر في محل بين زيادة تلك حمل على ما عهد له نظير ، دون ما لم يعهد له نظير ، فإن قلت : لا شك أن العطف من جملة التوابع ؛ والتابع هو الثاني الذي أعرب بإعراب سابقه من جهة واحدة ، ونحن نرى العطف يجري في الجمل التي لا إعراب لها أصلا كقام زيد ثم قعد عمر ، فكيف هذا؟ قلت : يعلم جواب ذلك من كلام ذكره ابن الحاجب في شرح «المفصل» ، ونحن نورده برمته لما فيه من الفائدة.

قال رحمه‌الله : إن وقع بعد حروف العطف المفردات فلا إشكال.

وإن وقع بعدها الجمل ، فإن كانت من الجمل التي هي صالحة لمعمولية ما تقدم كان حكمها حكم المفرد في تشريك العامل وإعرابه نحو : أصبح زيد قائما وبكر قاعدا ، وإن كانت غير ذلك فلا يخلو إما أن تكون فعلية تقدم قبلها ما يصح أن يكون الفعل معطوفا عليه باعتبار عامله ، أي : اعتبار عامل الفعل الذي تقدمه أولا ؛ فإن كان ذلك عطف على ما تقدم باعتباره ، أي : باعتبار عامله دون معموله من فاعل ومفعول ؛ لتخالفهما في ذلك كقولك : أريد أن يضرب زيد عمرا ويكرم بكر خالدا ، فعطفت يكرم خاصة دون معموله على يضرب خاصة ؛ لاشتراكه معه في عامله ، وهو إن ولم تعطف معموله من فاعله ومفعوله على فاعل الأول ومفعوله ؛ لتعذر عطفهما عليهما إذ لم يشرك معمولا الأول والثاني في عامل واحد ، بخلاف الفعلين فإن معنى التشريك فيهما حاصل مراد ، فيصح فيهما ما لا يصح في معمولهما ، وإن كانت الجملة معطوفة على غير ذلك بأن كانت الجملة اسمية أو فعلية ، لكن لم يتقدمها ما يصح أن يكون الفعل معطوفا عليه باعتبار عامله ؛ بناء على أنه لا يكون الفعل الذي تقدمه عامل مثل زيد قائم وعمر ومنطلق ، وقام زيد وخرج عمرو ، والمراد من مثل ذلك حصول مضمون الجملتين ، فكأنه حصل قيام زيد وخروج عمرو فيدخل في حد العطف حينئذ ؛ لأن المعطوف يكون مقصودا بالنسبة وهي نسبة الحصول إلى متبوعه ؛ وفائدة العطف الإيذان بحصولهما وأن لا يتوهم أن المقصود الجملة الثانية ، وأن الأولى من الغلط كما في بدل الغلط إذا قيل : جاء زيد عمرو فالعاطف رابط بينهما ، وهذا أحسن من قول إمام الحرمين فائدة العطف في الجمل تحسين الكلام لا غير ، فإنه لو كان كما ذكر لم يكن فرق بين الواو وثم ، ونحن قاطعون بأن معنى جاء زيد وذهب بكر مغاير لمعنى جاء زيد ثم ذهب بكر.

(وأما الترتيب فخالف قوم في اقتضائها إياه تمسكا بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)) هكذا هو في جميع النسخ التي وقفت عليها من هذا الكتاب ، وهو

٤٣٤

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ٨ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) [السجدة : ٧ ـ ٩] ، (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٣] ؛ وقول الشاعر [من الخفيف] :

١٧٤ ـ إنّ من ساد ثمّ ساد أبوه

ثمّ قد ساد قبل ذلك جدّه

______________________________________________________

سهو في التلاوة بلا شك وما أظنه قصد بالتلاوة إلا الآية التي في سورة الزمر ، وليس فيها هو الذي ، وإنما هي (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي : ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز كما بين في سورة الأنعام ، وأما الآية التي فيها : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) فهي في سورة الأعراف وليس فيها ثم وإنما هي هكذا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) والحاصل أنه ليس في القرآن في هذا المعنى آية جمع فيها بين هو الذي وكلمة ثم ، والاستشهاد حاصل بآية الزمر ؛ فإن خلق حوّاء لم يكن بعد خلق الذرية ، فثبت أن ثم استعملت بمعنى الواو مجازا للاتصال الذي بينهما في معنى العطف ، فالواو لمطلق العطف وثم لعطف مقيد ، والمطلق داخل في المقيد فيثبت بينهما اتصال معنوي ، فيجوز أن تستعمل بمعنى الواو ، فقال هؤلاء القوم بذلك تمسكا بهذه الآية ، وبقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) [السجدة : ٧ ـ ٨] أي : ذريته وسميت الذرية نسلا ؛ لأنها تنسل ، منه : أي : تنفصل وتخرج من صلبه (مِنْ سُلالَةٍ) أي : من نطفة ، (مِنْ ماءٍ) أي : من مني وهو بدل من الأول ، (مَهِينٍ) أي : ضعيف حقير ، (ثُمَّ سَوَّاهُ) أي : قومه ، (وَنَفَخَ) أي : أدخل (فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) [السجدة : ٩] وهذه الإضافة للتخصيص ، كأنه قال : ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به وبعلمه ، والاستشهاد بهذه الآية باعتبار ثم الثانية ، لا الأولى ؛ فإن تسوية آدم لم تكن جعل نسله من ماء مهين ، وبقوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥٣] وهذا خطاب لهذه الأمة ، (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] فالاستشهاد واضح ؛ لأن إيتاء موسى الكتاب كان سابقا على ذلك ، فلا تكون ثم للترتيب (وقول الشاعر) بالجر أي وتمسكا بقول الشاعر :

(إن من ساد ثم ساد أبوه

ثم قد ساد قبل ذلك جده) (١)

بسكون الهاء والبيت من بحر الخفيف ، ولا يستقيم وزنه إلا بإثبات قد بعد ثم ، وسقطت سهوا في بعض النسخ المعتمدة ، ووجه الاستشهاد به واضح ؛ لأن سيادة الأب قبل سيادة الابن ،

__________________

(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو لأبي نواس في ديوانه ١ / ٣٤٤ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٧ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٢٨.

٤٣٥

والجواب على الآية الأولى من خمسة أوجه :

أحدها : أن العطف على محذوف ، أي : من نفس واحدة ، أنشأها ، ثم جعل منها زوجها.

الثاني : أن العطف على (واحِدَةٍ) على تأويلها بالفعل ، أي من نفس توحّدت ، أي : انفردت. ثم جعل منها زوجها.

الثالث : أن الدّرّية أخرجت من ظهر آدم عليه‌السلام كالذّرّ ، ثم خلقت حوّاء من قصيراه.

الرابع : أنّ خلق حوّاء من آدم لما لم تجز العادة بمثله جيء بـ «ثم» إيذانا بترتّبه

______________________________________________________

وسيادة الجد قبل سيادة الأب ، فالشاهد فيه في موضعين ، (والجواب عن الآية الأولى) (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] (من خمسة أوجه :

أحدها أن العطف على محذوف أي : من نفس واحدة أنشأها ، ثم جعل منها زوجها) وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، ووجه الدلالة أن من في قوله : (مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩] بدل على أن النفس مبتدأ ومنشأ للخلق ، وعلى أنها مخلوقة منشأة إذ يستحيل أن يكون غير المخلوق منشأ للمخلوق.

(الثاني : أن العطف على واحدة على تأويلها بالفعل) ، كما في قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] على قراءة عاصم أي : فلق الإصباح وجعل الليل ، وكما في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) [الملك : ١٩] أي يصففن ويقبضن ، فكذا تلك الآية (أي : من نفس توحدت ، أي : انفردت ثم جعل منها زوجها) ، وكان الأولى بالمصنف أن لو قال وجدت لوجهين :

أحدهما أن واحدة ليس مأخوذا من المزيد ، وإنما هو من الثلاثي وقد سمع يقال : وحد كعلم ووحد كطرق بمعنى انفرد.

الثاني أنه كان يحسن حينئذ تفسيره بانفردت ؛ لأن استعمال وحد بهذا المعنى ليس في الشهرة كتوحد.

(الثالث أن الذرية أخرجت من ظهر آدم كالذر) بالذال المعجمة ، وهي صغار النمل ومائة منها زنة حبة شعيرة ، الواحدة ذرة ، (ثم خلقت حوّاء) بالمد ، وهي زوج آدم عليه‌السلام (من قصيراه) والقصيرى الضلع الأسفل ، وهو أقصر الضلوع.

(الرابع أن خلق حوّاء من آدم لما لم تجر عادة بمثله جيء بثم إيذانا بترتبه

٤٣٦

وتراخيه في الإعجاب وظهور القدرة ، لا لترتيب الزمان وتراخيه.

الخامس : أن «ثمّ» لترتيب الإخبار لا لترتيب الحكم ، وأنه يقال : «بلغني ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب» ، أي : ثم أخبرك أن الذي صنعته أمس أعجب.

والأجوبة السابقة أنفع من هذا الجواب ، لأنها تصحّح الترتيب والمهلة ، وهذا يصحّح الترتيب فقط ؛ إذ لا تراخي بين الإخبارين ، ولكن الجواب الأخير أعمّ ؛ لأنه يصحّ أن يجاب به عن الآية الأخيرة والبيت.

وقد أجيب عن الآية الثانية

______________________________________________________

وتراخيه في الإعجاب وظهور القدرة ، لا لترتيب الزمان وتراخيه) وهذا مأخوذ من كلام الزمخشري ، فإنه قال : هما آيتان من جملة الآيات ، تشعيب هذا الخلق الفائت للحصر من نفس آدم ، وخلق حوّاء من قصيراه إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرة ، والأخرى لم تجر بها العادة ، ولم يخلق غير حوّاء من قصيرى رجل فكانت أدخل في كونها آية ، وأجلب لعجب السامع ، فعطفها بثم على الآية الأولى ، للدلالة على مباينتها فضلا ومزية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود. اه.

وقال صاحب «الفرائد» أي : مانع يمنع من أن يكون التراخي في الوجود ، ولعل خلق حوّاء من آدم بعد مدة ، ورد بأن المانع ظاهر وذلك ؛ لأن الجعل لم يعطف على خلق آدم ، فكيف يصح أن يكون خلق حوّاء متأخرا في الوجود عن خلق الذرية.

(الخامس أن ثم لترتيب الإخبار) في الآية المذكورة (لا لترتيب الحكم ، وأنه يقال : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب ، أي : ثم أخبرك أن الذي صنعت أمس أعجب ، والأجوبة السابقة أنفع من هذا الجواب) الأخير ؛ (لأنها تصحح الترتيب والمهلة) ، ففيها توفير معنى الكلمة الذي وضعت له عليها ؛ لأن ثم وضعت مفيدة للتشريك والترتيب والمهلة ، (وهذا) الجواب الأخير (يصحح الترتيب فقط ؛ إذ لا تراخي بين الإخبارين) ضرورة أن أحدهما متعقب الآخر ومتصل به بلا مهلة ، ففيه تفويت بعض ما وضعت ثم له من إفادة المهلة ، (ولكن الجواب الأخير أعم) من تلك الأجوبة ؛ (لأنه يصح أن يجاب عن الآية الأخيرة) وهي (ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ١٥٣ ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٣ ـ ١٥٤] ، (والبيت) المتضمن لسيادة الابن ثم الأب ثم الجد ، فإن اعتبار الترتيب بالنسبة إلى الإخبار فيهما ممكن ، ووجهه في البيت أن سيادة الأب وإن كانت متقدّمة على سيادة الابن ، لكن أخرها عنها ؛ لأن سيادة نفسه آخرية من سيادة أبيه ، وكذا سيادة الأب بالنسبة إلى سيادة الجد ، ولا يخفى أن تلك الأجوبة الأربعة لا تجري في الآية الأخيرة ، ولا في البيت المذكور ، (وقد أجيب عن الآية الثانية) وهي آية السجدة

٤٣٧

أيضا بأنّ (سَوَّاهُ) عطف على الجملة الأولى ، لا الثانية.

وأجاب ابن عصفور عن البيت بأن المراد أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب ، والأب من قبل الابن ، كما قال ابن الرومي [من البسيط] :

٧٥ ـ قالوا : أبو الصّقرمن شيبان،قلت لهم

كلّا لعمري ، ولكن منه شيبان

وكم أب قد علا بابن ذرى حسب

كما علت برسول الله عدنان

______________________________________________________

(أيضا) أي : بجواب آخر غير الجواب الخامس ، وهو كون الترتيب باعتبار الإخبار ، فإنه ممكن في هذه الآية ، أو أراد أنه أجيب عن الآية الثانية ، كما أجيب عن الأولى والثالثة فالآضية باعتبار أصل الجواب وإن كان ما أجيب عن تينك الآيتين مغايرا لما أجيب به عن هذه الآية ، (بأن سواه معطوف على الجملة الأولى) وهي بد أخلق الإنسان من طين (لا الثانية) وهي جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، وحينئذ فالترتيب متحقق ولا إشكال ، (وأجاب ابن عصفور عن البيت بأن المراد أن الجد أتاه السؤدد من قبل الأب و) أن (الأب) أتاه ذلك (من قبل الابن) ، والقبل بكسر القاف وفتح الموحدة بمعنى عند ، تقول : لي قبل فلان حق أي : عنده (كما قال) أبو العباس :(ابن الرومي :

قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم

كلا لعمري ولكن منه شيبان

وكم أب قد علا بابن ذرى حسب

كما علت برسول الله عدنان) (١)

شيبان بن ثعلبة بن ذهل قبيلتان كذا في «القاموس» ، والذي في «الصحاح» وشيبان حي من بكر وهما شيبان بن ثعلبة وشيبان بن ذهل بن ثعلبة ، وظاهر كلامهما أن وزنه فعلان من شاب يشيب ، ويحتمل أن يكون في الأصل فيعلان من شاب يشوب ، فحذفت الواو بعد قلبها ياء كما في ميت وميت ، وقد أسلفنا ذكر هذين الاحتمالين في الكلام على إذن ، وقد صرح بهما ابن جني في «التنبيه على مشكل الحماسة» ، والذرى بضم الذال المعجمة الأعالي ، الواحدة ذروة بالكسر ، وذروة بالضم ، والحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه ؛ وهذا الذي قاله ابن عصفور من أن المتقدم قد يأتيه الشرف من جهة المتأخر ممكن ، لكن يرد عليه في البيت أن قول الشاعر قبل

__________________

(١) البيتان من البحر البسيط ، وهما لابن الرومي في ديوانه ٦ / ١٧٩ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٨ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٨٧.

٤٣٨

وأما المهلة فزعم الفرّاء أنها قد تتخلّف ، بدليل قولك : «أعجبني ما صنعت اليوم ثمّ ما صنعت أمس أعجب» ، لأن «ثمّ» في ذلك لترتيب الإخبار ، ولا تراخي بين الإخبارين ، وجعل منه ابن مالك (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الأنعام : ١٥٤] الآية ، وقد مر البحث في ذلك ،

______________________________________________________

ذلك تصريح بما يخالف هذا المعنى وذلك ؛ لأن مضمون الكلام على ما أجاب به أن سؤدد الابن سابق لسؤدد الأب وسؤدد الأب سابق لسؤدد الجد ، والسابق للسابق للشيء سابق لذلك الشيء ، فتكون سيادة الابن سابقة لكل من سيادة أبيه وسيادة جده ، وسيادة الأب سابقة لسيادة الجد ، وقول الشاعر قبل ذلك مناف لهذا بلا شك.

وبعد فأنا أقول : لا خفاء في أن القائل بأن ثم تستعمل بدون ترتيب كالواو ، ويقول : بأن ذلك استعمال مجازي ، ولا يشترط في آحاد المجاز أن تنقل بأعيانها عن أهل اللغة ، بل يكتفي بالعلاقة على المذهب المختار ، وقد بينا وجه العلاقة المصححة فيما مر ، وإذا كان كذلك فالسعي في تأويل تلك الأمثلة بما يصح الترتيب فيها نظر في أمر جزئي لا يقتضي بطلان المدعى من أصله فتأمله.

(وأما المهلة فزعم الفراء أنها قد تختلف) فتكون ثم حينئذ مستعملة استعمال الفاء مجازا (بدليل : قولك : أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب ؛ لأن ثم في ذلك لترتيب الأخبار ولا تراخي بين الإخبارين) كما تقدم ضرورة اتصال أحدهما بالإخبار.

(وجعل منه ابن مالك ثم آتينا موسى الكتاب الآية ، وقد مر البحث في ذلك) بما يقتضي أن يكون منه ، حيث قال : إن الجواب الأخير وهو كون ثم لترتيب الأخبار يصح أن يجاب به عن الآية الأخيرة ، وصرح به في «المدارك» فقال : ثم أخبركم أن آتينا موسى الكتاب.

وفي «الكشاف» إشعار به فإن فيه ما نصه : فإن قلت : علام عطف قوله ثم آتينا موسى الكتاب؟ قلت : على وصاكم به ، فإن قلت : كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل التوصية؟

قلت : هذه التوصية قديمة لم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيها ، كما قال ابن عباس : محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب ، فكأنه قيل : ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا ، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب ، وأنزلنا هذا الكتاب المبارك ، قال التفتازاني : ويعني بقوله : على وصاكم به جملة ذلكم وصاكم به ؛ لظهور أنه ليس عطفا على الفعلية الواقعة خبر ذلكم ، وقوله والإيتاء قبل التوصية ؛ لأنها في القرآن المنزل بعد التوراة بمدة ، وأول الجواب يشعر بأن ثم للتراخي الزماني ؛ لأن التوصية كانت قبل التوراة ، وآخره يشعر بأنه للتراخي الرتبي لكون إيتاء التوراة وإنزال القرآن أعظم من تلك التوصية ؛ لاشتمالها عليها وعلى أمثالها مع

٤٣٩

والظاهر أنها واقعة موقع الفاء في قوله [من المتقارب] :

١٧٦ ـ كهزّ الرّدينيّ تحت العجاج

جرى في الأنابيب ثمّ اضطرب

إذا الهزّ متى جرى في أنابيب الرّمح يعقبه الاضطراب ، ولم يتراخ عنه.

* * *

مسألة ـ أجرى الكوفيّون «ثمّ» مجرى الفاء والواو ، في جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشرط ،

______________________________________________________

أحكام آخر ، فنقول : تقدير الجواب أنه يرد على السائل مقدمته القائلة بأن الإيتاء قبل التوصية ؛ لأنها كانت قبل التوراة ومعها وبعدها ؛ لكونها مما لم يزل يوصى بها الأمم على لسان أنبيائهم ، ثم يحكم بأن ثم للتراخي الرتبي دون الزماني ؛ لأن ابتداء التوصية وإن كان قبل الإيتاء لكن تمامها سيما المتعلقة بهذه الأمة الظاهرة في الخطاب ليس مقدما على الإيتاء والحاصل أنه قدح في بعض مقدمات السائل ، ثم أجاب بما يتم على تقدير تسليم تلك المقدمة أيضا ثم في تقريره إشارة إلى أن قوله وهذا كتاب أنزلناه إليك عطف على آتينا موسى الكتاب ، داخل في حيز ثم ولم يذكر على أسلوب آتينا موسى الكتاب ، فلم يقل : وأنزلنا إليك هذا الكتاب المبارك إظهارا لشرفه ومزية رتبته ، ولهذا جعل الفاصل ثم لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ، وها هنا لعلكم ترحمون هذا كلامه ، (فالظاهر أنها واقعة موقع الفاء في قوله :

كهز الرديني تحت العجاج

جرى في الأنابيب ثم اضطرب) (١)

الرديني صفة للرمح يقال : رمح رديني وقناة ردينية قال في «الصحاح» : زعموا أنه منسوب إلى امرأة تسمى ردينة ، وكانت تقوم القنا بخط هجر ، والعجاج الغبار والأنابيب جمع أنبوبة ، وهي ما بين كل عقدتين من القصب ، (إذ الهز متى جرى في أنابيب الرمح يعقبه الاضطراب ولم يتراخ عنه) وهذا ظاهر كما قال ، وانظر هل يمكن أن يعود ضمير اضطرب إلى العجاج.

(مسألة : أجرى الكوفيون ثم مجرى الفاء والواو في جواز نصب المضارع المقرون بها بعد فعل الشرط) بأن مضمرة ، وهذه المسألة لم يذكرها في «التسهيل» ، وإنما ذكر أن «أن» الناصبة قد تضمر بعد الواو والفاء الواقعتين بعد مجزومي أداة شرط أو بعدهما ، فمثال القسم الأول إن تأتي وتحسن إلى أكافئك بنصب تحسن ، وإن تأت فتحدثني أحسن إليك بنصب تحدث ، والتقدير فيهما إن يكن منك إتيان وإحسان أو إتيان فحديث ، ومثال القسم الثاني بعد الواو قوله :

__________________

(١) البيت من البحر المتقارب ، وهو لأبي داود الإيادي في ديوانه ص ٢٩٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٣٦٣ ، والجنى الداني ص ٤٢٧.

٤٤٠